يقول مصطفى صادق الرافعي : ( إن اللغة مظهر من مظاهر التاريخ ، والتاريخ صفة الأمة , ‏كيفما قلّبت أمر اللغة - من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها - وجدتها الصفة الثابتة التي ‏لا تزول إلا بزوال الجنسية , وانسلاخ الأمة من تاريخها ) , فالأمة التي تقبل على نفسها ان تتخلى ‏بطريقة او بأخرى عن لغتها , لتصبح تلك اللغة لغة بديلة , او لغة ثانية في حياتها وممارساتها ‏الحياتية اليومية , هي أمة أعلنت إفلاسها الثقافي وموت هويتها القومية , بل وقبلت على نفسها حياة ‏التردي والانحطاط الحضاري والتاريخي 0 ‏
‏ ولذلك كانت اللغة دائما , بالنسبة لأي امة في التاريخ , بمثابة الرئة التي تتنفس من خلالها ‏الهواء النقي الصافي , والقلب الذي يضخ دماء الحياة والبقاء الى شرايينها , واللسان الذي تعبر به عن ‏نفسها وكيانها وهويتها , وتتميز به عن بقية الأمم والشعوب , فكيف لجسد ان يعيش , وقد فقد قلبه ‏ورئته ولسانه ؟ - وبمعنى آخر– ان من أهم وابرز ( سمات الأمم المتقدمة التي تسعى لترويج ‏حضارتها , أن تكون لديها في أول بنودها الاعتزاز بلغتها , كرمز للهوية التي ابرز ما يمثلها حق ‏التمثيل هو , صمود اللغة وترويجها لمن يراد لهم استيعاب حضارتها , سواء كان المراد ترويجه ‏سلعه أو أفكرة أو خدمة ، ومن المهم جداً عند أصحاب المشروع الحضاري , هو نشر أحد تلك الثلاثة ‏السابقة مربوطاً بعامل اللغة ) 0 ‏
‏ ولكن ها نحن اليوم أبناء لغة الضاد , ان كنا حقا نستحق ان يطلق علينا شرف هذه التسمية ‏العظيمة , نعيش مرحلة – وللأسف الشديد – هي من أسوا وأحلك مراحل التراجع الحضاري , ‏والتمثيل الاممي الذي مر بالأمة الإسلامية وقلبها العربي , مرحلة تمثل التراجع التاريخي لأمة كانت ‏ولازالت وستظل خير امة أخرجت للناس , مرحلة فقدت فيها الأمة أهم ركائز نهضتها وهويتها ‏وبناءها الحضاري , ونقصد – تراجع اللغة العربية – ومكانتها ودورها الثقافي المنوط بها , لتحل ‏مكانها لغات أجنبية أخرى دخيلة , تحت شعارات وأسباب غريبة جدا , كلغة العصر المتداول , ‏وضرورة التواصل مع الآخر في التكنولوجيا وغيرها من ضرورات الحياة بتلك اللغات , كأساس ‏للتواصل الحضاري والثقافي والتكنولوجي , وإنها اللغات الرسمية والأساسية المتعارف عليها دوليا 0‏
‏ نعم 000 هي كذلك , حين تحولنا , او حولنا حضاريا وثقافيا الى توابع وأذناب للمستعمر ‏الأجنبي الثقافي القذر , تقتادنا وراءها حضارات وأمم وشعوب , كانت في يوم من الأيام تنهل من ‏حضارة الإسلام , بل ولا زالت الى يومنا هذا تترجم سنويا الآلاف من أمهات الكتب والمجلدات ‏الإسلامية والعربية في مختلف المجالات ونواحي الحياة , بل وتغرق مكتباتها بتلك الكتب الى يومنا ‏هذا , لأنها تعرف قيمة ومكانة الكتب الإسلامية والعربية في مختلف العلوم , في وقت فقد فيه العرب ‏ذاكرتهم عن ذلك او افقدوها , فلم يعد أمامهم غير موائد الطعام ومواطن اللهو ليلتفتوا إليها , فماذا ‏حدث ؟ وما هي الأسباب التي أدت الى ان نصل الى هذا الوضع المزري بلغتنا العربية ؟ لدرجة ان ‏تهمش بهذه الدرجة المخجلة والمخزية في وطنها ومهدها , لتصبح اللغة الثانية في التجارة والثقافة ‏والسياسة والأدب 0 ‏
‏ ماذا حدث ليخرج علينا من المتشدقين والمتفيهقين والمتزندقين والمدعين للثقافة من المرتزقة ‏والعملاء والخونة لدينهم وعروبتهم ولغتهم العربية , من يدعي بغير علم ومعرفة , بأنها لا تصلح – ‏أي - اللغة العربية , لغة الإسلام ولغة القران , لعصر التقدم العلمي والانفتاح الحضاري ‏والتكنولوجي والعولمة العابرة للقارات , بل ويخرج العديد من أبناء جلدتنا العربية المبغضين لها ليقول ‏‏: ( إن اللغة العربية الفصحى لغة وافدة إلى بلاد كانت تتكلم لغة أخرى على امتداد زمن يقاس بآلاف ‏السنين , والذين تعلَّموا الفصحى مهما بلغت تجلياتهم الإبداعية من ذروات فإن القيمة الجدلية لإبداعهم ‏تظل محدودة جداً حسب ضيق رقعة القراء إن الإبداع الذي حملته الفصحى , إنما هو إبداع فئة أو ‏طائفة من المثقفين , أما الإبداع في العامية فإنه إبداع شعب كامل , إن المواطن يمارس حياته ‏بالعامية. بل يأكل ويشرب ويحلم ويتوجع ويتأوه بها ، أي إنها حاملة لكل همومه وطموحاته وأحلامه ‏وهي العامية الأقدر والأبلغ في التعبير عنها وعنه ) , في وقت يشهد لها فيه علماء وفلاسفة وأساتذة ‏الغرب بالكمال والعصرنة والاستمرارية الحضارية , فهذا الفرنسي إرنست رينان يقول : ان اللغة ‏العربية بدأت فجأة على غاية الكمال ، وهذا أغرب ما وقع في تاريخ البشر، فليس لها طفولة ولا ‏شيخوخة , كما يقول الألماني فريتاغ : ان اللغة العربية أغنى لغات العالم , ويقول وليم ورك : إن ‏للعربية ليناً ومرونةً يمكنانها من التكيف وفقاً لمقتضيات العصر.‏
‏ ان للغة مكانة خاصة في نفوس وعقول من يعرف أهميتها الحضارية ودورها الذي تلعبه في ‏ترسيخ مكانة الأمة وهويتها القومية والوطنية , وفي هذا السياق يقول الدكتور شاكر النابلسي في كتابه ‏‏" الزمن المالح " , انه قبل الاستقلال الهندي , كان المهاتما غاندي في ذلك الوقت يبحث عن الهوية ‏القومية للهند , فوقف مرة , وقال : ( أليس من المؤلم ان استعمل اللغة الانجليزية , كأداة للتعبير , ‏حين أريد ان اذهب للمحكمة , وانه يتحتم على لكي أمارس المحاماة ان تترجم لغتي الوطنية الى اللغة ‏الانجليزية ) , ويواصل النابلسي قوله : بان التشبث باللغة هو كالتشبث بثدي الأم , فهذا الثدي هو ‏وحده الذي يستطيع ان يمنح كل واحد منا اللبن الوطني , والغذاء القومي 0‏
‏ فمن نلوم اليوم , وقد فرضت علينا ممارسات ثقافية وأدبية وعلمية وأكاديمية بلغات أجنبية ‏دخيلة ؟ من نلوم ونحن ندفع بأطفالنا – مستقبل الأمة - ليل نهار , بالتخلي عن اللغة العربية بطريقة ‏او بأخرى , وذلك من خلال الاهتمام البالغ بتدريسهم اللغات الأجنبية المختلفة , وهم و- للأسف ‏الشديد - حتى لا يعرفون النطق والكتابة باللغة العربية حتى مراحل تعليمية متقدمة , بل ويتلعثمون ‏حتى في لهجتهم الدارجة المحلية , لتغلب عليهم في كثير من دولنا العربية , وتحديدا الخليجية , ‏الكلمات الهندية والانجليزية وغيرها من اللغات واللهجات الأجنبية الدخيلة , من نلوم على فرض ‏التعليم باللغات الأجنبية في جامعاتنا وكلياتنا العربية ؟ متناسين خطر ذلك على مستقبل الأجيال العربية ‏القادمة , بل وخطر ذلك على هويتهم العربية والقومية وحتى الوطنية 0 ‏
‏ نعم , ان اللغة العربية اليوم تواجه بسبب قوانين التعليم وسياساته الغربية في دولنا العربية , ‏والتي لا تشجع – وللأسف الشديد- في جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية والثقافية على التعليم باللغة ‏العربية محنة خطيرة , ستنعكس سلبا على الأجيال القادمة , في وقت يتصور فيه النخبة والصفوة منا ‏‏, وهم المتنكرون أصلا للغتهم العربية العظيمة من خلال ممارساتهم اليومية الثقافية منها والسياسية , ‏بأنهم يساهمون في تطوير التعليم , وبناء أجيال عربية وطنية قوية , ولكن الحقيقة هي عكس ذلك , ‏فهم بذلك يساهمون في انسلاخ الأجيال العربية عن لغتها الحضارية والعقائدية , وبالتالي هويتها ‏ووطنيتها , وفي هذا السياق يقول الراهب الفرنسي غريغوار : ( إن مبدأ المساواة الذي أقرته الثورة ‏الفرنسية يقضي بفتح أبواب التوظف أمام جميع المواطنين ، ولكن تسليم زمام الإدارة إلى أشخاص لا ‏يحسنون اللغة القومية يؤدي إلى محاذير كبيرة ، وأما ترك هؤلاء خارج ميادين الحكم والإدارة ‏فيخالف مبدأ المساواة ، فيترتب على الثورة - والحالة هذه - أن تعالج هذه المشكلة معالجة جدية ؛ ‏وذلك بمحاربة اللهجات المحلية ، ونشر اللغة الفرنسية الفصيحة بين جميع المواطنين ) 0‏
‏ ان العالم اليوم يشهد ثورة نهضوية وتوعوية لم يشهد لها مثيل من قبل , وذلك بهدف تشجيع ‏تعلم اللغة الرسمية لبلدانهم وذلك في التعليم والسياسة والثقافة ووو الخ , فنجد التعليم في الصين باللغة ‏الصينية البحتة , وفي روسيا بالروسية , وفي انجلترا بالانجليزية , وفي إسرائيل بالعبرية , حتى ان ‏الطلاب العرب الذين يدرسون في إسرائيل يدرسون باللغة العبرية , فهل وعت دولنا العربية , ‏والقائمين على سياسات التعليم والتثقيف فيها الى ذلك ؟ وهل هذا ما تفعله مؤسساتنا التعليمة الأكاديمية ‏والثقافية في دولنا العربية اليوم ؟ - ونحن هنا - لا نطالب بالامتناع المطلق عن التعليم باللغات ‏الأجنبية , فلذلك أهمية بالغة وضرورية في التواصل والفهم والمعرفة والأمن الثقافي والمعرفي بين ‏الأمم والشعوب , ولكن – بشرط - ان لا تكون تلك اللغات الأجنبية الدخيلة هي أساس التعليم والثقافة ‏والأدب المنهجي في عالمنا العربي بالمطلق كما هو اليوم , فتهمش اللغة العربية تحت طائلة أنها لا ‏تصلح إلا للدين والشعر – كما يدعي بعض الجهلة – الهادفين الى ( زحزحة الفصحى عن طريق ‏أهدافهم التي يأتي في مقدمتها خلخلة وحدة الأمة العربية ، وبلبلة الانتماء الثقافي وخلط الأوراق ‏وطرح خيارات بديلة ، منها العاميات العربية ومنها لغات الأقليات الموجودة ولهجاتها ) 0‏

‏ ‏
‏ نعم 000 ان دولنا العربية اليوم مطالبة بإعادة تحديد أولوياتها القومية الثقافية والأدبية والعلمية ‏وسياساتها التعليمية المستقبلية , والنظر بعين المتفحص لما يمكن ان يتسبب به تجاهل وتهميش اللغة ‏العربية في المدارس والجامعات والمؤسسات الثقافية والعلمية وحتى الحياة العامة , وبالتالي انعكاس ‏ذلك على الأمن القومي والوطني العربي وحتى القطري , وما قد يترتب عليه من انسلاخ الأجيال ‏القادمة عن عقيدتها وتمسكها بدينها وعروبتها وأوطانها , لذا وجب التنبيه الى الآتي :- ‏
‏ أولا : ضرورة تطوير اللغة العربية وتحريرها من أشكالها القديمة التي ظلت عليها منذ قرون ‏لتواكب العصر الرقمي والتكنولوجي , وذلك من خلال عملية " رقمنتها " ووضع معجم إلكتروني ‏عربي والعمل على زيادة المحتوى العربي على الإنترنت والذي لا يتجاوز حتى الآن ما نسبته 1% ‏من المحتوى العالمي، بحسب العديد من الخبراء 0 ‏
‏ ثانيا : إعادة إحياء مشاريع وبرامج التعريب " الترجمة " من اللغات الأجنبية الى اللغة العربية ‏والعكس , مع أهمية تشجيع دور النشر والترجمة العربية على ذلك , وهو ما من شانه تأكيد الذات ‏الوطنية والقومية للعلم واللغة على حد سواء 0‏
‏ ثالثا : ضرورة الإسراع في إنشاء مكتبة عربية قومية مشتركة , تحتوي على ذخائر الثقافة ‏والأدب العربي في مختلف المجالات , شبيهة بالمكتبات الدولية كمكتبة الكونجرس وغيرها , بشرط ‏ان تكون مجانية للقراءة ومتاحة للجميع على شبكة الانترنت 0 ‏
‏ رابعا : توظيف المادة الإعلامية في تعليم العربية الفصيحة البسيطة عن طريق الاستعانة ‏بالمواد الإعلامية كالبرامج والأغاني والمقالات وغيرها 0‏
‏ خامسا : ضرورة إعادة التفكير بشكل جدي وعلمي في سياسات التعليم في عالمنا العربي التي ‏تهمش اللغة العربية في المناهج التعليمية , وفي مختلف المراحل العلمية لطالب العلم من الروضة الى ‏ما بعد التعليم الجامعي , وما قد يترتب عليه ذلك من مخاطر وانعكاسات مستقبلية سياسية وثقافية ‏واجتماعية على الأجيال الناشئة في وطننا العربي , بداية بفقد الهوية والوطنية ومرورا بتناسي لغة ‏العقيدة والقران الكريم , وليس انتهاء بانبهار وانجرار تلك الأجيال الى براثن المستعمر الثقافي , ‏وبالتالي انهيار منظومة الأمن الثقافي العربي 0‏

• رئيس تحرير صحيفة السياسي التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية ‏
• باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية 0‏