المسلسلات التركية .. اقتحمت البيوت.. انصتت لها الزوجات

لم يكن تأريخ المسلسلات المدبلجة للعربية الواردة الى العراق حديث العهد، فقد وردت الينا في ثمانينيات القرن الماضي وبداية التسعينيات – حيث لا وجود للستلايتات آنذاك - مسلسلات من أمريكا اللاتينية من أمثال (عروس البحر) و (غودا لوبي) و(كاساندرا) و(مانويلا) وقد لاقت في حينها رواجا منقطع النظير، ليس كونها دراما تتحدث بواقعية المجتمع، أو انها كانت تملك كل الوسائل الفنية من أخراج وتمثيل وحبكة السيناريست فحسب، بل كانت هي أولى الاعمال التي دخلت القطر في فترة معقدة من حياته .
كان المجتمع حينئذ بحاجة الى التنفيس عن مكامن غضبه وحزنه وفي الوقت نفسه عن تطلعاته الانسانية ، كان البيت العراقي ينمو بشكل سلبي، حينما فقد الموجّه الاعلى للأسرة (الأب) وكذلك الابن الاكبر، وهناك عوائل كثيرة غاب عنهم أكثر من موجّه ومعيل، وبقيت تلك الاسر لا تملك ما يملي عليهم حياتهم ورغباتهم المتدفقة وحواراتهم الخفيّة الدفينة ونشيج الروح المخضّبة بالأمل الا شاشة صمّاء بحجم 16 بوصة يسهرون معها وهي تفوز بأعجابهم وخطف ابصارهم ، لا سيما عندما كانت تتحث غوادالوبي مع اليخاندرو،(مسلسل غوادالوبي) في حوار رومانسي يملأه دفء عاطفي ومشاعر انسانية تغمرها روح التضحية ونكران للذات وبوح متواصل حتى يتقاطر الحلم ليصير مطرا راعفا يحيل الطرقات سهلا أخضر..
كذلك كان الحال مع بقية المسلسلات التي ذكرت وأن اختلفت بشيء بسيط في تناول الحبكة الدرامية ونوايا كل شخص مزروع في ذلك العمل..
مثلا.. مانويلا مع اليكس(مسلسل مانويلا)، اكناسيو مع كاساندرا (مسلسل كاساندرا)، الفريدومع ماري الينا (مسلسل عروس البحر)..
أما في العقد الحالي ، وفي بداية السنة الماضية 2008 عادت المسلسلات المدبلجة في الهجوم وبالتحديد التركية منها ونال مسلسل ( نور ومهند) اعجاب كثير من المشاهدين صغارا وكبارا ، نسوة ورجالا واستدرج كل الشرائح الاجتماعية.. ليس هذا فقط وانما كتبت عنه الصحف والمجلات والفضائيات وقامت بهم الدنيا ولم تقعد..حتى وصل المطاف الى الــ ( جبس الاطفال ) فمن لم يحظى بلصق صورة لكليهما وهما متقاربان في الحقائب المدرسية والملابس والاحذية اكتفى بتسمية محله التجاري .. أزياء نور ومهند .. بوتيك نور ومهند .. الخ... وربما وصل الامر الى مرض اسمه نور ومهند ولم أسمع به أنا.



ان نجاح تلك الاعمال الدرامية في المجتمعات العربية له مزايا كثيرة وله مؤشر يحسب له كتاب الدراما الف حساب خاصة عندما يظهر استطلاع عام 2008 مفاده بأن مسلسل نور ومهند كان الاول من بين جميع المسلسلات العربية والاجنبية حاز على متعة المشاهد..
وما زالت حتى الان تتدفق دون توقف موجة المسلسلات المدبلجة التركية .. مثل مسلسل ( الحلم الضائع) .
من النجاحات التي حسبت لتلك الاعمال هي الدبلجة باللهجة العربية السورية التي أستخرجت أغلب الانفعالات للممثلين الاتراك، كذلك التعاطف الواضح للمجتمع العراقي مع تلك اللهجة التي عاش أغلبه وتعايش معها في المهجر وعند عودت المواطن العراقي الصبور انزاحت تلك العواطف والذكريات من السأم والقلق الى حالة الاستقرار والشعور بمنطق الحياة..
لكن الذي يؤخذ على تلك المسلسلات هي عدد حلقاتها التي غالبا ما تتجاوز المائة حلقة، طول الواحدة منها ساعة كاملة وبحساب بسيط يحتاج المشاهد الى 30 ساعة في الشهر ، أي اربعة أيام وربع بلياليها الملاح .. ولو فرضنا بان المسلسل يحتوي على 150 حلقة .. فأنت بحاجة عزيزي المتفرج الى ستة ايام وربع متواصلة لا ماء ولا خضراء ولا دواء، انت بحاجة فقط الى استمرار الكهرباء حتى تعرف بالضبط كل من هبّ ودبّ وسافر وتزوج وولد ..وتدحرج في المسلسل..
ان مسلسلات من هذا النوع مغدقة بالواقعية والتي تترهل في مشاهد كثيرة منها ، بمعنى ان نمو الاحداث يتصاعد ببطء شديد وأحيانا يُضجر المتلقي ، كذلك الحال في الــ ( العقدة) أي عندما تصل الاحداث الى الصراع ويكون التقاء الخير مع الشر رأس الهرم لأي عمل درامي.. أما نهايات كل الاعمال تلك ينتصر فيها عنصر الخير ويندحر الشر بكل معانيه.. واطالة من مثل هكذا مسلسلات نوعزه الى اولا وأخيرا الربح التجاري رغم ما يوفره من متعة للمشاهد في المشاهد الخارجية لهذه الاعمال والازياء والديكور والاثاث والمكياج .. الخ
وعلينا أن نعرف بأن هناك أكثر من كاتب للقصة الواحدة وعدد كبير ايضا من كتاب السيناريست للمسلسل الواحد كي يستطيعوا ان ينجزوا عملا بهذه السعة في الاحداث والمشاهد الغزيرة المتركبة فيه.
اني رأيت العجب في كيفية متابعة الناس ،( الجنس اللطيف على وجه الخصوص.. البنات منهنّ والزوجات والارامل والمطلقات) ..وبشكل جنوني ابتداءا من رنّة الموبايل (وهي المقدمة الموسيقية للمسلسل) ولا تنتهي بشحاطات ، جبن ، تي شيرت ، ملصقات بمختلف الاحجام sticker ، حلويات ، مرطبات .... حتى عرفت(بالصدفة) قبل يومين بأن أحدى بنات حارتنا تتدثر من برد شتاءنا الذي يضرب العظام ببطانية اسمها.. نور ومهند!
ان المجتمع اليوم رغم كل المتغيرات الكثيرة فيه وحاجاته المتنوعة للحصول على رغباته ونزواته ومعرفته بكل الوسائل المتاحة لهو أقرب الى كتاّب عراقيين عاشوا كل تفاصيل مجتمعهم، يستطيعون وبكل جد واخلاص كتابة أحداث كبيرة ومهمة حصلت ونقلها وتصويرها بالطرق الفنية ولمختلف الاجناس الادبية من مسرح وسينما ودراما تلفزيونية ... حتى لو كانت قصيدة شعر، قبل أن تُنسى مثلما نسينا الحرب العراقية الايرانية!