لنجعل القدس رمزاً
الدكتور عزت السيد أحمد


جراح القدس بليغة عميقة...
كبرياؤها نازف...
وكرامتها منتهكة...
وأهلها يستغيثون...
والعالم (يتفرج) ويصفق
وكأَنَّهُ يستمتع بعرضٍ مسرحي
وحماةُ القدس يقهقهون
يتبادلون اتهامات التقصير
ويتشاتمون
يدَّعون حمل الأمانة
ويزايدون
والقدس تستغيث
وأهلها يستغيثون
والكبرياء تنـزف
والكرامة تُجْهَضُ
ويعلو الأنين
من أين نبدأ؟
كلُّ البدايات كانت خاطئة
وبعد كلِّ بدايةٍ بدايةٌ خاطئة
ونترك المبادرات للآخرين
أمران يوقفان المفكر أو الكاتبَ في حيرةٍ؛ أن تضيق مخيلته عن فكرةٍ ينسجُ حولها كلامه في موضوعٍ ينبغي أن يقول فيه شيئاً، وأن تتزاحم عليه الأفكارُ المتكافئة في أهميتها في موضوعٍ واحدٍ فيحار في الفكرة الَّتي يبدأ بها كلامه، لأنَّ كلَّ فكرةٍ تفرض ذاتها بوصفها الأكثر أهميَّةً. والحديث عن القدس عند أي مفكر أو كاتبٍ أو باحثٍ هي من هذا القبيل الثاني، لأنَّ القدس ليست محض مدينةٍ كغيرها من المدنِ في أيِّ مستوى من مستويات الكلام أو الأفكار الَّتي تفرضُ ذاتها حَتَّى ولو كانت هذه الأفكار مشتركةً مع مدنٍ أُخْرَى.
فإذا كان الكلام عن القدس بوصفها مدينةً محتلةً، ومن ثمَّ المعاناة من الاحتلال، فإنَّ فكرة الاحتلال والمعاناة منه فكرةٌ تشترك فيها كثيرٌ من المدنِ، ولكنَّ القدس وحدها من المدن الَّتي احتلَّتْ تتعرض لاحتلالٍ من نوعٍ مختلفٍ عن كلٍّ أنواعٍ الاحتلال عَبْرَ التاريخ هو الاحتلال الاستيطاني، ويختلف هذا الاحتلال الاستيطانيُّ عن كلِّ ما يمكنُ أن يسمى احتلالاً استيطانيًّا أيضاً بأنَّهُ يقوم على تزوير جليٍّ للتاريخ، ومزاعمَ واهيةٍ لا تصمدُ لحظةً أمامَ أيِّ مناقشةٍ تحترمُ أدنى أوليات العقل، ويضاف إلى ذلك مما يرتبطُ به أمران على الأقلِّ خطيران:
أولهما أَنَّهُ على الرَّغْمِ من هشاشة هذه المزاعمِ وقابليتها للتداعي والانهيار أمامَ أي مناقشةٍ عقلية أو علميَّة أو أخلاقيَّة... فإنَّ العالم الغربي كله تقريباً، وخاصَّة الحكومات منه، تقف وراء هذا الاحتلالِ وقفةً حديديَّة، وتبذل الغالي والرخيص للدفاعِ عن الاحتلال، وتصويره على أَنَّهُ حقٌّ شرعيٌّ، وفي المقابل من ذلك تماماً تتجاهل هذه الدول حقَّ الأهل الأصليين للمدينة تجاهلاً غريباً مُريباً يجعل الحليم حيراناً ويفقد الحكيم صوابه. ولا نبالغ في هذا السياق إذا قلنا إنَّ السياسة الغربيَّة تنطلق من قناعة أكيدة واثقة بأنَّ الكيان الصهيوني كيان مزروع في مكان لا انسجام قط بينه وبَيْنَ المحيط الذي زرع فيه، ولذلك سمعنا الكثير من التصريحات التي صدرت عن مسؤولين غربيين تعلن صراحة أنَّ إسرائيل وجدت لتبقى، وقد كثرت هذه التصريحات مع انطلاقة مؤتمر مدريد للسلام العربي الصهيوني في عام 1992م، وطبيعة هذا التصريح تكفي وحدها لتوضح أنَّ الغرب يتعامل مع الكيان الصهيوني على أَنَّهُ كيان مزروع في غير أرضه، وعلى أرض لها أهلها، ولذلك تبدو الازدواجية واضحة في السياسة الغربية تجاه هذا الموضوع.
ثانيهما أنَّ هذا العالم الغربي، وهو الذي زرع هذا الاحتلال وكرَّسه وصان وجوده، وبممارسة تفقأ عين كلِّ عقل ومنطق، لم يكتفِ بالاقتناعِ المريب بهذه المزاعم الواهية، المتناقضة الَّتي تفتقر إلى أدنى حدود التماسك مع المنطق أو العقل أو التاريخ، بل يريد أن يفرض على أهل القدس وعلى العالم العربي والإسلامي أن يقتنعوا بهذه المزاعم، ويعتقدونها قبل دينهم ديناً، بل لَقَد كشفت بعض الوثائق عن سعي الإدارة الأمريكية لمنع العالم الإسلامي، ومنه العربي، من تدريس الآيات القرآنية الَّتي تحض المسلمين على الجهاد، أو حَتَّى تتحدَّث عن اليهود!!! وفي هذا السياق أيضاً نجد تسابق السياسيين الأمريكيين خاصَّةً، والغربيين عامَّة، في الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، وعدم تقسيم القدس بوصفها عاصمة لهذا الكيان. وكذلك نجد التجاهل الأعمى الحاقد للسياسات الصهيونية في تهويد القدس وإقامة المستوطنات فيها، والسعي الدائم لتهجير المقدسيين، ومنعهم من ممارسة حقوقهم وشعائرهم في القدس، وكذلك العمل على إزالة كل الملامح العربيَّة والإسلاميَّة من القدس عل طريق هذا التهويد.
أما إذا أردنا الحديث عن معاناة أهل القدس من الاحتلال فإنَّ الأمر سيطول بنا كثيراً، لأنَّهُ على الرَّغْمِ من اشتراك كلِّ المدن المحتلة بالمعاناة فإنَّ معاناة أهل القدس مختلفةٌ أيضاً عن كلِّ معاناة، وحسبنا من هذا الاختلاف الصورة المقلوبة الَّتي تصل إلى العالم عن هذه المعاناة، فعلى الرَّغْمِ من وضوح الوحشية الصهيونية في اغتيال الأطفال والأبرياء بالطَّائرات والدَّبابات ومختلف الأسلحة النارية، وعدم امتلاك أهل القدس أكثر من الحجارة للدفاع عن أنفسهم فإن العالم الغربي يتحدث عن إرهاب فلسطيني، وعنف فلسطيني، واعتداءات فلسطينيَّة...!!! وتزداد الصُّورة فاجعيُّة هنا عندما نشاهد الإعلام الغربي والحكومات الغربية تتهافت على استرضاء الاحتلال الغاشم وتسويغ وحشيته وتصويرها على أنَّها براءة الحملان الوديعة. ويتكالبون في الضَّغط على أهل القدس لإيقافِ (إرهابهم المدجج بمختلف أنواع الحجارة والحصى) الذي يهدد أمن الاحتلال!!! ولذلك لا عجب في أن نجد غير واحدٍ من أمثال ديفيد روتم النائب في الكنيست الصهيوني «يعرب عن استعداده لتفجير المسجد الأقصى ومحوه من الوجود إذا كان هذا هو الطريق الوحيد للإفراج عن الجنود الإسرائيليين المحتجزين لدي حركتي حماس وحزب الله». وأضاف «إنَّ إزالة المسجد الأقصى من الوجود قد يحقِّق السَّلام الدَّائم»، وذريعته في ذلك: «أنَّ النِّـزاع الفلسطيني الإسرائيلي ليس سياسيًّا... إنَّما هو صراع بَيْنَ الدِّيانة الإسلاميَّة التي لا تريدنا هنا، والديانة اليهودية، التي تريد الاستقرار في فلسطين».
سنفترض أنَّ ذلك كله أمرٌ مقبولٌ أو عاديٌّ في سياق الصِّراعِ أيًّا كان مضمونه، وخاصَّةً في حقِّ القوي في تصوير الصِّراع كيفما أراد ووافق مصالحه، ومن ثُمَّ فإنَّنا لن نلوم الغرب على عقليته المقلوبة هذه. ولكن الذي لا يمكن تغافله أو تجاهله هو المنطق المقابل لهذا المنطق، أي المنطق المقابل لمنطق القوة وهو منطق الحق والتاريخ، هذا المنطق الذي سينصف القدس، وسيعيد لها كرامتها وكبرياءها ومكانتها، فمهما انقلبت الحقائق، ومهما زوِّرَ التاريخ والواقع، وحَتَّى لو كانت القدس مدين ككل المدن لا خصوصيَّة لها فإنَّها تبقى وطناً له أهله وأصحابه، كلُّنا يعرفُ أنَّ سموَّ الوطن في النفس وقداسته لا تأتي من كون مائه غير الماء، ولا من كون هوائه غير الهواء، ولكن لأنَّهُ وطن، وقد أثبت التَّاريخ أنَّ الوطن لا ينسى ولا يموت ولا يمكن أن يخرج من النفس حَتَّى ولو خرجت النفس منه!!!
هذا يعني حقيقة أساسيَّة واحدة هي أن المستقبل، قَرُبَ أم ابتعد، الذي سيعيد الحقَّ إلَى نصابه لن يرحم المتخاذلين من حاضرنا، ولن يغفر تكاسلهم وقلة حيلتهم... فلماذا لا يحسب هؤلاء لهذا اليوم حسابه؟!
ولكن لعنة التاريخ لن تكون قليلة، وحسابه لن يكون يسيراً، لأن القدس ليست كأي مدينة من المدن، فاسمها القدس، والقدس من القداسة، وأي مدينة في العالم اسمها القداسة غير القدس؟! وأي مدينة في العالم اجتمعت فيها مقدسات أديان الله الثلاثة معاً غير القدس؟! وأي مدينة في العالم تساوت محبتها وقدستها في قلوب المؤمنين بالله من كل الأديان غير القدس؟! وأي مدينة دُنست قداستها وانتهكت كرامتها في ظلِّ الصَّمت الرَّهيب المريب من العالم معظمه؟!!
بقدر هذه القداسة، وبقدر هذه الجرائم سيكون الحساب والعقاب؛ لمن قصَّر، ولمن سكت، ولمن شارك، ولمن قام بالفعل... فلنفكر في يوم الحساب هذا لأنَّهُ لن ينجو آثمٌ أبداً.
يجب أن نسعى بكلِّ ما نستطيع، وبمختلف الأساليب والوسائل المتاحة والممكنة كي نعيد للقدس كرامتها وكبرياءها وشموخها، القدس أكبر من كلِّ الرموز فلماذا لا نجعلها رمزاً؟! يجب أن نعلنها رمزاً يتقدَّم كل الأحداث والأخبار كي لا تفارق الأذهان لحظةً أو ومضةً لأنَّ غيابها عن الأذهان خيانة، وقبولنا بالخيانة كفرٌ، وليس بعد الكفر ذنب... ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.

الدكتور عزت السيد أحمد