من يصنع الحضارة؟
كانت أمتنا العربية – عبر حقبة زمنية طويلة – مسرحًا لحضارة عظيمة، راسخة القواعد، قوية البنيان، شاهقة الارتفاع، ...، إنها الحضارة العربية الإسلامية التي انطلقت شرارتها الأولى من شبه جزيرة العرب بوحي إلهي، ثم اتسعت وامتدت ذات اليمين وذات الشمال، فكانت المنطقة العربية – الإسلامية، بما تتمتع به معظم بلدانها من تراث حضاري ضخم وموقع جغرافي أثير، بقعة مضيئة تتلألأ في ساحة الإبداع والتميز والإنتاج الفكري والمادي. واللافت للنظر في هذه الحضارة أنها تشكلت في إطار قالب ديني، انصهرت فيه وتفاعلت معه إبداعات روادها في شتى المجالات، فكان الناتج إنسانًا يحمل في أعماقه منظومة كاملة من القيم، تشبع حاجات الروح ومطالب الجسد.
وإذا كانت المكانة الريادية لأمتنا العربية في بناء الحضارات قد تراجعت منذ أفول نجم الحضارة الإسلامية وحتى يومنا هذا، وإذا كانت أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية قد تدهورت في حقبتها الحديثة والمعاصرة، فذلك بلا شك نتيجة عوامل داخلية وخارجية مؤثرة، عملت – ولا زالت تعمل – كأسباب مباشرة لهذا التدهور، لعل أبرزها: اتساع الفجوة بين تعاليم الإسلام وممارسات المسلمين، والفساد الإداري الشامل، ومصادرة الحريات، وتسطيح الوعي الشعبي بحقوق وواجبات المواطنة، وانعدام العدالة في توزيع الموارد والثروات، وتخلف برامج التخطيط المستقبلي في مجالات التعليم والصحة والزراعة وغيرها، هذا فضلاً عن التصادم بين المصالح القومية ومصالح القوى الكبرى في الغرب المهيمن حضاريًا.
أما عن مظاهر هذا التدهور فقد تعددت وتنوعت حتى باتت واضحة للداني والقاصي، فمنها مثلاً: الاحتقان السياسي والاجتماعي الحاد، واتساع الفجوة بين أقلية موسرة ومترفة وأغلبية فقيرة ومعدمة، وتزايد معدلات البطالة والفقر والمرض والجريمة، وتدني كفاءة المنتج التعليمي ومخرجات المرافق الخدمية والإنتاجية، وانهيار منظومة القيم الدينية والأخلاقية، وتعسف السلطات التنفيذية لتتحول من خدمة وحماية الشعوب إلى خدمة وحماية النظم القائمة، وشيوع حالة اللامبالاة بين جموع أمة أسكرتها مطالب الحياة الملحة، ...الخ.
هذا المشهد العابر لأمتنا العربية كأمة ذات حضارة أصيلة، وكأمة بالوضع الذي نراها عليه اليوم، كاف لمعالجة السؤال الذي جعلناه عنوانًا لهذا الطرح: من يصنع الحضارة؟، هل هم الساسة والقادة العسكريون وكبار رجال الدولة من وزراء وأعضاء في المجالس النيابية، أم هم خلاصة فكر الأمة، ممثلة في علمائها ومفكريها وأدبائها وفنانيها ودعاتها، وقبل ذلك أنبيائها؟. وقد يبدو السؤال بسيطًا للوهلة الأولى، لكن قليلاً من التأمل يكشف عن أن إجابته – أيًا كانت – تحمل في طياتها إجابات لتساؤلات ملحة من شأنها تغيير الكثير من مفاهيمنا الثابتة. فالسؤال يفترض أولاً أننا في مرحلة تاريخية حرجة، علينا تجاوزها بالتطلع إلى نهضة حضارية مأمولة تعيد إلى الأمة مكانتها المفقودة؛ ومن ثم نتساءل عن مدى توافر مقومات هذه النهضة في ظل الظروف الراهنة. وهو يدفعنا ثانيًا إلى التساؤل: هل بإمكان العربي أن يتخلى عن موروثه الديني والقيمي المترسخ وهو بصدد السعي إلي هذه النهضة – كما ترغب القوى الكبرى المؤثرة في صناعة القرار؟. وهو يضعنا ثالثـًا أمام السؤال المنهجي في علم وفلسفة التاريخ: لمن يجب أن يؤرخ المؤرخ؟، هل يؤرخ لأفراد – هم القادة – أم لمنظومات علمية وثقافية تعكس حضارة أمة أو شعب؟ .
والحق أننا بتساؤلاتنا تلك لا نطرح موضوعًا جديدًَا، أو نعبث بأصابعنا في جرح ملتئم ليتدفق منه دمًا طازجًا، بل إن الجرح في الحقيقة كان – ولا زال – يعاني نزيفـًا يكاد يودي بحياة صاحبه. وحتى من المنظور التاريخي – الفلسفي، كان موضوعنا مثار اهتمام كل غيور على حضارته وثقافته عبر قرون خلت؛ ففي القرن الثامن عشر، طرح الأديب والفيلسوف الفرنسي « فرانسوا ماري أرويه دي فولتير» (1694 – 1778) سؤالنا الأساسي ذاته، وأجاب عنه بعبارتين بليغتين تعكسان وعيه بمدى حاجة التاريخ إلى الفلسفة، ومدى تقديره لمغامرات العقل وقدرته على طرد ظلام الجهل والأهواء والغيبيات وأحقاد التعصب، ومن ثم بناء الحضارة. يقول « فولتير» – وتلك هي عبارته الأولى: «لو سئلت: أي هؤلاء الرجال أعظم: الإسكندر أم قيصر أم تيمورلانك أم كرومويل؟ لأجبت بأن أعظمهم جميعًا هو إسحق نيوتن!». أما عبارته الثانية فمنطوقها: «إن بعض المؤرخين يهتم بالحروب والمعاهدات، ولكني بعد قراءة ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف معركة، وبضع مئات من المعاهدات، لم أجد نفسي أكثر حكمة مما كنت قبلها، حيث لم أتعرف إلا على مجرد حوادث لا تستحق عناء المعرفة؟!».
من جهة أخرى، إذا كانت الحضارة من صنع أفراد (هم القادة أوالحكام)، فهل هذا الفرد الذي ينهض بالأمة –انطلاقًا من موقعه السيادي – هو صانع عصره ومجتمعه، وبالتالي علينا أن ننتظر حتى يجود علينا الزمان بمثل هذا الفرد؟، أم أن هذا الفرد هو ابن عصره ومجتمعه، وبالتالي علينا أن نبدأ بأنفسنا لتغيير ثقافة أمة باتت تنظر إلى ذاتها كمجموعة أصفار لا قيمة لها إلا بالواحد؟.
المفضلات