تشرح القاصة هيمى المفتي عنوان مجموعتها القصصية "همسات صينية" في هوامش القصة التي تحمل هذا العنوان بأنها لعبة تدور بين مجموعة من الأشخاص يبدأ أحدهم بالهمس بعبارة ما للاعب آخر يقوم بدوره بنقلها همساً إلى لاعب آخر، ومنه إلى رابع وهكذا، وعند المقارنة بين عبارة اللاعب الأول وتلك التي تلقاها اللاعب الأخير نجد اختلافاً كبيراً قد يصل حد التناقض.‏
أما قصص هيمى المفتي همسات أيضاً، لكن ليست صينية، لأنها تبوح بها مباشرة إلى القارئ الذي يتلقاها دون أن تتعرض لمبالغة أو تضخيم أو تغيير أو تشويه مما حدث في قصة "همسات صينية".‏
همسات هيمى المفتي بلغتها الحيادية الهادئة غالباً، تنقل أحداثاً محتدمة بصراعات شخوصها. هذه الصراعات أنجبها طبيعياً وليس قيصرياً مجتمع لم يأخذ من الصين إلا همساته، ولم يعط أبناءه إلا الاضطرابات النفسية والعجز عن التوازن مع ما ومن يحيط بهم مثل الشخصية الازدواجية بين قطبي الدين والدنيا في قصة "المتأرجح" التي تنتهي بانسحاب هذه الشخصية من كلا الساحتين وتأرجحها الدائم دون ثبات.‏
ويظهر الدين بتعدد طوائفه مرة أخرى، عاملاً للخلاف لا للاختلاف في المجتمع الذي تجري فيه قصص هيمى المفتي مثل قصة "تهنئة" التي ينتصر فيها عدم التكافؤ الديني بين شخصيتيها على علاقة الحب التي كانت تجمع بينهما.‏
هذا المجتمع ينطبق على أي مجتمع عربي لا يمنح أبناءه فرصاً للعمل حتى خريجي الجامعات منهم كما في قصة "قبض الريح" حيث يلفظهم إلى بلدان غريبة ترفض أن تستقبلهم فيضيعون في الطريق إليها.‏
في مجتمع كهذا، يحكمه الصراع بين طبقاته، طوائفه، أفراده.. لا بد أن تنمو غريزة الثأر لدى كل أبنائه: الظالم والمظلوم، القوي والضعيف، .. على حد سواء. وهذا ما تشي به قصص هيمى المفتي:‏
* ففي قصة "سجين الزاوية" العنوان كناية عن زاوية الخوف التي يقبع فيها الراوي الابن بحكم العلاقة التي تربطه بأبيه والتي منحت الأب عرش السلطة على أبنائه فمارس قسوته التي ولّدت الكراهية والألم والرغبة في الثأر والانتقام لدى الابن، لكنها رغبة ظلت قزمة أمام السلطة الأبوية التي باركها المجتمع؛ فعجز الابن عن تحقيق رغبته البسيطة في التحديق إلى عيني أبيه دونما خوف، ليس في حياة أبيه فحسب بل بعد وفاته أيضاً.‏
* وتظهر أبوية المجتمع أيضاً في قصة "البالون" التي تتحدث عن علاقة زوجية يمارس فيها الزوج هنا سلطته الزوجية التي خوله إياها المجتمع إلى درجة أن يتهم زوجته بالعقم رغم أن الفحوص الطبية أثبتت العكس. لكن القصة تنتهي نهاية ثورية تثأر فيها الزوجة لذاتها ولجرائمها التي لم ترتكبها عندما تعلن (أمام العائلة بأسرها) ص 57 وأمام زوجها الذي نفخته سلطته كبالون فكبر حتى كاد ينفجر، تعلن أنها حامل.‏
* وتظهر غريزة الثأر لدى المرأة قوية في قصة "تنفيذاً لوصية المرحوم" المكتوبة بأسلوب ساخر يبرر ثأر المرأة من كل من يتعدى على حقوقها كأنثى: فالزوجة تبيع الفيلا بمبلغ (لا يتجاوز جزءاً من الألف من ثمنها) ص 50 وسط اندهاش الابن البكر والابنة وزوج الابنة والمحامي وحتى المشتري... لتتكشف الحقائق في نهاية القصة عندما تعطي ثمن الفيلا للمديرة السابقة لمكتب الزوج المتوفى قائلة لها (تنفيذاً لوصية المرحوم، كما وعدك قبل أن يسبقه الموت، وكما أقسمت له خلال الدقائق الأخيرة من حياته، أقدم لك الثمن كاملاً) ص52.‏
* وتظهر رغبة الثأر عارمة ومقنعة ومؤلمة في قصة "أمنية تتحقق" التي تبدو اجتماعية الموضوع من خلال علاقة الابن مع زوجة أبيه. في هذه القصة ينضاف إلى الطرف الثاني الابن من زوجها الأول، وإلى الطرف الأول وفاة الأم ثم الأب. موضوع الصراع بين مثل هذين الطرفين مألوف اجتماعياً وقصصياً، لكن اشتغال القاصة كان نفسياً من خلال الأحداث وليس اللغة: الراوي البطل يفرغ حمولة الشاحنة من البصل فوق السيارة الصفراء التي تركبها زوجة الأب وابنها ما سيجعلهما (يبكيان بدموع محترقة كدموع ليالي الطويلة) ص 76 وهكذا تتحقق أمنيته في أن يجعلهما يذرفان دموعاً كثيرة دفعة واحدة لا تقل عن تلك الدموع الكثيرة التي ذرفها على دفعات (بدا لي أن كل الدموع التي ذرفتها منذ طفولتي وحتى الآن قد تجمعت في أعينهما، وأنهما سوف يبكيان طويلاً حتى تنتهي جميعها، فامتلأ قلبي سعادة) ص 77.‏
* أما قصة "رصاصة النقمة" فينضح الثأر والانتقام من عنوانها، وهي تقدم حالة معاكسة تماماً لرصاصة الرحمة التي تميت لكنها تريح المقتول من آلامه وأوجاعه. فالأب الذي مات ابنه قتلاً لم يشبع رغبته في الثأر حكم الإعدام على المجرم؛ إذاً سبب الثأر تقليدي؛ لذلك قرر الأب أن ينتقم بطريقة خاصة غير تقليدية، سينمائية المشاهد، حيث يعرقل تنفيذ الحكم برصاصة تقطع حبل المشنقة (إذا كان قد استطاع أن يعرقل مهمة الجلاد وملك الموت، ثم لم يفتضح أمره، سيعيد الكرة ثانية وثالثة وربما عاشرة) ص 69.‏
جريدة الاسبوع الادبي العدد 1050 تاريخ 7/4/2007