آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 11 من 11

الموضوع: أديب العربية مصطفى صادق الرافعي رحمه الله !

  1. #1
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية محمد بن أحمد باسيدي
    تاريخ التسجيل
    26/09/2006
    المشاركات
    1,240
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي أديب العربية مصطفى صادق الرافعي رحمه الله !

    مصطفى صادق الرافعي: الكاتب البارع
    تقديم
    بقلم: سعيد مولاي التاج
    تحل قريبا الذكرى 126 لميلاد "أديب العربية الأول" وفارس البلاغة والبيان مصطفى صادق الرافعي رحمه الله، وهي مناسبة نحتفل فيها ونحتفي بهذا الأديب والمفكر لنعترف له بسابقة فضل في التأسيس لـ"أدب إسلامي معاصر"، رسم بكتاباته الثرية والمتنوعة -إبداعا ونقدا في مختلف ضروب الأدب و ألوانه– بعض معالمه، ولنقر له بجميل التصدي-هو وآخرين- لطاحون التغريب الذي استهدف الأمة في بدايات القرن وخاصة نخبها المثقفة والمتعلمة، إذ أنه ظل حاملا للواء الإسلام منافحا عن عقيدته وقيمه معتزا بلغة القران متعصبا لها مدافعا عن أصالتها وصدارتها، في وجه تيار التحديث والعصرنة، الذي تولى كبره ثلة من الأسماء التي ملأت سماء الفن والأدب، وحظيت بشهرة واسعة رغم أنها لم تدان الرافعي بلاغة ولا بيانا ولا ضاهته بغزارة إبداع أو بقليل إمتاع، بل كان جواز شهرتها وذيوع صيتها جرأتها على الدين والتنكر لقيم الأمة والتشكيك في أسباب قوتها.
    كان الرافعي رحمه الله تعالى عميق الفكرة متين الأسلوب واسع الاطلاع غواصا جميل العبارة لطيف الإشارة، متعدد المواهب، بعيد الآفاق والمذاهب، مما يصعب على أي باحث الإحاطة بجوانب شخصيته وأبعادها الإنسانية والأدبية، وكذا الإلمام بمختلف أرائه ومواقفه في العديد من المجالات والقضايا الاجتماعية والروحية والفكرية والسياسية والأدبية.
    سنحاول من خلال مجموعة من المقالات التي كتبت في الرافعي ومؤلفاته أن نرصد ملامح هذه الشخصية من خلال ثلاثة محاور:
    1- ملامح شخصية الرافعي الإسلامية: وهو محور يضم مقالات تبرز أثر الإسلام في بناء شخصية الرافعي بعمقها الاسلامي والإيماني، كما تقرب إلى جمهور الزوار سيرة الرجل وما خلفه من مؤلفات وتراث..
    2- قراءة في بعض الكتب: مقالات تلقي الضوء على بعض المعارك الأدبية والفكرية التي خاضها الرافعي تحت راية القرآن انتصارا للإسلام والعروبة خاصة كتابيه "على السفود" و"تحت راية القرآن"، كما تعرض لبعض آرائه في فلسفة الحب والجمال والحياة التي ضمنها كتبه الأخرى (وحي القلم - حديث القمر - كتاب السحاب الأحمر)..
    3- موضوعات وقضايا: ونركز فيه على بعض القضايا النقدية والفكرية والأخلاقية التي كتب فيها الرافعي بقلب الفطرة العالمة وعقل الفلسفة المؤمنة بأسلوب ساحر أخاذ يسري سريان الماء في الغصن الرطب فيروي العقول حكمة وتستروح منه القلوب رحمة، فرحم الله الرافعي ورفعه في عليين ..
    -----------
    المصدر:
    http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar.asp?id=4858&idRub=174
    ______________
    تحية متجددة
    محمد بن أحمد باسيدي


  2. #2
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية محمد بن أحمد باسيدي
    تاريخ التسجيل
    26/09/2006
    المشاركات
    1,240
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي شخصية الأديب المسلم في حياة الرافعي ورسالته !

    شخصية الأديب المسلم في حياة الرافعي ورسالته -1-
    د. محمد أبو بكر حميد
    عاش الرافعي في هذه الأمة وكأنه ليس منها، فما أدت له في حياته واجبا ولا اعترفت له بحق، ولا أقامت معه على رأي، وكأنما اجتمع له هو وحده تراث الأجيال من هذه الأمة المسلمة فعاش ما عاش ينبهها إلى حقائق وجودها على حين تعيش هي في ظلال التقليد وأوهام التجديد ورضي هو مقامه منها غريبا ومعتزلا لا يعرفه أحد إلا من خلال ما يؤلف من كتب وينشر في الصحف أو خلال ما يكتب عنه خصومه الأكثرون وهو ماض على نهجه لا يبالي .. ولا ينظر لغير الهدف الذي جعله لنفسه منذ يومه الأول، وهو أن يكون من هذه الأمة لسانها العربي في هذه العجمة المستعربة، وأن يكون لهذا الدين حارسه وحاميه يدفع عنه أسباب الزيغ والفتنة والضلال وما كان –رحمه الله- يرى في ذلك إلا أن الله قد وضعه في هذا الموضع ليكون عليه وحده حياطة الدين والعربية .. كأن ذلك "فرض عين" عليه وهو على المسلمين "فرض كفاية".
    بهذه الكلمات الموجزة اختصر محمد سعيد العريان مأساة جهاد أستاذه مصطفى صادق الرافعي ورسالة حياته، وذلك عقب وفاة الرافعي سنة 1937 في مطلع كتابه الفريد "حياة الرافعي" الذي يعد مصدرا أساسيا إلى الآن لكل من يتعرض لحياة الرافعي، وذلك ليذكر هذه الأمة بالدين الذي عليها لهذا الأديب الكبير والكاتب الإسلامي المستنير ولا تزال تلك الكلمات رغم مضي أكثر من 70 عاما عليها لم يجف مدادها تستنهض الهمم نابضة بالحياة، تدعو لإنصاف الرجل. والمأساة أن الرافعي لم يأخذ إلى الآن ولو بعض حقه من أمة لا تزال تحمل على عنقها ديونا كثيرة لأمثاله من أدبائها ومفكريها الذين أخلصوا حياتهم لها وماتوا في سبيلها .. أمة –للأسف- منذ بدأت تستبدل برايتها الحقيقية التي تسامت بها على باقي الأمم رايات أخرى ملونة تراجعت عن ركب الحضارات.
    وقد ظهر الرافعي في عصر هذه الفتن، وعاصر هؤلاء المفتونين فتصدى لهم ورد كيدهم في نحورهم بقلمه وحده لا يسنده حاكم يحميه، ولا منصب يترفع به، ولا حتى صاحب يذود عنه، فكان متكلا على الله وحده متخذا شعاره قوله تعالى: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا" فكانت هذه الآية محور حركته كلها ومصدر جرأته وشجاعته وجهره بالحق في وجوه من كان يشتم منهم عداوة للدين أو للغة من صغار وكبار.
    إشراق العبقرية:
    ينتمي مصطفى صادق الرافعي (1298 – 1356هـ = 1881 – 1937هـ) إلى أسرة عريقة في النسب خدمت الإسلام والعروبة بعدد من العلماء والقضاة والأدباء والمؤرخين اشتهروا في الشام ومصر، وأول من وفد من هذه الأسرة إلى مصر من طرابلس الشام وطنهم الأول كان الشيخ محمد طاهر الرافعي سنة 1243هـ (1827م) ليتولى القضاء في مصر على مذهب أبي حنيفة، ومنذ ذلك التاريخ كاد القضاء يكون حكرا لآل الرافعي حتى اجتمع في زمن ما أربعون قاضيا رافعيا في مختلف محاكم مصر، ووالد أديبنا الرافعي هو المرحوم الشيخ عبد الرزاق الرافعي كان رئيسا للمحاكم الشرعية في كثير من الأقاليم وهو واحد من أحد عشر أخا اشتغلوا جميعا بالقضاء.
    وكان الرافعي –رحمه الله- شديد الاعتزاز بانتهاء نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أما والدته فهي سورية الأصل من حلب وكان والدها الشيخ الطوخي يعمل تاجرا بين مصر والشام. وكان مولد أديبنا في بهتيم إحدى قرى مديرية القليوبية بمصر، وليس في طنطا كما يظن البعض، ونشأ في رعاية أبيه، وما كاد يتم العاشرة من عمره حتى استظهر القرآن عليه حفظا وتجويدا. لم يدخل الرافعي المدرسة إلا بعد أن جاوز العاشرة بسنة أو سنتين، فقد درس سنة من الابتدائية في دمنهور ثم نقل والده قاضيا في محكمة المنصورة فانتقل معه إلى مدرسة المنصورة الأميرية وحصل على شهادة الابتدائية وسنه يومئذ سبع عشرة سنة! فكانت الشهادة الابتدائية هي كل ما حصل عليه الرافعي من شهادات المدارس النظامية، ثم استقرت أسرة الرافعي في طنطا منذ عُيّن والده رئيسا لمحكمتها الشرعية، ومنذ ذلك الحين أصبحت طنطا مقرا لأسرة الرافعي وعاش فيها أديبنا إلى أن توفاه الله بها.
    وقد منعت الرافعي من مواصلة دراسته بعد الابتدائية إصابته بمرض التيفوئيد الذي أقعده أشهرا وأصابه بحبسة في صوته وصمم في أذنيه ظل يثقل عليه حتى تحول إلى صمم تام، وانقطع الرافعي به عن دنيا الناس والأصوات مع تمامه الثلاثين من عمره، فكانت هذه العاهة زلزلة خير وبركة في حياته فلزم الكتاب وانقطع للقراءة يقرأ تسع ساعات كل يوم لا يتصل بالناس إلا من خلال القلم على أحسن ما يكون الاتصال حتى ظهر نبوغه وأشرقت عبقريته، على أنه قبل هذا كله لازم أباه في صباه يأخذ عنه علوم العربية ويتفقه في اللغة وعلوم الدين والتفسير ويقرأ لعلماء الأمة.
    وهكذا امتلأ الرافعي منذ طفولته بروح الإسلام وتشبع بفكره، وآمن برسالته فجعلها رسالته يهتدي بهداها، ويقتدي بأعلامها، ويتخذ من لغة القرآن حصنه الحصين يدافع عنها ويهاجم منها كل الذين أرادوا الطعن في كتاب الله من خلال الطعن في لغته.
    على هذه الروح شب الرافعي وشاب، وتشبع بحب القرآن ولغته منذ ميعة صباه ونشأ لا يتكلم إلا الفصحى، وكان حظه من العامية المصرية قليلا –كما يروي صفيه الأستاذ محمد سعيد العريان- وظلت لهجته الشامية في الحديث تنم عن أله إلى آخر أيامه. فقد باعد فقده للسمع مبكرا بينه وبين إتقان اللهجة المصرية مضافا إليها حرصه وعشقه للتخاطب مع الناس بالفصحى.
    أما حياة الرافعي الوظيفية فهي تختصر في سطور قصيرة، فقد دلف إليها في أبريل عام 1899 وهو في سن التاسعة عشرة فعُيّن كاتبا في محكمة "طلخا" الشرعية القريبة من "طنطا" ثم نُقل إلى محكمة "إيتاي البارود" الشرعية ثم إلى محكمة طنطا الشرعية ثم إلى محكمة أهلية واستقر به المقام في طنطا، وعاش الرافعي طوال حياته موظفا صغيرا يتقاضى راتبا ضئيلا يعيش عليه بقناعة إذ لم تكن الوظيفة في حياته إلا وسيلة تعينه على العيش الكفاف ليفرغ لنفسه بعد ذلك يقودها إلى العلا في مراتب الثقافة والأدب والفكر ليتسنم قممها العالية ويمثل مكانته اللائقة به بين كل أبناء عمره.
    الرافعي في بيته:
    تزوج الرافعي في الرابعة والعشرين من عمره من فتاة مصرية صريحة النسب أخت صديقه الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة "البيان".وقد عاش الرافعي لزوجه وفي بيته وبين أولاده مثل الزوج والأب الذي يحترم حدوده ويعطي لكل ذي حق حقه، وحسبنا أن نقرأ ما كتبه عنه تلميذه وصديقه الأستاذ العريان حين شهد بقوله: "وأنا ما عرفت أبا وأولاده كما عرفت الرافعي إذ يتصاغر لهم ويناغيهم ويدللهم ويبادلهم حبا بحب ثم لا يمنعه هذا الحب من أن يكون لهم أبا فيما يكون على الآباء من واجب التهذيب والرعاية والإرشاد...".
    ولم يفرط الرافعي يوما في عقد الأسرة وظل مرضيا لزوجه التي أعطت له كل حياتها وهيأت له في بيته كل ما يحتاجه رجل مفكر مثله، وما يقال عن علاقة الرافعي بالمرأة خارج محيط الأسرة فيه كثير من التجاوز للحقيقة، وما يقال عن حبه لمعاصرته الأديبة الشامية المعروفة الآنسة مي زيادة فيه من الخيال أكثر مما فيه من الواقع.
    لقد هب الحب على قلب الرافعي مثله مثل كل إنسان ولكنه لم يترك هذا الحب يعصف بحياته فسرعان ما حوله إلى نسيم يستوحي منه أرق وأجمل مؤلفاته لغة وأسلوبا ومعنى، فليس الرافعي الذي يسلم قياده لهواه، فإذا كان حبه أقوى منه قد كان دينه وإيمانه أقوى من حبه، وهو القائل:
    الحب سجدة عابد *** ما أرضه إلا جبينه
    قلبي يحب وإنمـا *** إيمـانه فيه ودينه
    وقد صارح الرافعي زوجه بحقيقة أمره مع فلانة الذي لم يتجاوز "الاستلهام"، وكانت أعرف الناي بعفة زوجها واستقامته وعظيم إيمانه.
    وهكذا كان الحب في حياة الرافعي طائفا روحانيا بعيدا عن شهوات الجسد، وأوحى إلى الرافعي بأعظم ما خطه يراع في فلسفة الحب والجمال في أدبنا الحديث، كان أولها "حديث القمر" كتبه سنة 1912 عقب زيارة قام بها لوطنه الأصلي لبنان ومن وحي لقائه بالأديبة مي زيادة، ثم تبعه بثلاثة كتب أخرى على شكل رسائل حب خيالية فكان "رسائل الأحزان" و"السحاب الأحمر" سنة 1924 ثم تبعهما "أوراق الورد" سنة 1931.
    شاعر الأمة:
    وبدأ الرافعي حياته شاعرا ونظم الشعر في سن باكرة قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وبدأ يتألق بما ينشره من شعر في الصحف والمجلات التي كان يصدرها الشاميون في مصر، فقد كانت الزعامة الأدبية في اللغة والأدب والتاريخ في أيديهم، فنشر الرافعي في مجلات "الضياء" و"البيان" و"أثرياء" و"الزهراء" و"المقتطف" و"الهلال" وغيرها.
    وتطلع الرافعي في تلك السن الصغيرة إلى نافسة شعراء عصره الكبار: البارودي وشوقي وحافظ وأعد نفسه لانتزاع إمارة الشعر، فلما أصدر حافظ إبراهيم سنة 1903 ديوانه ورأى الشاعر الشاب ما ناله ديوان حافظ من ترحيب وثناء أعد عدته وأصدر الجزء الأول من ديوانه 1904 بعد ديوان حافظ بشهور، وقدم له بمقدمة بارعة تحدث فيها عن معنى الشعر وفنونه، ثم أصدر الجزء الثاني من ديوانه سنة 1904 والثالث سنة 1906، وفي سنة 1908 أصدر الجزء الأول من ديوان النظرات، وارتفع اسم الرافعي عاليا متألقا في سماء الشعر ولقي من احتفاء الأدباء والنقاد ما لم يلقه إلا قلة من أدباء جيله، فقد قرظ شعره الإمام محمد عبده حيث كتب إليه يقول: "أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفا يمحق به الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل" وصدقت فيه فراسة الإمام.
    وكتب الزعيم مصطفى كامل يقول: "وسيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس هو الحكمة العالية مصوغة في جمال قالب من البيان"، وإذا كان هذا بيان شعر الرافعي فإن ذروة هذا الشعر بإجماع الكثير من دارسي أدب الرافعي تكمن في أناشيده، فقد غنى الرافعي للإسلام والوطن والطفولة والشعب بشكل لم يسبق إليه أحد مما يجعله بحق إمام عصره في شعر الأناشيد، فقد غنى الشعب أناشيده الوطنية، وهتف أبناء المدارس بها كل صباح في مدارسهم، ورددتها المجموعة في الإذاعة والاحتفالات، كما ساهم الرافعي في الحركة الوطنية المصرية منشدا بكل نبضات قلبه وسبحات روحه وعزيمة إيمانه، اسمعه يقول في نشيده الوطني الأول:يا حمى النيل الأمين *** لك في قلـبي حنين
    لك إخلاصي المتين *** وهوى الأوطان دين
    ويشاء الله أن يكون الرافعي بنشيده "إلى العلا" صوت الأمة سنة 1919 في نهضتها في الدعوة للحرية والاستقلال فيكتب هذا النشيد الذي تجاوز لجنة الأناشيد التي أرادت مجاملة شوقي أمير الشعراء حين اجتمعت طائفة من رجال مصر آنذاك واختارت نشيد الرافعي، وكتبت عنه صحف العصر تطالب به نشيدا قوميا للأمة، فجاء في جريدة "الأخبار" ما نصه "نقدم إلى الأمة هذا النشيد الفخم الذي وضعه ذلك الشاعر في نبوغه والنابغة في شعره الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي وهو صورة حية للشعور الوطني الذي ملك الروح بل هو معرفة تلك الروح ... وما أجدره أن يكون ندى على الألسنة في كل هاجرة" وتم تلحين النشيد وهتفت به مصر كلها:
    إلى العلا إلى العلا بني الوطن *** إلى العـلا كل فتاة وفتى
    إلى العلا في كل عصر وزمن *** فلن يموت مجدنا كلا ولن
    وبعده كتب الرافعي نشيدا أصبح نشيد الفتوة والكشافة والجنود وأصبح نشيد مصر القومي في عصر الزعيم سعد زغلول استجابة لدعوة الأدباء والطلبة، وتألفت اللجان في أنحاء البلاد لإذاعته وتبارى الملحنون على تلحينه، وتغنى به الناس في أنحاء مصر من أعماق قلوبهم: "اسلمي يا مصر"
    اسلمي يا مصر إنني الفدا
    ذي يدي إن مدت الدنيا يدا
    أبدا لن تستكيني أبدا
    ليتني أرجو مع اليوم غدا
    ومعي قلبي وعزمي للجهاد
    ولقلبي أنت بعد الدين دين
    لك يا مصر السلامة
    وسلاما يا بلادي
    إن رمى الدهر سهامه
    أتقيها بفؤادي
    واسلمي في كل حين
    وقد قرظ هذا النشيد وأشاد به كبار رجال العصر في الفكر والأدب والسياسة أمثال سعد زغلول وأحمد زكي باشا ومحب الدين الخطيب وغيرهم، وهكذا أصبح هذا النشيد نشيد مصر القومي الرسمي خلال الفترة من سنة 1923 إلى سنة 1936م.
    واستجابة لرغبة شبان الوفد وزعيمه كتب الرافعي نشيدا وطنيا آخر بعنوان: "حماة الحمى":
    حماة الحمى، يا حماة الحـمى *** هلموا، هلموا لمجد الزمن
    لقد صرخت في العروق الدّما *** نموت، نموت ويحيا الوطن
    هذا إلى جانب العديد من الأناشيد التي كتبها لطلاب المدارس مثل نشيد "بنت النيل" و"نشيد الطلبة" و"نشيد المدرسة" مضافا إليها الأناشيد التي كتبها لأطفاله فتبنتها رياض الأطفال والمدارس الابتدائية كما كتب أغان للفلاحين.
    والرافعي هو مؤلف النشيد الإسلامي الخالد "نشيد الشباب المحمدي" الذي ذاع واشتهر في كل بلاد العالم العربي حتى يومنا هذا:
    ربنا إياك ندعو ربنــا *** آتنا النصــر الذي وعدتنــا
    إننا نبغي رضــاك إننا *** ما ارتضينا غير ما ترضى لنا
    أنفسا طاهرة طهر الحرم *** ملأ التــاريخ مجدا وكــرم
    وافيات بالعهود والـذمم *** رافعات للمعــالي والهمــم
    واختارته "جمعية الشبان المسلمين" في مصر سنة 1927 شعارا لها.
    إمام الأدب وحجة العرب:
    ولكن الرافعي لم يستمر في درب الشعر رغم ذلك النجاح المشهود الذي حققه فيه، فقد اكتشف أنه في هذا العصر لن يستطيع تبليغ رسالته في خدمة لغة أمته وقرآنها من خلال الشعر وحده، فقد تأمل الرافعي حال اللغة العربية ... لغة القرآن على ألسنة الناس كلاما وكتابة فوجدها عجمة مستعربة أو عربية مستعجمة ووجد أن "الجملة القرآنية" قد غابت من هذه اللغة التي يكتب بها أدباء عره، فنذر نفسه أن يعيدها، فلابد له إذن أن يطرق باب النثر ليسمو به من الوحل الذي ارتكس فيه، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كان الرافعي يرى أن في النظم العربية قيودا لا تتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به من أفكار وآراء يريد أن يفهمها كل الناس، وهو رأي لم يكتبه الرافعي وإنما تحدث به في مجالسه ورواه عنه صفيه وصديقه الأستاذ محمد سعيد العريان في كتابه المعروف عنه.
    وهكذا يمم الرافعي وجهه شطر قبلة النثر الفني وإن لم يهجر الشعر، ولكنه لم يعد إلى وسيلته الأولى في التعبير، وتنازل عن حلم حيازة إمارة الشعر أي أنه بدل وسيلته من أجل رسالته.
    وبدأ الرافعي ذلك الانقلاب في حياته الأدبية بمحاولة إعادة الاعتبار للغة العربية والجملة القرآنية إلى لغة الإنشاء في المدارس الأولية، فالإصلاح يبدأ من هناك، وكتب عدة مقالات بديعية في الإنشاء على أمل أن يصدرها في كتاب مدرسي يسميه "ملكة الإنشاء" يتعلم الطلاب من لغته.
    وكان إنشاء الجامعة المصرية آنذاك سنة 1907 وخيبة أمل الرافعي فيما تقدم للطلاب من دروس في الأدب واللغة جعلته ينصرف عن متابعة كتاب "ملكة الإنشاء" ويلتفت لما هو أهم، فكتب مقالا يهاجم مناهج التدريس في الجامعة، فاهتزت إدارة الجامعة وحسبت لهجوم الرافعي حسابه وأعلنت عن مسابقة في تأليف كتاب جامعي عن "أدبيات اللغة العربية" وجعلت للفائز 100 جنيه لمن يكتب ذلك الكتاب في سبعة أشهر! فلم يعجب ذلك الرافعي فكتب يسخر من شروط المسابقة، فعادت اللجان تجتمع وعدلت الجامعة في المسابقة فزادت المدة إلى سنتين والمكافأة إلى مئتين مع طبع الكتاب على نفقتها.
    وشمر الرافعي عن ساعديه وقدح زناد فكره في تأليف كتاب، ولكن لا ليقدمه للجنة مسابقة الجامعة التي كان يرى أنها ليست من الكفاءة بحيث تحكم على كتابه، ولم يسل لعابه للمكافأة الكبيرة المرصودة وهو الموظف الصغير الذي لا يزيد رابته عن بضعة جنيهات والعائل لأسرة كبيرة.
    تضاءلت كل تلك الاعتبارات النفسية والمادية الصغيرة أمام اعتبار الرافعي لنفسه ويقينه بقدر "الرسالة" الجسيمة التي عاهد نفسه على تأديتها نحو أمته.
    خرج الرافعي على الناس سنة 1911م بكتابه الفريد "تاريخ آداب العرب" الذي بدأه سنة 1909 وطبعه على نفقته قبل حلول الأجل الذي حددته الجامعة متجاهلا بذلك الجامعة ومسابقتها ومكافأتها!
    ويعلم الله كم كلفه ذلك الكتاب من بؤس وضنك في حياته المعيشية، ولكنها نفس الرافعي الأبية الرفيعة.
    ويروي شاهد عصره ومؤرخ سيرته الأستاذ محمد سعيد العريان أن هذا الكتاب قد أحدث انقلابا وأثرا ليس في مناهج الجامعة وطرق تدريسها للغة والأدب فحسب بل في كل ما صدر من كتب بعد ذلك في هذا العلم، وأصبح اسم الرافعي على كل لسان، وكتابه موضوع نقاش وإعجاب في كل مجلس ومنتدى.
    وفي سنة 1912 أصدر الرافعي الجزء الثاني من "تاريخ آداب العرب" بعنوان "إعجاز القرآن" وصدر الجزء الثالث الذي ختم به حياته بعد وفاته بثلاث سنوات، فقلد الرافعي صدر العربية بثلاث درر لم تعرف العربية الحديثة إلى اليوم لها من مثيل، وبلغ به الرافعي أوج مجده، وقمة من قمم إخلاصه لدينه وحبه للغته، ونال هذا الكتاب وعنوانه الكامل "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" أضعاف ما ناله الجزء الأول من ثناء المعجبين وزاد من جحود المنكرين والكارهين للإسلام واللغة العربية، فكتب الزعيم سعد زغلول إلى الرافعي مشيدا يقول: ".. ولكن قوما أنكروا هذه البداهة (بداهة إعجاز القرآن) وحاولوا سترها فجاء كتابكم مكذبا لإنكارهم وأيد بلاغة القرآن وإعجازها بأدلة: مشتقة من أسرارها، في بيان مستمد من روحها، كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم".
    حرب على الانحراف والتطاول
    أما معركة الرافعي مع طه حسين فقد كانت أكثر ضراوة من معركته مع العقاد، ذلك لأن طه حسين في نظر الرافعي جهر بتنكره ورفضه لبعض ما جاء به القرآن جهارا نهارا فيما ألقاه في الجامعة من محاضرات.
    ويعود تاريخ الخصومة بين الرافعي وطه حسين إلى مرحلة مبكرة من حياة الاثنين كان دافعها التنافس على نيل المكانة الأدبية الكبيرة لدى الجمهور، وكان طه حسين آنذاك لا يزال طالبا في الجامعة، بينما كان نجم الرافعي قد تألق في سماء الشعر وعالم البيان العربي، فقد تعقب الطالب طه حسين كتب الرافعي واحدا بعد الآخر بالهجوم مدعيا بأنه "لم يفهمها" ابتداء من كتاب "رسائل الأحزان" الذي صدر سنة 1912، وكان ذلك في أغلب الظن غيرة منه فدارت بينه وبين الرافعي مناوشات على صفحات جريدة "السياسة الأسبوعية" الشهيرة في حينها".
    لكن المعركة الحقيقية التي كانت خالصة لله وللدين وللقرآن لم تحدث إلا بعد أن عاد طه حسين من فرنسا دكتورا وأصبح أستاذا للأدب الجاهلي في كلية الآداب بالجامعة وأخرج للناس سنة 1926 محاضراته في كتاب يحمل عنوان "في الشعر الجاهلي" والذي كان أخطر ما فيه إنكار طه حسين لقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في قوله: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي...".
    وهنا غضب الرافعي من هذه "الوقاحة" كما سماها، ومن هذا التطاول على كتاب الله، ووقف الرافعي ولم يقعد حتى استنهض الهمم، واستنفر الأمة كلها للدفاع عن قرآنها، وتحولت المعركة بينه وبين طه حسين من معركة بين القديم والجديد أو على الأصح بين الأصيل والدخيل في الأدب إلى معركة للدفاع عن عقيدة الأمة وحمايتها ممن يشكك فيها.
    وتجاوزت حدود الصحف إلى قاعة البرلمان وساحة القضاء، صرخ الرافعي مستنكرا: كيف يرخص طه حسين لنفسه أن يتجرد عن دينه ليحقق مسألة من مسائل العلم أو يناقش رأيا في الأدب أو التاريخ إذ لم يسبق أحد من رجال الأدب في جعل حقيقة من حقائق القرآن موضع التكذيب أو الشك؟!
    ولم يقعد الرافعي من وقفته تلك إلا بعد أن تنادت الأمة كلها من الأزهر والعلماء والهيئات والنقابات والجامعة ورجال الشارع في الدعوة إلى محاكمة طه حسين وطرده من الجامعة، وزلزلت الأرض من تحت أقدام أنصاره في الحكومة فوصل إلى النيابة وكتب بيانا أذيع على الناس يعلن فيه احترامه للإسلام وإيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
    وصودر الكتاب وأعدمت نسخه وأصدره طه حسين فيما بعد بعنوان "في الأدب الجاهلي" بعد أن حذف كل ما فيه من طعن في القرآن والإسلام، ثم جمع الرافعي مقالات في المعركة وأصدرها في كتاب بعنوان "تحت راية القرآن" سيجد فيه القارئ تفنيد الرافعي لآراء طه حسين رأيا رأيا فيما لا يتفق مع العقيدة الإسلامية ونسخها بالحجة والبرهان وإثبات تأثر طه حسين بآراء المستشرقين التي افتتن بها وحاول أن يفتن بها طلاب الجامعة.
    وقد مات الرافعي رحمه الله قرير العين مطمئن البال لمستقبل الإسلام في قلوب الشباب حين طالب طلاب الجامعة –قبل وفاته بقليل- بمكان يخصص للصلاة ويفصل الفتيان عن الفتيات فحياهم بمقالة كتبها في مجلة الرسالة ولم ينس -عفا الله عنه- أن يغمز فيها طه حسين!
    خصاله وسجاياه
    كان الرافعي –رحمه الله- في خُلقه وسلوكه مع الناس مثال المسلم الحق في اعترافه بالفضل لأهل الفضل ومد يد العون للمحتاجين، وفي الوفاء وحفظ العهود والذمم، وفي سيرة حياته العديد من الشواهد التي يرويها معاصروه التي تدل على نبل خلقه، ومنه مثلا ما يدل على مبلغ وفائه لأساتذته، فقد كان الرافعي في مجلس فدخل أستاذ له علمه في الابتدائية، فما أن رآه الرافعي حتى طأطأ وانحنى يريد تقبيل يده، ولما خرج الأستاذ مال الرافعي ليهمس في أذن صديقه العريان: "هذا أستاذي" وكان في صوته رنة هي أقرب إلى صوت الطفل لأبيه حين يمر بهما معلمه، وقد ظل الرافعي يذكر أستاذه طوال اليوم!
    وقد أثنى كل من عرفه وزامله في العمل على خلقه وسعة صدره، فقد كان يتطوع ليحمل عن زملائه تبعة كل خطأ يقعون فيه ويتقبل نتيجته، وقد تولى عن زملائه مرة مواجهة مفتش من وزارة العدل جاء ليحقق في خطأ تقدير الرسوم لأكثر من مئة وعشرين قضية لم يكن للرافعي فيها خطأ واحد!
    وكان الرافعي –رحمه الله- شديد الاعتداد بنفسه عارفا حق المعرفة بمكانته، حريصا أشد الحرص على كرامته من أن يمسها أي إنسان مهما ارتفع مقامه، وكان يكره الوقوف على الأبواب والتزلف إلى الرؤساء ونشر كلمات النفاق بين أيديهم.
    وكان الرافعي الموظف الصغير والمفكر الكبير يحرص على تأدية عمله دون الالتزام بمواعيد الحضور والانصراف، فلما جاء مدير جديد في دائرة عمله لم يسارع الرافعي لتهنئته فأغور الموظفون –الذين يغيظهم اعتزاز الرافعي بنفسه- صدر المدير الجديد عليه، فبعث برسالة إلى وزارة العمل يخبرها أن في محكمة طنطا كاتبا أصم لا يصلح للتفاهم مع الجمهور، ومع ذلك فهو كثير التهاون في مواعيد العمل، ويطلب فصل الرافعي من وظيفته بالمحكمة!
    وكان من حسن حظ الرافعي أن المفتش الذي أرسلته الوزارة كان الشاعر حفني ناصف –يرحمه الله- قال له الرافعي: إن كانت وظيفتي هنا فليؤاخذوني بالتقصير والخطأ فيما يسند إلي من عمل، وإن كانت الوظيفة تعال من الساعة الثامنة واجلس على الكرسي كأنك مشدود إليه بحبل حتى يحين موعد الانصراف فلا علي إن تمردت على هذا التعبد .. قل لهم في الوزارة: إنكم لا تملكون من الرافعي إلا هاتين الإصبعين ساعات من النهار! فكتب حفني ناصف –وهو الذي يعرف عبقرية الرافعي- إلى الوزارة يقول: "إن الرافعي ليس من الموظفين الذين تعنيهم الوزارة بهذه القيود .. إن للرافعي حقا على الأمة أن يعيش في أمن ودعة وحرية، إن فيه قناعة ورضى، وما كان هذا مكانه ولا موضعه لو لم يسكن إليه، دعوه يعيش كما يشتهي أن يعيش، ودعوه يعمل ويفتن ويبدع لهذه الأمة في أدبها ما شاء أن يبدع، وإلا فاكفلوا له العيش المرضي في غير هذا المكان".
    وعملت الوزارة بنصيحة مفتشها الأديب الكبير حفني ناصف، وتركت للرافعي حرية الغدو والرواح من الوظيفة ولا سلطان عليه إلا سلطان نفسه ولا رقيب عليه إلا ضميره الذي يراقب الله سبحانه! فكانت نفسه أزكى النفوس وكان ضميره أكثر ضمائر الموظفين أمانة ويقظة وحرصا.
    هكذا عاش الرافعي عزيزا منيعا مرفوع الرأس موفور الكرامة، يهابه الكبراء ويحسب له أصحاب الجاه والنفوذ ألف حساب، ويخشى أصحاب الزيغ والفتن صليل قلمه وغضبه الذي لا يخشى في الله لومة لائم. أما الفقراء والمساكين فقد كان يشعر بالتوحد معهم والشعور بآلامهم ومعاناتهم، وقد كتب فيهم كتابا بعنوان "المساكين" سنة 1917م، وقال في مقدمته "أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس" واحتشد وجدانيا وعاطفيا وبيانيا في الحديث عن معاني الفقر والإحسان والتعاطف.
    لقد كانت موضوعات الكتاب من قلب الواقع تشعرك أن الرافعي لم يتخذ لنفسه برجا عاجيا يعيش فيه بمعزل عن معاناة الناس، ولم ينظر للحياة من حوله نظرة فلسفية مجردة، وإنما غرق في معايشة الواقع والإحساس بطريقته الخاصة به، فكان يشعر بعضة الجوع في أمعاء الفقير وحرارة دمعة اليتيم على خده وغليان قلب المظلوم والمقهور.
    الرافعي المؤمن القوي:
    وبقدر ما حرص الرافعي على السمو بروحه وتغذية عقله وتعميق إيمانه بالفكر والتأمل والقراءة والعبادة، حرص كل الحرص على تقوية جسده بالرياضة البدنية منذ باكر شباب، وكانت رياضة المشي أحب رياضة إليه، ويروي العريان أنه شاهد الرافعي ينهي مشيه الذي يبدؤه بعد الفجر بمسح وجهه بقطرات الندى التي تتساقط على أوراق البرسيم، فلما سأله قال الرافعي: "إنه ينضد الوجه ويرد الشباب!" ويحدثنا أن الرافعي مارس أنواعا أخرى من الرياضة كالملاكمة وحمل الأثقال، وأنه كان يحتفظ في الغرفة التي كان فيها مكتبه "بعقلة" تتدلى من السقف، وكرات وأساطين من الحديد وأثقالا من أثقال الرياضة مسندة إلى الحائط، وكان يملك عمودا طويلا من الحديد، يعلق من طرفيه ولديه الصغيرين "سامي" و"محمد" ثم يرفعهما بيده! ومن شدة عشقه للرياضة سعى الرافعي لمعرفة أبطالها المشهورين ورفع من مكتبه صورة الرياضي الفرنسي المشهور صاندو إلى جوار صورة الإمام محمد عبده! لتمثلا أكمل ما يحتاج إليه الإنسان من قوة الجسد وقوة الروح، وكان يردد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب المؤمن القوي" وعملا بدعوة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم تعلم الرافعي السباحة وكان يرتاد شاطئ "سيدي بشر" في الصيف مع أسرته ويلوذ بمكان آمن فيه يبعده عن أعين الرقباء، وكان أصحابه يسمون ذلك المكان "بلاج الرافعي" لا يقترب منه إلا من عرفه الرافعي وأذن له وإلا سال من عصا الرافعي الشهيرة دم رأسه!
    حلم الرافعي الذي لم يتحقق:
    لم يكن الرافعي يقيم وزنا للاعتبارات الشكلية التي تسود المجتمع، فقد كان يتعامل مع النساء ببساطة وتلقائية ووفق مفاهيم خاصة به، شأنه في ذلك شأن كل عبقري لا يستطيع بداهة الالتزام بكل ما تعارف عليه الناس، فله عالمه الخاص وله سلوكه الخاص الذي قد ينكره عليه الغير، وعلى سبيل المثال فقد أنكر عليه الناس أن يظهر كل يوم في إعلان في إحدى الجرائد اليومية عن الفسفورين وعليه شهادة بخطه عن مزاياه، حتى ظن البعض أن الرافعي قد قبض مبلغا كبيرا لقاء ظهوره في هذا الإعلان كما يفعل الممثلون هذه الأيام، ولكن أهل الرافعي وأصحابه يؤكدون أن الرجل لم يقبض شيئا، وكل ما في الأمر أنه اشترى الفسفورين مرة فأعجب به فطلب منه صاحب الصيدلية أن يكتب رأيه فيه ففعل فاستغله في الإعلان الذي ظهر يحمل صورة الرافعي مذيلا بلقب "إمام الأدب وحجة العرب" الذي أطلقه عليه أمير البيان شكيب أرسلان.
    وفاجأ الرافعي الناس مرة أخرى بشيء من هذا القبيل، حين نشرت مجلة المقتطف سنة 1928 إعلانا فيه كلمة الرافعي يشيد بفن أحد المهندسين المعماريين، وقصتها أن الرافعي استعان بهذا المهندس في وضع رسم لمنزل كان يحلم ببنائه، فأعجب الرافعي بالرسم فكتب لذلك المهندس رأيه فكانت هذه الشهادة أجرة المهندس على رسمه، فاستغلها المهندس وطبع منها آلاف الصور فكانت خير دعاية له، درت عليه أموالا طائلة.
    ومات الرافعي دون أن يتحول ذلك الرسم إلى بناء حقيقي، فقد كانت موارده لا تكاد تكفي قوت عياله، فقد انصرف –رحمه الله- عن تنمية دخله المادي إلى الإضافة إلى فكر الأمة وتنمية دخله المادي إلى الإضافة إلى فكر الأمة وتنميته وإثرائه بلا حساب، ومات الرافعي الشاعر الأديب الذائع الصيت في طول العالم العربي وعرضه وراتبه لم يزد على بضعة وعشرين جنيها في الدرجة السادسة بعد خدمة ثمان وثلاثين سنة في وظائف الحكومة!
    ---------
    المصدر:
    http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar.asp?id=4857&idRub=174
    ـــــ
    تحية عرفان
    محمد بن أحمد باسيدي


  3. #3
    طبيب / أديب الصورة الرمزية د- صلاح الدين محمد ابوالرب
    تاريخ التسجيل
    13/10/2006
    العمر
    68
    المشاركات
    4,923
    معدل تقييم المستوى
    22

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    الفاضل محمد بن احمد باسيدي
    شكرا على هذه المعلومة عن الرجل الكبير الذي كما اوردت


    فقد كانت موارده لا تكاد تكفي قوت عياله، فقد انصرف –رحمه الله- عن تنمية دخله المادي إلى الإضافة إلى فكر الأمة وتنميته وإثرائه بلا حساب، ومات الرافعي الشاعر الأديب الذائع الصيت في طول العالم العربي وعرضه وراتبه لم يزد على بضعة وعشرين جنيها في الدرجة السادسة بعد خدمة ثمان وثلاثين سنة في وظائف الحكومة

    وهكذا كان العظام
    شكرا لك
    تحية

    الدكتور صلاح الدين محمد ابوالرب
    طبيب-كاتب وباحث
    drosalah@hotmail.com

  4. #4
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية محمد بن أحمد باسيدي
    تاريخ التسجيل
    26/09/2006
    المشاركات
    1,240
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    أثر الإسلام في أدب الرافعي وفكره (3)
    بقلم د. عدنان النحوي
    أثر الإسلام في عواطفه وكتاباته:
    نشأ الرافعي نشأة دينية في بيت ملتزم بالإسلام. وبالرغم من ظروفه الصحية التي أثرت كثيرا في دراسته الرسمية، إلا أنه بذل الجهد الكبير لينال العلم من بيته، ومن المكتبات، ومن الشيوخ والأساتذة الأفاضل الذين أعانوه ووجهوه. فنال بذلك علما متميزا، كما تميزت موهبته وبان نبوغه.
    إذن كان غذاؤه الأولُ الإسلام قرآناً حفظه، ولغة عربية ملك زمامها وتمكن من علومها وآدابها، وفقها تعلمه ووعاه. فلا بد أن يظهر أثر هذا الزاد في سلوكه ومواقفه. لقد كان وقوراً لا يهبط، صادقا لا يكذب، واضحا لا يماري، أمينا لا يخدع، صريحا في ودِّه وخصومته، وكانت هذه الخلال من أبرز آثار الإسلام فيه.
    والدين الإسلامي منهج حياة يقوم على الإيمان والتوحيد، ويلجم الشهوات، ويضبط الغرائز، ويُنير الدرب لتحدد المواقف والآراء والعلاقات في جميع ميادين الحياة.
    كان من أبرز نواحي حياته الحبُّ والتأثر الشديد بالجمال والحُسن، وقد كان له في ميدان الحب والجمال جولات واسعة امتدت فترة غير قصيرة في حياته، وفجرت فيه مواهبه النثرية والشعرية. ولكننا نود أن نشير إلى أن الإسلام ألجم هواه وغرائزه حتى لا يهبط إلى ساحة الفجور، في واقع امتدت فيه فتنة الغزو الغربي، وامتد فيه نجاحه في بعض الميادين، من إطلاق حرية المرأة، وتغيير كثير من العادات، حتى سقط فيه الكثيرون. وهنا يظهر الأثر المهم للإسلام في حياته. وقد يتحول الناس وتتبدل المفاهيم، ولكن ميزان الإسلام حق ثابت لا يتغير. إنه ميزان رباني حق لا يأتيه الباطل أبدا.
    وكان للإسلام آثار أخرى عليه برزت في بعض مؤلفاته مثل "تحت راية القرآن" أو "بين القديم والجديد"، جاءت فيه موضوعات متعددة: الجملة القرآنية، ونقد لكتاب الشعر الجاهلي، مسلم لفظاً لا معنى. وتحدث عن موضوعات الميراث "العربي"، والأدب "العربي" وغير ذلك. ونلمس هذه الحميّة الإيمانية في "رسالة الحج" وإعجاز القرآن والبلاغة النبوية، وغير ذلك من أبواب الجهاد بالكلمة والرد على من يسمون أنفسهم بالمجددين.
    ونلمس تأثير القرآن الكريم والسنة النبوية في كتاباته بيانا وبلاغة مع قدرة متميزة على توليد المعاني، وتجديد التعبيرات، وإيراد المقابلات والمتطابقات، ومختلف أنواع البديع والبيان والبلاغة من استعارة ومجاز وتشبيه، مما كون له أسلوبا خاصا في الكتابة لا تجده عند غيره، حتى وصفه أحد الصحافيين بقوله: "إنه المختار لحراسة لغة القرآن"(1).
    فمن الجلي أن أول أثار القرآن الكريم في الرافعي هي اللغة العربية التي أحبها وعشقها، وجاهد من أجلها، وأطلق عبقريتها. فهي خط بارز في جميع كتاباته: أدبا ونثرا وشعرا، بيانا متميزا. ويكاد لا يكون هناك خلاف بين النقاد على أن للرافعي أسلوبه المتميز الذي اختص به، فلا تجده عند سواه.
    هذه بعض آثار القرآن والسنة في عاطفة الرافعي، في فكره وكتاباته، في نثره وشعره، وفي مواقفه من دعاة الفتنة وحرية المرأة ومساواتها بالرجل، والطعن في الإسلام، فلقد كان الفارس المجلِّي في ذلك. وردوده هذه تمثل بابا واسعا في كتاباته، وهذا باب يمكن الإطالة فيه حتى يبلغ كتابا، ولكننا نوجزها هنا على قدر هذه الكلمة.
    ولم ينحصر أثر الإسلام في حياة الرافعي في هذه النواحي، وإنما امتدّ إلى نواح خرى ترك فيها الإسلام أثرا واضحا.
    أثر الإسلام في العامل النفسي:
    كان للإسلام أثر كبير في العامل النفسي، العامل النفسي الذي كونته بيئته ومجتمعه وظروفه الصحية، ومرض التيفوئيد الذي ألم به وآذاه، فأنهك جسمه وأفقده السمع، وتناوب الأمراض بعد ذلك حتى انقطع عن الدراسة، وعن الوظيفة التي رآها قيدا عليه وعلى طموحاته، كأنه شعر أن هناك سدودا في حياته وحواجز تخطاها بجهد دائب، وعزم وتصميم، وموهبة متميزة.
    أثر ذلك كله في نفسيته فترك جروحا يطوي آلامها، وغضبا يكتم هيجانه، وكأنه يُنفس عن نفسه بحب الطبيعة والمروج والمناظر الجميلة، وكثرة التأمل والنظر والتفكر، وحبه الخلوة والانفراد. ولكن هذه كلها ولّدت في نفسه عزيمة لا تتراجع، وتصميما لا يقهر. فكان يقرأ يوميا ثماني ساعات، ويتخطى ما يثيره صممه من عقبات، بثقة ويقين. ولا أشك أن هذه العزيمة ما ولّدها فيه إلا إيمانه المستقر في فطرته وقلبه، فآمن بقضاء الله وقدره، وآمن بأن عليه واجبا يجب أن ينهض إليه ومضى على دربه حتى كتب الله له البروز والتميز في نواح جليّة من الأدب واللغة. وجابه كبار رجال الأدب والفكر في عصره بين نقد وهجوم، وود وألفة، ورضا وخصام، وبين مساجلات ومناظرات، في أجواء يثور فيها التحاسد والتباغض. وبسبب هذه العوامل النفسية كلها، كان شديدا عنيفا في هجومه وفي نقده في قضايا أدبية وقضايا فكرية.
    كان يشعر بينه وبين نفسه أنه طاقة وموهبة، وأن عليه واجبا يود الوفاء به، ومسؤولية يجب أن ينهض إليها، ليس في ميدان القتال، ولكن في ميدان القلم والكلمة، فإذا كان هذا الشعور الذي عبر عنه أحيانا أثارته الموهبة، فإن هذه الموهبة غذّاها حفظه لكتاب الله وبيئته الدينية.
    أثر الإسلام في فهمه للواقع وتعامله معه:
    وحين دخل معترك الحياة بزاده الغنيّ، وصحته المضطربة، وصممه المستديم، رأى ميادين الواقع هائجة مائجة، تموج فيها التغيرات العاصفة، والأحداث الدولية الكبيرة، والحرب العالمية الأولى وآثارها، وسقوط الخلافة الإسلامية، وتمزق العالم الإسلامي كله، وغزو عسكري للعالم الإسلامي، وغزو فكري وثقافي علماني، وامتداد أثر ذلك في العالم الإسلامي والعالم العربي وفي مصر ذاتها، ورأى مظاهر التحول السريع.
    لقد ران على الشرق الإسلامي عهود من الوهن والتخلف تركت فيه أمراضا عديدة وأسواء كثيرة. فلقد امتد الجهل بالكتاب والسنة وباللغة العربية بين الناس امتدادا واسعا، واعوجت الألسنة باللهجات العامية وباللغات الأجنبية. ومهد ذلك إلى الغزو الثقافي الفكري والعسكري تحمله القوى الأجنبية، وتحمله كذلك جموع العائدين من الابتعاث إلى أوروبا، وقد اضطربت التصورات الإيمانية لدى بعضهم واختلفت لدى بعضهم الآخر، فانقلبوا جنودا للغرب وفكره ومصالحه، يندفعون بجرأة يعلنون أفكارهم الجديدة ويقبلون التحدي ويصرون على فتنتهم، والغرب يغذيهم ويمدهم بأسباب القوة وبأبواب التوجيه.
    ولم يقتصر الأمر على مصر وحدها، ولكن هذه الفتنة امتدت إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولا ننكر أن التركيز كان أشدُّ على مصر وبلاد الشام.
    واضطرب الواقع الاقتصادي في مصر وغيرها، واتسعت هوة التفاوت الاجتماعي والطبقي، وبرز نفوذ المرابين من اليهود وأعوانهم من بيوتات المال الأوروبية، هذه البيوتات وهؤلاء المرابون أصبحوا يتمتعون بخيرات البلاد وينعمون بها، ويظل الفلاح يشقى ويعاني في عوز وفاقة، وصبر وابتلاء. ومما كان يزيد البلاء بلاء زيادة الضرائب على صورة مؤذية.
    وامتدت هذه الحالة زمنا غير قصير، وما زالت آثارها واضحة حتى اليوم، وهي تتزايد وتتزايد فتنتها في المجتمعات الإسلامية، منذ القرن السادس عشر حتى اليوم. وشهد القرن العشرون حربين عالميتين أثرتا أسوأ التأثير على واقع المسلمين، وعلى مصر، وعلى ازدياد نفوذ الغرب وإعلامه وفكره وثقافته وأدبه، دون صناعته وسلاحه وعلومه. وتمزق العالم الإسلامي كله قطعا قطعا تناثرت في الأٍض، واستقل بعضها عن بعض، ووقعت كلها تحت نفوذ الأجنبي الغازي المعتدي والمحتل، وأخذت كل قطعة تتغنى بقوميتها. وظهرت شعارات كثيرة متصارعة، وكان من أخطرها ما انتشر في بلاد الشام والعالم العربي كله، من نزعة "العروبة" التي نُظمت لها الأناشيد، والتي كان يُرددها الأطفال المسلمون في المدارس والمناسبات، وامتدت هذه الأناشيد في العالم العربي كله، لتغرس في النفوس حركة "العروبة" في انحراف عن الدين كما في النشيد التالي:
    بلاد العـرب أوطاني *** مـن الشام لبغـدان
    ومـن نجد إلى يمن *** إلى مصر فتطـوان
    فــلا حـدٌّ يباعدنـا *** ولا ديـنٌ يفرقنــا
    لسان الضاد يجمعـنا *** بغسَّـان وعدنــان
    لنـا مدنيـة سلفـت *** سنحييها وإن درست
    ولو في وجهنا وقفت *** دهاة الإنس والجـان
    والناحية الأخرى إقبال الكثيرين من المسلمين على تقليد الغرب ابتداء من اللباس وسائر المظاهر، إلى مقاصف اللهو وحفلات الرقص، وامتداد اختلاط النساء بالرجال وانتشار بيوت القمار واللهو غير البريء. وكذلك اعوجاج الألسنة باللغات الأجنبية، وانتشار الأندية والجمعيات والمؤسسات والمنظمات لتغذّي كلَّ مظاهر الانحراف عن الإسلام، تزيده انحرافا وفتنة.
    أمام هذه الفتن جاء الرافعي يحمل زاده وعلمه ويحمل أمراض جسمه ويحمل عزيمة وتصميما، فوجد في الساحة سلامة موسى الذي كان يدعو إلى العامية والأدب المكشوف والفرعونية، وطه حسين صاحب كتاب "الشعر الجاهلي"، ومدارس فكرية وأدبية وسياسية متعددة، ووجد الصراع الممتد الذي ملأ الندوات والصحافة والإعلام، يخوضه الجميع كأنهم لا يدرون ما يُحاك للأمة من تدمير وهلاك. لقد جاء الرافعي في مرحلة تميز بها المجتمع المصري بالحركة الأدبية الواسعة آنذاك على صورة لم تشهدها مصر من قبل. وشغل الأدباء وكثير من الناس بهذا الصراع الأدبي الشديد على صفحات الجرائد والمجلات وغيرها، والأعداء يعملون بهدوء وفق منهج مدروس.
    دارت معارك شديدة بين الرافعي ودعاة التجديد والتغريب من أمثال قاسم أمين وطه حسين، وسلامة موسى ولطفي السيد، وغيرهم، في مقالات صحفية وفي كتب تصدر من هنا وهناك. ودارت معركة حامية بين الرافعي والعقاد في كتاب "على السَّفّود" الذي أصدره الرافعي يهاجم به العقاد هجوما مقذعاً.
    غضب الرافعي لسقوط الخلافة الإسلامية وقطع الصلة بين الأتراك والعرب فكتب عند ذلك: "يا غَربة الإسلام في موطنه" (2) وبرزت عاطفته الإسلامية بصورة مباشرة وسلامة منهج. ولكن ظل الرافعي يرى في العرب قوما متميزّين من غيرهم من الأقوام.
    ولاشك أن الرافعي كانت تشرق في قلبه آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة التي لا تميز قوما من قوم إلا بالتقوى.
    ومن ناحية أخرى أراد الرافعي أن يجعل من اللغة العربية "جنسية لغوية" كما قال في إعجاز القرآن:
    "إنما القرآن جنسية لغوية تجمع أطراف النسبة إلى العربية، فلا يزال أهله مستعربين به، متميزين بهذه الجنسية حقيقة أو حكما"(3).
    فتكون دلالة ذلك أن على المسلم مهما كان جنسه أو لونه أن يُتقن العربية حتى يستطيع تدبُّر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتجتمع الشعوب الإسلامية كلها على ذلك، على سلامة الفهم والتدبر وصدق الإيمان والتوحيد.
    ولذلك تحدث في الباب السابع من كتاب "تاريخ آداب العرب"، عن الأندلس وعروبتها، وعن مصرع العربية فيها! ويقول: "... ونحن نريد الآن أن نُبيِّن كيف صُرعت العربية فيها بعد أن صارعت طويلا" (4). ويشير بين حين وآخر إلى حقيقة الإسلامي في الأندلس.
    واعتبر جريمة النصارى في الأندلس وتنصيرهم للمسلمين عبارة عن "تنصر العربية"، فجعل من ذلك عنوانا لفصل في كتابه "تاريخ آداب العرب"(5).
    ولقد تحدث مصطفى نعمان البدري في كتابه "الرافعي الكاتب بين المحافظة والتجديد" عن هذه الناحية في فكر الرافعي واتجاهه، بصورة مفصلة واسعة. وينقُل البدري عنه قولته المشهورة: "وما أراها إلا ستنهض في مصر والشام نهضة من يستجمع –تأملْ- وربما شهد الناسُ دهراً يصلح أن يُسمى فيه ما بين العراق والأطلنطيق "جمهورية اللغة العربيى"، وما هو ببعيد"(6).
    ويقول أيضا: بعد نكبة الأمة في الحرب العالمية الأولى وضياع سلطانها، وتوزُّع ديارها أسلابا بين أيدي المستعمرين والمغامرين أدرك ما يعوز الأمة في ذلك الصراع المرير، وهو القوة، بل خوارق القوة، ...، فكتب في نوادر القوة عند المسلمين صفحات جُلّى فيها شواهد من تاريخهم العظيم.
    ولقد تأثّر الرافعي بإنزال الإمام الشافعي اللغة العربية منزلتها الأمينة، فاعتبرها الأساس البياني لمعرفة دور اللغة العربية والكتاب والسنة في جمع الشعوب على الحق الذي جاء من عند الله (7). وإنه لأمر جميل أن يُنزل الإمام الشافعي اللغة العربية منزلتها الأمينة، ويبين أهميتها في فهم الكتاب والسنة للوصول إلى سلامة الاعتقاد الإيماني.
    الاتجاه الوطني:أما الناحية الوطنية فما قصر الرافعي عنها. لقد كان للرافعي وجهة نظر ورأي في السياسة جعله يفقد الصقة بالأحزاب جملة. وقد عبر عن ذلك بقوله:
    فيا عُصْبة الأحزاب رُدُّوا حُلُومَكُمْ *** وجرّوا على غير الثرى بذيولِ
    ولكنه أشار إلى دعوة مصطفى كامل والحزب الوطني لإقامة "الجامعة" في فكرة وطنية انشق لها مكانها في التاريخ (8).
    الأناشيد التي أطلقها تحمل الروح الوطنيّة الصافية والعاطفة الصادقة، ومنها نشيد: "اسلمي يا مصر"، ونشيد "حماة الحمى..." ونشيد: "لكِ يا مصر السلامة"، و"سلاما يا بلدي". وللرافعي مجموعة دواوين أُميط اللثام عن أسمائها ولكنها لم ترَ النور، وهي "أغاريد الرافعي" ومجموعاتها الثلاث، تدور حول ترقيص الأطفال، والأناشيد الوطنية، وبعض قصائد الموشحات (9).
    وكذلك مقالاته في "الأخبار" كتبها خلْواً من التوقيع، أو بأحرف من اسمه. وامتدت مقالاته الوطنية حرارة وقوة، وساهم في أنشطة وطنية صافية. ثم لوحظ عليه الانكماش، بعدما رأى من صراع الأحزاب وانشقاق صفوف الجماهير، وافتراق الحركة المصرية، حتى لم يعد لها جامع لا من العروبة ولا من الإسلام.
    ويقول مصطفى نعمان البدري: "وقد حفلت حياتُه الشعرية بموافقات طريفة في موضوعاته الوطنية..."(10) ويستشهد بالقصيدة الوطنية التي مطلعها:
    بلادي هواها في لساني وفي دمي *** يمجدّها قلبي ويدعو لها فمي (11)
    فلما انتهت الحرب العالمية الأولى، وتقاسم الغرب أجزاء العالم الإسلامي، وظهرت بوادر المقاومة هنا وهناك، وفي مقدمتها مصر، كان الرافعي لسان الأمة المجاهدة عن قيمها وكرامتها بأدبه وفنه، وقد رفع لها أكثر من شعار..."(12).
    وله عدة أناشيد، كما ذكرنا أعلاه بعضها، ومنها نشيده الأثير: "اسلمي يا مصر"! وهو نشيد وطني، ولكننا نردده، ونعدو لمصر وسائر بلاد الإسلام بالسلامة.
    وله نشيد آخر: "يا شباب العالم المحمدي" الذي كان صرخة تدوّي به دماء المؤمنين، وتطير به أشلاؤهم.
    والنشيد الآخر: "حماة الحمى" الذي أضحى نشيد الناس في مصر وخارج مصر، شرَّق إلى بلاد الشام والعراق، وغرَّب إلى تونس والمغرب. فكان صوتُه بهذه الأناشيد وبكثير من قصائده وروائع شعره صرخات إيقاظ وتنبيه. ولاشك أننا نرى في ذلك كله أثرا واضحا للإسلام.
    وإني أشعر أن الرافعي ربط مفاهيمه للإسلام وللوطنية والعروبة متأثرا بعواصف الواقع وتحدياته. علما أن الإسلام أعاد صياغة جميع الروابط البشرية من عائلية ووطنية وقومية، لتكون روابط إيمانية خالية من أي عصبيات جاهلية حرّمها الإسلام. رحم الله الرافعي وغفر له وتقبل منه صالح عمله.
    --------
    (1) مصطفى نعمان البدري: الرافعي الكاتب بين المحافظة والتجديد: ص11.
    (2) السابق: 470.
    (3) أحمد زكي صفوت: جمهرة خطب العرب، ج1/157.
    (4) الرافعي – إعجاز القرآ،: 47.
    (5) الرافعي: تاريخ آداب العرب: ج3/293.
    (6) المصدر السابق: 299.
    (7) الهلال شباط 1920م-400، د. البدري 433.
    (8) البدري: 207.
    (9) ديوان الرافعي تحقيق د. ياسين الأيوني – ص: 321.
    (10) البدري: 539.
    (11) الديوان: ص89.
    (12) البدري: 126.
    -------
    المصدر:

    http://www.aljamaa.info/ar/detail_kh...4855&idRub=174
    ـــــ
    تحية منيفة
    محمد بن أحمد باسيدي


  5. #5
    طبيب / أديب الصورة الرمزية د- صلاح الدين محمد ابوالرب
    تاريخ التسجيل
    13/10/2006
    العمر
    68
    المشاركات
    4,923
    معدل تقييم المستوى
    22

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ماأشبه أليوم بالبارحة
    فهذه هي الامة في ضعفها وقلة حيلتها وضعف علاقتها بدينها
    الفرق الواضح بين العهدين ان بينهم كان الرافعي وامثالة
    فاين من اهم اقرانه الان
    نرى هذه الايام الكثير من علمائنا ومتعلمينا نسوا كل شىء الا ان يتمسحوا بالعتبات الغربية
    رحمنا الله
    اختيارك للشخصية جيد وفي موقعه الزمانى
    تحية

    الدكتور صلاح الدين محمد ابوالرب
    طبيب-كاتب وباحث
    drosalah@hotmail.com

  6. #6
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية محمد بن أحمد باسيدي
    تاريخ التسجيل
    26/09/2006
    المشاركات
    1,240
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي الرافعي وقضية الإعجاز في القرآن الكريم

    الرافعي وقضية الإعجاز في القرآن الكريم
    بقلم: د. صلاح الدين عبد التواب / مصر
    يعد الأديب العالم والناقد المتذوق الرافعي واحدا من أفذاذ العلماء العرب والمسلمين في عصرنا الحديث الذين أسهموا بقسط وافر من الدراسات الأدبية والنقدية التي قامت حول قضية الإعجاز في القرآن الكريم.
    ولم يكن غريبا من الرافعي أن يتصدى لهذا المجال العميق والدقيق من مجالات الدراسات الأدبية والنقدية التي دارت حول البيان القرآني المعجز، فهو الذي أمضى حياة حافلة في خدمة العربية وآدابها، والكتاب المبين الذي أنزل بلسانها، وهو الذي آلى على نفسه أن يكون لهذا الدين وكتابه القويم حارسه وحاميه.
    وقد حدث أن نشرت إحدى الصحف مقالا لأحد الكتاب تناول فيه القرآن بسوء التأويل، فقال يخاطب صديقا له: من تراه يا بني يقوم لهذا الأمر إن سكت الرافعي؟ ثم جهر برده معلنا (تحت راية القرآن) بأن العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، وأن فصاحة هذه اللغة ليست فقط في ألفاظها، ولكن في تركيب ألفاظها، كما أن الهزة والطرب ليست في النغمات ولكن في وجوه تأليفها، وهذا هو الفن كل الفن في الأسلوب، لأنه يرجع إلى الذوق الموسيقي في حروف هذه اللغة وأجراس حروفها ... ومن ثم أخذ في إيضاح تلك النظرية الفنية الأسلوبية، التي تتميز بها العربية، والتي اختارها الله سبحانه لتكون خطابه إلى العالمين متمثلا في هذا القرآن العظيم.
    وواضح أن كتاب الرافعي (إعجاز القرآن) لم يكن هو كل ما كتبه في مجال الدراسات الأدبية والنقدية التي قامت حول هذا الإعجاز، فقد بذل جهدا ليس بالقليل لكتابة مؤلفه في (أسرار الإعجاز) الذي أتم فصوله متحدثا فيه عن البلاغة العربية وعن بلاغة القرآن وأسرار إعجازه، كما تناول في الفصل الأخير منه آيات من القرآن الكريم على أسلوب من التفسير، يبين سر إعجازها في اللفظ والمعنى والفكرة العامة، وقد نشر منها بعض الآيات المفسرة في (الرسالة) وانتشر بعضها الآخر في تضاعيف كتابه (وحي القلم). أما كتابه (أسرار الإعجاز) فلم يقدر له أن يطبع بعد أن عاجلت صاحبه يد المنون قبل أن يخرج الكتاب إلى الوجود (1).
    منهج الرافعي في (إعجاز القرآن)
    لم يشأ الرافعي منذ أن بدأ كتابه (إعجاز القرآن) أن يطلق القول في هذا الإعجاز دون تحديد لمنهجه فيه، لذلك أشار في مقدمته إلى هذا المنهج الذي اتبعه، وكان مما قاله: "وبعد ... فإننا سنقول في القرآن الكريم ما يتعلق بلغته ويتصل ببلاغته ويكشف من أوجه الإعجاز في ذلك، فإن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وإن القول فيه ما برح كثير المذاهب متعدد الجهات متصل الحدود، يفضي بعضها إلى بعض، إذ هو كتاب السماء إلى الأرض مستقرا وسمتودعا، وقد جاء بالإعجاز الأبدي الذي يشهد على الدهر ويشد عليه ... بيد أنه لابد لنا من صدر نبتدئ به القول في تاريخه وجمعه وتدوينه وقراءاته، حتى تكون هذه سببا إلى الكلام في لغته وبلاغته ثم إعجازه في اللغة والبلاغة، لأن بعض ذلك يريد بعضه، ونحن نستعين الله ونستمده ونستكفيه"(2). ومن ثم خرج كتاب (إعجاز القرآن) للرافعي في ترتيب منظم، وتبويب منطقي، التزم به منذ المقدمة حتى نهاية الحديث عن الإعجاز، وما دخل بابا وانتهى منه إلا ليسلمه للذي يليه، حتى وصل إلى فكرته الأساسية في الإعجاز، وهي متمثلة في نظم القرآن، وإعجاز تأليفه، ثم أخذ يتدرج مع فكرة النظم هذه متتبعا الحروف وأصواتها إلى الكلمات وحروفها، إلى الجمل وكلماتها، حتى تأكد له بعد هذه الدراسات المتصلة غرابة الأوضاع التركيبية في القرآن الكريم بعد أن تجلت فيه تلك الروح التي أودعها الله آياته المحكمات، والتي لا يمكن أن يدرك كنهها أحد إلا الله وحده منزل القرآن..
    معنى الإعجاز في نظر الرافعي
    وكان على الرافعي .. بعد أن استعرض ما قيل في وجوه الإعجاز من المتكلمين وغيرهم من العلماء أن يحدد حقيقة الإعجاز التي ارتضاها واطمأن إليها فقال: "أما الذي عندنا في وجه إعجاز القرآن وما حققناه بعد البحث .. أن القرآن معجزة بالمعنى الذي يفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه .. فالقرآن معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني، ومعجز كذلك في حقائقه، وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء، فهي باقية ما بقيت، .. وإنما مذهبنا بيان إعجازه في نفسه، من حيث هو كلام عربي، لأننا إنما نكتب في هذه الجهة من تاريخ الأدب دون جهة التأويل والتفسير(3).
    من هنا يبدو واضحا تعريف الرافعي لوجهته في محاولة للوقوف على حقيقة الإعجاز بما يتلاءم مع اتجاهه الأدبي، ولذا كانت مقدماته من قبل تمهيدا للحديث عن الأسلوب القرآني، وأن هذا الأسلوب هو مادة الإعجاز العربي في كلام العرب كله، وأن العرب لما ورد عليهم أسلوب القرآن رأوا ألفاظهم بعينها متساوقة فيما ألفوه من طرق الخطاب وألوان المنطق، غير أنهم ورد عليهم من طرق نظمه ووجوه تركيبه ونسق حروفه في كلماته، وكلماته في جملها، ونسق هذه الجمل في جملته ما أذهلهم عن أنفسهم من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوف تقشعر منه الجلود(4).
    فالنظم –ليس غير- هو مناط الإعجاز الذي اعتد به الرافعي، لأنه آية الجمال والجلال في هذا القرآن الكريم. وكذلك تناول موضوع النظم بالشرح والتحليل وجعله الفكرة الأساسية التي دار حولها في كتابه (إعجاز القرآن).
    فكرة النظم في دراسة الرافعي
    مع اعتراف الرافعي بأنه ليس أول من قال بفكرة النظم في إعجاز القرآن، إلا أنه كان حريصا على أن يتناول هذه الفكرة من وجهة نظره ومن حيث أدركها وتذوقها، ولذلك تجده يقول: "والكلام بالطبع يتركب من ثلاثة: حروف هي من الأصوات، وكلمات هي من الحروف، وجمل هي من الكلم .. وقد رأينا سر الإعجاز في نظم القرآن يتناول هذه كلها بحيث خرجت من جميعها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به، فليس لنا بد في صفته من الكلام في ثلاثيتها جميعا"(5).
    ومن هذا المنطلق بدأ الرافعي في شرح حقيقة الإعجاز في البيان القرآني من وجهة نظره، وبالشكل الذي حدد به طريقته، بما يخالف طرائق السابقين الذين رأوا في دقة النظم –بشكل عام- المظهر الرائع في الإعجاز، وبخاصة ما رآه عبد القاهر الجرجاني من قبله في هذا المجال.
    ولعله من هنا يتضح أن الرافعي قد عالج فكرة النظم على أساس أن له فيها فهما خاصا أدق وأشمل مما كان يراه عبد القاهر.
    فالرافعي مثلا لم يحصر فكرة النظم في توخي قواعد النحو مثل عبد القاهر الذي قال: "واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأًوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها"(6).
    كذلك عني الرافعي كبير العناية بالعلاقة بين الحروف أنفسها وما قد تدل عليه من المعاني، بينما لم يولها عبد القاهر العناية نفسها، وقد تجلى ذلك عندما أشار عبد القاهر إلى أن نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط من غير أن يكون هذا النظم ناشئا عن معنى اقتضاه، فلا صلة عنده إذن بين الكلمة الواحدة ومعناها، فضلا عن أن يكون للحرف نفسه صلة بالمعنى، فلو أن واضع اللغة كان قد قال (ربض) مكان (ضرب) لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فساد ... وأما نظم الكلام فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتفي في نظمها آثار المعاني وترتيبها على حساب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذن نظم يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعض، وليس هو النظم الذي معناه ضم الشيء إلى الشيء كيفما جاء واتفق"(7).
    لذلك كانت نظرة الرافعي إلى النظم أدق وأشمل، حيث نظر مبتدئا من الحروف وأصواتها، وما قد تدل عليه هذه الحروف ذاتها من معنى متصل بها، ثم تنقل الرافعي مع هذا النظم إلى الكلمات وحروفها، ثم إلى الجمل وكلماتها، ليصل من وراء ذلك كله إلى غرابة الأوضاع التركيبية في نظم القرآن كله.
    ولعله من الإنصاف هنا أن نقول: "إن ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة 466هـ قد سبق بالحديث عن الحروف وأصواتها، والكلمات وحروفها ثم عن الكلام المؤلف وموسيقى التركيب .. إلا أنه قد أخذ عليه تداخل المعلومات فيما يتصل بهذا الموضوع إضافة إلى عدم ترتيب الأفكار فيه، فهو يتكلم مثلا عن الحروف ثم يعقبها بالكلمات ثم يعود إلى تقسيم الحروف، وفي الحديث عن تآلف الكلمات يدخل فيها الحديث عن الصور البيانية كحسن الاستعارة وحسن الكناية وغير ذلك(8).
    أما تناول الرافعي لفكرة النظم كما رآها، فقد كان تناولا مرتبا وموضوعيا ومنطقيا، ممزوجا لدراسة تطبيقية على نماذج متنوعة من التعبير البياني في القرآن الكريم، في محاولة لإبراز معالم الجمال والكمال المعجز في آيات الله المحكمات.
    كذلك إذا كان عبد القاهر قد عني في نظريته بالكلمة المفردة قبل أن تدخل في تركيب إلا بقدر ما تكون مألوفة غير مبتذلة ولا ثقيلة في اللسان، فلعله رأى ذلك لأن الإعجاز في نظره لا يرجع إلى تلك الكلمة المفردة، لن جميع ما في القرآن من ألفاظ قد نطق بها العرب، وأن القرآن لم يأت منها بجديد يجهلونه، وإنما الجديد الذي أعجزهم هو تأليفها ونظمها، ولهذا انصرف إلى النظم بمعناه الذي ارتضاه.
    أما الرافعي، فقد عني أيضا بالكلمة المفردة في النظم، ولعل منشأ تلك العناية ما كان يستشعره من أن القرآن الكريم كما هو معجز في نظمه وتركيبه، فهو معجز أيضا في إيحائه وتصويره، وقد تكون الكلمة الواحدة من الجملة، أو الحرف الواحد من الكلمة أبلغ في الإيحاء والتصوير من تركيب متعدد الكلمات والجمل، وتلك هي الروعة البالغة في الإعجاز.
    من هنا كانت عناية الرافعي بالنظم في مفهومه الأدق والأشمل عنده عندما رأى في الكلمة الواحدة، وما قد يوحي به الجرس في تركيب حروفها من دلالات متصلة بحكاياتها للمعنى من قوة أو ضعف، الأمر الذي يعطيها إيحاء معينا وبريقا خاصا له أثره البالغ في النفوس، ومن أجل ذلك قامت دراسته لهذه الفكرة على أساس تلك الأمور الثلاثة معا:
    أ- الحروف وأصواتها.
    ب- الكلمات وحروفها.
    ج- الجمل وكلماتها.
    وكانت تلك الدراسة الواعية الدقيقة التي تنم عن مدى التذوق الأدبي والفهم الذكي من جانب الرافعي لهذه العربية بحروفها وأصواتها وجمالها وروعة إيحائها ودقة تصويرها .. تلك العربية التي اختارها الله تعالى لتكون لسان كتابه المحكم والحكيم.
    (أ) الجانب التطبيقي على فكرة النظم عند الرافعي:
    أما عن الجانب التطبيقي، فقد بدأ الرافعي تفصيله كتوضيح فكرته بدراسة هذا النظم أولا في الحروف وأصواتها، ذلك لأن الحروف بما يصدر عنها من أصوات تعد المادة الأولى للتركيب اللغوي، ومن ثم نراه يبين أن وضع الحروف ذاتها في كلماتها قد استلفت أذهان العرب – إذ أنهم لما قرئ عليهم القرآن رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله ألحانا لغوية رائعة، كأنه لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعها وإيقاعها، فلم يفهم هذا المعنى، وأنه أمر لا قبل لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم، حتى إن من عارضه منهم –كمسيلمة- جنح في خرافاته إلى ما حسبه نظما موسيقيا أو بابا منه، وكأنه فطن إلى أن الصدمة الأولى للنفس العربية إنما هي في أوزان الكلمات وأجراس الحروف دون ما عداها، وليس يتفق ذلك في شيء من كلام إلا بأن يكون وزنا من الشعر أو السجع.
    وللتأكد من صحة هذه الدعوى يضع الرافعي بين أيدينا ميزانا دقيقا وعلميا في الوقت ذاته، إذ يدعو إلى تناول أي قطعة مما أبدعه فصحاء العرب في نثرهم وترتيلها على طريقة التلاوة في القرآن ما تراعى فيه أحكام القراءة وطرق الأداء، فلابد والحالة هذه من الإحساس بالفارق الكبير بين النظم والنظم، بل لابد من الشعور بالنقص الكبير في كلام البلغاء وانحطاطه في ذلك عن رمتبة القرآن، بل وأكثر من هذا، فإن محاولة الترتيل والتحسين لما يتناول من كلام البلغاء تذهب رونقه وجماله –وحسبك بهذا اعتبارا في إعجاز النظم الموسيقي في القرآن، وأنه مما لا يتعلق به أحد، ولا يتفق على ذلك الوجه الذي هو فيه إلا فيه .. لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر والشدة والرخاوة والتفخيم والترقيق وغير ذلك من صفات الحروف.
    وليس يخفى أن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته إنما هو سبب في تنويع الصوت بما يخرجه فيه مدا أو غنَّة أو لينا أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة في اضطرابه وتتابعه على مقادير تناسب ما في النفس من أصولها، ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع، أو الإطناب والبسط بمقدار ما يكسبه من الحدة والارتفاع والاهتزاز وبعد المدى ما هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.
    وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلا صورة تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقا عجيبا، يلائم نوع الصوت والوجه الذي يساق عليه بما ليس وراءه في العجب مذهب. وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة وأثرها طبيعي في كل نفس .. ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضربا من الكلام البليغ الذي يطمع فيه أو في أكثره. ولكنه انفرد بهذا الوجه المعجز فتألفت كلماته من حروف لو سقط واحد منها أو أبدل بغيره أو أقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللا بينا أو ضعفا ظاهرا في نسق الوزن وجرس النغمة وفي حس السمع وذوق اللسان(9).
    ولعل الرافعي بهذا الكلام يعد أول من أثار فكرة الإعجاز بالنظم من طريق الإيقاع الصوتي للآيات المحكمات، وهو ذلك الإعجاز النابع من دقة الالتئام والتناسق بين كل من الحروف في كلماتها، والكلمات في جملها، والجمل في تراكيبها على نحو لا شبيه له ولا نظير.
    (ب) الكلمات وحروفها (في دراسة الرافعي التطبيقية):
    ومع انتقال الرافعي إلى هذه المرحلة في النظم نجده لا يزال على صلة بالتركيب الحرفي للكلمة، ومن ثم يشير إلى الإيقاع الصوتي للحروف وما قد يوحي به من معان ويشير إليه من دلالات لها في النفس والحس معا أعظم التأثير، ويقرر أنه لما كان الأصل في نظم القرآن أن تعبر الحروف بأصواتها وحركاتها ومواقعها من الدلالة المعنوية، استحال أن يقع في تركيبه ما يسوغ الحكم في كلمة زائدة أو حرف مضطرب أو ما تجري مجرى الحشو والاعتراض كما تجد من كل ذلك في أساليب البلغاء(10).
    ثم يتحدث عن العلاقة الدقيقة بين المعنى ولفظه بما يصدر عنه من صوت الحروف فيه، فيقول: "لا جرم أن المعنى الواحد يعبر عنه بألفاظ لا يجزئ واحد منها في موضعه عن الآخر إن أريد به شرط الفصاحة، لأن لكل لفظ صوتا ربما أشبه موقعه من الكلام ومن طبيعة المعنى الذي هو فيه، والذي تساق له الجملة، وربما اختلف وكان غيره بذلك أشبه(11).
    وبهذا يمهد الرافعي لبيان أهمية الكلمة القرآنية ووضعها في محلها اللائق بها، بعد أن بين الدقة في وضع الحروف فيها بما يتناسب والمعنى المراد.
    ويجيء دور الأمثلة التي يوضح بها الرافعي ما يريد تقريره فيقول: "ولو تدبرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجيء في الوضع والتركيب مجيء الحروف أنفسها فيما هي له من أمر الفصاحة، ويهيئ بعضها لبعض، ويساند بعضها بعضا، ولن تجدها إلا مؤتلفة مع أصوات الحروف مساوقة لها في النظم الموسيقي، حتى إن الحركة ربما كانت ثقيلة في نفسها لسبب من أسباب الثقل، فلا تعذب ولا تستساغ، فإذا هي استعملت في القرآن رأيت لها شأنا عجيبا، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقا في اللسان واكتنفتها بضروب النغم الموسيقي حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقه، وجاءت متمكنة في موضعها وكانت لهذا الموضع أولى الحركات بالخفة والروعة.
    من ذلك لفظة "النُذُر" جمع نذير، فإن الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معا فضلا عن جسأة هذا الحرف ونبوِّه في اللسان وخاصة إذا جاء فاصلة الكلام، لكل ذلك مما يكشف عنه ويفصح عنه موضع الثقل فيه، ولكنه جاء في القرآن على العكس وانتفى من طبيعته في قوله تعالى: "ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر" فتأمل هذا التركيب وتذوق مواقع الحروف، وأجر حركاتها في حسن السمع، وتأمل مواضع القلقة في دال (لقد) وفي الطاء من (بطشتنا) وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (تماروا) مع الفصل بالمد كأنه تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جربت على اللسان ليكون ثقل الضمة عليه مستخفا بعد، ولتكون هذه الضمة قد أصابت موضعها، ثم ردد نظرك في الراء من (تماروا) فإنها ما جاءت إلا مساندة لراء (النذر) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه، انتهى إليها من مثلها، فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه، ثم اعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون (أنذرهم) وفي ميمها، وللغنة الأخرى التي سبقت الذال في (النذر)(12).
    وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع مما يكون مستقلا بطبيعة وضعه أو تركيبه، ولكنا بتلك الطريقة التي أومأنا إليها قد خرجت في نظمه مخرجا سويا، فكانت من أحضر الألفاظ حلاوة وأعذبها منطقا وأخفها تركيبا، وإذ تراه قد هيأ لها أسبابا عجيبة من تكرار الحروف وتنوع الحركات، فلم يجرها في نظمه إلا وقد وجد ذلك فيها كقوله تعالى: "ليستخلفنهم في الأرض" فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف وقد جاءت عذوبتها من تنوع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنها بذلك صارت في النطق كأنها أربع كلمات، إذ تنطق على أربعة مقاطع، وقوله تعالى: "فسيكفيكهم الله" فإنها كلمة من تسعة أحرف وهي ثلاثة مقاطع وقد تكررت فيها الياء والكاف، وتوسط بين الكافين هذا المد الذي هو سر الفصاحة في الكلمة كلها.
    وفي القرآن لفظة غريبة هي أغرب ما فيه، وما حسنت في كلام قط إلا في موقعها منه، وهي كلمة (ضيزى) –أي جائرة- من قوله تعالى: "تلك إذا قسمة ضيزى" ومع ذلك فإن حسنها في نظم الكلام من أغرب الحسن وأعجبه، ولو أدرت اللغة عليها ما صلح لهذا الموضوع غيرها، فإن السورة التي هي منها وهي سورة النجم مفصلة كلها على الياء، (والتي تنطق ألفا مقصورة) فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل، ثم هي في معرض الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات لله، مع وأدهم البنات. فقال تعالى: "ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذا قسمة ضيزى" فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملاءمة لغرابة هذه القسمة الجائرة التي أنكرها القرآن عليهم، وكانت الجملة كلها كأنها تصور في هيئة النطق بها الإنكار في الأولى والتهكم في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصة في اللفظة الغريبة التي تمكنت في موضعها من الفصل ووصفت حال المتهكم في إنكاره، وجمعت إلى كل ذلك غرابة الإنكار بغرابتها اللفظية.
    وإن تعجب فعجب نظم هذه الكلمة الغريبة وائتلافها على ما قبلها إذ هي مقذعان، أحدهما جدّ ثقيل والآخر خفيف، وقد جاءت عقب غنتين في "إذن" و"قسمة" وإحداهما خفيفة حادة، والأخرى ثقيلة متفشية فكأنها بذلك ليست إلا مجاوبة صوتية لتقطيع موسيقي(13).
    وبهذا يبين الرافعي أهمية الكلمة القرآنية في ذاتها لدقة التركيب الحرفي فيها من ناحية، ولدورها الذي تؤديه في المعنى العام من ناحية أخرى. ولعل من أهم ما تناوله في هذا التحليل ذلك الجانب التأثيري للألفاظ القرآنية، وحتى ما قد يبدو منها غريبا، فإن هذه الغرابة لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حسنها على غرابتها إلا لأنها تؤكد المعنى الذي سبقت له كما تصوره بلفظها وهيئة منطقها، فكأن في تأليف حروفها معنى حسيا،وفيت أليف حروفها معنى حسيا، وفي تأليف أصواتها معنى مثله في النفس.

    (ج) الجمل وكلماتها:
    وتأتي ثالثة المراحل في دراسة الرافعي التطبيقية، وهي المرحلة الأخيرة من مراحل النظم عنده، والتي تتمثل في الجمل وكلماتها ويقدم الرافعي لتلك المرحلة بحديث عام عن الجملة فيشير إلى أنها هي مظهر الكلام، وهي الصورة النفسية للتأليف الطبيعي، إذ يحيل بها الإنسان هذه المادة المخلوقة في الطبيعة إلى معاني تصورها في نفسه، أو تصفها حتى ترى النفس هذه المادة المصورة وتحسها (14).
    ثم يأخذ الرافعي في عرض مراتب النظم في الكلام البليغ حتى يصل إلى مرتبة النظم في القرآن الكريم قائلا: "فإذا بعد الكلام وأمعن حتى يكون بدقائق تركيبه وطرق تصويره كأنما يفيض النفس على الحواس إفاضة، ويترك هذا الإنسان من الإحساس به كأنه قلب كله، ثم يبلغ من ذلك إلى أن يكون روح لغة كاملة، وبيان أمرة برمتها لا يحيله الزمن عن موضعه، ولا يقلبه عن جهته، وإلى أن يجعل البلغاء على تفاوتهم فيما بينهم، وعلى اختلاف عصورهم وأسبابهم المتلاحقة، كأنهم معه طبقة واحدة وفي طوق واحد من العجز، يعنيهم طلبه، ويعنتهم إدراكه، ويعرفون تركيبه، ثم لا يجدون له مأتى من النفس ولا وجها من القدرة. فذلك هو الكلام المعجز.
    وإنما اطرد ذلك للقرآن من جهة تركيبه الذي انتظم أسباب الإعجاز من الصوت في الحرف إلى الحرف في الكلمة إلى الكلمة في الجملة، حتى يكون الأمر مقدرا على تركيب الحواس النفسية في الإنسان تقديرا يطابق وضعها وقواها وتصرفها، وذلك إيجاد خلقي لا قبل للناس به، ولم يتهيأ إلا في هذه العربية على طريق المعجزة التي لا تكون معجزة حتى تخرق العادة وتفوت المألوف وتعجز الطوق"(15).
    أما عن هذا الوضع العجيب للألفاظ القرآنية في جملها إلى أن اكتملت الآيات كلها على هذا النمط من النظم فيقول الرافعي: "فأنت ما دمت في القرآن حتى تفرغ منه لا ترى غير صورة واحدة من الكمال وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب ومواضع التأليف وألوان التصوير وأغراض الكلام، كأنها تفضي إليك جملة واحدة حتى تؤخذ بها .. وذلك أمر متحقق في القرآن: يقرأ الإنسان طائفة من آياته، فلا يلبث أن يعرف لها جهة من الحسن ترافد ما بعدها وتمده، لا تزال هذه الصفة في لسانه ولو استوعب القرآن كله(16).
    على أن الرافعي بعد جهده في إبراز هذا النظم القرآني الذي يجري على استواء واحد في تركيب الحروف باعتبار من أصواتها ومخارجها، والذي يتجلى كذلك في تمكينه للمعنى بحس الكلمة وصفتها، ثم الافتتان فيه بوضعه من الكلام ... يقرر بعد هذا كله أن للنظم القرآني روحا خاصا انفرد به وجعل له ذلك الطابع الذي إذا التمس في غير القرآن لم يعثر عليه، وهي روح التركيب التي لم تعرف قط في كلام عربي غير القرآن، وبها انفرد نظمه وخرج مما يطيقه الناس.. ولولا تلك الروح لخرج أجزاء متفاوتة في مقدار ما بين المعاني التي اشتمل عليها ومواقعها في النفوس.
    وإذا كان العرب قد أوجدوا اللغة مفردات فانية –على قول الرافعي- فقد أوجدها القرآن تراكيب خالدة، وأن لهذه اللغة معاجم كثيرة تجمع مفرداتها وأبنيتها، ولكن ليس لها معجم تركيبي غير القرآن(17).
    وبالوصول إلى غرابة هذا الوضع التركيبي بما أضفى إليه من روح إلهي ينهي الرافعي دراسته لإعجاز القرآن في نظمه بعد أن رأى في القرآن الكريم –من وجهة نظره- المعجم التركيبي من الوجهة البلاغية حين عده الأصل في فنون البلاغة كلها، فما يكون في المنطق العربي نوع بليغ إلا هو فيه على أحسن ما يمكن أن يتفق على جهته في الكلام حتى إنك لو قابلت ما فيه من أمثلتها بأحسن ما استخرجه العلماء من جملة كلام العرب لأصبت فرق ما بين ذلك في سمو الطبيعة اللغوية وإحكام البيان وانتظام محاسنه، كالفرق الذي تكشفه المقابلة ما بين النبوغ والتقليد .. ولله المثل الأعلى.
    وإذا كان القرآن الكريم قد أنزله الله آيات محكمات تخاطب العقول لتدرك، والقلوب لتستيقن، فإنه لم يسق تلك الآيات مساق المنطق في إثبات الحجج والبراهين، وإنما هي الطريقة النفسية المؤثرة التي تكمن دائما وراء روعة الأسلوب في القرآن.
    ولعل هذا ما أراد الرافعي أن يختم به رأيه في ذلك الإعجاز عندما قال: "وبقي سر من أسرار هذه البلاغة لا على طريقة المنطق – لأن هذه الطريقة المنطقية، تأتي على أوضاع وأقيسة معروفة مكررة يسترسل بعضها إلى بعض، يراد بها إلزام المخاطب ليتحقق المعنى الذي قام به الخطاب إلزاما بالعقل لا بالشعور، والسياق لا بطبيعة المعنى، ومن أجل ذلك تدخلها المكابرة وتتسع لها المغالطة، فرارا من الإلزام، وإن كان المعنى في نفسه واضحا مكشوفا والبرهان من طبيعته قائما معروفا.
    أما طريقة البلاغة، والتي أوفى على الغاية منه القرآن، فإنما يراد بها تحقيق المعنى وأخذ الوجوه والمذاهب على النفس من أجزائه التي يتألف منها بعد أن تستوفي على جهتها في الكلام استيفاء يقابل ما يمكن أن تشعر به النفس من هذه الأجزاء حتى لا تصدف عنه، ولا تجد لها وجها غير القصد إليه، فيكون من ذلك الإلزام البياني الذي توحيه طبيعة المعنى البليغ وكان حتما مقضيا"(18).

    من الدراسات التطبيقية حول الإعجاز البياني في مجال القصة القرآنية:
    كان من الملاحظ أن كتاب (إعجاز القرآن) للرافعي لم يحفل بالأمثلة التطبيقية على غرار ما عهد في الدراسات القرآنية عند السابقين، ويبدو أن الرافعي كان قد خصص هذا الكتاب للدراسات النظرية الدالة على الإعجاز، ثم أعد كتابه الآخر الذي سبقت الإشارة إليه ليكون تطبيقا على ما قدمه في كتابه (إعجاز القرآن) ومن ثم حشد في اللفظ والمعنى والفكرة العامة وسماء (أسرار الإعجاز) تماما كما حاول عبد القاهر الجرجاني من قبل في كتابيه (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) ولكن شاء الله ألا يبرز كتاب الرافعي في (أسرار الإعجاز) إلى الوجود. ومع أنها أمنية للرافعي لم يقدر لها أن تتحقق، إلا أننا وجدنا في تضاعيف كتبه ورسائله بعض ما كان ينوي إتمامه، ما يعد نموذجا لدراسة أدبية وافية يتغلغل من خلالها أعماق الأسلوب القرآني متتبعا أسراره وروائعه ودقائق الإعجاز فيه.
    ولقد كانت مجلة (الرسالة) حقلا خصبا لمثل هذا النشاط الأدبي الذي قام به الرافعي فيما يختص بدراسته الفاحصة في أسرار الإعجاز، كما كان له مثل هذه الدراسات في موضوعات متميزة من كتابه (وحي القلم) وفي بعض رسائله الأخرى.
    ومما هو جدير بالملاحظة أن الرافعي كان له فهم خاص لبعض المعاني القرآنية لم يصدر فيه عن متابعة أو تقليد، وإنما ينم عن شفافيته الخاصة وروحانيته الخالصة. كما ينم عن عظم إيمانه وقوة يقينه، وكان من وسائله فيما يتناول من آيات القرآن بالشرح والتحليل: أنه كان يمهد للمعاني القرآنية حتى يشاركه قارئه روحانيته وشفافيته، ويعيش معه في ظل هذا الإيمان العميق.
    وإذا كانت تلك النماذج التطبيقية في دراسة الرافعي في مجال الإعجاز القرآني الكريم وأسرار بلاغته أكثر من أن نحصيها في هذا المقام .. فإنه يمكن الاستشهاد بنموذج واحد من نماذج تناوله لبعض آيات القصص القرآني حيث أفاض الرافعي في العرض والشرح بعد استلهامه روح النص واستشفافه إياه .. ومن تعليقه على أحد المواقف في قصة يوسف عليه السلام وفي قول الله تعالى: "وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين" (يوسف: 23-24).
    فيقول .. عجبا للحب .. هذه ملكة تعشق فتاها الذي ابتاعه زوجها بثمن بخس، ولكن أين ملكها وسطوة ملكها في تصوير الآية الكريمة؟ لم تزد الآية على أن قالت: "وراودته التي هو في بيتها" إلخ .. و"التي" هذه الكلمة تدل على امرأة أيا كانت فلم يبق على الحب ملك ولا منزلة .. وزالت الملكة من الأنثى .. وأعجب من هذا كله كلمة "راودته" وهي بصفتها المفردة حكاية طويلة تشير إلى أن هذه المرأة تعترض يوسف بألوان من أنوثتها لون بعد لون، ذاهبة إلى فن راجعة من فن، لأن الكلمة مأخوذة من رودان الإبل في مشيتها، تذهب وتجيء في رفق، وهذا يصور حيرة المرأة العاشقة ومحاولتها أن تنفذ إلى غايتها، كما يصور كبرياء الأنثى إذ تختال وتترفق في عرض ضعفها الطبيعي، كأنما الكبرياء شيء آخر غير طبيعتها، فمهما تتهالك على من تحب وجب أن يكون لهذا الشيء مظهر امتناع أو مظهر تحير أو مظهر اضطراب، وإن كانت الطبيعة من وراء ذلك مندفعة ماضية مصممة، ثم قال "عن نفسه" ليدل على أنها لا تطمع فيه، ولكن في طبيعته البشرية، فهي تعرض ما تعرض لهذه الطبيعة وحدها، وكل الآية مصرحة في أدب سام كل السمو منزه غاية التنزيه، ثم قال: "وغلقت الأبواب" ولم يقل أغلقت وهذا يشعر أنها لما يئست ورأت منه محاولة الانصراف أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالا عدة، وتجري من باب، وتضطرب يدها في الإغلاق كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقد "وقالت هيت لك" ومعناها في هذا الموقف أن اليأس قد دفع بهذه المرأة إلى آخر حدوده، فانتهت إلى حالة من الجنون بفكرتها الشهوانية، ولم تعد ملكة ولا امرأة، بل أنوثة حيوانية صرفة متكشفة مصرحة.
    هذه ثلاثة أطوار يترقى بعضها من بعض، وفيها طبيعة الأنثى نازلة من أعلاها إلى أسفلها، فإذا انتهت المرأة إلى نهايتها ولم يبق وراء ذلك شيء تستطيعه أو تعرضه بدأت من ثم عظمة الرجولة السامية المتمكنة في معانيها، فقال يوسف "معاذ الله" ثم قال: "إنه ربي أحسن مثواي" ثم قال: "إنه لا يفلح الظالمون"، وهذه أسمى طريقة إلى تنبيه ضمير المرأة في المرأة، إذا كان أساس تنبيه ضميرها في كل عصر هو اليقين بالله، ومعرفة الجميل، وكراهة الظلم، ولكن هذا التنبيه المترادف ثلاث مرات لم يكسر من نزوتها، ولم يفتأ تلك الحدة، فإن حبها كان قد انحصر في فكرة واحدة، اجتمعت في كل أسبابها في زمن .. في مكان .. في رجل .. فهي فكرة محتبسة، كأن الأبواب منغلقة عليها أيضا، ولذا بقيت المرأة ثائرة في نفسها، وهنا يعود الأدب الإلهي السامي إلى تعبيره المعجز فيقول: "ولقد همت به" كأنما يومئ بهذه العبارة إلى أنها ترامت عليه وتعلقت به والتجأت إلى وسيلتها الأخيرة.
    جاءت العاشقة في قضيتها ببرهان الشيطان الذي يقذف به في آخر محاولاته، وهنا يقع ليوسف عليه السلام برهان ربه، كما وقع لها برهان شيطانها، فلولا برهان ربه لكان هم بها. وهنا المعجزة الكبرى لأن الآية الكريمة تريد أن لا تنفي عن يوسف عليه السلام فحولة الرجولة حتى لا يظن به، ثم هي –أي الآية الكريمة- تريد من ذلك أن يتعلم الرجال وخاصة الشباب منهم كيف يتسامون بهذه الرجولة فوق الشهوات حتى في الحالة التي هي نهاية قدرة الطبيعة .. حالة ملكة فاتنة عاشقة متكشفة متهالكة .. هنا لا ينبغي أن ييأس الرجل –أو يستسلم- فإن الوسيلة التي تجعله لا يرى شيئا من هذا، هي أن يرى برهان ربه، وهذا البرهان يؤوله أي إنسان بما شاء، فهو كالمفتاح الذي يوضع في الأقفال كلها فيفضها كلها، فإذا مثل الرجل لنفسه في تلك الساعة أنه هو وهذه المرأة منتصبان أمام الله يراهما، وأن أماني القلب تهجس فيه ويظنها خافية إنما هي صوت عال يسمعه الله، وإذا تذكر أنه سيموت ويقبر، وفكر فيما يصنع الثرى في جسمه هذا، أو فكر في موقفه يوم تشهد عليه أعضاؤه بما كان يعمل، أو فكر في هذا الإثم الذي يقترفه الآن يكون مرده ومرجعه عليه في أخته أو ابنته – إذا فكر في ذلك كله أو نحوه رأى برهان ربه يطالعه فجأة فيرى برهان عينه، أترونه يتردى في الهاوية حينئذ أم يقف دونها وينجو؟ احفظا هذه الكلمة الواحدة التي فيها أكثر الكلام، وأكثر العظة، وأكثر التربية، والتي هي كالدرع في المعركة، بين الرجل والمرأة والشيطان كلمة "رأى برهان ربه"(19).
    وسواء ما تحدث فيه الرافعي مباشرة عن إعجاز القرآن، أو ما بثه متفرقا في كتاباته الأدبية حول هذا الإعجاز، فقد كان له في كل ذلك فهم العالم وإخلاص المؤمن وتذوق الأديب، وكان هذا الذوق الفني الذي مُنحه هو الذي هيأه إلى فهم القرآن الكريم ومحاولة الوقوف على أسرار إعجازه في كل آية، وكل كلمة من آية، وكل حرف من كلمة، كما سبق القول في فكرة النظم عنده.
    ----------------------------
    (1) راجع: حياة الرافعي لمحمد سعيد العريان، ط3، ص23-33، ومصطفى صادق الرافعي للدكتور كما نشأت، ص7، تحت راية القرآن للرافعي ص16-18، رسائل الرافعي جمع وترتيب محمود أ[و رية، النقد الأدبي دراسات نقدية وأدبية حول إعجاز القرآن للدكتور صلاح الدين محمد عبد التواب، ج2، ص39-66.
    (2) إعجاز القرآن، ص12.
    (3) إعجاز القرآن، ص158
    (4) المرجع السابق، ص149-190.
    (5) المرجع السابق، ص219.
    (6) دلائل الإعجاز، ص55.
    (7) المرجع السابق، ص 35/ وراجع: عبد القاهر الجرجاني للدكتور أحمد بدوي، ص101، والنقد الأدبي، د. صلاح عبد التواب، ج2، ص44.
    (8) راجع الفصاحة لابن سنان الخفاجي، ص19-24، 48-86، 108-155.
    (9) إعجاز القرآن، ص222-229.
    (10) المرجع السابق، ص235.
    (11) المرجع السابق، ص240.
    (12) المرجع السابق، ص240.
    (13) سورة النجم، الآيتان 21-22، وراجع إعجاز القرآن، ص24.
    (14) المرجع السابق، ص249.
    (15) المرجع السابق، ص249.
    (16) المرجع السابق، ص255.
    (17) المرجع السابق، ص256-258.
    (18) المرجع السابق، ص282.
    (19) وحي القلم، ج1، ص115-118، ط المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
    مصدر المقال : مجلة –الأدب الإسلامي- المجلد الحادي عشر، العددان الثالث والأربعون والرابع والأربعون 1425هـ/2004م.
    نقلا عن:
    http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar.asp?id=4949&idRub=174
    ___
    تحية تراثية
    محمد بن أحمد باسيدي


  7. #7
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية محمد بن أحمد باسيدي
    تاريخ التسجيل
    26/09/2006
    المشاركات
    1,240
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي أسلوب الرافعي الأدبي في تناول التاريخ الإسلامي !

    أسلوب الرافعي الأدبي في تناول التاريخ الإسلامي
    بقلم: د. عبد الحليم عويس
    كان لنا أن نتوقع أن يكون التركيز عند مصطفى صادق الرافعي منصبا على تاريخ الأدب العربي، وهو لون من الأدب، كما أنه لون من التاريخ، لكننا لا نستطيع أن نعالجه على أنه طريق كاف للاستدلال به على مفهوم الرافعي للتاريخ، وعلى منهجه في تناوله.
    بيد أن ذلك لا يعني أن تراث الرافعي قد خلا من التعامل مع التاريخ، بمعناه المعروف لدى أصحابه، ولا سيما في مفهومه الحديث، وهو أنه التاريخ الحضاري الذي يرصد التاريخ السياسي والعسكري، لكنه لا يغفل تاريخ الأفكار ولا المذاهب، ولا النشاطات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
    لكن شيئا أساسيا يجب أن نشير إليه في تعامل الرافعي مع وقائع التاريخ، فالرافعي لم يستطع قط أن يتخلص من بيانه المشرق، وقدرته البلاغية، وأسلوبه المتميز، الذي يكاد يعرب به دون أن يذكر اسمه إلى جانبه، وهو بحق – كما قال سعد زغلول: "بيان كأنه تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم".
    صياغة الوقائع بيانيا وتربويا:
    وقد اهتم الرافعي بالتاريخ من جوانب عدة على رأسها: إعادة صياغة الوقائع بطريقة بيانية تربوية، تترك تأثيرها في القلب والعقل معا، وثانيها: الدفاع عن التراث العربي الأصيل، الذي تقوم عليه النهضة الإسلامية، وثالثها: رصد النهضة العلمية في التاريخ الإسلامي، بدءا من زمن بني أمية، ومرورا بعصور التاريخ الإسلامي التالية، ورابعها: معالجة القصص القرآني، الذي كان الرافعي يرى أن جهودا كثيرة قد بذلت فيه، وأن هذه الجهود قد ضاعت، وهو يضرب مثلا على ذلك بما ورد في بعض الروايات من التاريخ من أن "أبا علي الأسواري" القاص البليغ، فسر القرآن بالسير والتواريخ ووجوه التأويلات، فابتدأ في تفسير سورة البقرة، ثم ما لبث يقص ستا وثلاثين سنة، ومات ولم يختمه، وكان ربما فسر الآية الواحدة في عدة أسابيع، لا يني ولا يتخلف، وليس في هذا الخبر شيء من المبالغة أو التزيد، بل عسى أن يكون الأمر مع أهل التحقيق والاطلاع أبلغ منه، وهذه كتب التفسير التي عدها صاحب (كشف الظنون) وسرد أسماءها في كتابه، تبلغ ثلاثمائة ونيفا، والرجل إنما عد بعضها كما يقول (...). وذكر الفيلسوف (أرنست رنان) أنه وقف على ثبت يدل على أنه قد كان في إحدى مكتبات الأندلس التي أحرقت تفسير للقرآن في ثلاثمائة مجلد. وذكر الشعراني في كتابه (المنن) تفسيرا قال: إنه في ألف مجلد(1) ... وهو يرى أن حظ التاريخ من هذه المجلدات كبير.
    ومن المعروف أن كثيرا من الباحثين في إعجاز القرآن قد جعلوا حديث القرآن عن قصص الأنبياء والأمم السابقة من وجوه الإعجاز، التي يتحدى بها، لكن الرافعي مع اهتمامه بالجانب القصصي في القرآن، ضمن الوجوه التي عرض لها، لم يذهب إلى أنه وجه من وجوه التحدي، فالقرآن لم يهدف إلى أن يكون كتاب تاريخ، كما لم تكن المعاني التاريخية مقصدا من مقاصده، مع أن ما جاء فيه من التاريخ حق وصدق، لا يتطرق إليه شك، كما أن القرآن عني بالقضايا الكلية، والحقائق الثابتة، والنظريات العامة، التي لا تحتمل اختلافا ولا افتراقا(2)، وهو الأمر الذي وقع فيه كتاب العهد القديم، مما عرضه لكثير من النقد والتجريح(3).
    وعلى الرغم من أن الرافعي لم يعد الجانب القصصي ضمن الوجوه التي رد الإعجاز إليها، فإنه بسط القول في ظاهرة التكرار في القرآن الكريم.
    وقد ناقش الرافعي رأي القدامى، كالجاحظ وأبي هلال العسكري، حول ظاهرة التكرار، مبينا أن ما ذهبوا إليه من أن التكرار في القصص القرآني لم يكن يصار إليه إلا مع بني إسرائيل لضعف أفهامهم وقلة بصيرتهم، بينما لم يستعمل في خطاب العرب لذكائهم وفطنتهم وعدم احتياجهم إلى ذلك، حُكمٌ فيه قصور، ورأيٌ يحتاج إلى توضيح، لأن اليهود كان منهم البلغاء، وفيهم الفصحاء، ولم يكونوا من العي والغباوة كما يتصور، ثم يقرر الرافعي أن هذا التكرار الوارد في القرآن إنما هو في الحقيقة سر من أسرار الأدب العبراني، جرى القرآن عليه في أكثر خطابهم خاصة ليعلموا أنه وضع غير إنساني، وليحسوا معنى من معاني إعجازه فيما هم بسبيله، كما أحس العرب فيما هو من أمرهم(4).
    فالرافعي إذن لا يخالف الجاحظ فيما قرره من وجود التكرار في الآيات التي خوطب بها بنو إسرائيل، ولكنه يخالفه في التعليل لذلك، فالجاحظ يرده إلى قلة أفهامهم، والرافعي يعلل –كما رأينا- بأن القرآن خاطبهم بما يعرفون، فالتكرار ضرب من ضروب بلاغتهم، ولون من ألوان أدبهم، ولم يكونوا من الغفلة والسذاجة كما يظن، وإن فيهم لمتكلمين وإن منهم لشعراء، والخطاب في القرآن كله يسمعه العرب واليهود جميعا، فلا هؤلاء ينكرون من أمره ولا أولئك(5).
    أما بالنسبة للجانب الأول الذي يعد –بالنسبة لبحثنا- معلماً أساسا في تقويم منهجية الرافعي في تعامله مع التاريخ، فالحق أن الرافعي في بيانه وبلاغته، وإضفائه على الواقعة التاريخية كثيرا من إشراقات نفسه، وفقهه بالبيئة الإسلامية وبالمناخ الإسلامي بصفة عامة.
    توقيت ظهور الرافعي
    والحقيقة أن الرافعي جاء في وقته المناسب، فقد كانت السنوات التي تألق فيها فكره سنوات مضطربة، يقوم فيها الصراع على أشده بين دول عربية وإسلامية ابتعدت عن القرآن، وابتعدت عن الحقيقة الإسلامية، وبين قوى صهيونية كانت قد أقامت الجامعة العبرية في فلسطين، وبدأت تضع الأسس التوراتية موضع التطبيق، لتقيم دولة يعقوب (إسرائيل) على أساس الفكر التوراتي التلمودي، وبينما كان محمد أحمد خلف الله يطعن في القصص القرآني، في أطروحته التي قدمها إلى جامعة فؤاد الأول (القاهرة) تحت عنوان: الفن القصصي في القرآن، ويجد مؤيدين ومدافعين عن مزاعمه التي يذهب فيها إلى أن الأحداث التاريخية في القرآن، التي وردت عن أحوال الأمم الماضية، لم تكن جديدة، وأن معظمها كان معروفا لأهل الكتاب، وأنها جاءت مخالفة لوثائق التاريخ ... وفي الوقت نفسه كان طه حسين يطعن في قصة إبراهيم وإسماعيل وبناء الكعبة، في التوراة والقرآن معا، (والقرآن هو المقصود) ..
    في هذا الوقت ظهر مصطفى صادق الرافعي مزودا بأسلحة قوية، زوده الله بها، ليتمكن من الوقوف في وجه هذا الزحف، الذي يحاول مسخ القديم كله، وضرب الثوابت كلها، ونسف التاريخ العربي والإسلامي ..
    ومن هنا لجأ الرافعي إلى الوقائع التاريخية، التي تمتلئ بصفحات رائعة، وأخذ يبرزها، وكأنه يكشف لنا بعض جوانب فلسفة التاريخ الإسلامي العظيم، وهو ذلك التاريخ الذي يمتزج فيه عمل الدين بالدنيا. ورشح الإيمان على الحياة.
    وبينما كان "جرجي زيدان" يحاول تشويه تاريخ الإسلام من خلال سلسلته المعروفة "روايات تاريخ الإسلام" القائمة على التدليس وتحريف الوقائع، وتفسير التاريخ الإسلامي تفسيرا اقتصاديا ودنيويا، بعيدا عن الغايات الإيمانية، كان الرافعي من خلال ما أورده في كتابه (وحي القلم) بخاصة يعيد الأمور إلى نصابها، ويكشف الأعماق الإيمانية في حركة المسلمين في التاريخ، وكيف أنها كانت الدافع الأساس، والهدف الأسمى، وأن ما أفاء الله به على المسلمين إنما كانت نتيجة لا سببا، وثمرة لا جذرا، ومنحة ربانية للذين خلصت نياتهم، وقدموا أعمالهم خالصة لوجهه تعالى.
    وكانت الوسائل عندهم كالغايات، في شرفها وأبعادها الإنسانية، ولم تكن الغاية عندهم تبرر الوسيلة.. فلحروبهم آداب لا يستطيع المحارب المسلم أن يخرج عليها، والكلمة عندهم عهد وميثاق، وجزء من دينهم، والحياة الاجتماعية عندهم تقوم على التراحم، وتقوم على الغايات الإسلامية كما طبقها إمام المتقين، صاحب السيرة العطرة، رسول الله، محمد صلى الله عليه وسلم.
    الرافعي والسيرة النبوية:
    إن الرافعي لا يتحدث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عن ظهور الإسلام وفلسفته كما يتحدث أساتذة التاريخ، وكتاب السير، بل يتحدث مازجا بين ظاهرة الوحي والظواهر الكونية الكبرى، واضعا النبي في موضعه الصحيح، فمحمد وجد في الإنسانية ينبوعا للنور المسمى بالدين، كما تطلع الشمس بأنوارها، فتفجر ينبوع الضوء المسمى بالنهار، وليس النهار إلا يقظة الحياة تحقق أعمالها، وليس الدين إلا يقظة النفس تحقق فضائلها، وليس النبي إنسانا من العظماء يقرأ تاريخه بالفكر معه المنطق، ومع المنطق الشك، ثم يدرس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشرية العامة، ولكنه إنسان نجمي يقرأ بمثل "التلسكوب" في الدقة، معه العلم، ومع العلم الإيمان، ثم يدرس بكل ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها.
    والحياة تنشئ علم التاريخ، ولكن هذه الطريقة في درس الأنبياء صلوات الله عليهم تجعل التاريخ هو ينشئ علم الحياة، فإنما النبي إشراق إلهي على الإنسانية، يقومها في فلكها الأخلاقي، ويجذبها إلى الكمال في نظام هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب(6).
    وينتقل الرافعي من الحديث العام عن ظاهرة النبوة، وعملها في الحياة، إلى الحديث عن نبي الإسلام، محمد صلى الله عليه وسلم وهو يرى أن الإنسانية، عندما ظهر رسول الله، كانت تريد امتدادا غير امتدادها التجاري في الأرض، وتحتاج إلى معنى، يقود إنسانها غيرُ الحيوان، الذي فيه، وما كان لإنسانية العالم أن تصل إلى ذلك، إلا إذا عاشت مع نبيها الطبيعي، نبي أخلاقها الصحيحة، وآدابها العالية، ونظامها الدقيق، وأين تجد هذا المحبوب الأعظمَ إلا في محمد، ودين محمد؟!. وعجيب أن يجهل المسلمون حكمة ذكر النبي العظيم خمس مرات في الأذان، كل يوم ينادى باسمه الشريف ملء الجو، ثم حكمة ذكره في كل صلاة من الفريضة والسنة والنافلة، يُهمس باسمه الكريم ملء النفس! وهل الحكمة من ذلك إلا الفرض عليهم ألا ينقطعوا من نبيهم ولا يوما واحداً من التاريخ، ولا جزءا واحدا من اليوم، يمتد الزمن مهما امتد والإسلام كأنه على أوله، وكأنه في يومه لا في دهر بعيد، والمسلم كأنه مع نبيه بين يديه، تبعثه روح الرسالة، ويسطع في نفسه إشراق النبوة، فيكون دائما في أمره كالمسلم الأول الذي غير وجه الأرض(7).
    ويتتبع الرافعي شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم من جوانبها المختلفة مازجا بينها وبين حقيقة الإسلام، ولهذا جمع المسلمون بين كلام الله في كتابه وكلام رسوله، كما يتلقون الحكم النافذ المقضي، وحققوا في كماله صلى الله عليه وسلم وجودهم النفسي، فكانوا من زخارف الحياة وباطلها، في موضوع الحقيقة الذي يُرى فيه الشيء لا شيء، ورأوا في إرادته صلى الله عليه وسلم النقطة الثابتة فيما يتضارب من خيالات النفس، فكانوا أكبر علماء الأخلاق على الأرض، لا من كتب ولا علم ولا فلسفة، بل من قلب نبيهم وحده (8).
    ويقف الرافعي عند موت خديجة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم مع إلماعة إلى الدور الذي قامت به في فترة المحنة المكية، وكيف أنها كانت قلبا مع قلبه، كما كانت لنفسه كقول "نعم" للكلمة الصادقة التي يقول لها كل الناس "لا"، وبموتها خرج النبي من أيام الاستقرار في أرضه إلى الأيام المتحركة في هجرته، مرة يذهب إلى الطائف فيناله منها ما هو معروف، ومرة يلتقي بالأشراف الوافدين وسفهائهم فلا يجد منهم إلا معاني الظلم والشر، أو يلتقي بالأشراف الذين يذهب إليهم في رحالهم، عارضا نفسه عليهم، فلا يجد –غالبا- إلا الصدّ نفسه.
    وهنا يأتي "الإسراء والمعراج"، أو حسب تسمية الرافعي "فوق الآدمية" وهي من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هذا النجم الإنساني العظيم، وهذا النور المتجسد لهداية العالم في حيرة ظلماته النفسية، فالنبي لا يكون نبيا حتى يكون في إنسانه إنسان آخر بنواميس تجعله أقرب إلى الملائكة في روحانيتها، وما ينزل إنسانه الظاهر من الإنسان الباطن فيه إلا منزلة من يتلقى ممن يُعطى، فذاك الباطن هو للحقائق التي لا تحملها الدنيا، وهذا الظاهر لما يمكن أن يبلغ إليه الكمال في المثل الإنساني الأعلى، ولولا ذلك الباطن ما استطاع نبي من الأنبياء أن يحمل هموم أمة كاملة، لا تضنيه، ولا تغيره، ولا تعجزه(9).
    ولاشك أن الرافعي كتب في "الإسراء والمعراج" بدافع من إيمانه، وإن كان التسليم بالمعجزات لا يحتاج إلى العلم، فالمعجزة قدرة ربانية عليا تستعصي على قدرة البشر، ويجب أن تقبل كجزء من الإيمان قبل كل شيء، ولئن كان قد ظهر في عصرنا من يفكر في الصعود إلى القمر، ومن يعمل للمخاطبة مع الأفلاك، فذلك شيء خاضع للوسائل والأسباب، وبينه وبين المعجزة ما بين السماء والأرض، ولاسيما أن المعجزة حصلت في عصر، لا وسائل فيه ولا أسباب، ولهذا صح تعليق أستاذنا الدكتور "مصطفى الشكعة" عندما اختلف مع الرافعي حين حاول ن يقارن بين معجزة الإسراء والمعراج وبين المنهج العلمي، وما وصل إليه البشر حديثا(10).
    وتحت عنوان (الإنسانية العليا) يواصل الرافعي حديثه عن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم فيصفه بأنه كان متواصل الأحزان دائم الفكرة، ليست له راحة، طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم منها شيئا، ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تعدى الحق لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، وكان خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه.
    ولو جمعت كل أوصافه صلى الله عليه وسلم ونظمتها بعضها إلى بعض، واعتبرتها بأسرارها العلمية –لرأيت منها كونا معنويا دقيقا قائما بهذا الإنسان الأعظم(11).
    وهل ينبئك مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم إلا أنه يعيش معيشة القلب إذا اختلف ما حوله، وفجأته بغتات الوجود، فتجاوز أن يكون منبعا للحياة إلى أن يكون حافظا للحياة في منبعها.
    وفي النهاية يرى الرافعي أنه: على هذا النمط يجب تفسير كل أوصافه صلى الله عليه وسلم فهي بمجموعها طابع إلهي على حياته الشريفة، يثبت للدنيا بكل برهانات العلم والفلسفة: أنه الإنسان الأفضل، وأنه الأقدر، وأنه الأقوى(12).
    حسن العرض والاختيار:
    وحول سمو الفقر في المصلح الاجتماعي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم يقول الرافعي: كان النبي صلى الله عليه وسلم على ما يصف التاريخ من الفقر والقلة، ولكنه كان بطبيعته فوق الاستغناء، فهو فقير لا يجوز أن يوصف بالفقر، ولا تناله المعاني النفسية التي تعلو بعرض من الدنيا وتنزل بعرض، فما كانت به خلة تحدث هدما في الحياة فيرممها بالمال.
    إن فقره صلى الله عليه وسلم كان من أنه يتسع في الكون لا في المال، فهو فقر يعد من معجزاته الكبرى التي لم يتنبه إليها أحد إلى الآن، وهو خاص به، ومن أين تدبرته رأيته في حقيقته معجزة تواضعت وغيرت اسمها، معجزة فيها الحقائق النفسية والاجتماعية الكبرى، وقد سبقت زمنها بأربعة عشر قرنا، وهي اليوم تثبت بالبرهان معنى قوله صلى الله عليه وسلم في نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة"(13).
    وهذا المصلح الاجتماعي الأعظم يلقي فقرُه اليوم درساً على الدنيا العلمية الفلسفية، لا من كتاب ولا فكر، ولكن بأخلاقه وعمله وسيرته، إذ ليس المصلح من فكر وكتب، ووعظ وخطب، ولكنه الحي العظيم الذي تلتمسه الفكرة العظيمة لتحيا فيه.
    ويعلق على هذه الكلمات أستاذنا الدكتور الشكعة بقوله: "لكأني بالرافعي يريد أن يغمز بعض المذاهب الاجتماعية المعاصرة، المنبثقة من أفكار مكتوبة، لها بريق يجلب الأنظار، ولكنها عند التطبيق لا تؤتي الثمرة التي أرادت الفكرة أن تتمخض عنها، ذلك أنها أرضية، أما فلسفة محمد وإصلاحه الاجتماعي فمستمدة من السماء"(14).
    وإذا كانت هذه الومضات التي أشرنا إليها كافية في الدلالة على رؤية الرافعي ومنهجيته في معالجة الباب الأول والأهم والأعلى من أبواب التاريخ الإسلامي، وهو السيرة النبوية، -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- فإن هناك جهودا مبثوثة في أثناء (وحي القلم) وغيره تتصل برؤية الرافعي ومنهجيته في معالجة قضايا التاريخ الإسلامي في عصوره المختلفة، "فاليمامتان"(15)* التي صدّر بها كتاب "وحي القلم" تتصل بموقف من مواقف فتح عمرو بن العاص لمصر، اعتمد فيها الرافعي على خبر جاء في تاريخ الواقدي، ولئن كان الخبر الذي أثبته الرافعي عن الواقدي لا يخلو من مأخذ عند بعض المؤرخين، إلا أن الرافعي اعتمد عليه في استنتاج قصة يؤكد فيها وقوف جيش عمرو بن العاص احتراما ليمامتين جثمتا على فسطاط عمرو، فأوقف عمرو الجيش حتى لا يروع اليمامتين، مستنتجا من هذه القصة الرائعة، التي دار فيها الحوار بين أرمانوسة بنت المقوقس عظيم القبط في مصر، ومارية القبطية وصيفتها أروع المعاني الدالة على رحمة الفاتحين المسلمين وسمو إنسانيتهم!!.
    وقد ذكر الأستاذ سعيد العريان أن قسيسا في المغرب أسلم بسبب هذه القصة.
    ومن التاريخ الأموي يلتقط الرافعي ثلاث قصص بالغة الروعة: أولاها عن ذلك المفتي الأسود، الأعور، الأفطس، الأشل، الأعرج، المفلفل الشعر الذي كان ملوك بني أمية لا يأتمنون غيره على الفتوى في مواسم الحج وهو عطاء بن أبي رباح، الذي ولد سنة 72هـ، ومات سنة 115هـ، وهو عند الناس أرضى أهل الدنيا، ومن أزهدهم.
    وأما حديث القصة الثانية فهو الحديث المعروف، الذي يتصل بسعيد بن المسيب، ففيه أهل المدينة الذي رفض أن يزوج ابنته لولي عهد عبد الملك بن مروان، الوليد وتحمل في ذلك غضب بني أمية، وزوجها لتلميذه الفقير أبي وداعة.
    وقد بسط الرافعي القصة بأروع أسلوب في أكثر من عشرين صفحة(16)، وقد ختمها بقوله على لسان سعيد بن المسيب: أف! أف! أتريدون أن أزوج ابنتي من ابن أمير المؤمنين فيخزيها الله على سقوط نفسه، فتكون زوجة جسمه ومطلقة روحه في وقت معا؟ ألا كم من قصر هو في معناه مقبرة، ليس فيه من هؤلاء الأغنياء، رجالهم ونسائهم –إلا جيف، يبلي بعضها بعضا!"(17).
    ومن هذا التاريخ الاجتماعي أيضا قصة زوجة إمام، وتدور حول علاقة الزوجة سيئة الخلق بزوجها الذي حلم عليها، فلا تزداد إلا تماديا!!
    ونحن نلحظ أن هذه القصص تتصل بالحياة الاجتماعية والتربوية التي تكشف عن معدن النفوس الكريمة التي سيطرت عليها قبل الإسلام، فوقفت بقيمها في وجه تقلبات الزمان.
    ومن الدولة الطولونية، التابعة للعصر العباسي يضع الرافعي يده على قصة تتصل بأحمد بن أيمن، كاتب ابن طولون مع مسلم بن عمران، التاجر الأديب ومن هذه القصة يتضح أن المرأة الذميمة تستطيع أن تكون أفضل زوج عندما تصبح ملائكية الأخلاق، ولهذا جاءت القصة تحت عنوان "قبح جميل"(18).
    ومن العصر العباسي المتصل بالدولة الطولونية يرصد الرافعي قصة أبي الحسن بنان الحمال الواسطي، شيخ الديار المصرية المتوفى سنة 216هـ، والذي ذهب في تعنيف أحمد بن طولون، وهو يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لدرجة طاش معها عقل ابن طولون فأمر بإلقائه إلى الأسد ليبتلعه، واجتمع الناس ليروا هذا المشهد الرهيب، لكن الأسد الجائع أقبل على الشيخ يحتك به، يلحظه، ويشمه، كما يصنع الكلب مع صاحبه الذي يأنس به، وكأن الأسد يعلن أن هذه ليست مصاولة، بين الرجل التقي وبينه، ولكنها مبارزة بين إرادة ابن طولون وإرادة الله.
    وبعد أن انصرف الأسد سأل ابن طولون الشيخ "ما الذي كان في قلبك، وفيم كنت تفكر؟ فقال الشيخ(19) لم يكن علي" بأس، وإنما كنت أفكر في لعاب الأسد، أهو طاهر أم نجس؟!!!.
    وأخيرا نشير إلى قصة من العصر المملوكي، تناولها الرافعي بأسلوبه الأدبي الرائع وهي القصة المعروفة، والتي قام فيها سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام المتوفى سنة 660هـ ببيع أمراء المماليك والوقوف ضدهم، وأخذ فائض أموالهم منهم قبل الدخول في موقعة عين جالوت، فكان ذلك من أكبر أسباب النصر، وقد وضع لها الرافعي عنوانا هو: "أمراء للبيع"(20).
    القرآن الكريم سر النهضة الإسلامية:
    وفي تحليله وعرضه للنهضة العلمية الإسلامية في شتى فروعها عبر التاريخ، يعزو الرافعي هذه النهضة إلى القرآن الكريم، مؤكدا أن القرآن الكريم كان سبب العلوم الإسلامية ومرجعها كلها، وأنه ما من علم إلا وقد نظر أهله في القرآن الكريم، وأخذوا منه مادة علمهم، أو مادة الحياة له، معللا ذلك بأن سطوة الناس في الأجيال الأولى –من العامة وأشباه العامة- كانت شديدة على أهل العلوم النظرية، إلا أن يجعلوا بينها وبين القرآن نسبا(21).
    وكما تكلم المفسرون في القرآن، وتكلم الأصوليون، وتكلم البلاغيون، فكذلك تلمحت طائفة ما في القرآن من قصص القرون السالفة والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا وقائعهم، حتى ذكروا بدء الدنيا، وأول الأشياء وسموا ذلك بالتاريخ والقصص(22).
    ويذكر الرافعي أن النهضة العلمية كانت قائمة بأكثر العلوم الإسلامية في عهد بني أمية، حتى امتهد أبو جعفر المنصور، ثم الرشيد من بعده للنهضة العباسية الكبرى، التي نشأت من جمع كلمة أهل الفقه والحديث بعد انشقاقهم زمنا، وافتراق الكلمة بينهم –ومن إقبال الناس على الطلب والاستيعاب، فكان ذلك تهيئة لانشقاق علوم الفلسفة والكلام وما إليها، وظهور أهلها، وانحياز السنة عنها جانبا، ثم اجتماعها على مناظرتها(23).
    وبالنسبة لجهود الرافعي في تاريخه لمسيرة الأدب العربي، فإننا نتفق مع أستاذنا الدكتور محمد رجب البيومي في أن جهود الرافعي في التاريخ للأدب العربي، تعدل جهود محمود سامي البارودي في بعث الشعر المعاصر، حين أنقذ البارودي هذا الشعر من هوة الركاكة والسطحية، وتنسيق المحسنات، وارتفع به إلى مستوى الشعر العباسي، حيث عارض الفحول من السابقين ولم يكد يختلف عنهم في إبداعه الرائع.
    ولئن جاءنا اليوم من يقول لنا: "إن الرافعي في كتابه "تاريخ آداب العرب" قد خرج عن حدود هذا التاريخ إلى بحوث أخرى، ثم يقرنه بباحث أتى بعده بستين عاما فإن ردنا عليه أن هذا هو غبن جائر متعمد مقصود، لأن المسألة بهذا الفارق الزمني، من الوضوح بحيث لا تحتمل اللجاج.
    على أن بعض الذين يضيقون بالكتاب الآن، إنما يضيقون به لأسلوبه البياني، فالرافعي في كتابته جاحظي في أسلوبه، يهتم بالديباجة العربية، اهتماما يرتفع بقارئه، ولا يحاول أن يهبط إلى مستوى الأسلوب الصحافي العام(24).
    وفي رأينا أن هذا لا يحسب على الرافعي، بل يحسب له، فهذا أسلوبه الذي تميز به في كل كتاباته، ما يتصل منها بتاريخ السيرة، أو التاريخ العام، أو تاريخ العلوم، فضلا عن تاريخ الأدب، وكما كان للرافعي أسلوبه، كذلك كان لعباس العقاد أسلوبه، ولأحمد حسن الزيات أسلوبه، ولمصطفى لطفي المنفلوطي أسلوبه، وكلهم حاولوا أن يعيدوا للبيان العربي رونقه وعظمته في وجه العجمة الزاحفة، والأسلوب الصحفي الضعيف.
    وأخيرا ها هو ذا (مصطفى صادق الرافعي) يعتمد ضمن كتابه (تحت راية القرآن) مقالة لأمير البيان شكيب أرسلان مدارها أن (التاريخ لا يكون بالافتراض) (لأنها توافق رأيه في معالجة التاريخ) ... يقول أرسلان فيها:
    "لقد ولع بعض الأدباء باتهام التاريخ الإسلامي الذي لدينا، وسلوك طريقة في التعليل لم يسلكها الأولون، ارتياء لوجوه جديدة وأسباب للحوادث لم تكن معروفة بحيث يقال إنهم كشفوا حقائق تاريخية لم يعرفها غيرهم، أو عرفوا أسرارا أعماها التاريخ الديني أو أعمتها السياسة وأهواؤها على الجمهور، ويسمون ذلك تمحيصا وتحقيقا، ويظنون أن التمحيص والتحقيق هما بمجرد المخالفة والخروج عما عليه الرأي العام، ولكننا نعرف التاريخ بالأدلة العقلية والنقلية، وملاحظة ما سبق وما لحق واستنباط النتائج من المقدمات، ولا نعرفه تخرصات، وافتراضات، وأبنية على غير أساس، فإن كان هذا هو التمحيص التاريخي، الذي يتوخى بعض العصريين أن يقلد به الإفرنج، فلا كان هذا التمحيص الذي هو عبارة عن قلب الحقائق لأجل الإتيان بالبدع، ويجل علماء الإفرنج عن أن يكون تمحيصهم من هذا النمط، وقد خلط منهم من خلط في معرض التمحيص ولكن نبه المدققون منهم على أنهم خلطوا.
    فعندما يقوم واد فيذهب إلى أن تاريخ حرب اليمامة محاط بالغموض، وأن مقاتلة أبي بكر لأهل الردة لم تكن من أجل إقامة الدين، بل من أجل تأسيس الملك، وما أشبه ذلك من التوجيهات التي لم يقم عليها أدنى دليل، نعلم أنه حاول أن ينهج مناهج الممحصين فظن التمحيص مجرد الخروج عن الإجماع ولو كان الإجماع صحيحا، فلم يصب المرمى.
    وفي النهاية يلتقي أرسلان والرافعي في توجيه هذا النداء إلى هؤلاء المتجرمين على التاريخ. قائلين لهم:
    - يا إخواننا: إن التاريخ لا يكون بالظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا. فإن كنتم مع هذا تصرون على المخالفة لأجل المخالفة، فليس هذا مما يزيد الثقة بعلمكم، بل هو مما ينقصها، وبدلا من أن يضع العلم على قواعد اليقين، يضعه على قواعد أوهى من بين العنكبوت(25).
    --------------------------------------------
    *بعض هذه القصص وغيرها نوردها في باب الإبداع للإفادة والإمتاع.
    (1) مصطفى صادق الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، المكتبة التوفيقية، مصر، عام 1997م، ص 126-127.
    (2) د. فتحي عبد القادر فريد، بلاغة القرآن في أدب الرافعي، ص 106، ط. دار المنارة بالقاهرة، 1985.
    (3) انظر موريس بوكاي، الكتب المقدسة في ضوء العلم الحديث، نشر دار المعارف بمصر.
    (4) بلاغة القرآن في أدب الرافعي، مرجع سابق، ص 106-107.
    (5) المرجع السابق، ص 108.
    (6) مصطفى صادق الرافعي، وحي القلم، المكتبة التجارية الكبرى، مصر، الجزء الثاني، ص3.
    (7) وحي القلم، مرجع سابق، الجزء الثاني، ص10.
    (8) الرافعي، وحي القلم، ج2، ص 14-15.
    (9) الرافعي، وحي القلم، ج2، ص 33.
    (10) د. مصطفى الشكعة، مصطفى صادق الرافعي، كاتبا عربيا ومفكرا إسلاميا، ط3، ص 121، الدار المصرية اللبنانية عام 1419هـ، (وانظر الرافعي: وحي القلم 34/2).
    (11) الرافعي، وحي القلم، ج2، ص 39-40.
    (12) المرجع السابق، ج2، ص 42-48.
    (13) المرجع السابق، ج2، ص 48-49.
    (14) مصطفى صادق الرافعي، كاتبا عربيا ومفكرا إسلاميا، ص 119، مرجع سابق.
    (15) الرافعي، وحي القلم، ج1، ص 17-29.
    (16) المرجع السابق، ج1، ص 126-148.
    (17) المرجع السابق، ج2، ص 147-148.
    (18) المرجع السابق، ج1، ص 168-179.
    (19) المرجع السابق، ج3، ص 58.
    (20) المرجع السابق، ج3، ص 58-66.
    (21) الرافعي، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ص 122.
    (22) المرجع السابق، ص 128.
    (23) المرجع السابق، ص 120.
    (24) محمد رجب البيومي، تاريخ الأدب العربي للرافعي، دراسة في مجلة الأدب الإسلامي، العدد 13، رجب 1417هـ.
    (25) مصطفى صادق الرافعي، تحت راية القرآن الكريم، المكتبة التجارية، ص96.
    مصدر المقال : مجلة –الأدب الإسلامي- المجلد الحادي عشر، العددان الثالث والأربعون والرابع والأربعون 1425هـ/2004م
    نقلا عن:

    http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar.asp?id=4948&idRub=174
    ____
    تحية علمية
    محمد بن أحمد باسيدي


  8. #8
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية محمد بن أحمد باسيدي
    تاريخ التسجيل
    26/09/2006
    المشاركات
    1,240
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي التصور الإسلامي للنقد الأدبي عند الرافعي !

    التصور الإسلامي للنقد الأدبي عند الرافعي
    بقلم: د. وليد قصاب
    الرافعي أديب إسلامي من طراز فريد، ولا شك أنه كان معنيا –إلى جانب كتاباته الأدبية والإبداعية- بالتنظير النقدي للأدب الإسلامي، وهو –وإن لم يذكر هذا المصطلح أو يستعمله- كان ينطلق من خلاله ويبدع وينقد من وحيه، فهو –من ثم- أحد رواده، والمنظرين له والداعين إليه.
    وقد وقف الرجل –رحمه الله- جميع ما كتبه إبداعا ونقدا على ترسيخ أقدام "إسلامية" الأدب من ناحية، وعلى الرد على دعاة التغريب والعلمانية والمقلدين العُشْي لآداب الغرب –من غير تمييز ولا استبصار- من ناحية أخرى.
    والرافعي أمة في واحد، والخوض في عالمه الأدبي والنقدي مثل الخوض في بحر متلاطم زخار، وهو يشبه الغوص في أعماق مليئة باللؤلؤ والمرجان، ومهما جهد المبحر في غوصة أو غوصتين فهل يستطيع أن يحمل إلا أقل القليل من هذا البحر الغني؟
    يجتهد هذا المقال أن يتوقف عند وجه واحد من وجوه الرافعي الناقد، فيتحدث عن بعض ملامح الرؤية الإسلامية في نقده الأدبي.
    ولأن هذه الملامح كثيرة وغنية، وقد يصلح استقصاؤها أن يكون موضوع أطروحة علمية جامعية، يتوقف هذا المقال –كما ذكرنا- عند بعض منها يدل بها على غيرها، ويشير بها إلى سواها، وذلك من خلال اختيار ثلاث قضايا نقدية، وبيان رؤية الرافعي الإسلامية لها، وهذه القضايا هي:
    1- وظيفة الأدب
    2- الشكل والمضمون
    3- القديم والجديد

    **** ****
    1- وظيفة الأدب
    لسنا في موطن تفصيل القول في كثير من الدعوات التي أرادت أن تجرد الآداب والفنون من أية وظائف دينية، أو خلقية، أو تربوية، وأن تجعلها فنا للفن، أو أدبا للأدب، لا تتوخى غير الإمتاع والإطراب ونشدان اللذة والجمال من غير غاية ولا هدف، إذ هي غاية في حد ذاتها.
    ولا يمكن لواحد مثل الرافعي أن يتبنى هذا التصور وهو الأديب صاحب الرسالة، الذي يؤمن أن الكلمة مسؤولية، بل هي أمانة يحملها المؤمنون.
    مضى الرافعي –مع إبداعه الأدبي- يؤكد في كتاباته النقدية على أنه لا يكتب إلا من وحي دين هذه الأمة ومثلها وأخلاقها، وهو –في إيمانه برسالة الأدب النبيلة- لا يكتب إلا ما يربي النفس، ويسمو بها إلى الفضائل، ويرفعها عن السفاسف والدنايا.
    إن تعريف الأدب الذي يفهمه الرافعي –مستمدا من أسلوب القرآن الكريم، وأغراضه- ولا يرى تعريفا سواه، هو: "أن الأدب هو السمو بضمير الأمة"(1).
    وكان الرافعي يتجه في إبداعه الأدبي هذه الوجهة، وجهة السمو بضمير الأمة كما ذكر، ولذلك نجده يقول:
    "القبلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة، ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا، ثم إنه يخيّل إليّ دائما أني رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه.."(2).
    إن الأدب لابد أن تكون له رسالة عليا يأرب بتحقيقها، وإن مصداقيته لتتوقف على عظمة هذه الرسالة ونبلها، يقول الرافعي:
    "الغرض الأول للأدب المبين أن يخلق للنفس دنيا المعاني الملائمة لتلك النزعة الثابتة فيها إلى المجهول، وإلى مجاز الحقيقة، وأن يلقي الأسرار في الأمور المكشوفة بما يتخيل فيها، ويرد القليل من الحياة كثيرا وافيا بما يضاعف من معانيه..."(3).
    إن وظيفة الأدب إذن هي الكشف عن أسرار الحياة، وبيان الفلسفة التي تقوم عليها، والحكمة التي وجدت من أجلها، فليس يكون الكلام أدبا: "إلا إذا وضع المعنى في الحياة التي ليس لها معنى، أو كان متصلا بسر هذه الحياة فيكشف عنه، أو يومئ إليه من قريب..."(4).
    الأديب إنسان كوني
    إن الأديب إنسان متصل بأسرار الكون، وجمال الأشياء فيه، وهو يحس بالموجودات إحساسا عارما يميزه عن غيره، وفي ضوء هذا السمو الذي يرقى إليه الأديب، ويحاول أن يرقى بالمتلقي إليه، لا يبدو هذا الأديب إنسانا عاديا، يمارس صنعة الكتابة فحسب، ولكنه –بتسمية الرافعي- "إنسان كوني" إنه ليس مثل الآخرين. يقول الرافعي:
    "لو أردت أن تعرف الأديب من هو، لما وجدت أجمع ولا أدق في معناه من أن تسميه الإنسان الكوني، وغيره هو الإنسان فقط، ومن ذلك ما يبلغ من عمق تأثره بجمال الأشياء ومعانيها، ثم ما يقع من عمق تأثره بجمال الأشياء ومعانيها، ثم ما يقع من اتصال الموجودات به بآلامها وأفراحها، إذ كانت فيه مع خاصية الإنسان خاصية الكون الشامل، فالطبيعة تثبت بجمال فنه البديع أنه منها، وتدل السماء بما في صناعته من الوحي والأسرار أنه كذلك منها، وتبرهن الحياة بفلسفته وآرائه أنه هو أيضا منها، وهذا وذاك وذلك هو الشمول الذي لا حد له، والاتساع الذي كل آخر فيه لشيء، أولٌ فيه لشيء.
    وهو إنسان يدله الجمال على نفسه ليدل غيره عليه، وبذلك زيد على معناه معنى، وأضيف إليه في إحساسه قوة إنشاء الإحساس في غيره، فأساس عمله دائما أن يزيد على كلِّ فكرة صورة لها، ويزيد على كل صورة فكرة فيها، فهو يبدع المعاني للأشكال الجامدة فيوجد الحياة فيها، ويبدع الأشكال للمعاني المجردة فيوجدها هي في الحياة، فكأنه خلق ليتلقى الحقيقة ويعطيها للناس ويزيدهم فيها الشعور بجمالها الفني، وبالأدباء والعلماء تنمو معاني الحياة، كأنما أوجدتهم الحكمة لتنقل بهم الدنيا من حالة إلى حالة، وكأن هذا الكون العظيم يمر في أدمغتهم ليحقق نفسه..."(5).
    فالأديب –الإنسان الكوني- وقاد المشاعر، حارُّ الأحاسيس، وهو –كما رأيت- أبعد رؤية للأشياء، وأعمق بصيرة في تعرفها وإدراك أسرارها، وفي تلمس جمالها وروعتها.
    إن الجمال موجود، ولكن الإحساس به عند الأديب أكبر وأعمق، فأنت "ترى الجمال حيث أبته شيئا واحدا لا يكبر ولا يصغر، ولكن الحس به يكبر في أناس ويصغر في أناس..."(6).
    ولعل الرافعي كان ينظر إلى ما قالته العرب عن الشاعر من أنه سمي بذلك لأنه "يشعر بما لا يشعر به الآخرون".
    والأديب الذي يرى الأشياء، ويرى الجمال أكبر مما يراه غيره، ممكِّن للآخرين من إدراك الأساليب التي تعين على الإحاطة بها، وتبيُّن صفاتها ومعانيها:
    "وإذا كان الأمر في الأدب، على ذلك، فباضطرار أن تتهذب فيه الحياة وتتأدب، وأن يكون تسلطه على بواعث النفس دُرْبة لإصلاحها وإقامتها، لا لإفسادها والانحراف بها إلى الزيغ والضلالة، وباضطرار أن يكون الأديب مكلفا تصحيح النفس الإنسانية، ونفي التزوير عنها، وإخلاصها مما يلتبس بها على تتابع الضرورات، ثم تصحيح الفكرة الإنسانية في الوجود، ونفي الوثنية عن هذه الفكرة، والسمو بها إلى فوق، ثم إلى فوق، ودائما إلى فوق!.."(7).
    وهذا الأديب –إذا كان عبقريا ملهما- يجيء في أدبه "من حقائق الفكر وبيانه، وأسرار الطبائع وأوصافها، بما يغطي على فلسفة الفلاسفة وعلم العلماء..."(8).
    الأدب والدين:
    من إدراك هذه الوظيفة السامية للأدب، وبصيرة الأديب وحكمته، يبدو الأدب –من أحد وجوهه- ملتقيا مع الدين في السمو بالنفس البشرية، والارتقاء بها إلى معارج الخير والفضيلة.
    يقول الرافعي: "الأدب –من هذه الناحية- يشبه الدين، كلاهما يعين الإنسانية على الاستمرار في عملها، وكلاهما قريب من قريب..."(9).
    ومن ثم "إن لم يكن للأديب مثل أعلى يجهد في تحقيقه، ويعمل في سبيله، فهو أديب حالة من الحالات، لا أديب عصر، ولا أديب جيل. وبذلك وحده كان أهل المثل الأعلى في كل عصر هم الأرقام الإنسانية التي يلقيها العصر في آخر أيامه ليحسب ربحه وخسارته..."(10).
    اللذة والمتعة في الأدب
    لاشك أن الأدب فن ممتع لذيذ، يبعث النشوة في النفس، ويثير فيها الطرب والسرور، ويملؤها بالبهجة والحبور، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أنه نشاط غير جاد، أو أنه لا وظيفة له ولا هدف.
    إن اللذة التي يتحدث عنها في الأدب لا تعني اللهو أو العبث، لا تعني إضاعة الوقت به، أو التلهي بالباطل والإثم، بل إن للذة الأدبية عند الرافعي مفهوما غير هذا.
    يقول الرافعي: "اللذة بالأدب غير التلهي به واتخاذه للعبث والبطالة، فيجيء موضوعا على ذلك، فيخرج إلى أن يكون ملهاة وسخفا ومضيعة، فإن اللذة آتية من جمال أسلوبه، وبلاغة معانيه، وتناوله الكون والحياة بالأساليب الشعرية التي في النفس.."(11).
    اللذة بالأدب إذن من طبيعته، وهي لا تجرده من الوظيفة السامية، ولا تذهب بما فيه من نفع وفائدة، لأنها ليست لذة العبث والباطل، بل لذة الأسلوب الباهر الجميل، والأفكار العظيمة، لذة حسن العرض وسمو المعروض، وهذا الأدب عندئذ كالسوار الرائع النفيس، ولكنه –في الوقت نفسه- السوار المصنوع من الذهب الإبريز.
    هذا الأدب عندئذ خير كله: "ثم هو بعد هذه اللذة منفعة كله كسائر ما ركب في طبيعة الحي، إذ يحس الذوق لذة الطعام مثلا على أن يكون من فعلها الطبيعي استمراء التغذية لبناء الجسم وحفظ القوة وزيادتها، أما التلهي فيجيء من سخف الأدب، وفراغ معانيه، ومؤاتاته الشهوات الخسيسة، والتماسه الجوانب الضيقة من الحياة، وذلك حين لا يكون أدب الشعب ولا الإنسانية بل أدب فئة بعينها..."(12).
    2- الشكل والمضمون
    لا ينهض الأدب العظيم باللفظ وحده كما ذهب إلى ذلك أصحاب اللفظ، ولا ينهض بالمعاني الشريفة، والقيم النبيلة فحسب، كما ذهب إلى ذلك أصحاب المعنى، ولكنه ينهض بالأسلوب الرفيع، والمضمون الرفيع، وكأن الرافعي وهو يتبنى ذلك ينظر إلى قول ابن قتيبة وطائفة من نقادنا القدامى في أن أجود الشعر ضرب حسن لفظه وجاد معناه (13).
    إن الأدب ليس تعبيرا عاديا عن المعاني والأفكار السامية، ولكنه تعبير جمالي متميز.
    ولا يفتأ الرافعي يلح على أهمية الأدوات التعبيرية، وجودة الصياغة. وهو يفهم البلاغة على نحو ما فهمها الجاحظ من قبل عندما بيّن أنها ليست مجرد الإفهام، بل الإفهام بالأسلوب الجميل، والتعبير الفني المعْجِب(14).
    وعلى هذه الشاكلة يقول الرافعي في بيان أهمية الأسلوب في الأدب:
    "إن الإفهام ونقل الخاطر والإحساس ليست هي البلاغة وإن كانت منها، وإلا فكتابة الصحف كلها آيات بينات في الأدب، إذ هي من هذه الناحية لا يقدح فيها ولا يغض منها، وما قصرت قط في نقل خاطر ولا استغلقت دون إفهام..."(15).
    والأسلوب الأدبي فن في حد ذاته، وهو ذو خصائص وجماليات لا يؤتاها إلا البلغاء والفصحاء، خصائص تقوم على التخييل والتصوير وأساليب البلاغة المختلفة، وهذه جميعها من طبيعته الفنية، ولا يسمى أدبا بغيرها، فهي ليست مجرد زخارف شكلية تزيد المعنى جمالا، وتضيف إليه، وتهيء النفس لاستقباله. يقول الرافعي:
    "وما المجازات والاستعارات والكنايات ونحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية، إذ هي بطبيعتها تريد دائما ما هو أعظم، وما هو أجمل، وما هو أدق، وربما ظهر ذلك لغير هذه النفس تكلفا وتعسفا ووضعا للأشياء في غير مواضعها، ويخرج من هذا أنه عمل فارغ وإساءة في التأدية وتمحل لا عبرة به، ولكن فنية النفس الشاعرة تأبى إلا زيادة معانيها، فتصنع ألفاظها صناعة توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف إحساسها، فمن ثم لا تكون الزيادة في صور الكلام وتقليب ألفاظه وإدارة معانيه إلا تهيئة لهذه الزيادة في شعور النفس، ومن ذلك يأتي الشعر دائما زائدا بالصناعة البيانية، لتخرجه هذه الصناعة من أن يكون طبيعيا في الطبيعة إلى أن يكون روحانيا في الإنسانية، والشعور المهتاج المتفزز غير الساكن المتبلد، والبيان في صناعة اللغة يقابل هذا النحو، فتجد من التعبير ما هو حي متحرك، وما هو جامد مستلق كالنائم أو كالميت.."(16).
    وهكذا يبدو الأسلوب أساس الفن الأدبي، وإن اللذة به هي علامة الحياة فيه (17).
    ولكن الأدب العظيم يتشكل –كما ذكرنا- من شكل ومضمون راقيين، والأديب البليغ التام "هو صاحب الفكر والأسلوب والذهن الملهم، وإنك تقف على المعنى من معانيه يملأ نفسك، ويتمدد فيها، ويهتز بها طربا وإعجابا.."(18).
    ومقياس الكلام الفني العظيم هو تأثيره في النفس، وقدرته على الانسراب في أعماقها حتى تهتز له وتطرب.
    يقول الرافعي:
    "والفن إنما هو التأثير، والاحتيال على رجة النفس له واهتزازها بألفاظ الشعر ووزنه وإدارة معانيه وطريقة تأديتها إلى النفس، وتأليف مادة الشعور من كل ذلك تأليفا متلائما مستويا في نسجه لا يقع فيه تفاوت ولا اختلال، ولا يحمل عليه تعسف ولا استكراه، فيأتي الشعر من دقته وتركيبه الحي، ونسقه الطبيعي كأنما يقرع به على القلب الإنساني ليفتح لمعانيه إلى الروح..." (19).
    الناقد يعنى بجميع العناصر
    وما دام الأدب العظيم يُصنع من الأسلوب الفني الجميل، والمعاني الرفيعة، والعواطف النبيلة، وسواها، فإن الناقد لهذا الأدب لابد أن يكون معنيا كذلك بعناصره جميعها، وهو عند نقده نصا لا بد أن يتوقف عنده: شكلا ومضمونا وعاطفة، أسلوبا ورؤية وشعورا، لا يقف عند جانب واحد ويهمل الجوانب الأخرى كما يفعل بعض النقاد، لأن العمل الأدبي كله متكامل.
    يقول الرافعي: "إذا كان من نقد الشعر علم فهو علم تشريح الأفكار، وإذا كان منه فن فهو فن درس العاطفة، وإذا كان منه صناعة فهي صناعة إظهار الجمال البياني في اللغة ..."(20).
    ولا ينتهي الناقد إلى درس متكامل للعمل الأدبي، والوقوف على موهبة الأديب، ومعرفة مدى عبقريته وإبداعه إلا كما يقول الرافعي: "بالبحث في الأغراض أي "المواضيع" التي نظم فيها الشاعر وما يصله بها من أمور عيشه وأحوال زمنه وكيف تناولها من ناحيته ومن ناحيتها، وماذا أبدع، ثم في أي المنازل يقع شعره من شعر غيره في تاريخ لغته وآدابها، ثم نظرته الفلسفية إلى الحياة ومسائلها واتساعه لأفراحها وآلامها وقوة أمواجه الروحية في هذا البحر الإنساني الرجاف المتضرب الذي يبلغ في نفوس بعض الشعراء أن يكون كالأقيانوس، وفي بعضها أن يكون كالمستنقع ... ثم دقة فهمه عن وحي الطبيعة والإشراف على جلية معناها بالهمسة واللمسة"(21).
    القرآن نبع الأدب العظيم:
    والرافعي الذي تشرب حب القرآن الكريم منذ نعومة أظفاره، وتشبع به عقيدة وفكرا وأسلوبا تشبعا ملك أقطار نفسه، لا يرى في هذا الكتاب الجليل كتاب دين وتشريع فحسب، ولكنه يرى فيه الوجه الآخر الذي غفل عنه بعض الكتاب والأدباء، وهو جانبه الأدبي البلاغي الرفيع، بل إن الرافعي يرى أن القرآن الكريم هو الذي وضع الأصل الأصيل لكل أدب عظيم، إذ هو نبع غني، ومصدر ثري، يغترف منه الأدباء ما لا ينضب من الأساليب والأفكار، من الصور التعبيرية، والقيم العالية والمشاعر الخيرة.
    ومع ذلك فإن مما يؤسف له أن قليلا أو كثيرا من الأدباء لم يصدروا عن هذا الكنز النفيس الصدور العميق المطلوب.
    ومن يرجعْ إلى هذا الكنز العظيم يقعْ على دلالات كثيرة تتعلق بوظيفة الأدب، وشخصية الأديب، وأساليب القول، وطرائق البيان، وضوابط الفكر الذي ينبغي أن ينهض عليه الأدب الرفيع.
    يقول الرافعي: "فإذا أردت الأدب الذي يقرر الأسلوب شرطا فيه، ويأتي بقوة اللغة صورة لقوة الطباع، وبعظمة الأداء صورة لعظمة الأخلاق، وبرقة البيان صورة لرقة النفس، وبدقته المتناهية في العمق صورة لدقة النظرة إلى الحياة، ويريك أن الكلام أمة من الألفاظ عاملة في حياة أمة من الناس، ضابطة لها المقاييس التاريخية، محكمة لها الأوضاع الإنسانية، مشترطة فيها المثل الأعلى، حاملة لها النور الإلهي على الأرض...
    ... وإذا أردت الأدب الذي ينشئ الأمة إنشاء ساميا، ويدفعها إلى المعالي دفعا، ويردها عن سفاسف الحياة، ويوجهها بدقة الإبرة المغناطيسية إلى الآفاق الواسعة، ويسددها في أغراضها التاريخية العالية تسديد القنبلة خرجت من مدفعها الضخم المحرر المحكم، ويملأ سرائرها يقينا، ونفوسها حزما، وأبصارها نظرا، وعقولها حكمة، وينفذ بها من مظاهر الكون إلى أسرار الألوهية...
    ... إذا أردت الأدب على كل هذه الوجوه من الاعتبار – وجدت القرآن الكريم قد وضع الأصل الحي في ذلك كله، وأعجب ما فيه أنه جعل هذا الأصل مقدسا، وفرض هذا التقديس عقيدة، واعتبر هذه العقيدة ثابتة لا تتغير، ومع ذلك كله لم ينتبه له الأدباء ولم يحذوا بالأدب حذوه، وحسبوه دينا فقط، وذهبوا بأدبهم إلى العبث والمجون والنفاق...
    والقرآن بأسلوبه ومعانيه وأغراضه لا يستخرج منه للأدب إلا تعريف واحد هو هذا: إن الأدب هو السمو بضمير الأمة..."(22).
    3- القديم والجديد
    من القضايا النقدية التي شهدت خصومات عنيفة في أيام الرافعي "قضية القديم والجديد" هذه القضية الأزلية التي يعرفها كل عصر، حيث ينشب الصراع بين أنصار جديد يأتي به عصرهم، وأنصار قديم موروث يرون في الجديد خروجا على العرف، وانتهاكا للمألوف، وإفسادا لبعض القيم والمواضعات السائدة، وقد تشتد الخصومة بين الفريقين وتعنف عنفا شديدا، وقد تخرج عن جادة الموضوعية، فيأخذ كل فريق يكيل للآخر اتهامات يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف..
    عصر الرافعي إذن –ككل عصر- شهد خصومات فكرية عنيفة بين من دُعُوا بأنصار الجديد، ومن دُعوا بأنصار القديم، وصُنف الرافعي في الفريق الثاني، المدافعين عن الأصالة والتراث، الواقفين كالطود في وجه المجددين أو مدعي التجديد في عصره.
    ولكن هل كان الرافعي حقا من الرافضين للتحديث؟ بل أي تحديث هذا الذي تصدى له، ووقف بيانه السامي الرفيع على فضحه وبيان الزيف فيه؟..
    من ينظرْ فيما كتبه الرافعي –رحمه الله- يرَ بوضوح أن الرجل لم يكن ضد التجديد، ولا كان عدوا –كما صوره خصومه- للابتداع والتحديث، بل هو يعد التوليد سرا من أسرار النبوغ في الأدب وفي غيره. يقول: "سر النبوغ في الأدب وفي غيره هو التوليد، وسر التوليد في نضج الذهن المهيأ بأدواته العصبية، المتجه إلى المجهول ومعانيه كما تتجه كل آلات المرصد الفلكس إلى السماء وأجرامها.."(23).
    ولكن التجديد لا يعني عند الرافعي الحرية المطلقة، والانفلات التام من الأنظمة والضوابط، حتى يصل إلى الهدم والاعتداء على الأصول والقواعد.
    والرجل –في تفريقه بين ما هو تجديد وما هو تبديد، بين ما هو حرية وما هو هدم واعتداء- يعتمد على أصل شرعي يفهمه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، المشهور: "إن قوما ركبوا في سفينة، فاقتسموا، فصار لكل رجل منهم موضع، فنقر رجل منهم موضعه بفأس، فقالوا له: ما تصنع؟ قال: هو مكاني أصنع فيه ما شئت، فلو أخذوا على يده نجا ونجوا، وإن تركوه هلك وهلكوا".
    فقوم من الذين يدعون التجديد –وتحت هذه الدعوى يهدمون الدين والأخلاق واللغة- يشبهون هذا الذي ينقر موضعه في السفينة، فهو مفسد لا مصلح، مبدّد لا مجدد، معرض نفسه والآخرين معه للهلاك.
    بقول الرافعي: "كان لهذا الحديث في نفسي كلام طويل عن هؤلاء الذين يخوضون معنا البحر، ويسمون أنفسهم بالمجددين، وينتحلون ضروبا من الأوصاف: كحرية الفكر، والغيرة، والإصلاح، ولا يزال أحدهم ينقر موضعه من سفينة ديننا وأخلاقنا وآدابنا بفأسه، أي بقلمه، زاعما أنه موضعه من الحياة الاجتماعية يصنع فيه ما يشاء، ويتولاه كيف أراد .. فلا حرية هنا في عمل يفسد خشب السفينة، أو يمسه من قرب أو بعد، ما دامت ملجّجة في بحرها، سائرة إلى غايتها، إذ كلمة (الخرق) لا تحمل في السفينة معناها الأرضي، وهناك لفظة (أصغر خرق) ليس لها إلا معنى واحد وهو (أوسع قبر)..."(24).
    وإن الانفتاح على المدنية الغربية، والاقتباس منها، لمما هو مطلوب ولكنه ينبغي أن يقوم على "الاختيار" لا على "التقليد"، أن يقوم على "اقتباس التحقيق" لا "اقتباس القليد"، وشتان بينهما.
    الجديد المطلوب، والطريف المنشود، ما كان متفقا مع دين الأمة وقيمها ومثلها، ما كان فيه الخير، وليس لمجرد تقليد الآخرين ومحاكاة ما عندهم، فليس كل ما في هذه المدنية الغربية يؤخذ، ولا كله يترك. يقول الرافعي مبينا ضوابط الأخذ والترك.
    "وإني أرى أنه لا ينبغي لأهل الأقطار العربية أن يقتبسوا من عناصر المدنية الغربية اقتباس التقليد، بل اقتباس التحقيق، بعد أن يعطوا كل شيء حقه من التمحيص، ويقلبوه على حالتيه الشرقية والغربية، فإن التقليد لا يكون طبيعة إلا في الطبقات المنحطة، وصناعة التقليد وصناعة المسخ فرعان من أصل واحد، وما قلد المقلد بلا بحث ولا روية إلا أتى على شيء في نفسه من ملكة الابتكار وذهب ببعض خاصيته العقلية، على أننا لا نريد من ذلك ألا نأخذ من القوم شيئا، فإن الفرق بعيد بين الأخذ في المخترعات والعلوم، وبين الأخذ من زخرف المدنية وأهواء النفس وفنون الخيال ورونق الخبيث والطيب، إذ الفكر الإنساني إنما ينتج الإنسانية كلها، فليس هو ملكا لأمة دون أخرى، وما العقل القوي إلا جزء من قوة الطبيعة.
    فإن نحن أخذنا من النظامات السياسية فنأخذ ما يتفق مع الأصل الراسخ في آدابنا من الشورى والحرية الاجتماعية عند الحد الذي لا يجوز على أخلاق الأمة ولا يفسد مزاجها ولا يضعف قوتها.
    وإذا نقلنا من الأدب والشعر فنلدع خرافات القوم وسخافاتهم الروائية إلى لب الفكر وروائع الخيال وصميم الحكمة، ولنتتبع طريقتهم في الاستقصاء والتحقيق، وأسلوبهم في النقد والجدل، وتأتيهم إلى النفس الإنسانية بتلك الأساليب البيانية الجميلة التي هي الحكمة بعينها.
    وأما في العادات الاجتماعية فلنذكر أن الشرق شرق والغرب غرب، وما أرى هذه الكلمة تصدق إلا في هذا المعنى وحده، والقوم في نصف الأرض ونحن في نصفها الآخر، ولهم مزاج وإقليم وطبيعة وميراث من كل ذلك، ولنا ما يتفق ولا يختلف، وإن أول الأدلة على استقلالنا أن نتسلخ من عادات القوم، فإن هذا يؤدي بلا ريب إلى إبطال صفة التقليد فينا، ويحملا على أن نتخذ لأنفسنا ما يلائم طبائعنا، وينمي أذواقنا الخاصة بنا، ويطلق لنا الحرية في الاستقلال الشخصي..."(25).
    التجديد ينهض على التراث
    لا تقوم للأدب الأصيل قائمة، ولا يكون للتجديد قيمة إلا إذا استند إلى تراث عريق يقوم عليه، وجذور ضاربة في أعماق الأرض يسمق من خلالها، إذ "ليس يكون الأدب أدبا إلا إذا ذهب يستحدث ويخترع على ما يصرفه النوابغ من أهله، حتى يؤرخ بهم، فيقال: أدب فلان، وطريقة فلان، ومذهب فلان، إذ لا يجري الأمر فيما علا وتوسط ونزل إلا على إبداع غير تقليد، وتقليد غير اتباع، واتباع غير تسليم..."(26).
    وإن التجديد في الشعر العربي ينطلق أولا من فهم طبيعة هذا الشعر ومزاجه الخاص "وخصائص فيه لابد من مراعاتها، والنزول على حكمها، وتلقيها بما يوافقها..."(27).
    ولكن قوما ممن يدعون التجديد في الشعر العربي لا يزيد تجديدهم على تقليد الشعر الأوربي متجاهلين تراثهم الشعري، ومزاج هذا الشعر وخصائصه البيانية خارجين إلى مزاج غريب وأسلوب هجين، حتى: "تراهم يخلون بقوانين صناعته البيانية، وينزلون ألفاظه دون منازلها، ويرسلون معانيه على غير طريقتها الشعرية، ويبتلونه بفضول كثيرة هي كالآفات والأمراض، فيأتون بنظم تقرؤه إذا قرأته وأنت تتلوى كأنما يقرع على قلبك بقبضة يد أو يدق عليه بحجر .. وقد فشا هذا النوع من الشعر في هذه الأيام وأصبح لما فسد من ذوق الأدب، وما التاث من أمر اللغة، وما اعوجَّ من طرق الفلسفة، وما عمت به البلوى من التقليد الأوروبي، وكثيرا ما رأيت القصيدة من هذا الشعر كامرأة سلخ وجهها ووضعت لها جلدة وجه ميت.."(28).
    وهكذا بدأ يصيب الشعر العربي على أيدي هؤلاء المقلدين في تجديدهم للشعر الأوربي كثير من الفساد في أساليبه ومعانيه، وهو فساد يشبه ذاك الذي أصابه في القديم على أيدي أصحاب الصنعة الزائفة، غير أن "القديم كان فسادا في الألفاظ بجعلها كلها أو أكثرها محالا في الصنعة، والحديث جاء فسادا في المعاني بجعلها كلّها أو أكثرها محالا في البيان.."(29).
    تجديد أم فساد؟
    والأمر في جملته –كما يراه الرافعي- ليس في حقيقته أمر تجديد وتقليد، ولا أمر ابتداع واتباع، فالتجديد –كما ذكر- مطلوب، وهو من صلب الفن، وهو سر النبوغ والعبقرية، ولكن طائفة من مدّعي التجديد عنى التجديد عندهم الخروج على الدين والأخلاق، والدعوة إلى الفساد والانحلال.
    يقول الرافعي: "الذي بيننا وبينهم ليس الجديدَ والقديمَ، ولا التأخرَ والتقدمَ، ولا الجمودَ والتحولَ، ولكن أخلاقنا وتجردهم منها، وديننا وإلحادهم فيه، وكمالنا ونقصهم، وتوثقنا وانحلالهم، واعتصامنا بما يمكننا وتراخيهم تراخي الحبل لا يجد ما يشده ..."(30).
    بل إن فريقا آخر من هؤلاء المجددين الذين يحسبون أنفسهم من جبابرة العقول، ليبلغ إفسادهم –بدعوى التجديد وحرية الكلمة- مبلغا لا يكاد يتصور، يعبر عنه الرافعي بقوله:
    "لقد قلنا من قبل إن جبابرة العقول هؤلاء الذين يأبون إلا أن يكونوا علماءنا وسادتنا وليصرفوا عقولنا ويغيروا عقائدنا ويصلحوا آدابنا ويدخلونا في مساخط الله ويهجموا بنا على محارمه ويركبونا معاصيه – إن هم في أنفسهم إلا عامة وجهلة وحمقى إذا وزنوا بعلماء الأمم وقيسوا إلى حكماء الدنيا، وما يكتبون للأمة في نصيحتها وتعليمها إلا ما يتحول من كلمات وجمل في الصحف والكتب إلى أن يصيروا في الواقع فساقا وفجرة وملحدين وساخرين ومفسدين، فالمصيبة بهم من ناحية الخلق الفاسد، وهاتان معا في وزن المصيبة الكبرى التي يجنون بها على الأمة لتهديمها فيما يعملون، وتجديدها فيما يزعمون..."(31).
    ويسخر الرافعي مما ساد عصره –بدعوى التجديد والانفتاح- من فوضى النشر، واستهلاك الكتابة، حتى أصبح كل من يكتب ينشر له، وكل من ينشر له بعد نفسه أديبا، وكل من عد نفسه أديبا جاز له أن يكون صاحب مذهب، وأن يقول في مذهبه، ويرد على مذهب غيره .. حتى شاعت كلمات ضخمة تدور في الصحف بين الأدباء .. منها قولهم: أدب الشيوخ وأدب الشباب، ودكتاتورية الأدب وديمقراطية الأدب، وأدب الألفاظ، وأدب الحياة، والجمود والتحول، والقديم والجديد، ثم ماذا وراء ذلك من أصحاب هذه المذاهب؟ وراء ذلك أن منهم أبا حنيفة ولكن بغير فقه، والشافعي ولكن بغير اجتهاد، ومالكا ولكن بغير رواية..."(32).
    لقد كان الرافعي –رحمه الله- حريصا على تجديد أصيل، يصون للأدب العربي شخصيته، ويحفظ عليه خصائصه في البيان والفكر، لا تجديدٍ يزهق روحه، ويغيب أصالته وملامح وجهه، تجديدٍ لا يعتدي على عقيدة الأمة وأخلاقها، ولغتها، بل ينطلق منها ليحلق بعد ذلك في سماء الإبداع والتجديد ما شاء أن يحلق، بل هو لن يحلق أصلا بغير ذلك، لأن المقلد لا يحلق، لأنه تابع غير متبوع، ولاحق غير ملحوق، والتقليد "لا يكون إلا في الطبقات المنحطة، وصناعة التقليد وصناعة المسخ فرعان من أصل واحد"(33).
    رحم الله الرافعي رائدا عظيما من رواد الأدب الإسلامي في الإبداع والتنظير النقدي، وفي الدفاع الحار عن أصالة الكلمة ونبل الفكر، وشرف التعبير.
    ----------------------------
    (1) وحي القلم 3/210، طبعة المكتبة العصرية، لبنان، 1424هـ / 2003م.
    (2) السابق: 3/243.
    (3) السابق: 3/203.
    (4) السابق نفسه.
    (5) السابق: 3/205.
    (6) السابق: 3/206.
    (7) السابق نفسه.
    (8) السابق: 3/216.
    (9) السابق: 3/207.
    (10) السابق نفسه.
    (11) السابق: 3/209.
    (12) السابق نفسه.
    (13) انظر الشعر والشعراء: 1/65.
    (14) انظر البيان والتبيين: 2/113.
    (15) وحي القلم: 3/173.
    (16) السابق: 3/175.
    (17) السابق: 2/209.
    (18) السابق: 3/215.
    (19) السابق: 3/228.
    (20) السابق: 3/233.
    (21) السابق: 3/232.
    (22) السابق: 3/210.
    (23) السابق: 3/220.
    (24) السابق: 2/7.
    (25) السابق: 3/167.
    (26) السابق: 3/197.
    (27) السابق: 9/229.
    (28) السابق نفسه.
    (29) السابق نفسه.
    (30) السابق: 3/237.
    (31) السابق: 3/236.
    (32) السابق: 3/197.
    (33) السابق: 3/167.
    نقلا عن:

    http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar.asp?id=4947&idRub=174
    ــــ
    تحية أدبية
    محمد بن أحمد باسيدي


  9. #9
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية محمد بن أحمد باسيدي
    تاريخ التسجيل
    26/09/2006
    المشاركات
    1,240
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي موقف الرافعي من دعاة العامية واللغات الأجنبية

    موقف الرافعي من دعاة العامية واللغات الأجنبية
    بقلم: د. عبد المنعم يونس
    في بدايات القرن العشرين حاول الاستعمار جر العرب إلى إقليمية بغيضة وذلك لتفتيت أوطان العرب، وتمزيق وحدتهم، وإبعادهم عن أصالتهم، وتراثهم فنجح في وضع تلك الحدود التي جعلت الوطن العربي دويلات صغيرة تتناحر فيما بينها، كل دويلة تحاول السطو على جارتها، لتقطع منها أجزاء تضمها إلى دويلتها، حدث ذلك في كثير من أجزاء الوطن العربي، وهي مشكلة قائمة حتى الآن.
    وإمعانا من الاستعمار في إنهاء كل رابطة تربط هؤلاء العرب حاول نشر لغته في البلاد الواقعة تحت سيطرته، وسلطانه، ففرنسا تحاول فرض لغتها على المغرب العربي، وتحاول السيطرة على كل تراث الأمة العربية لتجعل هذه الدول خاضعة لها، بل إنه أعلن في يوم من الأيام أن الجزائر قطعة من فرنسا، وكذلك صنعت إيطاليا في ليبيا، أما إنجلترا فإنها حاولت فرض اللغة الإنجليزية على مصر والعراق، ولكن حال الأزهر الشريف دون تمكينها من رغبتها.
    ولما لم يستطيعوا ذلك أشاعوا بين العرب في مصر مقولة تقول: إن العرب لا يستطيعون النهوض، والسير في ركب الحضارة إلا إذا تخلوا عن اللغة العربية، ولجؤوا إلى لغات إقليمية محلية كما حدث للغة اللاتينية، ولم يعلموا أن اللغة العربية ليست لغة حديث فقط، وإنما لغة القرآن الكريم، لغة التراث العربي الذي يشكل كيان الأمة العربية ووجدانها، إنها اللغة التي حملت القرآن الكريم، وانتشر بها وانتشرت به في شتى ربوع العالم.
    ثم حدث أمر جد خطير، فقد ألف أحد قضاة محكمة الاستئناف في مصر من الإنجليز، وهو القاضي ولمور، كتابا أسماه لغة القاهرة، ووضع لها فيه قواعد، واقترح اتخاذها لغة للعمل والأدب، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية(1).
    وجدت هذه المحاولات مقاومة ضارية، ووقف الكتاب الغيورون على لغتهم، والشعراء المؤمنون بتراثهم يفندون تلك الأفكار الخبيثة، التي حملتها فكرة اللغات الإقليمية، فكان أن أفرزت المعركة كثيرا من الكتب والقصائد منها قصيدة حافظ إبراهيم "اللغة العربية تنعي نفسها بين أبنائها" والتي يقول فيها(2):
    رجعت لنــفسي فاتهمت حصاتي *** وناديت قومي فاحتسبت حياتي
    رموني بعقم في الشبــاب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتـي
    ولدت ولمــا لم أجد لعــرائسي *** رجالا، وأكفاء وأدت بنــاتي
    وسعت كتــاب الله لفـظا وغاية *** وما ضقت عن آي به وعظات
    فكيف أضيق اليوم عن وصـف آلة *** وتنسيق أسماء لمخترعــات
    أيطربكم من جانب الغرب نـاعب *** ينادي بوأدي في ربيع حياتي؟!

    وإذا كان حافظ إبراهيم قد لمس في قصيدته كثيرا من القضايا التي كانت شائعة في عصره من محاولات الاستعمار فرض لغته، ومن ضعف لغة الصحافة، ومن تلك النداءات التي تصدر من بعض الكتاب الذين يحاولون فرض اللغة العامية على الكتابة المصرية فإن العداء للفصحى لم ينشأ من المستعمر فحسب، وإنما نشأ أيضا من تلك الأبواق التي آمنت برأيه، واستأجرها لترويج فكره، حتى يأتي هذا الرأي من داخل العرب أنفسهم، فقد كتب أحد الكتاب في مجلة الهلال مقالا يدافع فيه عن اللهجات السوقية – يقول: "إنه يشتغل بضبط أحوالها، وتقييد شواردها، لاستخدامها في كتابة العلوم، وهو يؤكد في مقاله أن اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو من أهم أسباب تخلفنا الثقافي، وزعم أنه من الممكن اتخاذ أي لهجة عامية للكتابة كالمصرية أو الشامية، وأنها ستكون أسهل على سائر المتكلمين بالعربية على اختلاف لهجاتهم من العربية الفصيحة، وزعم أيضا أن تعلق المسلمين باللغة الفصيحة لا مبرر له، لأن هناك كثيرين –يعني من المسلمين- لا يتحدثون بالعربية، ولا يكتبون بها، ولأن اللغة التي يتكلمها المسلمون هي غير العربية الفصيحة على كل حال .." وقال: "إن كل ما يطالب به وضع قواعد هذه اللغة التي يتكلمون بها فعلا وواقعا"، وختم مقاله بقوله: "وما أحرى أهل بلادنا أن ينشطوا من عقالهم طالبين التحرر من رق لغة صعبة المراس قد استنزفت أوقاتهم، وقوى عقولهم الثمينة، وهي مع ذلك لا تواليهم نفعا بل أصبحت ثقلا يؤخرهم عن الجري في مضمار التمدن وحاجزا يصدهم عن النجاح، ولي أمل أن أرى الجرائد العربية قد غيرت لغتها، وبالأخص جريدة الهلال الغراء التي هي في مقدمتها، وهذا أعده أعظم خطوة نحو النجاح، وهو غاية أملي، ومنتهى رجائي"(2).
    وإذا كانت هذه المحاولات السافرة لم تؤت أكلها، لأن ثمرها دنيء، وأفكارها خبيثة مكشوفة قد تنبه لها العامة والخاصة، وكتب الغيورون على اللغة والتراث والمقدسات كتابات فاهمة واعية فندوا فيها أباطيل المبطلين، وأراجيف المرجفين، وبينوا للقارئ العربي ما تحمله هذه الأفكار من دسائس حاول المستعمر دسها في أذهان الكتاب، حتى يستطيع تحقيق غرضه والقضاء على تراث الأمة العربية والإسلامية.
    كان من أهم هؤلاء الكتاب الذين تصدوا لهذه الحملة، ووقفوا كل جهدهم لتفنيد ادعاءاتها، وأعلنوا للناس جميعا في مختلف البلاد العربية والإسلامية أن تلك الخدعة لا ينبغي أن تنطلي عليهم لأن الاستعمار وأذنابه يحاولون هدم اللغة العربية، وتقويض أركانها، وإحداث هوة سحيقة بين الأمة العربية والقرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين "هو الكاتب الإسلامي العظيم مصطفى صادق الرافعي" الذي لم يأل جهدا في بيان ما تنطوي عليه هذه الدعوة ولم يقتصر جهده في ذلك على النثر، بل قال في ذلك شعرا ضمنه(4) ديوانه سنعرض له عند حديثنا عن أوجه الدفاع عن اللغة العربية، والتصدي لأعدائها.
    دفاع الرافعي عن اللغة العربية:
    أدرك الرافعي من أول وهلة أن الدفاع عن اللغة يتطلب منهجا منظما يحفظه لنفسه، حتى يكون دقيقا في رصد كل حدث يمكن أن يخدمه في دعوته، ويحتاج ذلك إلى ذاكرة لاقطة يرصد كل حركة وإن كانت صغيرة، فربما يقدم الحدث الصغير خيطا يصل بالباحث أو المفكر إلى علاج الظاهرة علاجا ناجعا.
    فقد رأى مرة بعض الناس يتحدث إلى أحد الباشوات حديثا لم يعجبه، لأنه كان يحاول الحديث بلكنة غريبة ليست بالعربية الخالصة، ولا بالرطانة الأجنبية، وإنما خلط الرجل بين اللغة العربية، واللكنة الأجنبية، فهداه ذلك الموقف إلى أن يكتب مقالا لا عن تلك اللغة الخليط أو اللغة المرقعة كما سماها، وإنما كتب عن أولئك الذين يذهبون إلى البلاد الأوربية، ويعودون منها وقد لووا ألسنتهم، أو تعمدوا ذلك حتى يظهروا للناس أنهم جنس آخر، ثم خلص من ذلك إلى أن هؤلاء القوم أصيبوا بعقدة الخواجة كما كان يسميها القوم، وحاولوا أن يقولوا لمستمعيهم: إنهم قوم أخذوا حظا من بلاد أوربا. وما ذلك إلا لضعف هؤلاء القوم، وعدم إيمانهم بأن لغتهم تستطيع أن تؤدي ما تؤديه اللغات الأخرى، بل هي أعرق من هذه اللغات لأنها تحمل أمجاد الأمة ولا تستطيع لغة أخرى أن تقف معها في مضمار.
    يقول الرافعي: "جاء حضرة صاحب السعادة فلان لزيارة الباشا وهو رجل مصري ولد في بعض القرى ما نعلم أن الله تعالى ميزه بجوهر غير الجوهر، ولا طبع غير الطبع، ولا تركيب غير التركيب، ولا زاد في دمه نقطة زهو، ولا وضعه موضع الوسط بين فئتين من الخليفة غير أنه زار فرنسا، وطاف بإنجلترا، وساح في إيطاليا، وعاج على ألمانيا، ولون نفسه ألوانا، فهو مصري ملون، ومن ثم كان لا يرى في بلاده وقومه إلا الفروق بين ما هنا وبين ما هناك..." ثم يقول: ".. هو كغيره من المترفين المنعمين، مصري المال فقط إذ كانت أسبابهم ومستغلاتهم في مصر عربي الاسم لا غير .." "وكغيره من هؤلاء المترفين المنعمين المفتونين بالمدنية، لكل منهم جنسه المصري، ولفكره جنس آخر".
    هذه المقدمة التمهيدية في المقال ضرورية لأنه يضع توصيفا لهذا الذي سيتحدث عنه فيما بعد، وليعلم القارئ أن هذا الشخص ليس له ولاء لوطنه إلا أنه ينعم بخيراته، ويستغل موارده في ملذاته فهو عربي الاسم فقط، وهو يشترك مع كل هؤلاء المنعمين الذين يستغلون وطنهم في نهب أمواله، ثم بعد ذلك تراهم يتعالون على أبناء الوطن ممن هم سبب في هذا المال الوفير الذين ينعمون به.
    ... ثم يأتي إلى لب الموضوع فيقول: "قال وكان حضرة صاحب السعادة يكلم الباشا بالعربية مرتفعا بها عن لغة الفصيح ارتفاعا منحطا .. نازلا بها عن لغة السوقة نزولا عاليا، يرتضح لكنة أعجمية، بينا هي في بعض الألفاظ جرس عال يطن، إذ هي في لفظ آخر صوت مريض يئن، إذا هي في كلمة ثالثة نغم موسيقي يرن، ورأيته يتكلف نسيان بعض الجمل العربية ليلوي لسانه بغيرها من الفرنسية لا تظرفا ولا تملحا ولا إظهارا لقدرة أو علم، ولكن استجابة للشعور الأجنبي الخفي المتمكن في نفسه، فكانت وطنية عقله تأبى إلا أن تكذب وطنية لسانه، وهو بأحدهما زائف على قومه، وبالأخرى زائف على غير قومه"
    (5).
    وكلام الرافعي يقصد به أن يرسم صورة لهؤلاء الذين يحاولون إظهار قدرتهم الكلامية بلغات غير لغاتهم فهم لا يجيدون لغات قومهم، ولا لغات غير قومهم، ويضرب على ذلك مثلا: "فهو مرة صوته يشبه جرسا عاليا يطن، ومرة يشبه صوت مريض يئن، ومرة ثالثة يشبه نغما موسيقيا يرن، لأن صوته لم يكن على نسق واحد، ولا يتحدث لغة واحدة، حتى إن الباشا المخاطب عندما انصرف هذا الرجل قال عنه: "أف لهذا وأمثال هذا، أف لهم، ولما يصنعون، إن هذا الكبير يلقبونه "حضرة صاحب السعادة" ولأشرف منه والله رجل قروي ساذج لقبه حضرة صاحب الجاموسة .. نعم إنه الفلاح عندنا جاهل علم، ولكن هذا أقبح منه جهلا فإنه جاهل وطنية" ثم يردف قائلا: "ثم إن الجاموسة وصاحبها عاملان دائبان مخلصان للوطن، فما هو عمل حضرة صاحب (اللسان المرقع) هذا؟ إن عمله أن يعلن برطانته الأجنبية أن لغة وطنه ذليلة مهينة، وأنه متجرد من الروح السياسي للغة قومه .. إذ لا يظهر الروح السياسي للغة ما إلا في الحرص عليها، وتقديمها على سواها"(6).
    ثم يعلق الرافعي على ذلك بقوله: "كان الواجب على مثل هذا ألا يتكلم في بلاده إلا بلغته، وكان الذي هو أوجب أن يتعصب لها على كل لغة تزاحمها في أرضه، فترك هذا وهذا وكان هو المزاحم بنفسه، فهو على أنه حضرة صاحب سعادة "لا ينزل نفسه من اللغة القومية إلا منزلة خادم أجنبي في حانة"(7).
    بمثل هذه اللغة القاسية كان الرافعي يواجه هؤلاء الذين يستخفون بلغتهم، وينزعون إلى لغات أخرى يظنون أنهم بهذا يتباهون على قومهم، وعلى ما ألفوه من حديث بلغة عربية أصيلة، إنه ينحو عليهم باللائمة، لأنهم ما زالوا مرتبطين بما تركه الاستبداد والحمق في زمن الحكم التركي، وكأن الأجنبية علامة الحكم والسلطة واحتقار الشعب.
    ويستمر مصطفى صادق الرافعي في تصنيف هؤلاء الأدعياء إلى طبقات: واحدة تتعلق بعصر الاستبداد، وأخرى تصنع نفاقا للاستعمار، فهم يميلون إلى الخضوع والذل السياسي في عهد الاحتلال الإنجليزي، فاللغة الأجنبية بينهم تشريف واعتبار، كأنهم بها من غير الشعب المحكوم الذي فقد السلطة، وثالثة تصنع ذلك، لأنهم يريدون به عيب اللغة العربية وتهجينها، لأنهم لا يحبون الدين الإسلامي الذي جعل هذه اللغة حكومة باقية في بلادهم مع كل حكومة، وفوق كل حكومة "وهم يزدرون هذا الدين ويسقطون عن أنفسهم كل واجباته .. وهؤلاء قد خلطوا عملا صالحا، وآخر سيئا، إذ يغلون في مصريتهم غلوا قبيحا ينتهي بهم إلى سفه الآراء، وخفة الأحلام، وطيش النزعات فيما يتصل بالدين الإسلامي وآدابه، ولغته، وما أرى الواحد منهم إلا قد غطى وصفه من حيث هو رفيع على وصفه من حيث هو عالم أو أديب أو ما شاء. إن هذا المقت "كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا"(8).
    هذا جانب من حملة الأديب الكبير الرافعي على أولئك الذين هانوا على أنفسهم فلجؤوا إلى لغة الأجنبي يتشدقون بها، وكأنهم لا يعلمون أنهم بصنيعهم هذا إنما يحطون من أنفسهم، ويقللون من شأنهم، فالأصالة تعني أن يحرص الإنسان على لغته، ويضعها في موضعها اللائق بها بين لغات العالم، وهم لا يعلمون أيضا أن من هانت عليه لغته التي تشكل تراثه وأمجاده سيكون هو بالتبعية هينا على من يتحدث إليهم، لأنهم والأمر كذلك سينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار فهم يعلمون تماما أنه يتملقهم ويعمل على إرضائهم، وهو في دخيلة نفسه يرفضهم، لأنهم يحتلون بلاده، بل إن هذا الصنف من الناس لا يثق به أحد.
    أما الجانب الثاني فقد جاء في مقال بعنوان: "اللغة والدين والعادات" باعتبارها من مقومات الاستقلال، وسأقف عند الجزئية الأولى، وهي جزئية اللغة، لأن الرافعي ألح عليها باعتبارها المقوم الأساسي من مقومات الاستقلال، ثم إنه حلل هذه الجزئية تحليلا رائدا بأن أبان فيه أن اللغة تعني كل المقومات السابقة، بل إنها تعني قومية الفكر، وقومية العادات والتقاليد، يقول الرافعي: "أما اللغة فهي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودا متميزا قائما بخصائصه، فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير، وأساليب أخذ المعنى من المادة، والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات في أهلها، وعمقها في عمق الروح، ودليل الحس على ميل الأمة إلى التفكير، والبحث في الأسباب والعلل، وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية، وطماحها، فإن روح الاستبداد لا يتسع، ورأيه لزوم الكلمة والكلمات القليلة".
    ثم يقول: "وإن كانت اللغة بهذه المنزلة، وكانت أمتها حريصة عليها، ناهضة بها، متسعة فيها، مكبرة شأنها، فما يأتي ذلك إلا من روح التسلط في شعبها، والمطابقة بين طبيعته، وعمل طبيعته وكونه سيد أمره، ومحقق وجوده، ومستعمل قوته، فأما إذا كان منه التراخي والإهمال وتهوين خطرها، وإيثار غيرها بالحب والإكبار فهذا شعب خادم لا مخدوم، تابع لا متبوع، ضعيف عن تكاليف السيادة لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه، متجزئ ببعض حقه، مكتف بضرورات العيش، يوضع لحكمه القانون الذي أكثره للحرمان، وأقله للفائدة التي هي كالحرمان".
    "وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيته، عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا، وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع".
    والذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق إن لم تكن عصبيتهم للغتهم مستحكمة من قبل الدين أو القومية، فتراهم إذا وهت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم، ويتبرؤون من سلفهم، وينسلخون من تاريخهم، وتقوم بأنفسهم الكراهية للغتهم، وآداب لغتهم، ولقومهم وأشياء قومهم، فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه، إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة، وينقادون بالحب لغيره، فيتجاوزونه، وهم فيه، ويرثون دماءهم من أهلهم، "(9).
    بمثل هذه الكلمات تحدث الرافعي عن اللغة، فهو يمثل صيحة في وجه الاستعمار الذي حاول جاهدا صرف الشعوب المستعمرة عن لغتها، حتى يتمكن من السيطرة عليها، واستمرار وجوده فيها، فالشعوب التي تمكن المستعمرين من لغتها، فتنصرف عنها، وتتبع لغة المستعمر شعوب حكمت على شخصيتها بالفناء، وعلى وجودها بالعدم، لأنها ستكون تابعة للمستعمر سائرة على دربه وهواه.
    وإذا حاولنا تحليل هذه الأفكار، وما أثاره الكاتب من قضايا جانبية فإننا نرى أن الكاتب ركز على أن اللغة هي صورة حية لوجود الأمة في أفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، فاللغة تشترك فيها الأمة، لأنها تدل على قومية الفكر، وتتحد بها الأمة اتحادا فكريا. ودقة التعبير اللغوي دليل على قوة ملكات الأمة ومواهبها. وعمق اللغة دليل على عمق روح الأمة، وميلها إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل. وإذا استعملت الأمة اللغة استعمالا قويا، فأكثرت من المشتقات، وتصرفت في المترادفات فإن ذلك دليل حي على نزعة الحرية لدى الأمة وطموحها إلى الاستقلال.
    ثم حاول الكاتب أن يبين لنا أن الأمة الحريصة على لغتها الناهضة بها المتسعة فيها المكبرة شأنها هي الأمة التي دليها نزعة المقاومة والغلبة، وأن شعبها هو الشعب المطابق بين طبيعته وعمل طبيعته، فهو سيد أمره، محقق وجوده، مستعمل قوته، آخذ بحقه، وإذا أهمل شعب لغته، وتراخى في استعمالها، وترك اللغة العامية تسيطر عليها، وآثر غيرها عليها فهذا شعب ضعيف في تكوينه فهو خادم لا مخدوم، تابع لا متبوع، ضعيف من تكاليف السيادة، ولا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه، فهو شعب أشبه بمجموعات العبيد، لا يقدرون على الاستقلال بأنفسهم، يكتفون بضرورات العيش يوضع لهم القانون الذي يحكمهم حكما أكثره الحرمان، وأقله الفائدة التي هي كالحرمان.
    أما الفكرة الثانية، فقد حاول الكاتب فيها بيان أمر هام، وهو أن لغة الأمم المستعمرة تكون الهدف لهؤلاء المستعمرين، فقد علم الاستعمار في النصف الأول من القرن العشرين أنه لا بقاء له بين هذه الأمم إلا بالسيطرة على لغتها، فأضحت لغة الأمم هي الهدف الأول للمستعمرين، فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته، فمنشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله، فإذا انقطع الشعب من نسب لغته انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ لا صورة محققة في وجوده، ثم ضرب الكاتب مثلا بأن أبناء الأب الواحد، إذا تكلم كل واحد منهم لغة أصبحوا أبناء ثلاثة آباء لا أبناء أب واحد، وهو بذلك يضرب مثلا للشعوب التي تربطها روابط أصيلة، ثم يجعلهم الاستعمار يتكلمون لغات غير لغتهم الأصيلة.
    وذلة الأمة من تركها لغتها، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم فيها، فهو كما يقول –الرافعي- يحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد، الأول حبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا، والثاني الحكم على ماضيهم بالقتل محوا، ونسيانا، والثالث تقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع.
    أما الفكرة الثالثة فيركز فيها الكاتب على أولئك الذين يعجبون بلغة المستعمر، فهم بطبيعة الحال سينزعون إلى أهلها، فإذا وهنت عصبيتهم إلى لغتهم خجلوا من قوميتهم وتبرؤوا من سلفهم وانسلخوا من تاريخهم، وقامت بأ،فسهم الكراهة للغتهم وآداب لغتهم ولقومهم وأشياء قومهم.
    ثم حاول الكاتب أن يبين لنا أنهم والحالة هذه سيبتعدون عن وطنهم حتى وهم فيه، لأن عواطفهم ستكون مع الأجنبي، فيكون شيء الأجنبي في مذهبهم أجمل وأثمن، وقد يكون الشيء الوطني مثله أو أجمل منه ولكنهم فقدوا الميل إليه.
    ثم تأتي الفكرة الرابعة تبين لنا أن اللغات تتنازع القومية، لأنها احتلال عقلي للشعوب التي ضعفت عصبيتها، فإذا هانت اللغة القومية على أهلها أثرت اللغة الأجنبية في الخلق القومي، وإذا قويت العصبية، وعزت اللغة فلن تكون اللغات الأجنبية إلا خادمة يرتفق بها، ولن يعطي للأجنبي إلا ما يستحقه، وبذلك يصبح كل شيء أجنبي قد خضع لقوة قاهرة غالبة هي قوة الإيمان بالمجد الوطني، واستقلال الوطن.
    لقد كانت مصر كغيرها من البلاد العربية والإسلامية محطا لأنظار المستعمر، وهدفا من أهدافه التي كان يسعى جاهدا في النصف الأول من القرن العشرين، كي يجعلها تحت سلطانه. ينفذ من خلالها لتحقيق مأربه، وطموحاته، وقد علم الإنجليز يقينا أن الاستعمار العسكري سيتقلص حتما، فليحاول فرض لغته على المصريين بجلعها لغة الدواوين والمدارس والثقافة والعلوم، فجاءت صيحات الكتاب المصريين الغيورين على لغتهم تحذر من هذا الخطر الداهم، وتكشف للناس تلك اللعبة الخسيسة التي يريد المستعمر الترويج لها في بلادنا، ويبين لهم ما يعنيه التمسك بلغتهم، فهي لغة الدين والعروبة، وأمجاد الماضي.
    ولعل هذه النصيحة يحس بها كل إنسان في كل مكان، وهو بهذا يأتي بأفكار عالمية لا تحدها بيئته، ولا تقف أمامها أسوار الوطن.
    قصيدة "اللغة العربية والشرق":
    كان الغرض أن أقتصر على بعض ما كتبه الرافعي من نثر الرافعي حول دفاعه عن اللغة العربية، ولكنني رأيت أن أعرج في أسطر قليلة على قصيدة الرافعي ... "اللغة العربية والشرق" والتي جاءت في ديوان الرافعي، الجزء الثاني، وهي قصيدة يبكي فيها الرافعي ما آلت إليه اللغة العربية، وعزا ذلك إلى كيد أبنائها لها، إنهم لم يراعوا فيها ما أرضعتهم إياه، وقد يجني النسب كثيرا من الأحزان على من ينتسب إليه حتى إند بدأ القصيدة بقوله:
    أمٌّ يكيد لها من نسلــها العـــقب *** ولا نقيصة إلا ما جنى النسبُ
    كانت لهم سببــا في كل مكــرمة *** وهم لنكبتها من دهرها سببُ
    لا يعب في العرب العرباء إن نطقوا *** بين الأعاجم إلا أبهم العـربُ

    فقد صور الرافعي إهمال العرب لغتهم الأم التي يكيد لها أبناؤها، وهذا منتهى العقوق التي يمكن تصوره لأن هذه الأم كانت سببا في كل مكرمة نالها هؤلاء العرب، فقد وصلت لغتهم إلى مشارق الأرض ومغاربها، ثم بعد كل هذا الذي قدمته لها أمهم يقلبون لها ظهر المجن، فتراهم إن نطقوا نقطوا بلغة لا يكاد يعرفها غيرهم، والرافعي يشير بذلك إلى اللغة العامية التي لا تعرف إلا بين الناطقين بها، أما اللغة العربية فإن الأمة العربية كلها تشترك فيها، وتتبين ملامحها.
    ثم أخذ الرافعي يتحدث عن تاريخ اللغة العربية، وكيف أنها استمرت طوال الدهر ناصعة كالبدر حتى طمست السحب من نوره، ثم حدث لها ما حدث في تاريخها الحديث حتى قال:
    سلوا الكــواكب كم جيل تــداولها *** ولم تزل نيــرات هذه الشهبُ
    وسائلوا الناس كم في الأرض من لغة *** قديمة جددت من زهوها الحقبُ
    ونحن في عجب يلهو الزمـــان بنا *** لم نعتبر، ولبئس الشيمة العجبُ

    ثم أخذ يوجه حملته على الغرب الذي حاول طمس اللغة العربية، والدعوة إلى لغته التي أراد بها في صفوف الأمة، والدعوة إليها فقال:
    أنترك الغرب يلهينا بزخـرفه *** ومشرق الشمس يبكينا، وننتحبُ
    وعندنا نَهَرٌ عذب لشــاربه *** فكيف نتركـه في البحر ينسربُ
    وأيما لغـــة تنس امرأ لغة *** فإنها لعنـــة من فيه تنسكبُ

    إنها صيحة قوية يرسلها الرافعي، حتى يدرك الجميع أن اللغة العربية ما زالت تعطي، وتقدم للجميع ما يمكن أن يجعلهم يفخرون بها، فهي كالنهر العذب الذي يجب علينا أن نحافظ عليه، ولا نتركه يضيع في بحر اللغات الأخرى، ثم أرسل حكمته الرائعة في قوله:
    وأيما لغة تنس امرأ لغة *** فإنها لعنة من فيه تنسكبُ
    ثم أنحى باللائمة على لغة القصور التي يتشدق بها ساكنو القصور، لأنهم يحاولون أن يلووا بألسنتهم بكلمات أجنبية، حتى يظهروا للناس أنهم على علم باللغات الأجنبية، حتى يقول:
    أرى نفــوس الورى شتى وقيمتها *** عنـدي تأثرها لا العز والرتبُ
    ألم تر الحطب استعلى فصار لظى *** لما تأثـر من مس اللظى الخطبُ
    فهل نضيع مـــا أبقى الزمان لنا *** وننفض الكف لا مجد ولا حسبُ

    ويستمر الرافعي في حديثه عن اللغة العربية، ونعيه على قومها الذين أهملوها، ونزعوا إلى اللغات الأخرى، فيختم قصيدته بقوله:
    هيهـات ينفعنا هذا الصبــاح فما *** يجدي الجبان إذا روعته الصخبُ
    ومن يكن عــاجزا عن دفع نائبة *** فقِصـــر ذلك إن تلقاه يحتسبُ
    إذا اللغات ازدهت يوما فقد ضمنت *** للعرب أي فخـــار بينها الكتبُ
    وفي المعادن مــا يمضي برونقه *** يد الصدأ غير أن لا يصدأ الذهبُ

    هذه نظرات سريعة في قصيدة الرافعي التي تحتاج إلى وقفات متأنية، حتى يتضح من خلالها مدى ما يرمي إليه الرافعي، ومدى ما وفق فيه، أو أخفق، وكذلك تلك اللغة التي عالج بها الرافعي قصيدته، وتحلية هذا الأسلوب بالحكمة التي أتت في مكانها، ولم تكن مستجلبة، أو مستكرهة.
    إن الرافعي بكل المقاييس كاتب غيور على لغته، غيور على دينه، غيور على عروبته، ومن يؤتى هذه المزايا جدير بأن يعد من الصفوة الذين يحتفى بهم، ويعطون حقهم من التكريم والإكبار.
    رحم الله الرافعي وجزاه عن العروبة والإسلام خير الجزاء.
    -------------
    (1) د. محمد محمد حسين، الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، ص 343، مكتبة مصر ومطبعتها، 1980م.
    (2) ديوان حافظ إبراهيم.
    (3) الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، مرجع سابق.
    (4) ديوان الرافعي، شرح محمد كامل الرافعي، مكتبة الإيمان بالمنصورة، أمام جامعة الأزهر.
    (5) مصطفى صادق الرافعي، وحي القلم، ج2، ص296، دار المعارف، ط2، 1982م.
    (6) المرجع السابق، ج2، ص297.
    (7) المرجع السابق، نفسه.
    (8) المرجع السابق، ج2، ص298.
    (9) المرجع السابق، ج3، ص 23-35.

    نقلا عن:
    http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar.asp?
    id=5062&idRub=174

    ــــ
    تحية فصيحة
    محمد بن أحمد باسيدي


  10. #10
    أستاذ جامعي الصورة الرمزية محمد بن أحمد باسيدي
    تاريخ التسجيل
    26/09/2006
    المشاركات
    1,240
    معدل تقييم المستوى
    19

    افتراضي

    الطفولة في أدب الرافعي .. وحي القلم أنموذجا
    بقلم: د. عبد الحميد الحسامي
    الطفولة مرحلة عمرية لها خصائصها ومتطلباتها وأهميتها، "وتأتي أهمية الطفولة من كونها مرحلة تشكل في مجملها ميدانا يساعد المربين والعلماء والموجهين على زرع ما يرون من توجيهات وأفكار وأخلاق دون أن تعترض مقاومة أو عناء يذكر"(1).
    وتشغل "الطفولة" حيزا كبيرا في كتابات الرافعي ولاسيما في مصنفه "وحي القلم" حتى شكلت ظاهرة بارزة تنم عن هاجس ظل يلح على يراع هذا الأديب فجسده ألوانا ببيان شتى، ووشاه ببيانه المصفى، وليس غريبا على قلم مثل قلم الرافعي أن يتنزل وحيه، ويفيض خاطره ببيان رائع عن الطفل والطفولة، في أحوالها وتقلباتها موجها الأنظار إلى شريحة من شرائح المجتمع يستجلي من خلالها فلسفة الحياة، ومعنى الإنسانية، ويكشف سوءات واقع يمتهن معاني الطفولة، ويحطم قيم الحياة، باعتدائه على براءتها، وتشويهه لجمالها، مجتمع تسربت إليه أمراض العصر، تخلخل بنيانه، فطفق يعبث بجمال الأشياء ويحرف ويزيف حقائقها، ويزيغ عن كثير من تعاليم دينه التي تستهدف بناء حياة قويمة أساسها الحب، والطهر، والنقاء.
    لقد وعى الرافعي مدى الانحراف والتشوه الذي أصاب بنية الحياة الاجتماعية، ومن ذلك ما يخص "الطفولة" ومعاناة الأطفال في ظل الواقع الجديد الذي أفرز علاقات اجتماعية جديدة عكست نفسها سلبا على واقع الأطفال، ولما كان الرافعي "أديب الأمة العربية المسلمة المعبر بلسانها الناطق عن ذات نفسها"(2) فقد أخذ يتلمس قضاياها ومنها قضية الطفولة –ببلسم بيانه ويعرضها في مقالاته- سابرا أغوارها ومقدما وجهة نظره المستقيمة المنبثقة من نظرة الإسلام للكون والحياة والإنسان.
    وينهض هذا البحث بمهمة تتبع تلك المقولات والشذرات المبثوثة في مقالات كتاب وحي القلم بأجزائه الثلاثة طمعا في جمع أشتات رؤية الرافعي للطفولة، وتجليات تلك الرؤية في أنساق مقالاته، ومعالجته لجوانب القضية، متناولا ذلك بالوصف والتحليل إسهاما في رفد الدراسات الأدبية المعاصرة -المتخصصة في أدب الطفولة والمشتغلة على قضية الطفل- بهذه الدراسات، التي تكشف حفاوة الأدب الإسلامي بـ"الطفولة" شأنها شأن موضوعات الحياة الأخرى، فضلا عن أهمية الموضوع على مستوى الساحة العالمية، فطالما تخصصت جمعيات ومراكز وهيئات ومنظمات بالطفولة وحقوق الطفل.
    ويتكفل هذا البحث بإبراز جهد أديب إسلامي في عرض القضية بأسلوب أدبي رفيع، وتحقيق حضور لائق من خلال مقالاته المتعددة، ومدى إسهام الفن الأدبي في تناول الواقع الاجتماعي وتقديم الرؤية الإسلامية المتميزة في مضمار الرؤى المعاصرة.
    فالعودة إلى الطفولة ليست هروبا من الواقع ولكنها تقديم صيغة جديدة للسلام والبراءة في عالم استوحش فيه الإنسان، عودة إلى النبع بحثا عن الجمال في عالم تشوهت ملامحه واستطالت نقائصه.
    ويستنطق الرافعي الأطفال قائلا: "أيها الناس انطلقوا في الدنيا انطلاق الأطفال يوجدون حقيقتهم البريئة الضاحكة لا كما تصنعون إذ تنطلقون انطلاق الوحش يوجد حقيقته المفترسة".
    فالطفولة هنا تصرخ في وجه الإنسانية الطائشة المتوحشة اخلعي "أرسائك ولو يوما"، وتعترض على اغتيال براءة الحياة، ويخلص الرافعي ليجعل الطفولة مجمعا لكل مظهر من مظاهر "جمال الحياة.
    "أيتها الرياض المنورة بأزهارها، أيتها الطيور المغردة بألحانها، أيتها الأشجار المصفقة بأغصانها، أيتها النجوم المتلألئة بالنور الدائم، أنت شتى، ولكنك جميعا في هؤلاء الأطفال يوم العيد.."(3).
    إننا لن ندرك روعة الجمال في الطبيعة إلا إذا كانت النفس قريبة من طفولتها ومرح الطفولة ولعبها وهذيانها(4).
    وهنا نلحظ كيف اتسع مفهوم الطفولة لدى الرافعي ليصبح الحياة الجميلة فهي السرور والقناعة والحب والجمال والبراءة والبساطة، والطمأنينة والحرية والسلام..
    مقابل: المعاني الضدية التي تقتضيها دلالة المخالفة، وتنطلي على المجتمع المعاصر، إن البحث عن الطفولة وإثبات قيمها ومعانيها يمثل محاولة نفي للواقع المتشكل ولو من ناحية نظرية، واعتماد الكاتب على توليد هذه المواصفات أو القيم يمثل إصرارا على تحقيق حضور أكبر للقيم الإيجابية لترسيخها في طفولة اليوم التي هي بالضرورة ملامح الغد.
    مفهوم الطفولة:
    يعمد الرافعي إلى فلسفة الأشياء والبحث عن جواهرها فهو لا يرى الطفولة مرحلة عمرية ممتدة من سن إلى آخر، ولكن الطفولة معنى من المعاني بل كل المعاني الجميلة مجسدة في الأطفال، بهم ومن خلالهم يستقرئ الجمال في الأشياء ويرصد ملامحه.
    فالعيد بالأطفال –مثلا- هو "يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم" لكن هذا اليوم له معان أخر في وجوه الأطفال.
    "خرجت أجتلي العيد في مظهره الحقيقي على هؤلاء الأطفال السعداء، على هذه الوجوه النضرة التي كبرت فيها ابتسامات الرضاع فصارت للزمن ضحكات"(5).
    "هؤلاء الأطفال السعداء الذين لا يعرفون قياسا للزمن إلا بالسرور"(6).
    الأطفال في نظر الرافعي هم "السحرة الصغار الذين يخرجون لأنفسهم معنى الكنز الثمين من قرشين".
    يسحرون العيد فإذا هو يوم صغير مثلهم جاء يدعوهم إلى اللعب.
    يبنون كل شيء على أحد المعنيين الثابتين في نفس الطفل، الحب الخالص، واللهو الخالص، يبتعدون بطبيعتهم عن أكاذيب الحياة فيكون هذا بعينه هو قربهم من حقيقتها السعيدة"، هم السهولة قبل أن تتعقد، يفتشون الأقدار من ظاهرها، ولا يستبطنون كيلا يتألموا بلا طائل، يأخذون من الأشياء لأنفسهم فيفرحون بها ولا يأخذون من أنفسهم للأشياء كيلا يوجدوا لها الهم، قانعون يكتفون بالتمرة ولا يحاولون اقتلاع الشجرة التي تحملها.
    يعرفون كنه الحقيقة وهي أن العبرة بروح النعمة لا بمقدارها.
    يجدون من الفرح في تغيير ثوب للجسم أكثر مما يجده القائد الفاتح في تغيير صوب للمملكة، حكماء .. يشبه كل منهم آدم أول مجيئه إلى الدنيا حين لم تكن في الأرض خليقة ثالثة معقدة من صنع الإنسان المتحضر.
    شعرهم البديع: أن الجمال والحب ليس في شيء إلا في تجميل النفس وإظهارها عاشقة للفرح، حكمتهم العليا أن الفكر السياسي هو جعل السرور فكرا وإظهاره في العمل.
    فلاسفة تقوم فلسفتهم على قاعدة عملية هي أن الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة.
    يوجدون حقيقتهم البريئة الضاحكة، أحرار .. حرية نشاط الكون كالفوضى ولكنه في أدق النواميس"(7).
    مكانة الأطفال في نفوس الآباء:
    الذرية الصالحة نعمة، وقرة عين ولذا كانت دعوة عباد الرحمن "ربنا هبنا لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما"(8).
    ويستلهم الرافعي هذا المعنى ومعاني أخرى للذرية حين يقول "رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا أباء فنسأ بالولد في آثارهم، ومد بالنسل في وجودهم، وزاد منه في أرواحهم أرواحا، وضم إلى قلوبهم قلوبا وملأ أعينهم من ذلك بما تقر به قرة عين كانت لم تجد ثم وجدت، فهم بهؤلاء يملكون القوة التي ترجعهم أطفالا مثلهم في كل ما يسرهم، فيكبر الفرح في أنفسهم وإن كان في ذات نفسه ضئيلا صغيرا، ويعظم الأصل في أشيائهم وإن كان هو من شيء صغير لا يؤبه له، وتلك حقيقة من حقائق السعادة لا أسمى ولا أعظم منها إلا الحقيقة الأخرى وهي القوى التي تحول بها الكون في قلب الوالدين إلى كنز من الحب والرحمة، وجمال العاطفة بسحر من ابتسامة طفل أو طفلة، أو بكلمة منهما أو حركة على حين لا يتحول مثل ذلك ولا قريبا منه بمال الدنيا ولا يملك الدنيا(9).
    "وكم تتحمل الأم الجنين صابرة راضية فرحة بآلامها وتغذوه وتقاسمه حياة نفسها"(10).
    إنهم –أي الأطفال- امتداد لوالديهم، وزينة حياتهم بل إن ابتسامة أو كلمة لا توازيها كنوز الدنيا، وفوق ذلك يكون مولد الطفل في نظر والده مولدا جديدا له، يقول الرافعي على لسان أب: "قال المسكين ثم أعادتني قدماي إلى البيت لأرى طفلتي وما كنت رأيتها ولقد كانت ولادتها أول الحياة لها وأول الحياة لي..."(11).
    فكم ظل ينتظر مجيئها مشدود الأعصاب حين أخذ المخاض يعتصر زوجته وكانت أمنيته "أن تلد لي الحياة والحب معا .. وتأتي لقلبي بمثل طفولتي الأولى.."(12).
    وأحيانا يقوم الطفل بدور آخر فلا يكون امتدادا لحياة والده فحسب بل يكون إنقاذا لوالده من خسارة فادحة قد تحل به، ويستلهم الرافعي قصة من التاريخ الإسلامي يتوسل بها في طرح موضوعه، ويبني عليها نصه، وينسج على هيكلها خيوط بيانه، وهي قصة مالك بن دينار وقد وسمها بـ"بنته الصغيرة" وجعلها في جزأين ولما كانت البنت "الطفلة" هي الأضعف فقد كانت الحكمة من قيامها بهذا الدور أدل وأولى انتصارا لضعفها، لقد قامت الطفلة فاطمة بإنقاذ حياة أبيها وتحويل مجرى حياته من ظلمات أقصى الفجور والغي إلى أنوار الهداية والاستقامة.
    "كانت البنية بدء حياة في بيتي وبدء حياة في نفسي، فلما دبت على الأرض ازددت لها حبا، ألفتني وألفتها، فرزقت روحي منها أطهر صداقة في صديق، تتجدد للقلب كل يوم بل كل ساعة، ولا تكون إلا لمحض سرور القلب دون مطامعه فتملك بالحياة نفسها لا بأشياء الحياة فلا تزيد الأشياء في المحبة ولا تنقص منها".
    وقد كانت بحبه لها سببا في تركه للخمرة "جهدت أن أترك الخمر فلم يأت لي ولم أستطعه إذ كنت منهمكا على شربها، ولكن حب ابنتي وضع في الخمر إثمها الذي وضعته قيها الشريعة فكرهتها كرها شديدا". وبعد أن توفيت ابنته كانت رؤياه الشهيرة التي وقفت ابنته فاطمة درعا في وجه التنين الذي أراد هلاكه "فإذا ابنتي التي ماتت قد أشرفت علي، فلما رأت ما أنا فيه صاحت ثم بكت، ثم وثبت كرمية السهم، فجاءت بين يدي ومدت إليّ شمالها فتعلقت بها ومدت يمينها إلى التنين فولى هاربا، وأجلستني وأنا الكميت من الخوف والفزع وقعدت في حجري كما كانت تصنع في الحياة وضربت بيدها إلى لحيتي وقالت يا أبت .. "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله..."(13).
    وتخبره عن تفاصيل الرؤيا "يا أبتاه ذلك عملك الصالح أنت أضعفته فضعف حتى لم يكن له طاقة أن يغيثك، من عملك السيئ ولو لم أكن لك هنا ولو لم تكن اتبعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فرح بناته المسكينات الضعيفات –لما كانت لك هنا شمال تتعلق بها ويمين تطرد عنك"، وقد عالج في هذه المقالة "ابنته الصغيرة" واجب الوالدين نحو البنت وضرورة تربيتها تربية مشتملة "تربية عقلية، تربية إحسان، تربية جسمها تربية إحسان وإلطاف، وتربية روحها تربية إكرام وإحسان وإلطاف... ويقول: "البنت هي أم ودار ليس ينبغي أن ينظر الأب إلى بنته الأعلى أنها بنته أم أولادها ثم أم أحفاده فهي بذلك أكبر من نفسها وحقها عليه أكبر من الحق، فيه حرمتها، وحرمة الإنسانية معا ..(14).
    الأطفال الفقراء:
    يلتفت الرافعي إلى الأطفال الفقراء نظرة تنتصر لهم من واقعهم بعد أن يعمد إلى تجسيد مأساتهم بأسلوب كله استعطاف، فيقول على لسان أحدهم – وهو يخاطب أخاه: "انظر هاهم أولاء يرى عليهم أثر الغنى وتعرف فيهم روح النعمة، وقد شبعوا .. إنهم يلبسون لحما على عظامهم أما نحن فنلبس على عظامنا جلدا كجلد الحذاء .. إنهم أولاد أهليهم، أما نحن فأولاد الأرض، هم أطفال ونحن حطب إنساني يابس يعيشون في الحياة ثم يموتون، أما نحن فعيشنا هو سكرات الموت إلى أن نموت، لهم عيش وموت ولنا الموت مكرورا ... هؤلاء الأطفال يتضورون شهوة كلما أكلوا ليعودوا فيأكلون، ونحن نتضور جوعا ولا نأكل لنعود فنجوع ولا نأكل، وهم بين سمع أهليهم وبصرهم ما من أنة إلا وقعت في قلب، وما من كلمة إلا وجدت إجابة، ونحن بين سمع الشوارع وبصرها، أنين ضائع، ودموع غير مرحومة"(15).
    ولم يكتف بمجرد تصوير هذه النوازع النفسية التي تعتلج في نفس طفل يتيم تصويرا واصفا، بل يحاول أن يلامس نفسياتهم مدعما معنوياتهم بتشبيههم بأبطال الحرب: "أنتم أيها الفقراء حسبكم البطولة فليس غنى بطل الحرب في المال والنعيم ولكن بالجراح والمشقات في جسمه وتاريخه"(16).
    ويؤكد أن الفقير لا ينهزم في معركة الحوادث، وأن الأغنياء سبب هزائم الشرق...، ويدعو على لسان طفل فقير إلى أن يكون الحكام من صالحي الفقراء ليحكموا بقوانين الفقر والرحمة لا بقانون الغنى أو القسوة(17)، أما أولاد الأغنياء فيجب أن يباشروا الصناعة والتجارة ليجدوا عملا شريفا يصيبون منه رزقهم بأيديهم لا بأيدي آبائهم، "لأن اختلال العدل أو ما سماه الرافعي "العمى الاجتماعي" سبب بقاء تلك الفجوة بين حياة الفقراء وحياة الأغنياء، ولولا العمى الاجتماعي لما كان فرق بين ابن أمير متبطل في أملاك أبيه من القصور والضياع، وابن فقير متبطل في أملاك المجلس البلدي من الأزقة والشوارع.
    وكان مجمل هذه المقالة انتصارا لحقوق الطفولة الفقيرة في وجه الغنى المفرط الذي ينبئ عن اختلال المعادلة الاجتماعية.
    وفي هذه المقالة يجسد الرافعي مفارقة عجيبة حين يرسم مشهدا لطفلين فقيرين يتضوران جوعا وهما متوسدان عتبة البنك "يا عجبا بطنان جائعان في أطمار بالية يبيتان على الطوى والهم ثم لا يكون وسادهما إلا عتبة البنك، ترى من لعن البن بهذه اللعنة الحية"؟.
    وتصل المأساة إلى قمة التأزم حينما يحاور الفقير أحمد أخته أمينة:
    - آه لو صرت مديرا! أتدرين ماذا أصنع؟
    - ماذا تصنع يا أحمد؟
    - أعمد إلى الأغنياء فأردهم بالقوة إلى الإنسانية وأحملهم عليها حملا، أصلح فيهم صفاتهم التي أفسدها الترف واللين والنعمة، ثم أصلح ما أخل به الفقر من صفات الإنسانية بالفقراء أحملهم على ذلك حملا" .. "القانون الآن كلمة حقي، ونحن نريد أن يكون: "حقي وواجبي، وما أهلك الفقراء بالأغنياء ولا الأغنياء بالفقراء ولا المحكومين بالحكام إلا قانون الكلمة الواحدة.. "..أنا أحمد المدير .. أنا عمل اجتماعي منظم يحكم أعمال الناس بالعدل أنا خلق ثابت يوجه أخلاقهم بالقوة، أنا الحياة الأم مع الحياة الأطفال الأخوة في هذا البيت الذي يسمى الوطن، أنا الرحمة عندي الجنة، ولكن عندي جهنم أيضا ما دام في الناس من يعصي، أنا بكل ذلك لست أحمد، لكني الإصلاح"(18).
    لقد لجأ الرافعي إلى تصوير الطفولة المشردة مجسدة في الطفلين (أحمد وأمينة) اللذين ناما على عتبة البنك يفترشان الرخام البارد، ويلتحفان جوار رخاميا في برده وصلابته على جسميهما، ويتساءل: "أهما طفلان أم كلاهما تمثال للإنسانية التي شقيت بالسعداء...".
    الأطفال أيتاما:
    إن مأساة "اليتيم" زاوية من زوايا نظرة الرافعي إلى الطفولة وتناولها في كتاباته، ولا شك في أن اليتيم ومأساة الأطفال يموت والديهم يمثل مادة خصبة لقلم الأديب ناهيك عن أهمية هذه القضية في مضمار البناء الاجتماعي، والرافعي إذ يصور هذه المأساة بريشته الصانعة يرسم لوحة "موت أم" يبين أثر موت الأم في نفوس أبنائها، ومقدار العواطف المنطلقة عند رؤية أطفال خمسة "أكبرهم كأنه ثمانية أرطال لا ثمانية أعوام، جاء إلينا كما يجيء الفزع لقلوب مطمئنة، إذ كان في عينيه الباكيتين معنى فقد الأم طغت عليها الدموع فتناول منديله ومسحها بيده الصغيرة، ولكن روحه اليتيمة تأبى إلا أن ترسم بهذه الدموع على وجهه معاني يتمها .. جلس مستسلما تترجم هيئته معاني هذه الكلمة "رفقا بي" ثم تطير من عينيه نظرات في الهواء كأنما يحس أن أمه حوله في الجور ولكنه لا يراها"(19).
    ويصور الرافعي مشاهد هذا الطفل اليتيم بصور شتى "يتململ في مجلسه فينعطف جسمه كله بهذه الكلمة "يا أمي"، ويستبطن أعماقه النفسية "أحس ولا ريب أنه قد ضاع في الوجود لأن الوجود كأنه أم "لمس خشونة الدنيا منذ ساعة"، شعر بالذل ينساب في قلبه الصغير، لبسته المسكنة لأنه صار وحده في المكان كما هو وحده في الزمان..
    ثم يخاطبه: "انتهت أيها الطفل المسكين أيامك من آلام .. بدأت أيها الطفل المسكين أيامك من الزمن، يا إلهي، أي صغير على الأرض يجد كفايته من الروح إلا في الأم"(20).
    ويرسم الرافعي صورة أخرى من صور اليتيم في مقالته "قصة أب" إمعانا منه في تشخيص المشهد وبيان أبعاده كافة، فيتحدث عن طفلة ولدت وفارقت أمها الحياة بعد ولادتها "إنها طفلة ولدت وكأنما أخرجت من تحت الردم، إذا ولدت تحت ماض من الحياة منهدم، وهل فرق بين هذا وبين أن تكون ولدتها أمها في الصحراء "فالمسكينة على الحالين منقطعة أول ما انقطعت من حنان الأم ورحمها، طفلة ولدت صارخة، لا صرخة الحياة ولكن صرخة النوح والندب على أمها، صرخة حزينة معناه: ضعوني مع أمي في القبر" صرخة ترتعد كأن المسكينة شعرت أن الدنيا خالية من الصدر الذي يدفئها، صرخة تتردد في ضراعة كأنه جملة مركبة من هذه الكلمات "يا رب ارحمني من حياة بلا أم"(21).
    وينتصر الكاتب للطفولة مجسدة في هذه الطفلة المسكينة إذ يتعهدها أبوها بالرعاية ويحوطها بالحنان والعطف تعويضا لها على فقدان الأم.
    "إذا صبر الناس على الحياة فمن أجلك يا مسكينة، من أجل ضعفك وانقطاعك.. سأعاني الصبر لك، وأعاني الصبر لي، وأعاني الصبر عن أمك، سأصبر عن الصبر نفسه"(22).
    الأطفال اللقطاء:
    تناول الرافعي في مقالته عربة اللقطاء مأساة الأطفال اللقطاء محاولا رسم ملامح هذه المأساة في مشهد درامي حزين: مستخدما مشهدا ضديا هو مشهد أطفال صغار مع أمهاتهم وذويهم إمعانا منه في تشخيص الموقف، وقد كان عنوان المقالة دالا مناسبا حيث يوحي بأن عالم هؤلاء اللقطاء قد اختزل ليصبح مجرد "عربة" تشكل ميدان حياتهم، عربة مسورة بألواح من الخشب كجوانب النعش تمسك من فيها من الصغار أن يتدحرجوا منها إذا هي تدرج وتقلقل"(23).
    "أولئك ثلاثون صغيرا من كل سطح لقيط ومنبوذ، وقد انكمشوا وتضاغطوا إذ لا يمكن أن تمط العربة فتسعهم ولكن يمكن أن يكبسوا ويتداخلوا حتى يشغل الثلاثة أو الأربعة منهم جزأين ومن منهم إذا تألم سيذهب فيشكو لأبيه..؟
    يشعرك اجتماعهم أنهم صيد في شبكة لا أطفال في عربة، ويدلك منظرهم البائس الذليل أنهم ليسوا أولاد أمهات وآباء ولكنهم وساوس آباء وأمهات.
    لقد كثف الرافعي مشهد الحزن والحسرة حينما رسم مشهد نزولهم من العربة، وصور امرأتين تقومان على اللقطاء "وكلتاهما تزوير للأم على هؤلاء الأطفال المساكين" فضلا عن الحوار الذي دار بين الحصانين اللذين يجران العربة أحدهما الكميت والآخر الأدهم".
    الأول: كان يجر عربة الكلاب التي يقتلها الشرطة، والثاني كان يجر القمامة والأقذار، ويحس الأول بثقل الأطفال اللقطاء حتى يخيل إليه أن ظل كل طفل منهم يثقل وحده عربة والثاني: يشعر بأن الريح الخبيثة أشد من ريح القمامة إذ أصبحت في الزمن نفسه حينما قرن بهؤلاء وعربتهم.
    أما حوذي العربة فإنه يشكو من هذه المهنة إذ يرى أن كل واحد من هؤلاء إن هو إلا جريمة تثبت امتداد الإثم والشر في الدنيا ... ويستطرد الرافعي في المقارنة بين هؤلاء اللقطاء وبين غيرهم من الأطفال – على لسان حوذي العربة وأحد أصدقائه.
    وتبلغ المأساة ذروتها حينما أخذت المرأتان المصاحبتان لجماعة اللقطاء تتناجيان بشأنهم.
    قالت الكبرى: يا حسرتا على هؤلاء الصغار المساكين، إن حياة الأطفال فيما فوق مادة الحياة أي سرورهم وأفراحهم، وحياة هؤلاء البائسين هو دون مادة الحياة أي في وجودهم فقط، وكبر الأطفال يكون منه إدخالهم في نظام الدنيا، وكبر هؤلاء إخراجهم إلى الملجإ، وهو كل النظام في دنياهم، ليس بعده إلا التشريد والفقر وابتداء القصة المخزية.
    قالت الصغرى: ولم لا يفرحون كأولاد الناس؟ أليست الطبيعة لهم جميعا، وهل تجمع الشمس أشعتها على هؤلاء لتضاعفها لأولئك..
    - هؤلاء اللقطاء في حياة عامة قد نزعت منها الأم والأب والدار ..
    - هم أطفال غير أنهم طردوا من حقوق الطفولة، كما طردوا من حقوق الأهل، وحسبك شقاء الطفل الذي لم يعرف من حنان أمه إلا أنها لم تقتله، ولا من شفقتها إلا أنها طرحته في الطريق.
    - ألا لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على أولئك الرجال الأنذال الطغام الذين أولدوا النساء هؤلاء المنبوذين .. عجبا إن سيئات اللصوص والقتلة كله تيبس وتتلاشى، ولكن سيئات العشاق تعيش وتكبر".
    ولم يتوقف الرافعي عند عملية استنطاق هاتين المرأتين، والمرأة بحكم تكوينها قادرة على التعبير عن هذا الموقف بعاطفتها الجياشة تعبيرا مؤثرا، لكن الرافعي يقدم مؤثرا آخرا يبسط من خلاله القضية وتمثل ذلك بالتقاط صورة لطفل صغير بمعية أمه يلعب ويمرح، وطفل لقيط ليجري بينهما الحوار الآتي:
    "فنظر الطفل إلى اللقيط وأومأ إلى جماعته ثم قال له: أأنتم جميعا أولاد هاتين المرأتين أم أحدهما.
    - هما المراقبتان، وأنت أفليست هذه معك مراقبة؟
    - وما معنى مراقبة! هذه ماما!!
    - فما معنى ماما؟ هذه مراقبة!!
    - كلكم من دار واحدة.
    - نحن في الملجأ ومتى كبرنا أخذونا إلى دورنا.
    وانقطع الحوار بصوت من المراقبة:
    تعال يا رقم عشرة .. فلوى اللقيط المسكين وجهه وانصاع وأدبر".
    ويختم المشهد "ومشى الأطفال بوجوه يتيمة يقرأ من يقرأ فيها أنها مستسلمة مسكينة معترفة أن لا حول لها في شيء من هذا العالم إلا هذا الإحسان البخس القليل.
    ونلحظ أن الرافعي يقلب الموضوع من جوانبه كافة، يستقصي الظاهر ويرصد تجلياتها وأسبابها منوعا في عرضها، مستثمرا كل التقنيات التي تسهم في جلاء الموضوع، فتارة يصف وأخرى يحاور وثالثة يتوسل بشخصية أو بشخصيات ورابعة يستنطق الحيوان.
    ولا ينسى أن يشير إلى تعاليم الإسلام وآدابه التي تضمن سلامة المجتمع وتحقق طهارته، "لأيهما يجب التمحيص للصاعقة أم للمكان الذي يخشى أن تنقض عليه، لقد أجابت الشريعة الإسلامية: حصنوا المكان ولكن المدنية أجابت حصنوا الصاعقة(24).
    أبناء الذوات:
    لم تغب عن قلم الرافعي تلك الشريحة من الأطفال الذين لا ينعمون بطفولتهم ولا يمارسون حياتهم الطبيعية نتيجة نمط الحياة الذي تفرضه ظروف آبائهم، وقد عالج الرافعي هذه الظاهرة الاجتماعية ... ظاهرة أبناء الذوات أو الأغنياء من خلال قصة الطفل "عصمت"؛ إذ كان طفلا مترفا يكاد ينعصر لينا وتراه يرف رفيفا مما نشأ في ظلال العز، بيد أنه تمرد على هذه القيود حين انساق وراء خياله، وهرب على وجهه من تلك الصورة التي يمشي فيها الجندي وراء ابن المدير.
    ولاشك في أن تمرد عصمت وهو ابن المدير على وضعه الاجتماعي يعد بحثا عن طفولته الغائبة، الطفولة التي طوتها طقوس الإدارة وكبلتها مواصفات علو المنزلة إذ أصبحت مكانة الشخصيات فوق المعاني..
    إن هناك طفولتين: الطفولة المزيفة التي يحياها عصمت، والطفولة الحقيقية التي ينبغي أن يعيشها كما يعيش الأطفال الآخرون، وكان قرار عصمت استجابة لنداء الفطرة وانسياقا وراء انسجام الأشياء، وقد أخذت نفسه تهتز وترف بإحساسها، كالورقة الخضراء عليها طل الندى، وأخذ قلبه يتفتح في شعاع الكلام كالزهرة في الشمس، وسكر بما يسكر الأطفال حين تقدم لهم الطبيعة مكان اللهو معدا مهيئا(25)، ودبت روح الأرض دبيبها في عصمت، وأوحت إلى قلبه بأسرارها فأدرك من شعوره أن هؤلاء الأغمار الأغبياء من أولاد الفقراء والمساكين هم السعداء بطفولتهم، وأنه وأمثاله هم الفقراء والمساكين في الطفولة، وأن ذلك الجندي الذي يمشي وراءه لتعظيمه إنما هو سجن.
    ويرى الرافعي أن أبناء المسؤولين والأغنياء أعجز عن التعامل مع نظرائهم من الأطفال، إذ إن عصمت لم يستسغ أن يكون مهزوما في اللعب مما حدا بهم أن يمرغوه في التراب، لولا أن أحدهم جاء وفرقهم، طفل في العاشرة تبين عصمت منه القوة والمتانة معللا ذلك لما سأله عصمت من أين لك هذه القوة؟ فأجاب إني أعمل بيدي..!
    أنت طفل المدرسة كأنك طفل من ورق، وكراسات من لحم، وكأن عظامك من طباشير، لا تبك يا ابن المدير، تعلم أن تكون جلدا...
    وكما انتصر الرافعي للطفولة المضطهدة بتمرد عصمت انتصر للطفولة الفقيرة قائلا: أنتم الفقراء حسبكم البطولة، فليس غنى بطل الحرب بالمال والنعيم ولكن بالجراح والمشقات في جسمه وتاريخه(26).
    خاتمة:
    من خلال هذه الطيافة العجلى تبين كيف استأثر موضوع الطفولة باهتمام الرافعي فكان هاجسا ملازما يحفز قلمه للكتابة عن الطفل، وأهمية تربيته، موجها عدسته لالتقاط صورها من عالم الطفولة، مجسدا آلامها ومصورا عذاباتها ومدى الانحراف الذي حاق بعالم الطفولة عن مساره الطبيعي، فقدم مشاهده لمآسي الطفل اليتيم، والطفل الفقير، واللقطاء، وأغنياء من أبناء الذوات.
    ويستخدم في ذلك: القصة مستعملا إياها من التراث، أو صائغا إياها من مفردات الواقع، يتوسل بالوصف، ويوظف الحوار ويرسم المشهد، وهو في كل ذلك يكتب بخيال مجنح ومفردات بيانية فيه من الطراوة ما لا يقدر عليه غيره.
    -------
    (1) مجلة الأدب الإسلامي، ناول عبد الهادي، مج10، ع40، ص104.
    (2) وحي القلم (المقدمة)، محمد سعيد العريان، ص12.
    (3) وحي القلم 1/32-33.
    (4) نفسه، ج1، 41.
    (5) نفسه، ج1، 29.
    (6) نفسه، ج1، 30.
    (7) نفسه، ج1، 32.
    (8) سورة الفرقان، آية 74.
    (9) وحي القلم، ج2، 156.
    (10) نفسه، ج2، 158.
    (11) نفسه، ج2، 160-161.
    (12) نفسه، ج2، 157.
    (13) نفسه، ج1، 235.
    (14) نفسه، ج1، 1990.
    (15) نفسه، ج1، 81-82.
    (16) نفسه، ج1، 77.
    (17) نفسه، ج1، 82.
    (18) نفسه، ج1، 84.
    (19) نفسه، ج2، 154.
    (20) نفسه، ج2، 155.
    (21) نفسه، ج2، 157.
    (22) السابق نفسه.
    (23) نفسه، ج1، 306.
    (24) نفسه، ج1، 311.
    (25) نفسه، ج1، 72.
    (26) نفسه، ج1، 77.
    نقلا عن :

    http://www.aljamaa.info/ar/detail_khabar.asp?id=5060&idRub=174
    ــــ
    تحية لناشئتنا الأخيار
    محمد بن أحمد باسيدي


  11. #11
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    23/01/2007
    المشاركات
    814
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الأستاذ المجتهد / محمد بن أحمد


    جزاكم الله خيراً على هذا المجهود ، و

    "تحية رافعية"

    اللهم إنا نسألك من خيرك ....خيرك الذى لا يؤتيه غيرك

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •