نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
مدخل:

الكتابة عن اديب وقاص مثل سالم العبار تحتاج الى قراءة معمقة!!\..فالعبار مزيج من مواقف..كتاباته لها مسارب عدة..وان كانت مثل الشلال الذى يعرف غايته ومصبه!! ليست مبالغة..لنقل انه استقراء استغرق منى زمنا لاباس به..زمن فى الكتابة..زمن فى متابعة المراحل من ..الى..وهكذا..ولذلك فهنا استقراء ينتج معنى واحد! اى بتعبير ادق يذهب الى ابعد من الاستقراء ويقف دون القراءة المعمقة..لماذا؟؟ لان سالم العبار عندما بدأ الكتابه لم تتضح معالمه الفكرية بعد..وعندما استقر فى الساحة كان قد تجاوز هذا التقييم!! واضطر هنا الى ان امزج الذاتى بالموضوعى..قد نحتاج الى هذا..لاننا اذا حكمنا على العبار فى دائرة فكرية ما.. على خلفية نص ما..سنجده يخرج فى نص آخر الى مسارب اخرى... والعمل على هذا المزج..يستدعى ان تعرف العبار..الذى بالرغم من ادعاء البعض انهم يعرفونه فى قالب ما..غير انهم على نحو ما لايعرفونه!! لماذا؟؟ لان العبار ارتبط فى اذهانهم بصورة تختلف عن شخصياناته واهتماماته..وهذا هو الذى لم يبحثوه فى العبار...لابد ان تعرف العبار شخصاً كى تتمكن من فهم ما يكتبه...لابد لك ان تحاوره من آن لآخر لكى تعرف مفاتيحه..او على الاقل ما يظهر منها..بتعبير اوضح تفهم بعض ما يعنيه..فهو فى نصوصه ليس مفصول الذاكرة...بل ان نصوصه هى ذاتها سالم العبار ... الصامت فى عمق... والمتكلم فى هدوء.. يملك موقفا.. يؤمن به ويعمل عليه..ويشتغل على براغماتية ادبية عميقة كى يستدعى القيم التى يهتم لها..واهم هذه القيم ومقدمتها ..هى الحرية... احيانا اخرى نفصل العبار عن نصه و نقرأ بهدوء وننسى من اذهاننا..سالم العبار..رئيس التحرير وعضو العديد من اللجان الفكرية والعقائدية والادبية..ناخذ النصوص من تلابيبها ..فهى التى ستستقرىء لنا سالم العبار وهى ايضا التى ستمنحنا المفاتيح..مفاتيح تلج الى ابواب اداناته التى لايقولها فى المنتديات..باختصار صداماته التى لايعبر عنها فى الهواء الطلق...ربما نقول شخصيته الاخرى فى النص..غير شخصيته التى يتعامل بها مع الناس.. فهذه الشخصية الاخيرة نستطيع ان نقول غامضة او غير صداميه...احيانا ايضا يكون هذا التحليل غير دقيق..فالنتائج التى يصل اليها العبار فى كل مناشطه ومنظوماته لاتفضى اليها الا شخصية صدامية بالمعنى الحرفى للكلمة..لكنها صدامية بطريقته..بقدرته وذكاءه ووعيه..وليس بالطرق العادية التى تعارف عليها الناس فى شخصية الصدامى..اى المتهور والمنفعل والمقدم على المواقف بدون تفكير..انه صدامى..لكن بطريقته المتفردة واسلوبه المتميز.. انفعالى بطريقته ...هذا هو سالم العبار ذاتا وكتابة..يجمع الذاتى مع الموضوعى بشخصية واحدة ومنظومة واحدة ..انفعالية بعقل ..انفعالية محسوبة..وليست مباشرة..احيانا يفصل بينهما..
قد يجانب الصواب هذا التحليل..لكننا عندما نقرأ سالم العبار بمعزل عن شخصه..لابد لنا ان نعرف من هو هذا القاص..شخصا وإبداعا.. وربما اذا قرأنا إجابة على سؤال طرحته عليه خلود الفلاح : هدوءك المعلن يقودني إلي : هل شخصية "سالم العبار" تمارس هطولها السري داخل ألذات عندما تكون في حالة إبداع نص؟ ...يجيبها:
(.. الهادئون الصامتون ثرثارون جداً، جداً، فالصمت كلام وحديث الصمت حديث مع النفس، وللنفس اتساع بمساحة الكون، ومن هنا فإن النصوص التي لا تتخذ من النفس أمكنه تسقط في الثرثرة غير المنتجة.
إن عالم النفس البشرية خضم متلاطم من أحداث وذكريات وأزمنة وأمكنة وقراءتها تحتاج إلي تأجيل الظاهرة بكل تفاصيله الاعتيادية أو بالأخرى عدم التماهي فيه، فهو مجرد دافع خارجي يحرك ما اكتنزته النفس من مخزون هو يشكل كيمياء النص، وهذا الهطول السري فعل مستمر يختار المكان والزمان بل يفرضه وليس في استطاعتي الاختيار.)
تقديم

يكتب العبار ادبا يكاد يكون مغايرا..يختص به دون غيره..وان كانت الافكار لم تعد تتجدد..لكنها تطرح اسلوبيات جديدة تبعا لمضامين جديدة ايضا..لكنها الجديدة التى تحاول تقديم القديم الطبيعى على نحو يختلف!! والعبار يجدد هذه القواعد بطريقته او يحييها على النحو الذى يراه فى الاسلوبية والمضمون...يكتب الرفض ، المقاوم لكل السائد من قمع لحرية الانسان..لذلك فكل اهتماماته فى الكتابة هى صحائف ادانة للواقع بطريقته واسلوبه ، بمعنى انه يحمل هما ثقافيا ، ويؤمن برسالة يرى انه من واجبه الاضطلاع بها..وهو فى المشهد الثقافى الليبى قاص وناقد وباحث متمعن يكتب القصة والمقالة والبحث فى التراث بتمعن الواعى والقارىء المتأنى وملامح الفكر الواضح..فكر الانحياز للحرية المطلقة..والادانة المفرطة لكل مصادرة للهواء النقى !! لاانثيال ولا ضبابية..مرجعيته الدعوة لانسان يمارس حياته بحرية..بل ايضا للعصافير والكائنات الاخرى ..اعتمد لغة مكثفة لمحاربة الرداءة والقبح فى الحياة بشعرية آسرة ، مرتب الافكار..لاضبابية ولاتحايل على المتلقى ...
فى كل معالجات سالم العبار بحث مثابر عن الخلاص ..قى قراءاته للتراث ينتقى النصوص التى تنتج معان يشتغل عليها لكى يؤكد الجانب الفكرى الذى يهتم له..نحاول هنا ان نستقرىء بعض كتابات العبار وملامح ابداعه وشخوصه..بمقاربة انطباعية ربما!! لكنها محاولة لقراءة مبدع شاب له علاقة بالنص الذى يكتبه للمتلقى والهموم التى تنحاز للانسان وتدين كل المنغصات للحرية والابداع والانطلاق..
مدرسة الشارع والمجتمع..مدرسة الجماهير هى التى يتكىء عليها العبار فى نصه..وهى التى يتكىء عليها حتى فى تفاصيله اليومية فى صحيفة ( اخبار بنغازى ) التى اسسها بعقلية المتفرد المنحاز لانطلاق الكلمة والابداع وفتح ابوابا يعرف ضمنا بوعيه نتائجها على شخصه وعلى الابداع لوعيه بما يحيط به..واختلف معه هنا بالرغم من كل النوايا الطيبة وهو العمل على تاسيس ادب جماهيرى يعتمد على التجريب..الامر الذى اتاح للعديدين التفكير فى ذواتهم اكثر مما قـُسم لهم او يستحقونه من ابراز..ومع ذلك كان ايمان سالم العبار اقوى ..لانه يعمل على تاسيس جيل يختلف وان استغرق ذلك وقتا على حساب الابداع والمبدعين..ولابد حتى مع اختلافى معه فى هذا الجانب ان احترم هذا الاصرار..واعجب بالامل الذى يكتظ به متفائلا بغد ابداعى اكثر اشراقا..فهو يرى ان الرداءة سيكنسها مع الوقت النص الجيد!!.
لم يتأثر العبار باى مدرسة فى الكتابة ..غير مدرسة الجماهير او الشارع..الشارع هو خلفيته والموهبة هى لغته وقراءاته ، لم يستقى لغته من الذين سبقوه..رافضا بقسوة هادئة!! وغير صداميه( فى ظاهرها)..لكنه لايناور فى نصه ..لايتعمد الاثارة او الفنتازيا المغرقة فى الخيال والمبالغة..يلغى احيانا الزمان والمكان..لكنه فى ذات الوقت يستحضرهما من خلال هذا النفى او الالغاء ايضا!!...لديه ملكة ابداعية لغوية تنم عن قراءات عميقة لقضايا الانسان.. يتميز بمتانة المفردة غير المباشرة و غير التقريرى..ذلك بالرغم من الاهتمام بالجانب السياسى ..
اول مجموعة قصصية صدرت للاديب سالم العبار ( تجليات مهرة عربية) عن الدار الجماهيرية عام 1982م ط اولى ..ثم ط 2 عام 1984م..نحاول من هنا الدخول الى عوالم العبار..ففى مقدمة المجموعة إهداء الى ( إمرأة عربية عرفتها داخل بلادى ، تعشق المد والزيتون ، تنثنى لكنها لاتنكسر1) سنقرأ كثيرا لدى العبار عن المرأة كرمز حى يشتغل عليه فى مضامينه الابداعية ..المرأة التى تميل بها العواصف لكنها لاتكسرها ابدا..
( الغفير والفعل)


فى قصة (عكاز الغفير وقبر الرئيس والقبر الرابع) وساشير اليها اختصارا بـ:
( الغفير والقبر)...العجوز الذى قضى اغلب سنى حياته حفار للقبور وحارسٌ لها ، وفى الواقع هو حارس لقبر الرئيس الذى سيدفن فيه، فالخوف ليس على الاموات من البائسين ولاعلى جثثهم من الضياع او مخالب الحيوانات الضالة فى وحشة الليل وبشاعة الصمت..بل على قبر الرئيس وزوجته..الغفير تهاوت امامه قدسية الاشياء بما فيها الموت نفسه نتيجة التعود وايضا قبح الحياة الذى الغى من مشاعره رهبة الفناء !! لقد امتزج وتداخل مع الاموات..لايكترث ابدا..جفت حلوقه وهو يتحدث اليهم لوحده ..هو الذى حاصرته الاجساد الهامدة الصامته ، عاش كل صنوف الفناء المؤديه الى طريق واحد ومعنى اوحد..هو الموت !! وبالنسبة له الموت هو الموت لااسم يرادفه الا الموت نفسه او الفناء..لافرق..شبع من قراءة الوجوه المتبلدة الجامدة ، لايرتعد من الفناء ولا ينفعل له ، لا يفكر ولا يغضب حتى ولا يرضى!! كائن متبلد لولا ظهور( نعيمة) فى الفناء ووحشة القبور التى تحاصره..أصبحت هى الفانية الوحيدة التى عنت له اشياء كثيرة..هى الرمز( نعيمة) الذى يسوقه العبار هنا كما فى نصوص اخرى..نعيمة ربما لم يكن موتها عاديا بالنسبة للعجوز..او لم تكن مثل اى ميت فى المقبرة....هى ذات الوجه الطفولى والخال الاسود على صفحة خدها الايسر ، نعيمة هى الوحيدة التى عبثت بشجون حفار القبور الميت بلا موت!! الوحيدة التى اخترقت ذاكرته لينتفض ( ربما) ليوقظ احزانه كما يبدو..لذلك كان موتها الموت الوحيد الذى زرع الرعب فى كيانه ..ربما لانها تمثل( الارض) ، طافت بمخيلته جزء من الزمن او الوقت بالتحديد ، العينان السودوان والشعر الفاحم ، الى ان دفنت فى ذلك اليوم بعد مرارة الانتظار..التى كانت تؤرق العجوز!! الذى لاانيس له الا عكازه وكوخه " مرقد احزانه" قرب هذا الصمت المهيب والمخيف ، ثم وجهه المُعتق بالمعاناة ، ولم يكفى الزمن ما فعل به ، بل عصفت الرياح بكوخه الفقير فى ليلة ممطرة ، ليلة كانت فيهاالعواصف وكأنها ترتب لسقوط وانهيار وتداعى !! حتى القبور الملتصقة بالارض تنادت لمجهول ربما يعصف بها الى افق مجهول ، كل شىء اصبح قابل للتكسر والانكسار !! باستثناء ذلك القبر المرمرى الذى يناكف زمجرة الطبيعة..قبر الرئيس وزوجته..حجرة مرمرية مطرزة بالالوان والفسيفساء..وكأن الموت هناك غير الموت فى القبور الاخرى!! كل الاتباع حرصوا على ان يكون موت الرئيس وزوجته موت لايتواءم مع فناء الفقراء ..بالاحرى عن مضايقاتهم وحتى عن بؤسهم الذى سنقلونه معهم الى قبورهم !! قبر الرئيس حرصوا على ان يكون بمنأى عن الانواء والعواصف..سخرية مريرة يكتبها العبار على الطبقية حتى فى الموت..صحيفة من صحائف الادانة التى سنقرأ عنها لدى سالم العبار فى نصوصه..ولسنا فى حاجة الى الاستنتاج والتخمين..فالقبر لرئيس دولة عربية وارض سميت بالخضراء ، بينما هو يعبث بخضرتها وتاريخها منذ مئات السنين حيث شهدت مواجهات عاصفة بين هانيبال وبين سلطة روما التى حرثت الارض بالنسل وحرقت الحياة فيها..يكون مآلها الى رئيس يفرق بين موته وموت الناس....الحجرة المجهزة لموت الرئيس وزوجته كانت ربما اقوى من اعاصير روما وعواصف الزمن !! واقوى بالبداهة من كوخ الغفير الفقير..الحى ، الميت بين القبور...
اذا..بعد موات ورفقة مريرة للموتى ..ايقظت العواصف فى اعماق العجوز شجونه !! فلم يكن هناك بدٌ من فعل ولوكان تأثيره وقتيا ..لكن معناه عميق..اصبح المهم الان بعد الشعور الخفى بدنو الفناء ان يقرر العجوز رحيله بطريقة تختلف عن رحيل اى ميت على شاكلته بفقره ومعاناته..سيبقى الفعل فى الذاكرة يدين القهر والطبقية...وماذا يهم العجوز اذا كان سينتهى حتما؟؟ لابد من الوقوف فى وجه هذا السخف ..وهذه الاستهانة حتى بالمساواة فى الموت !! والسخف الآخر هو احترام جثة الرئيس اكثر من جثث الآخرون..وكأنهم يخافون على جثته من اوبئة الفقراء بفعل الجوع والفقر ذاته..سحقا لهذا الاحترام لجثة هامدة بينما ملايين الجثث تهيم فى الشوارع دون احترام..
هنا نقرأ بوضوح الاديب سالم العبار ..نقرأ اداناته وسخريته من هذا السخف..وهذا التمييز البغيض..بمعنى اوضح ادانة السلطة القامعة التى تسلب المميزات من الناس وبإسمهم ايضا ، امعانا فى السخف ، اذا.. قرر سالم العبار عبر الغفير ان يكون هناك فعل ما وان يكون موت نعيمة ليس هو الموت المعتاد وايضا موت الغفير..رغم انف بناة القبر ورغم انف السلطة هناك فعل عجيب سيحدث بقرار من الغفير الفقير..بقرار من العبار..( اسمع..لقد اذعنا النبأ وحذرنا الجميع من مغبة الدفن فى هذه المقبرة من جديد ، كل القبور القديمة سنزيلها!!2) ويستمر الغفير فى تداعياته..هاهى نعيمة تأتى اليه ( ضمته الى صدرها ، مسحت بيديها الناعمتين الدموع والدماء3) هذه نعيمة التى خصها العجوز باحلامه كانت هى نهاية المطاف التى ارادها الكاتب للقهر والمعاناة ( مئات النساء قرأت على ارواحهن القرآن ووضعت فى عيونهن التراب. ولم يهتز فؤادى!! وتقشعر روحى الا هذه المره4) انها نعيمة التى غطاها التراب المبلل بالماء ..لذلك يقرر الغفير الانصهار مع ذاته والتصالح مع احلامه ، يبصق على صورة زوجة الرئيس المعلقة فو ق القبر المرمرى الخاوى..يخرج الفتاة من قبرها الرابع ويحملها الى قبر زوجة الرئيس ..يغطى جسدها بالمرمر..ثم يقرر ان ينام نومته الاخيرة الى جانبها فى قبر الرئيس!! ويقرر الكاتب هنا لحظة قدرية يسوقها الى العجوز..الصورة هنا مريرة قاسية قسوة الحياة ذاتها على الناس الذين يطحنهم الفقر والقهر والتمايز ..القرار الذى اتخذه الغفير يبرز موقف الكاتب كما ذكرنا...ادانة الظلم ورفض القهر والتمايز , لذلك يقرر العبار ذاته ان يدفن الفقير وفتاة احلامه فى قبر الرئيس وقبر زوجته قبل ان يدفنا !! الغفير المثقل بالبؤس واليأس هو اول من يدخل قبر الرئيس ..اول من يدفن فيه..لايهم الكاتب ما سيحدث بعد ذلك..ربما هنا كقراء ننحاز لقصة متفردة ونعتبر انها لم تكتمل ..لكن العبار يرى ان هذا هو اكتمال الفعل الحقيقى ..الاشياء التى تعتبرها الحكومة مقدسة لابد من انتهاكها وانتهاك هيبتها المزيفة..هو ختام لنص مفتوح اراده سالم العبار هكذا وللمتلقى ان يتوقع ما يحلو له وان يشغل مخيلته كما شاء...المهم هو الفعل..المهم الشرارة التى تنتهك قدسية الاشياء!!قرار موت العجوز قمة الانتصار وان اعتبر فى حالات اخرى هزيمة..لان الموت هنا هو بداية الحياة..الغفير الذى عصفت به الرياح ينتصر على رياح اخرى متمثلة فى السلطة القامعه..الغفير اتخذ قرار الموت بالقفز على غير المسموح به..حتى ولو كان الموت هو الموت!!لكن الموت لدى العبار قرار له فعله ومضامينه وابعاده..كما سنقرأ فى قصص اخرى.
(الشظية الفاعلة)

على نحو ما سنجد نعيمة هنا..حتى وان اختلفت شخصيتها هنا..فهناك هى جسد مسجى وهنالها فضاء مغاير..لكن موتها هناك له معنى ..وحياتها هنا لها معنى بإسم آخر,,
خاصية الفعل والبحث الدائم عنه ، موقف يتكرر فى قصص العبار..ادانة الخراب هو ديدنه ومضمونه الفكرى كما فى قصة العجوز حفار القبور..ايضا هنا نقرأ فى ( ذات الزوابع والشلال)، ذات الهموم التى تؤرق العبار الفعل والادانة ، هنا سنجد العجوز فى صورة اخرى..نجد ايضا كما ذكرنا نعيمة كيف يشكلها العبار هنا..كيف يصنع شخصيتها؟؟ قصة بلغة مستفزة..احداثها تعبر عن ذات الموقف بلغة جميلة ومشوقة ..بفن راق ٍ لاابتذال فيه ولامباشرة ولا حتى ايديولوجيا...الموقف من الحياة قد لايحتاج الى ايديولوجيا احيانا.. محاربة الفقر والظلم قد لايستند على تنظير يدفع الانسان الى الفعل..انها بداهة الاشياء والمواقف.. الانسان احيانا ليس فى حاجة الى ايديولوجيا من خارجه كى يقرر ان يفعل...الانسان هنا هو الفاعل وهو المفسر...حياة ظالمة تحتاج للثورة على اوضاعها ليس الا..كما يقول الكاتب الروسى سيرجى زينكين عن فيليب سوللير فى كتابه عن حياة فيفيان دينون ( فيفيان دينون خُُدع اقل من كثيرين ، لم يكن مُنظرا وليس فى حاجة الى عقيدة للتفسير5) فهل يحتاج البحث عن الحرية الى تفسير؟؟ فى قصة( ذات الزوابع والشلال) نفس المعنى...الفتاة هنا هى الفقيرة العانس..العذراء والمد الاخضر والحلم الوردى الرائع الذى يبشر بالثورة فى مجتمع السادة والعبيد..مجتمع فيه السلاطين كل شىء والرعية من سقط المتاع...هذه الخادمة فى قصر السيد التى اوقفوا جنازة امها كى يمر موكب السلطان..الفتاة الخضراوية لون الحياة التى لم تذعن لتحرش السيد الصغير ..ولايرعبها اتهامها بالسرقة ..فيرحلونها هى ووالدها الاعمى ...لكن الصباح ينبىء بقدر يختلف عن ترسيمات السادة..الانفجار وسقوط القصر ، وهناك الذى ينتظرها كوعد صادق..العبار هنا يخاطب امرأة فى صورة وطن (ابحث عنها فى كل امرأة لها صوت الشلال والطوفان 6) والشلال يعرف مساره وغايته عندما يكون طوفانا...الفتاة التى تمكن منها يأس العنوسة..ليس الا لانها لم تقع عيناها على الفارس الجدير بان يكون ابا لقادم يختلف!! ويكون على قدر احلامها..لانها صوت الشلال او الطوفان..رمز يلهمنا مضامين يهتف بها العبار ..حلم رائع يهيي ء لحالة تكتسح الخراب ، ينسفه ، يجذره، يشيد على انقاضه غدٌ آخر..يكتسح هو ايضا موكب السلطان شبه الإله الذى حاول ان يسقط مهابة الموت امام موكبه!!..مع ذلك لاتنكسر الفتاة ، لايغريها غزل فى ركن بورجوازى او ماخور استغلالى..وتحت وطأة الذل والاتهامات تقود والدها وترحل..لكن الافق ينبىء بما ليس فى حسبان الالهة ..ينبىء بالانفجار ؛ انها سارقة لابد من طردها من القصر 7)..الفتاة يخاطبها العبار لانها المد الذى توحد وانصهر فيه..هى ذات الهاجس والرمز الذى يهتم له فى اغلب قصصه..هى الامل ربما او المستقبل( عندما ترقص سحابة صغيرة رقصا ً دائريا سريعا فى اتجاه عقارب الساعة ، يزغرد الشلال ويتعاظم المد ، فتعلن السحب بداية الاندماج لتصف كيفية الانفجار8) ويعلن القاص سالم العبار (الاشياء القابلة للنمو لاتموت ، تتجزأ ، تتناثر ، تتباعد ، تبدو عليها اعراض الموت ، تصغر ، تذبل حينا ، لكنها لاتموت 9) هى الرمز الذى يشتغل عليه الكاتب فى مدها وانكسارها ايضا ( حاصرتنى بوجهها المصفر الذابل10) هى ذاتها ( نعيمة) فى قصة حفار القبور هنا تعيش لان لحياتها معنى ..هناك تموت لان لموتها معنى!! واسمها هو:
( مسعودة) جوهرها هو ذات المضمون والفعل هى نعيمة هناك المُحرضة على الفعل بموتها وهى مسعودة هنا المحرضة على الزوابع بحياتها...مسعودة تتفجر كى تنطلق الينابيع من باطن الطين والصخر..اى نطق الزمن بما فيه الحجر كما يقول احد الشعراء..انفجرت لتحى شظاياها قيمة الحياة ومعناها ( نتيجة عشقى الشديد لها صارت مصدرا آخر ، يمكنه الولادة ، خاصة وانها تفجرت 11) مسعودة اوسع معنى كما هى نعيمة..هى امرأة بحجم الوقت والزمن والدنيا..لذلك فعشقه لايكفيها..انه يتجزأ فيها بالاحرى( انا اعشق مسعودة ..لكنى احس بانى لااعشقها!! ، بل اعشق شظية من القنبلة 12) اذن فهى شظية من قنبلة يسميها العبار( الام)...
هذه التى بحث عنها من انفجار كبير..هذه الشظية الهاربة من جسمها كان لها فعلها فى مواجهة جحيم السيد القمىء ..هى ذرات بالاحرى من زوابع واعاصير ..من جسم كبير اسمه الوطن او( الام) شظية من مستصغر الشرر!! جحيم يرسل الجحيم للخراب !! يحرقه وينسفه...فإذا كانت هى شظية من قنبلة او قطعة من جسد الام ، فكيف يكون الحال اذا انفجرت القنبلة او الجسد بكامله ؟؟ هى الثورة..الشلال والوديان والزوابع..لله ما اروع هذا المعنى الذى يسوقه العبار فى قصته هذه...فلتتصور مخيلتنا التى اسرها الكاتب كيف ستكون الزوابع؟؟ وكيف سيمتد الاخضر..هى ايضا الارض التى رفضت ان يغتصبها السيد..لذلك وبهذا الفعل ينحاز العبار وينتصر للمد( قبل سقوط القنبلة كان الدمار..الزرع الاخضر رماد..الجفاف والتشقق ، الشقوق تمتص الاحزان وفيها تتناسل الكآبة بالقنوط!!..كان ذلك الدمار فى قلبى وفى بصرى 13) يحاول العبار ان يصف لنا القنبلة التى كانت مسعودة احدى شظاياها..رقيقة..نحيلة..عارية دائما..لكنها ايضا ثابتة فى الطين( كوتد فى الارض اخضر ثابت باستمرار ، لها انفاس من نار واخرى فيها انفاس من البحر الصيفية14)..مسعودة التى فشل السيد الصغير فى اغتصابها داخل القصر تتشظى ايضا!! شظيات من شظية صغيرة تنطلق من قنبلة او جسد كبير هو جسد ( الام)..ساعة الفعل ومنجز الادانه قد حان !! وينتصر الكاتب كما هو دائما لرمزه المتمثل فى مسعودة ( صرت ابحث عنها فى كل امراة لها صوت الشلال والطوفان ، نحيلة كالشجرة ، تتعرى ، تنثنى ، لكنها لاتنكسر 15)..هذه هى ادانات العبار لكل الاوضاع الظالمة..تنتصر مسعودة العانس العذراء على القصر بحياتها المثيرة.. بتشظيها ..كما هى نعيمة هناك بموتها على زوجة الرئيس والقبر الرئاسى المرمري الذى انتصرت عليه بعد موتها.
القصر الخؤون!!

هنا يستدعى العبار زرقاء اليمامة فى قصة ( زرقاء اليمامة فى حضرة السلطان)..تأتى هذه الثاقبة ، المستشرفه لافق لايراه الذين حولها لتعلن مشهداً آتياً لاريب فيه كما القدر المحتم.. ثم خوله وشهر زاد والمعتصم ، شخصيات يستدعيها الكاتب من عدة ازمنة عربية للنبوءة حول وطن ينتظر الفناء!! ينتظره فى استكانة وذل وانحناء نادر!! وتجاهل مرير..الكاتب فى هذا النص يطرح معطيات امة ممزقة تحت وطأة السلطة بينما الاعداء يطرقون الابواب..بل يهتكونها بالاحرى...يتشظى الوطن على ايديهم كل مطلع شمس..ترى ماذا يعنى العبار هنا: يعنى انه مع هذا الخراب فان حراس السلطة يصمون آذانهم حذر الصواعق..لكن الصواعق ستحرقهم ولن تستثنيهم وهم يتجاهلون افق يقترب رويدا ..يحمل معه الفناء والانكسار..زرقاء اليمامة فى نص العبار معتقلة داخل الجدران..حتى لاتبوح بالاسرار ، لانها وحدها التى تستكشف ما وراء الافق..تقتلها فجاءة الناس ، تريد ان تحذرهم من موت قادم لاريب فيه..هى مسجونة معصوبة العينين حتى لاتفضح الجراح والدماء تراها هى تسيل من بعيد...مكممة الفم حتى لايسمع الناس نبوءاتها..مع ذلك فزرقاء اليمامة ترى من وراء الحجب التى على عيناها وتتكلم او تغمغم وفمها مكتظ بالتراب!!( ارى قبورا تتبعثر ، ارى امواتا يقفون ،وأيادٍ محنية بدلت وضعية مدها 16) ...العبار هنا يؤكد ان زرقاء اليمامة لاتنذر بما هو آت من خراب فحسب بل وتبشر بسقوط السلطان ايضا ، لان سقوطه ربما فى ذاكرة السلطان ذاته هو المفتاح نحو غد الوطن المشرق ، فالاموات تبعث فيهم الارواح ( ارى قوما ، حفاة ، عراة ، الغابرون قادمون 17)لكن فى الوطن ما ينبىء بالخلاص..فزرقاء اليمامة تكذب التقارير التى تقدم للسلطان عن الوطن وحدوده( كاذبة..كيف ترى وهى مغمضة العينين فى حجرة موصدة الابواب ، والعسكر ، والعرافة ،يقولون ان حدودنا آمنة، اقتلها ايها الوزير إنها خائنة18) رمز الكاتب( ذات الخال) يسوقه هنا على نحو آخر لانها هى المعنى فى الثورة والرمز والوطن والارض..تقود الجموع لدك حصون السلطان حتى شارك الخدم فى الهتاف !!( ردد خدم القصر نفس الهتاف ، اطل وجه السلطان ، التقطت عيناه ذات الخال تتقدم الصفوف ، ارتفع صوتها واختلط باصوات الجموع ، تطلب رأس السلطان 19) هنا نجد توظيف شخصيات تراثية لاسقاطها على الحاضر العربى ..الذى يؤلم العبار ويهتم له..ليفجر فى الذاكرة العربية بعض ماسقط عنها وهى تستأنس المهانة ، انه هجاء لزمن يدينه الكاتب ، لكنه يرسم هذا الالم ويأخذ فى اعتباره الجوانب الفنية والادوات الملهمة لكتابته ، فيطرح همه القومى بعيدا عن الخطابية وصراخ الحنجرة وإجهاد الكتابة فى انشائية ركيكة تسىء الى النص ، او لاتستجيب للعمل الفنى ، وهذا اصعب ما فى كتابة مثل هذه النصوص ومضامينها..فالعبار لايجعل الجانب الفكرى عائقا لادواته ولايطرح النص على نحو ممل ( حذار إن القصر خؤون اري ايوبا يتمزق فماعاد لصبره من صدى !! سوى اصوات تردد : يسقط الصابرون ، قد يكون الصبر افيون ،الميتون قادمون ، يقفون ، يزحفون كالنمل التترى ، حذار إن القصر خؤون 20)...نلاحظ قضية الموت ورمزيتها التى تتكررهنا بمعنى ان الموت هنا..كما هو هناك فى قصة( حفار القبور) له فعله..ايقاظ الموتى من اجل الحياة!!.
فضلات الفقراء!!
هناك جانب فى مضامين العبار واشكاله الفنية..هو انحيازه للفقراء والمقموعين..لكنه ليس انحياز العاطفه..بل انحياز الموقف الموضوعى..كيف ذلك؟؟ إن شخوصه الفقيرة والمحكومة والمقموعه لايمكن ان يتركها تحت وطأة الهزيمة ، هذه الكائنات البائسة دائما منتصرة عند العبار لايلحق بها وهن ولا يأس..بالاحرى هى الفاعلة فى نصوصه..مثلما هى مسعودة فى (ذات الزوابع والشلال) ونعيمة و الغفير فى (عكازالغفير وقبر الرئيس والقبر الرابع) ..هم كائنات فاعلة ومؤثرة ومبادرة ، بالمقابل هناك ادانة للمترفين وسخرية بهم ، فلا يمكن ان تجد نص للعبار يدفعك الى التعاطف مع المحتكرين ( بكسر الكاف) للسلطة او المال او النفوذ ، شخوصهم دائما مهزومة ومأزومة وقليلة الحيلة مهما احيطوا بهالة السيطرة او الترف ..نجد هذا واضحا فى قصة ( تجليات مهرة عربية) ..وهى التى سميت بها مجموعته الاولى..هنا فى هذه التجليات نجد كيف ياخذ الفقير حقه من الغنى( عنوة)..فالعجوز يقفز فوق سيارة صاحب القصر ويأخذ منها الاموال ويوزعه على الفقراء ، يقول العبار فى طرح فكرى واضح بما معناه ، ان الحقوق لاتوهب بقرارات فوقية ، فالانسان المقموع هو القادر على الثورة والانقضاض على حقه فى الحياة ، والا كان من السهل اغتصابه منه مرة اخرى..المهرة:
( زاهية ) هناصعبة المراس رأسها راس إمرأة ( ارجلها تسابق الريح ن تعرف ان اطفال الثورة يوأدون فى الارحام ، أنا الآن على صهوتها – عنترة العبسى- اعيث فى ديار سارقى الحرية الدمار ، اروى سيفى الظمآن للدم ن كى لايصدأ ، كما صدأت سيوف سلاطين العروبة فى اغمادها 21) نجد هنا مباشرة واضحة ، ربما يكون الجانب الفكرى قد طغى على الجانب الفنى..لكننا نجد فى جزء آخر من عودة الى شعرية المفردة وهدوء ايقاع النص من خلال لغة وجدانية ، ربما اقرب الى التصوف : ( اعطنى انا الحنان/ اعطنى قمامة السلطان/ لشد ما انا مُهان/ يامهرة المغنى لاتغفرى/خطيئة الانسان لاتغفرى/ استحضرى البركان / الوتر والمهرة بحسبان22) المهرة هنا هى رمز الحرية والانطلاق من اى عقال ينغص الانسان !!(اسمعوا إنها تخاطبكم 23)..حوار وصفى متناغم ( اتتحدث مهرتك فماذا تقول؟؟24) نعم ..ماعساها ان تقول زاهية (مهرة العبار)؟؟ فى تجلياتها..ماذا يمكن ان ترسل لنا غير لغة مكثفة (تقول : من يقتل فينا الدكتاتور؟؟من يقتل فينا الصقر العصفور...التاج والمشيخة!! 25 ) اذن هى تساؤلات وفعل عبر اوتار مجزأة اجمل ما فيها قهر القهر وهزيمة الغبن وعلو المغبون بالفعل وحده!! الفقير الذى وزع على الفقراء اموال السيد الذى يكلفه بتنظيف سيارته مقابل عشرون قرشا ، بدلا من الاذعان للهزيمة والقهر بتنظيفها يقف على مقدمتها ويتبول !! يرمى فضلاته على ممتلكات السيد ، ويدعو الفقراء الى ان يفعلوا مثله..ثم تنطلق المهرة ( الرمز) نحو القصر..فيتهاوى امام ضربات الجموح الثائر!! ليعلن العبار ان النصر سيزحف الى عواصم اخرى..او كما يقول الشاعر مظفر النواب عن زحف الدم:
مخافة ان يزحف الدم
إلى القاهرة
سيزحف..!!
علمنى زمن فى العراق
ان الدماء هى الآخرة
وهنا دماء الفقراء يزحف بها العبار الى أفق ..او آفاق اخرى..كى يعلن المقموع انتصاره على الغبن..نكاية فى الغبن ذاته..وفى السيد الذى يمسك بسوط القهر ليلهب به ظهور الفقراء.
صلاة الواصل !!

فى نصوص العبار ليس ثمة احداث تخضع للصدفه اوحتى للاستكانه ، انها مرتبة تحيلك الى فعل او ادانة ، تحيلك الى انتصار الانسان المغبون ، هناك دائما الفعل والموقف ، والفعل يجيره لهزيمة الرداءة ، كل رداءة فى حياة الانسان ، ابطاله هم الفقراء الفاعلون لايهدأون ولا يستكينون ، كأنه بذلك يتجاوز الواقع احيانا..اعنى واقع الفقير الذى غالبا ما يكون قليل الحيلة فى مواجهة مجتمع استغلالى متسلط ، الفقراء هم الفاعلون لدى سالم العبار ، ليس ثمة امكانية حتى لهزيمتهم فى اى لحظة او اقتناص فى نصه..وذلك لايمانه بقدرة الجموع على التغيير وليس الانسان الفرد!! بمعنى الاغلبية الفقيرة ، ذلك من منطلق انهم اصحاب المصلحة فى التغيير..كما انه لايجعل من المقموع اداة اخرى بديلة للقمع ، ..بمعنى ان سخريته من الترف او المترفين المستغلين ليست سعيا لجعلهم بديل للمغبونين!! بل سعيا الى انتفاء مجتمع السادة والعبيد..وفى خضم هذه الهموم يحيلنا العبار الى همه القومى فى قصة ( عن الوصول والبداية والمعراج) حيث يبدأ مدخل النص باهداء الى شاعر العامية احمد فؤاد نجم ، ثم يبدأ فى لغة متناسقة ( غاضبا هائجا ، ساخطا ، ناعته البحر لم يزل ، هاهو مصفقا ، مرعداً يصفع السدود فى حركة ساخرة ملقيا الى البحر الحيتان المنتفخة..وتلك الاعلام الحمراء المنذرة فى عمقه..تربك الافق الضبابى الكثيف الا تتقدم ، البحر والرياح الخاطفة ، البحر والرياح ،الرايح انفاس الوالد ن إنه يتنهد ن فعن قرب منا سيده مافارق الدمع عينيها 26) هذه القصة مؤرخة بعام 1978م. بمعنى انها كُتبت بعد زيارة السادات الى فلسطين ، فيها انفاس مشاعر غاضبة وهياج من قبل الكاتب ... مثلما كانت الجماهير الفقيرة غاضبة...لان المترفين هم الذين يسعون الى تاجيل التغيير ، فالتغيير يعنى اكتساح كل ظلم ، واسقاط تزوير حقائق التاريخ والصراع ، اذن فالغاضبون هم ذاتهم الفقراء الفاعلون فى نصوص العبار ، ولذلك فهم مهتاجون مثله ومندهشون ايضا..لكن العبار لاياخذه الانفعال بعيدا ، فبوعيه لايندهش!! لانه – ربما- يعى ان ماحدث من السادات لايدعو الى الدهشة ، بل الدهشة ربما من تاخر ماحدث ، فهذا هو الآن السادات الحقيقى !!...ومن خلال بعض الاسقاطات فى النص يحيلنا الكاتب الى احد المجانين ...
(او العقلاء فى زمن الدهشة والا معقول)..ففى معادلة طريفه وذات معنى يسوق الكاتب ان حروف السلام وان كانت بعدد حروف الركوع، لكن احداهما لاتعنى الاخرى بالضرورة!! ويستشهد فى السياق بقصيدة لاحمد فؤاد نجم ويشير الى الشيخ المغنى( الشيخ امام) ثم الى السادات ( انظر القبة تتحرك !! هذا الواصل صحيح ، انظر الى وجهه ، انظر العلامة على جبينه 27)..هى اشارة مباشرة الى ما خلفته زيارة السادات فى النفس العربية..فالرجل الذى خدع السذج بالركوع ودعاوى الايمان ، كان ربما لايركع للخالق ، فعلامة السجود اذن هى من اثر الصلاة على اعتاب اخرى!! لكن العبار كعادته فى نصوصه لايفقد الامل فى الجموع..ستبزغ الشمس يوما ما..وسيبتسم القمر لسقوط المارقين ، وفى استدراك رائع ينبىء ان ( الواصل) كان شؤما على الارض منذ ولادته ، مثلما سيكون شؤما على نفسه فيما بعد او مثلما استشرف العبار !!( قالت القابلة : بأن امه شعرت بنفور منه وتقزز ، فعندما سقطت رأسه على الارض ظل واقفا عليه مدة طويلة قبل ان يسقط على ظهره !! بل انه ظل يفعل ذلك مراراً 28) الجانب الفكرى او صحائف الادانة واضحة هنا..حيث انه ، اى الكاتب ، يجعل ولادته بداية الشقاء وعلامة تطير على الارض ، والاشارة الى الادانة هنا فى كل حروف من حروف النص ( رأوا على جبين الواصل نجمة مرفوضة 29) ومع هذه الادانة والانفعال الرصين المحسوب فى نص
العبار..إمساك بتلابيب اللغة المكثفة والبناء الفنى ، وهو جانب لايستغنى عنه العبار...وهذا ما يجعله حرفى ماهر فى اختيار المفردة والمعنى الذى يشد المتلقى ، لانه اديب فنان وليس
خطابى منفعل ..انه ما اشرنا اليه فى بداية هذا الاستقراء...صدامى وغير صدامى ايضا..يحمل قضية..بهتم لها بطريقته وذائقته ايضا ..وبلاشك هو اكثر معاناة من ذاك الذى يكتب مُحايدا!! سالم العبار يدون التاريخ فى نصوصه بروح المنحاز..المثقف الذى يعرف كثيرا ما لا يُعرف ..
العبار وفضاءات خد يجار

عندما صدرت المجموعتين القصصيتين ( منشورات ضد الدولة ) و( تجليات مهرة عربيه) للاديب القاص – ساالم العبار – اختلفت حولهما الرؤى والاراء ، غير ان كل الاراء المستحسنه وغير المستحسنة اجمعت على ان المجموعتين هما مشروع لنص جديد ومغاير ..
فى مجموعة ( خديجار30 ) القصصية التى صدرت عـــام 1988م يجــد القــارىء ذاتـــه امـــام نصوص جديدة ومكثفه ، كما يجد العبار يتطور فى خروجــه عن مألـــوف القوالـــب التقليديــة الجاهزة فـــــى القصة القصيرة لأنه ( كما يرى هو ذاته) لايكتب نصوصا لمدارس سائـدة ، ا و لطواطم ثابتـــه سقطت فى سلة مهملات التاريخ ، كما سقطت نظرياتها التى كانت فى اغلبـــــها ذاتية وان حاولـت الخروج عن المألوف من حيث الشكل لكنها لم تنجـــح فــى الــــخروج عــــن القوالب الجاهـــزة ولــــم تضف اى جديد.. لذلك بقيت فى عزلة عن الواقـــع الثقافى...ولايقتصر هذا على القصة فحسب بل ينسحب على الشعر والمسرح والدراسات النقديـــة .
القاص سالم العباريحاول ان يخلق تراتبية جديدة للسرد السائد فى كل قصصه ، هذا السائد الاشكالية المطروحة الآن التى يعيشها الواقع الثقافى العربى ، اشكالية ايجاد لغة جديدة ونص جديد ومضمون متجدد يواكب العصر وينحاز للانسان... وقراءة نصوص العبار تحتاج ايضــــا
الى الــخروج مــــن القوالـــب الجاهـــزة للحكم عليها بمفردات عصرية تبتعد عن الاستقراءات الساذجة المركبة على مقاس مدارس تقليديه تعتمد فى مرجعياتها على نظريات عفا عليها الزمن واهال التاريخ عليها التراب واصبحت فى ذمته لانها مدارس تتسم فى قراءاتها على الفرضية الجاهزة والمسبقة ....
قراءة خديجار فى زاوية صغيرة هو عبارة عن اضاءة لقراءة اعمق واشمل لهذا الكاتب الذى يكتب نصا مختلفا..
خديجار سيرة ذاتية غير تقليديه ، بمعنى انها توظف الواقع لكنها لاتطرحه بدون رأى او فن او ابداع..هي بعيدة عن التصالح مع الواقع او التسجيلية المكرسه او المعــتادة ، بل يستفيد من التجربة الذاتية لقراءة اعمق وفن راق فى التعبير عن المعانـــاة من الطفولة الى الكهولـــة .. وكما هو فى قصصه ومجموعاته الاخرى يحمل العبـــار هاجـــس الحريــه ويلازمه كما فــــى تجليات مهرة عربيه عندما اراد فى احد قصصـه الا يخـــرج العصفور من الغرفــة بقـــرار مــن خارجه بعد ان فتحوا له اهم المنافذ لكى يخرج ..اصـــر علــــى ان يبقى العصفور حبيس الغرفه بقراره حتى فتحت كل المنافذ والمداخل ..فقرر الخروج من غيــر الباب او غيـــر المنفذ الـــــذى ارادوا له ان يخرج منه فقط اذا اراد الحريه..وهنا ادانة للحرية المشروطه ففى هاجس العبــــار ان الحريه الحقيقية هي التى بلا شروط!!
خديجار... هي ايضا تجليات للعبار..تجليات لادانة هذه العصر بكل تفاصيله السخيفة , بقذاراته وقهره وتسلطه على الانسان..الانسان المرعوب الذى فقد القدرة على الابداع بسبب القهر كما فى قصة( فساد النص )والذى فرض عليه التخلف كما فى خديجار، والذى يحمل الشىء ونقيضه كما فى ( الفارس ).. وفى المجموعة قصص اخرى ذات انفاس تتقد ولغة مكثفه فى الجنح والمسخ والسبابة وقصص اخرى..
عالم العبار فى خديجار كما هو عالمه فى عدة نصوص اخرى ..مزيج من النظام والفوضى والعبثية والضجيج ، وهو فى كل ما يكتب كائنا رافضا وساخرا وقاسيا عميقا متمعنا واعيا لكل ما يدور حوله.. وصعب ان تقرأ العبار دون ان تنتفض فى ذاكرتك كل التفاصيل والهموم التى يعانى منها الانسان اينما كان...

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
1- تجليات مهرة عربية...قصة عكاز الغفير وقبر الرئيس والقبر الرابع.
2- نفس المصدر السابق.
3- = = =.
4- = = =.
5- دينون..بلزاك..كونديرا..من ما قبل الرومانتيكية إلى ما بعد الحداثة، سيرجى زينكين..ترجمة: اشرف الصباغ..منشورات المشروع القومي للترجمة – مصر ط2002م.
6- تجليات مهرة عربية...قصة ذات الزوابع والشلال.
7- نفس المصدر السابق .
8- = = = .
9- = = = .
10- = = = .
11- = = = .
12- = = = .
13- = = = .
14- = = = .
15- = = = .
16- تجليات مهرة عربية قصة زرقاء اليمامة فى حضرة السلطان .
17- نفس المصدر السابق.
18- = = = .
19- = = = .
20- = = = .
21- تجليات مهرة عربية ..قصة ( تجليات مهرة عربية)
22- نفس المصدر السابق.
23- = = = .
24- = = = .
25- = = = .
26- تجليات مهرة عربية – قصة : عن الوصول والبداية والمعراج.
27- نفس المصدر السابق.
28- = = =.
29- = = =.
30- خديجار ..مجموعة قصصية صدرت عام 1988م.