بداية السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته...
اسمحوا لي أن أتطرق لموضوع طالما يتحدث عنه الجميع حتى أصبح من الروتين الحديث عنه... لكن للأهمية التي يكتسيها وللخطورة التي تكمن في السكوت عنه ، فضلت أن أثيره من زوايا أخرى في أهم النقط حسب رأيي وذلك كواجب مني لأبرئ ذمتي كشخص قضى أكثر من 50 سنة في هذا الميدان...
--------------------------------------------------------------------------------------
" مــن مــشــاكـــل الــمــنــاهـــج الــتـعـــلــيــمــيــة في بــلادنــــا ".
المنهجية الصحيحة :
إن التركيز على الدقة في كل جزئية في إطار منظومة ما مع مراعاة العلاقات الموجودة بين جميع المكونات لتلك المنظومة أو الفكرة أو الموضوع ، نعم ، التركيز الدقيق يؤدي إلى اكتساب منهج عقلاني علمي يضع جميع الأمور في نصابها المثالي وبكل سهولة و سلاسة ودون أي عناء، بل ويساعد الذاكرة والمخيلة على الابتكار و الإبداع بتلقائية تكاد تسميها "الإلهام"وهذا يحصل في جميع مجالات الإبداع : الفكر، الأدب ، الشعر ، الموسيقى ، الفلسفة و حتى في ابتكار الخطط التكتيكية في الألعاب الذهنية وفي ألعاب الكرة الجماعية ... ونلاحظ هذه الملكات عند عدد من التلاميذ والطلبة والأساتذة والمفكرين وبعض الفنانين الذين لا يجدون أية مشكلة في التعامل مع أي موضوع و أي نشاط لكونهم نشئوا عن طريق هذا المنهج...
أما مجال اكتساب روح الدقة والتمييز و الملاحظة الدقيقة والضبط فيكون في المراحل الأولى لكل عملية تعليمية وفي جميع الأنشطة المدرسية من لغة وعلوم ورياضيات أو حساب و هندسة ورياضة وتشكيل وموسيقى... وفي كل ما يتعلق بالتربية الجمالية . وفي غياب هذه الملكة –أي الحس- والملاحظة الدقيقة – يحصل العكس ... وما العكس إلا ما نشاهده بكل أسف عند كثير من التلاميذ أو الطلبة أو حتى عند بعض "المدرسين" الذين –مع الأسف - يعجزون -- لتصحيح أنفسهم - عن التواصل سواء مع النظريات المدروسة في مراكز التكوين والمقررات أو مع من يحاولون تصحيحهم - وتجد كل ما يقدمونه من دروس أو شروح أو عروض تخلو من الدقة والجمالية في الأسلوب وحتى من الفكر فضلا عن ضعف المحتوى والابتعاد عن المقصود من الموضوع المطروح نفسه ، وأن التفكير عندهم يبقى سطحيا . وهذا ما يعاني منه أغلبية الطلبة الجامعيين الآن في قضية غياب المنهجية ...
فالمنهجية أساسها التعلم في الصغر أو لنقول في فترة مبكرة من الحياة وإلا طغت على التلميذ - الذي هو مستقبل المجتمع - العشوائية وعدم الضبط وتفكك الأفكار لأن تلك العلاقات والجزئيات لم تراع منذ البداية وأعطيت المعلومات الأولية بطريقة سطحية و جملة دون تحليل ولا تبرير و لا دعوى إلى التبرير ولا إلى العلاقات ولو بإشارة بسيطة : مثلما نقوم به في تدريس الرياضيات والحساب من برهنة وقيام الأدلة لتعويد العقل منذ البداية على المرور من تلك المراحل بسرعة فيستطيع بالتالي تركيب الفكرة أو الأفكار داخل منظومة (موضوع) معين ... بل ليتمكن من بعد أن يبدع في أي نوع من الإنتاج...وتسهل عليه سبل التعلم – تعلم أي شيء في أقرب وقت لأن هذه المؤهلات تحفزه و تشجعه على الاستمرار في الاجتهاد – وعندها يشعر بالمسئولية إزاء نفسه ولم يعد ليتهاون ابتداء من تلك المرحلة -- و تجدر الإشارة إلى أنه يجب أن نلاحظ شيئا جد هام يحصل من إتباع هذا المنهج :
- إنه منهج تعليمي يصل بنا إلى نتيجة تربوية أهم من المعلومات المغلوطة ومن ملء الأذهان بالخزعبلات-: ألا و هي الشعور بالمسؤولية والثقة بالنفس . وبهذا المنهج وحده ولا بغيره نستطيع أن نصل بالطفل أو الشاب إلى هذا المستوى من الشعور الذي هو من أهم أهداف التربية بصفة أساسية .لأنه بفضله سيستطيع الطالب التحدي لكل ما كان يبدو له وما يبدو الآن لكثير من أولائك التلاميذ والطلبة الذين لا يجدون حلا لتدني مستواهم رغم حسن نيتهم وقوة إرادتهم و عزيمتهم ومحاولاتهم إلا أنهم يصابون في الأخير باليأس والإحباط .( وما أكثر هؤلاء الضحايا في مجتمعاتنا ، قدرات وذكاء وطاقات هائلة ضحية لسوء المناهج و غياب الضمير عند عدد كبير من المسئولين والمدرسين بدعوى أن بالتعليم به خللا أو أن الميزانية المعتمدة لا تكفي ولا يحاولون البدل في إطار الممكن من المجهود المعنوي والفكرية لتصحيح ما يمكن تصحيحه، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تلقائيتهم أو بوازع أخلاقي مع أن هذا لا يتطلب المادة بل الفكر والكفاءة – أو لنقل بأن فاقد الشيء لا يعطيه – لكن هذا المشكل وللأسف يرجع كذلك إلى انعدام الضمير والأخلاق وغياب والمعرفة لأن من يملك العلم والأخلاق لا يمكنه أن يبخل ولو بدرة مما يكسبه ولأن العلم والمعرفة والأخلاق شحن روحية تحرك الإنسان وتحفزه وتحمسه ولو كان مريضا.
فالمشكلة التي أثيرها هنا- وهي نسبية - تدل دلالة قاطعة على أن فريقا من هؤلاء الضحايا من التلاميذ و الطلبة ليسوا بأغبياء ولا كان ينقصهم شيء إلا العناية، فكثير منهم إذن ضحايا لغياب الضمير أو لنقص في كفاءة المسئولين.
وأين دور مراكز التكوين بل وأين التكوين الذي هو في مراكز التكوين؟ أو هي مراكز "للتكوين" بالمعنى الدارج- (" كونوا وسكتوا" أحسن لكم...) .
وهذا هو سر الفرق بيننا و بين العالم الغربي والدول التي فاقتنا في ميادين العلوم والتكنولوجيا بفضل التربية والتعليم السليم الذي يوجه الطفل في طور مبكر من حياته ، لأنه اكتسب المنهج و الأدوات ونمى الملكات الطبيعية والبيداغوجية أي تكونت لديه الكفايات التي تسهل عليه التعلم و تكسبه القدرة على الإبداع و الابتكار الذي نلاحظه عندهم في مختلف المجالات ومنذ زمن بعيد.
إذن، والحالة هذه، فإلى متى سيستيقظ المسئولون عن التعليم لتوحيد المناهج وبناءها عمليا على هذه المبادئ والأسس الضرورية ؛ فهي موجودة كنظريات في الكتب (علوم التربية – مراكز التكوين...)، لكنها غير موجودة أي لا تطبق في العمل داخل القسم مع التلاميذ . فأين إذن دور المراقبة التربوية – إذا سلمنا بصلاحية المقررات وبكفاءة المراقبين -- ؟ بل وأين المقررات التي بنيت على هذه النظرية التي تراعى فيها هذه الأسس البيداغوجية الضرورية ؟ وإلا فالمصيبة ستبقى مستمرة إلى الأبد…فلماذا لا يستعان بخبرة أولائك المدرسين الذين يعملون بهذه المبادئ في الميدان ليكونوا النمودج والقدوة لتطبيق تلك النظريات التي تحفظ عن ظهر قلب من طرف المتخرجين من مراكز التكوين ولا يستطيع احد منهم تطبيقها والوصول إلى أهدافها؟؟ أم تمسك غريق بغريق…فإلى متى ستظل الأمور هكذا رهينة الأنانية و المحسوبية والمصلحة الخاصة … على حساب مصير أجيال بل أمة تعاني من فقدان القدرة على إثبات ذاتها ، والحالة هذه أن الخلف في ميدان التربية لايمكنه أن يكون إلا صورة للسلف أو أقل منه كفاءة وهكذا ذواليك سنبقى نعيش في حلقة مفرغة وفي دوامة لا يمكن الخروج منها إلا بإعادة النظر في هذه المناهج وفي تكوين الأطر بعيدا عن الشكليات الزائفة والمغالطة التى تدس السم في العسل والتي نستوردها كنظريات لا تمت بصلة لا إلى واقعنا و ثقافتنا و هويتنا ولا الحقيقة العلمية ولا حتى لواقع الغرب الذي يصدرها إلينا ( ولنقارن مستوى العطاء عند تلميذ من المدارس الحرة التي تعمل وفق برامج ومناهج فرنسية مع مستوى أبناءنا الذين يدرسون ما شاء الله في مدارسنا . فالفرق جد مخيف ينذر بكارثة لا محالة .
إنه لا يمكن الخروج من هذا النفق المظلم ومن هذه الحلقة المفرغة إلا بإعادة النظر في هذه القضايا وذلك بإشراك من لهم الخبرة الميدانية، الذين يمكنهم إيجاد الحلل وبكل سهولة ، وليس بالاقتصار على أشخاص معينين وعلى منطقة معينة كما يحدث دائما في محاولة كل تغيير-- الذي ليس له من التغيير إلا الشكل والألوان على حساب سذاجة مدرسين صامتين ، وعلى حساب مستقبل أجيال هذه الأمة-- و بعيدا عن تكرار نفس المقررات ونفس الروتين و بعيدا عن هذه المشاكل التقنية التي تتكرر فضلا عما يتزايد من المشاكل التي يعرفها التعليم على مستوى الخصاص في التجهيز والبناء والأدوات التربوية و مشاكل المنح…
و ما يزيد في الطين بلة هوظاهرة" الدروس الخصوصية" التي أصبح يعاني منها التلاميذ الضعاف وأولياءهم الفقراء والتي تستوجب حلا مستعجلا . لآن أغلبية المدرسين الذين يقومون بها لا يعملون في القسم بجدية و لا يعطون الدروس المقررة إلا خلال السويعات المأجور عنها و يبقى الضحايا بالتالي هم الفقراء و الذين لا يريدون الاستفادة من تلك "الدروس" .
إن هذه ظاهرة خطيرة تتنافى والأعراف التربوية والدينية و تهدد أخلاقيات المهنة ككل .
وإذا كان هذا يحدث في التعليم الذي هو القدوة والأساس في بناء الأمة وتقدمها، فما ذا عسانا أن نقول في ميادين أخرى غير تلك التي لها صلة بميادين التربية والأخلاق؟
( من محاضرة للأستاذ محمد رفقي المشرقي )