الأغنيات النادرة لفيروز
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
دمشق
صحيفة تشرين
ثقافة وفنون
السبت 16 أيار 2009
يوسف الجادر
صوتها يطرق شبابيك عمرنا التي صدأت عبر رطوبة السنين، وأغنياتها تفتح لنا فضاءات الحلم على مصراعيه، وتأخذنا إلى مساحات جديدة للرؤى، فيروز ذلك الصوت المتجدد الذي يعيد لنا طعم الحياة، إذ ننتشي بنبيذ نهاراتها كلما استمعنا أكثر إلى أغنيات جديدة، واكتشفنا تفاصيل وأشياء ثرة وغنية. وبالحنين ذاته، مازلنا نتمتع بسماع صوتها فاكهة الصباح، يفتح لنا فضاءات للشمس والغيم، ويتركنا في مهب المتعة.
هذه الأيام يتداول عشاق فيروز أغنياتها النادرة، وهي ليست نادرة بالقدر الذي يبثه يومياً الإعلام المسموع لعددِ من الأغنيات المشهورة ويكررها لدرجة شعورنا بأن لفيروز عدداً من الأغاني تتسابق الإذاعات لبثها يومياً، فيصبح سماع تلك الأغنيات أشبه بعادة الذهاب إلى العمل صباحاً، واحتساء فنجان القهوة، لكن لفيروز حكاية أخرى تتجاوز تلك العادة اليومية إلى فضاء جمالي أوسع وأعمق، فأغنياتها تعيد تفاصيل وجوهنا المرمية في زمن السرعة والانتقال من مكان إلى آخر مليء بالضجيج، المكان الذي أصبح باهتاً ومبعثراً لا نملك مفاتيحه. ‏
(نوادر فيروز) هي مجموعة من الأغنيات لم تأخذ نصيبها الكافي من البث في الإذاعات، وهي إحدى الاكتشافات التي نتداولها نحن الذين نتنفس أغنياتها ونشرب نخب ارتواء ألحانها في لحظات الوجد والغياب، و النهمون للاستماع إلى الغناء الأصيل من ألحان وأغنيات تأخذنا من وجع الأيام وقساوة الواقع،تلك الأغنيات (النادرة) والتي كان لها حضور في بدايات الإذاعة السورية، في أربعينيات القرن الماضي، إذ كان الرحابنة في أوج إبداعهم وعملهم الجماعي حينذاك، فهي تعكس النموذج الأسمى للغناء الذي يشارك فيه مجموعة من الأصوات ويتركون للصوت (الصولو) مجالاً يمسك الجملة الغنائية ليضعها في انسجام المناخ العام للأغنية كأغنية: (ما أحلى الرجعة بكير والدنيا رفوف عصافير)، أو أغنية (كيف حال الضيعة)، أو أغنية (بوفارس عندو جنينة ع كتف العين تفاحاتا ياعيني بتملي العين)، تلك الأغنيات تفعل فعلتها في بعث الهدوء في النفس لأنها تجعل المستمع في مناخات الطبيعة البكر، والحياة الصافية الهادئة، بعيدا عن تقنيات العصر الباهتة،فللغيم حضوره المؤنسن في أكثر من شكل، وللعصافير مسكانها في قرميد البيوت، وللجبال عباءتها الخضراء.

إن أغنيات مثل:(غمارنا ع كتافنا تزيد)، و( بلبل غنى بحقلتنا)، و(كرم صغير ودار)، و(ميلي ياغصون الأزهار)، ذات جو واحد من حيث الجملة الإيقاعية والشعرية واللحنية، لكنها تعيد في صفاءها أجواء الضيعة البسيطة ذات الغيم الذي يقطن فوق الحقول، والشمس الخجولة الحمراء كأنها خدّ صبية الضيعة الغض، وذلك العصفور الذي يسرق من أزهار السور الندى، و الرحابنة في هذه التجربة أنجزوا الأغنيات بأبسط آلاتهم الموسيقية (الإيقاع والبزق) وشارك الكورس بمرافقة البزق والإيقاع أداء الأغنية كاملة، ولفيروز صوت (الصولو) بين مقطع وآخر كأنه صدى الوديان في تلال الضيعة. ‏
تلك الأغنيات العتيقة التي اشتغل عليها الرحابنة في بداياتهم، ووضعوا من خلالها الحجر الأساس للأغنية العربية القصيرة، والتي بدأها الشيخ سيد درويش، وأخرجها من إطار الصالونات الموسيقية التي تحاكي نخبة معينة من المجتمع،إلى أوجاع الناس فانتشرت بين أطياف المجتمع وعكست روح البسطاء والفلاحين، فعندما يصف سيد درويش نهار حبيبته (أبيض من صحن القشطة) فإنه يُخرج الغزل السائد من نمطية ثابتة وكلاسيكية طغت فترة طويلة على الشعر المغنى وقتذاك، إلى البساطة والعمق، والرحابنة بدورهم أنجزوا الأغنية القصيرة بكل بساطة وعمق، فكانت أشبه بومضة شعرية تعكس واقع الناس وحياتهم لها روح مختلفة ومناخ مغاير، تظهر فيها جمالية الطبيعة بصور مختلفة ومغايرة. ‏
تلك الأغنيات مغيبة لأسباب عديدة في هذه الأيام، ولانسمعها في الإذاعات العربية، وموجودة عند قلة وأشخاص معدودين من عشاق فيروز، ولا تبثها إذاعات الـ ( fm )على كثرتها، وكأن القائمون على إعداد البرامج الموسيقية الصباحية لايسمعون بهذه الأغنيات. ‏