واقع الترجمة لا يبعث على الرضا لاقتصاره على الجهود الفردية وافتقاده الشمول والاستمرارية

محمد الطاهر الميساوي الفائز بجائزة الملك عبد الله للترجمة لـ "الاقتصادية":
في تكامل ثقافي مع المشروع الحضاري الذي يقوم به خادم الحرمين الشريفين على مستوى الحوار العالمي، تأتي جائزة الترجمة التي حملت اسمه، حفظه الله، لتعكس توجها فكرياً مهما لتفعيل هذا الجسر الممتد بين ثقافات العالم من خلال العمق الرئيسي للتفاهم الإنساني والمتمثل في اللغة.

وتزامنا مع إعلان نتائج الدورة الحالية تستضيف "الاقتصادية" الفائز بجائزة الترجمة في العلوم الإنسانية من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى الدكتور محمد الطاهر الميساوي أستاذ الفلسفة والتراث الإسلامي بالجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا والذي تحدث بصراحة عن هموم الترجمة ومعوقاتها، منتقدا غياب المؤسسية والتنظيم و ضعف الاهتمام بهذا الشأن على الرغم من أهميته الحضارية لاسيما في وقتنا الراهن.

هيثم السيد من الرياض
- ما انطباعاتكم بعد فوزكم بجائزة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة؟

لا شك أن الحصول على جائزة مثل جائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة، من شأنه أن يبعث في المرء شعورًا قويًّا بالبهجة والرضا بما أنجز من عمل، ليس فقط بسبب الجانب المالي أو المادي للجائزة مع أهميته، ولكن الأهم من ذلك أنه ينطوي على تقدير معنوي كبير للجهد العلمي والفكري الذي يبذله المترجم، مسهمًا بذلك في نقل جانب من المعرفة لا شك أنه سيؤثر في حياة الكثيرين من مستخدمي اللغة المنقول إليها العملُ المترجَم، وسيفتح عقولهَم ووعيَهم على آفاق جديدة من الفهم والإدراك ما كان لهم أن يرتقوا إليها لولا الجهد الذي يبذله المترجم. وفضلاً عن ذلك، فإن الفوز بمثل هذه الجائزة يولد في نفوس الكثيرين ممن لهم صلة بالمترجِم (سواء في ذلك أسرته وأقرباؤه وأصدقاؤه) قدرًا كبيرًا من الفخر والاعتزاز لا شك أنه يشحذ عزيمته ويقوي دوافعه لمزيد من الإنجاز في مجال الترجمة أو في غيره من المجالات.


كيف ترون هذه الجائزة ودورها في تنشيط حركة الترجمة من اللغة العربية وإليها؟

إن إنشاء هذه الجائزة خطوة تستحق كل التقدير والتثمين، وهي في الحقيقة غير مسبوقة في التاريخ الفكري والثقافي للمسلمين في العصر الحديث، لا على مستوى الدول والحكومات ولا على مستوى المؤسسات العلمية والثقافية المحلية والإقليمية. فهي بذلك لبنة مهمة على صعيد الدعم والتشجيع لجانب حيوي في التواصل العلمي والفكري والثقافي الرصين بين المسلمين وغيرهم من الشعوب والحضارات في العالم. وهذا الجانب (أعني الترجمة) لم يلق في تاريخنا الحديث من العناية ما هو جدير به، على الرغم من أن المسلمين في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية كانوا في تاريخ الإنسانية أول من نهض بأكبر حركة شاملة ومنظمة للترجمة العلمية تضافرت فيها وتكاملت عقول العلماء والمفكرين وجهودهم باهتمامات الدولة ومؤسساتها بدءًا من الخليفة، فكانت بذلك أنموذجًا متفردًا في الانفتاح طلبًا للمعرفة وبحثًا عن الحقيقة مهما كان مأتاها، إذ الحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها. وإني لآمل أن يكون في إنشاء هذه الجائزة حفزٌ لمبادرات أخرى في هذا الاتجاه ترتقي بأوضاع الترجمة على نحو يجعلها أكثر فعالية وأقدر على الاستمرار على نحو منهجي منظم.

كانت الترجمة دائماً من عوامل التقارب بين الحضارات والثقافات فهل يعكس تعالي صيحات صراع الحضارات في السنوات الأخيرة تراجعاً في نشاط الترجمة؟

إن الله سبحانه، الذي خلق البشر متنوعين مختلفين شعوبًا وقبائل قد جعل من آياته في ذلك الخلق اختلاف ألسنتهم، كما جعل من ذلك التنوع والاختلاف مدعاة للتعارف. وقد ألهمهم وركب فيهم القدرة على تعلم لغات بعضهم بعضا والإعراب بها عما في نفوسهم وعقولهم لتحقيق ذلك التعارف تفاهمًا وتواصلاً بين الشعوب والحضارات وتقاربًا وتعاوناً في مجالات الحياة كافة. وفي الحقيقة إن الكلام على صراع الحضارات والتبشير به ليس إلا نوعًا من الانغلاق أو ضربًا من عدم القدرة على التفاعل الإيجابي مع الآخرين، بحيث لا ينظر القائل إلى العالم إلا من زاوية ضيقة متمركزة على الذات، محكومًا في ذلك بعقدة الاستعلاء على الآخرين والخوف منهم في الوقت نفسه.

بصراحة شديدة، هل تشعرون بالرضا عن واقع الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى؟

للأسف واقع الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى لا يبعث على الرضا والاطمئنان، فهو مرهون في معظم الأحوال بالمبادرات والجهود الفردية التي لا تتوافر لها شروط الشمول والاستمرار والإتقان في غالب الأحيان. وبالتالي لا نستطيع أن نتحدث عن حركة للترجمة ذات وجهة محددة، وأهداف معلومة، وخطط واضحة، الأمر الذي يمكن أن يجعل المترجم يسير في جهوده حسب معايير منضبطة تجعل ما يقوم به متكاملاً مع جهود الآخرين.

ماذا عن اختياركم لكتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية"، وترجمته إلى الإنجليزية، والذي حصلتم من ترجمته على الجائزة، هل ثمة دوافع خاصة وراء ذلك؟

لقد عشت مع كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" بصورة خاصة ومع بقية مؤلفات الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، عليه رحمة الله، تجربةً فكرية امتدت لعدة سنوات تفاعلتُ فيها مع مستويات وجوانب متنوعة من تراثه الفكري. فقد قمتُ بتحقيق هذا الكتاب في نصه العربي وأرفقته بدراسة موسعة عن موضوعه وسياقه الفكري والتاريخي، ثم كتبتُ أطروحة دكتوراه حول الأبعاد الاجتماعية لفكرة المقاصد عند ابن عاشور انطلاقًا منه، كما قمت بتدريس جملة من مسائله وموضوعاته للطلاب وخاصة في الدراسات العليا. وفي أثناء ذلك، كانت تتكشف لي باستمرار القيمة الفكرية والعلمية العليا لهذا الكتاب. فالشيخ ابن عاشور نجح فيه نجاحًا كبيرًا على صعيد تقديم نص مركز يعكس نظام أحكام الشريعة ونسق قيمها، ويجلي خصائصَها وأبعادها وفلسفتها بصورة شمولية ومنهجية علمية قادرة على التواصل مع هموم الإنسان المسلم وغير المسلم في العصر الحديث، هذا العصر الذي أصيب فيه الكثيرون بفقدان الرؤية المتوازنة للقيم العليا الحاكمة للسلوك والفعل الإنساني في جوانب الحياة المختلفة، وذلك بسبب عوامل كثيرة ليس هذا مجال شرحها وتفصيلها. ولذلك شعرتُ بأن الواجب يقتضيني أن أنقل هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية التي هيأ الله تعالى لي الفرصةَ لتعلمها وإتقانها، لكي يستفيد منه المسلمون وغير المسلمين على حد سواء مِمَّنْ لا دراية لهم باللغة العربية، أو لا تُمَكِّنُهم معرفتُهم لها من الفهم الجيد لمضمون الكتاب والرسالة التي أراد المؤلف إبلاغها إلى القارئ. وقد سبقت لي تجربةٌ ودوافع مماثلة دراسةً وترجمةً لبعض أعمال المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي ،عليه رحمة الله، وخاصة كتابه الفريد "الظاهرة القرآنية".


تُرجمتْ كتبٌ كثيرة في الفلسفة الأوروبية إلى اللغة العربية، وهي أكثر بكثير مما ترجم من الفلسفة الإسلامية إلى اللغات الأخرى.. بم تفسرون ذلك؟

إذا كان المقصود بالسؤال الكتابات الفلسفية الحديثة في اللغة العربية، فهذا صحيح. أما إذا كان المقصود التصانيف الفلسفية القديمة فليس الأمر كذلك، إذ من المعلوم أن كثيرًا من الأعمال الفلسفية الإسلامية قد ترجمت إلى عدد من اللغات الأوروبية وغير الأوروبية، وخاصة الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وما زالت هناك حتى الآن جهودٌ علمية تبذل من قبل باحثين ومفكرين غربيين مهتمين بالتراث الفلسفي الإسلامي لنقل نصوص مختارة منه. وبالنسبة لندرة الكتابات الفلسفية الحديثة المترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى، يمكن أن نرجع هذه الظاهرة إلى سببين رئيسين: الأول قلة الأعمال الفلسفية الإبداعية أو الابتكارية في اللغة العربية التي تعبر عن رؤية متميزة وموقف أصيل، حيث إن الغالب على الكتابات الفلسفية أنها ليست أكثر من نُسخ – قد تكون مشوهة – للأفكار والمفاهيم والرؤى التي أنتجتها المدارس الفلسفية الغربية. أما السبب الثاني، فهو قلة المتقنين للغات غير العربية، فضلاً عن المعرفة العلمية العميقة بمجالات الفكر الفلسفي ومصطلحاته ومفاهيمه. فالترجمة العلمية المفيدة لا تكفي فيها المعرفة باللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها النصُّ المترجم، وإنما لا بد من معرفة المجال الدلالي لذلك النص عامة ومعرفة موضوعه خاصة والإحاطة بمسائله بصورة دقيقة.


إلى أي مدى يمكن أن تنجح ترجمة الكتب الإسلامية في تغيير الصورة الذهنية المشوهة عن العرب والمسلمين في الغرب؟

لكي تؤتي ترجمةُ الكتاب الإسلامي أكلها في تغيير الصورة الذهنية المشوهة عن الإسلام والمسلمين في الغرب وفي غيره من بلدان العالم، لا بد أن تتنوع الأعمال المترجمة بحيث تعكس الأبعاد والمجالات المختلفة للفكر والثقافة الإسلامية في العقيدة والقيم والسلوك وفي مجالات الأعمال الفنية الإبداعية التي تعبر عن تلك القيم وتجلياتها في التجارب الحياتية والعلاقات الإنسانية، وفي مجالات العطاء الثقافي والعلمي عامة.

يرى البعض أن الترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى تفتقر إلى الجهد المؤسس المنظم فما صحة ذلك... وكيف يمكن علاج هذا الأمر؟

هذا حكم صحيح، إذ لا أعلم شخصيًا وجودَ أية مؤسسة متخصصة وذات إمكانات مادية مقدرة وطاقات إنسانية مقتدرة وخطط علمية معلومة تُعنى بشأن الترجمة من اللغة العربية إلى غيرها من لغات العالم. وحتى إن وُجدت مؤسسةٌ أو أكثر تسير في هذا الاتجاه، فغالبًا ما يكون ذلك لأمد محدود، حيث تقعد بها عن الاستمرار الشروطُ المادية والثقافية والاجتماعية غير المساعدة. ولذلك فالحاجة ماسة جدًّا ليس فقط إلى مؤسسة واحدة تختص بالترجمة وإنما إلى مؤسسات عديدة، إذ إن مجالات الفكر والثقافة الإسلامية التي تتطلب ذلك كثيرةٌ ومتنوعة، ولا يمكن أن تفي بها مؤسسة واحدة أو جهة مفردة مهما كان لديها من إمكانات. والمهم في مثل هذا العمل أن يجري حسب خطة دقيقة يتم إعدادها وفق أولويات محددة وبناءً على رؤية واضحة لما يراد تحقيقه من أهداف وبلوغه من غايات في إطار علاقاتنا مع الآخرين وطبقًا لاحتياجاتنا الحيوية المختلفة. فلا ينبغي أن يترك الأمر للعفوية أو أن يكون مجرد رد فعل لهذا الحدث أو ذاك مما قد نشعر معه بالاستفزاز من قبل بعض الجهات التي تكن العداء للإسلام والمسلمين.