من عالم الفقر , جاء البطل
" أبي يعود كل مساء خائبا , نسكن في حجرة واحدة, أ نام في نفس المكان الذي أتقرفص فيه " عدد أفراد أسرتي 12 "
"عثر لي أبي على عمل في مقهى شعبي في نفس الحي , أعمل من السادسة صباحا حتى منتصف الليل "
" أدخن الكيف والسجائر في الخفاء , حين أتسخر لأحد زبن المقهى يعطيني – سبسيا – من الكيف أو كأس خمر أو قرصا من معجون الحشيش, تقيأ ت هلاما أصفر أخضر عدة مرات . مرضت , وفي أيام المرض بدت لي الحياة غريبة , المرض يعمق الوحدة , والإنسان يحب نفسه أكثر من الوحدة, أدركت أني لست سوى أنا , وحدي أراني في مرآة نفسي , العالم يبدو لي مرآة كبيرة مكسرة وصدئة, أرى فيها وجهي مشوها "
" قصدت الشاطئ فارغا , أحس نفسي رخوا , أتخيل أني سأسقط ... لكي أنسى ما حدث رحت أتأمل خطواتي على الرمل تلعقها الأمواج " ش1"
أصوات علت , أصابع تشير, صياح . صفا رة , رميت بصري إلى حيث تشير الأصابع , يدان تطفوان ثم تغوصان في ماء البحر, رميت قميصي وسراويلي على الرمل, ركضت عدوت , لا أد ري بأية سرعة وصلت الماء , ارتميت , شققت الأمواج أغوص تحتها , أدركت الجسد المتهالك من شدة المقاومة , صرت أد خل تحته ليرتفع إلى سطح الماء قليلا , ثم أطفو بجسمي لآخذ نفسا وأنا أد فع الجسد , ولم أ تبين أهو ولد أو بنت إلا وقد استلقى جسدانا على رمل الشاطئ , التف الجميع حولها . يدعك أحدهم صد رها , تتقيأ ماء البحر الذي ابتلعته , لا يشبه ذا ك الهلام الأصفر الذي تقيأ ته بفعل الحشيش , وواحد فقط من الجمهور المتحلق حولنا اهتم بي , سألني عن صحتي وما إذا كنت أشكو ألما . سؤاله غريب لم أعتد ه من أحد حتى عندما كنت مريضا وأشعر بعمق ا لوحدة . - استرجع جسدانا بعض قوتهما , أخذنا الرجل إلى حيث العائلة, تحث المظلة الشمسية المنصوبة قرب الشاطئ , سيدة تحضنني وتشكر شهامتي , ناولتني كوب عصير, قدمت لي ملفوفا , نصف خبز " باكيط " به كفتة وورق أخضر. كم كان لذيذا ؟ تما ثل اثنانا للعافية , وسمعت صوتها لأول مرة . بعد أن انتشلتها من مخا لب الموج متحديا حبال المخاطر, إنها تسأل ماذا حدث ؟
وفي نفس اللحظة فاجأني سؤال الرجل – وهو أب الفتا ة - كانت سرعتك مثيرة وأنت تعدو نحو البحر. هل تمارس رياضة العدو ؟ سؤاله غريب . أنا لم ألعب قط أية رياضة فكيف أعرف رياضة العدو . وهل للجري رياضة ؟
استدرجني في الحديث , سؤال يجرنا لسؤال آخر, إلى أن أدرك أني على فطرة, وأدرك معاناتي مع الفقر والتشرد , وأدرك الفوارق التي تجعلني أحس أني أقل منهم , إلا من أن لي فضل عليهم بإنقاذ ابنتهم
دعاني لرفقة العائلة في جولة بالمدينة . الشارع مضاء , والمطاعم غاصة بالرواد , ورائحة الطعام تنعش نسيم المساء , دخلنا متجرا , أقاس على جسمي قميصا . ثم قميصا. قال: انه للرياضة , وحذاء ثم حذاء أخف للرياضة , وصابون و . و. و
تم سألني كأنه يستطرد كلاما . لم تقل لي . في أي مستوى دراسي أنت ؟ ولم يحرجني لأتصنع أي جوا ب, واستدرك : لا بأس. ستتعلم إذا كانت لك عزيمة
لم أعلم كيف انتميت لمدرسة الأبطال , صرت أتعلم , وأمارس الرياضة , وأتغذى طيلة أيام الدراسة على الأقل , والمدرب يصقل موهبتي في الجري والتنفس وكيفية الاسترخاء, ويدفعني للمشاركة في البطولات المحلية والوطنية
نسيت الأسباب والمسببات, وحملت قميص أنديتي ورفعت راية وطني , وصرت بطلا ثم بطلا أولمبيا وعالميا, وأستثمر اليوم كل جهدي وإمكانياتي لإنقاذ من هم الآن يرزحون في نفس الوضعية التي انحدرت منها , لأ ني على قناعة تامة . أن عالم الفقراء والمعدمين مليء بالمواهب, بل هو خزان طاقات تنتظر من يكتشفها ويخرجها من البؤس والجهل والظلام إلى العلم والنور والسعادة
كأن هذه اللوحة , هي لسان حال عدد من أبطالنا المغاربة الذين ينحدرون في الأصل من أوساط تعاني من الفقر المدقع , والذين كان لهم حظ الإنقاذ على يد شريف أفعال لا شريف نسب , وأذكر من الأندية التي كان لها هذا الشرف " الاتحاد الرياضي الفاسي لألعاب القوى " ومن الأسماء الغيورة
- السيد أفخري التهامي – السيد عبد العزيز الدباغ – السيد محمد هزاز
ولا شك أن هنا ك أسماء ورجا لا صد قوا ما عاهدوا الله عليه , وكان لهم من الشرف , انتشال أبطا ل مغاربة من مخالب الفقر والجهل والعار
أخذوا بيدهم فأنتجوا أبطالا , لولا احترام رغبتهم في عدم كشف أسمائهم, لكانت اللوحة منمقة بأسمائهم ا لتي نفتخر بها
إن ما سرده الأديب محمد شكري , في روايته " الخبز الحافي " وخاصة ما اقتبسناه منها في ديباجة اللوحة الأقصوصة, هو قاسم مشترك بين معاناة الفقراء . هذا القاسم الذي – كما أنتج ثقافة فقر – أنتج استعدادا للانسلاخ عنها والتخلص منها, وهو ما يطبع شخصية أبطال مغاربة كثر, وخاصة في الرياضات الشعبية , كانوا يعيشون في عمق اللاوعي بحكم الظروف العائلية.إلى حد أن تنامت لدى بعضهم ظاهرة الإحساس بالدونية, وكادت تتمكن من بعضهم حالة التقوقع داخل الذات, وعانى بعضهم من صراع البحث عن توازن نفسي وهذا القاسم المشترك , يلخص لد يهم كل أ بعاد الفقر, وهم على ها مش الحياة , لا هم لهم سوى إشباع غرائز الأكل والملبس , كمنتهى أحلامهم وطموحا تهم
- اللوحة ا لأقصوصة , نموذج لإمكانيات التخلص من العادات السيئة التي كانت تحتم نفس النمط الحياتي , المتخلف, وإذا لم تكن الإمكانيات في متنا ولهم , فهي مكنونة , متأهبة , تنتظر الفرصة , والفرص تحضر وتغيب , وغيابها أكثر من حضورها , و الفطن من لم يضيع أول فرصة , فالمليون خطوة . تبتدئ من الخطوة الأولى . فلمن يكون شرف تعبيد طريق الخطوات الأولى . ويقدم أشكال الدعم المادي المباشر , أو تبني بعض أنشطة الكفاءات الرياضية الفردية والجماعية داخل الأندية وفرق الأحياء؟
محمد التهامي بنيس