القدّيس يوحنا (منصور) الدمشقي
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي

يوحنا منصور سرجيوس (سرجون) منصور، هذا اللاهوتي القديس والكاهن والراهب السرياني الشهير (St. John Damascene) الملقّب بـ”المعلم الكبير وبمجرى الذهب” أي “الناطق الذهبي” أو “دفّاق الذهب” “الأب الإلهي؛، “العلامة الممتاز”، “العلامة الكنيسة” (حوالي676- وما بين 754- 787) كان أيضا موسيقيا وشاعرا وذا ثقافة غزيرة بالفلسفة والقانون. يعتبر يوحنا هذا أشهر لاهوتي في الكنيسة الشرقية ويحتل مع أخيه بالتبني أسمق منزلة في نظم الترانيم وتلحينها. يحتفل بذكراه في الكنيسة الأرثوذكسية في الرابع من كانون الأول الشرقي مع القديسة بربارة وفي الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية في 27 آذار. يقال إنه عُمّد فور ولادته واسمه “يوحنا” في المراجع اليونانية، “يوحنا بن منصور” في التراث القبطي و”قوريني بن منصور” في تاريخ ابن العبري و”ابن سرجون؛ في كتاب الأغاني للأصفهاني.ويعود الفضل في مسحنة الفلسفة اليونانية الأرسطوطالية لخدمة الإيمان المسيحي ليوحنا هذا، مؤسس اللاهوت السكولاستي أي التعليمي وناقل التقليد الشفوي الذي كان سائدا في عصره. وفي ذلك العصر، السابع-الثامن للميلاد كانت المسيحية المشرقية في أوج ازدهارها وانتشارها إلا أنها قاست من الانقسامات الشيء الكثير. آنذاك تواجد الأرثوذكس الملكانيون وسماهم العرب الروم واليوم هم الأرثوذكس وكان الأقباط واليعاقبة والنساطرة واستخدم الأرثوذكس اليونانية والسريان السريانية.
ويتلخص إسهام يوحنا المعرفي المتسم بالدقة والوضوح ونادراً ما يذكر مراجعه، في مجالات أربعة: العقيدة والجدل الديني والليتورجيا، والموسيقى. وهو واحد من معلمي الكنيسة وآخر الآباء اليونانيين وقد تأثر العرب بفلسفته في علم الكلام لدى المعتزلة. أتقن يوحنا الدمشقي اليونانية لغة العلم والطبقة العالية وألف فيها ولغته السريانية لغة الشعب والعربية لغة الدواوين في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان (684-705) ولا علم لنا بأي أثر عربي بقلم يوحنا هذا. كان يوحنا على علاقة طيبة مع الخليفة يزيد بن معاوية ومن الواضح أنه كان عالما بالقرآن والحديث كما يظهر ذلك من مؤلفاته. وهناك سيرة بالعربية عن يوحنا بقلم الراهب ميخائيل السمعاني الأنطاكي. بأمر من الإمبراطور ليو الثالث أطلق عليه لولعه بالأيقونات لقب “لقيط” (manzeros) إلا أن المجمع السابع في نيقيا عام 787 أعاد الحق إلى نصابه. وكان ذا منصب رفيع في إدارة خزانة الخلافة الأموية كأبيه وجدّه. ودأب والده على افتداء الأسرى المسيحيين بأمواله الخاصة. ويُحكى أن الوالد كان قد اعتق عبدا مسيحيا طاعنا في السن واسمه كوسماس (Cosmas ) وكان قسّا صقليا مثقفا ليتولى مهمة تعليم يوحنا وأخيه بالتبني كوسماس الرياضيات والموسيقى والفلك واللاهوت. وكان آنذاك القيصر القسطنطيني ليون ضد ظاهرة الأيقونات التي كان يوحنا يدافع عنها بكل ما أوتي من شجاعة وفكر وحماس ويبجّلها في كتاباته اللاهوتية التي اكتسبت صيتا واسعا. وكان يوحنا يقول لا تصوير في الأيقونة لجوهر الباري بل للكلمة المتجسد وما الأيقونة إلا بمثابة كتاب مصوَّر لمن لا يقرأ وهي ينبوع النعم الإلهية الجمّة. ولذلك حسده القيصر وقرر التنكيل به فلفّق رسالة للخليفة باسمه سطّرها خطّاط بارع، تدعو القيصر للقدوم بجيوشه الجرّارة إلى دمشق لتسلمها من يد يوحنا. ولما مثل يوحنا بين يدي الخليفة، عبد الملك بن مروان، (ولايته: 685-705) علّق القديس بقوله “الخط خطي إلا أن الكلام ليس كلامي” ولكن الخليفة أمر بقطع يد (أو كفّ) يوحنا اليمنى وهكذا حدث على ذمة الروايات.
وتضيف الحكاية، أخذ يوحنا اليد المبتورة وعاد إلى بيته وصلى في الليل صلاة من الأعماق لمريم العذراء، والدة الإله، راكعا أمام أيقونتها، ففقد وعيه ورآها في المنام تعيد اليد إلى مكانها. عندها صحا وإذ بيده اليمنى سالمة وكأن شيئا لم يكن. سبّح العذراء ومجدها بقوله “إن البرايا بأسرها تفرح بك”. والأيقونة (باليونانية، εἰκών) التي تظهر فيها مريم العذراء بأيد ثلاث هي رمز لهذه الأعجوبة. ويوحنا أكّد في أكثر من موضع أن السجود أمام الأيقونة هو تكريم لما تمثله الأيقونة ولا مسوغ للحديث البتة عن عبادة الصور والتماثيل كما يحلو لبعض الفرق أن تدّعي وتنتقد دون أن تفقه جوهر هذه الظاهرة. كانت هذه إحدى العجائب التي حلّت على يوحنا في أعقاب انغماسه الكلي والعميق بالابتهال والصلاة. والأيقونة مقدسة لدى يوحنا ومركزية في كينونته فهي تستنهض إيمان الإنسان وتحيي روح العفة والجمال.
ويروى أنه أول من جعل الموسيقى الكنسية في ثمانية ألحان مع النوطات البيزنطية المعروفة حتى يومنا هذا. ومن تلك الألحان المعروفة والمحبوبة “المسيح قام من بيت الأموات، ووطىء الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور”.
في أعقاب المضايقات التي فرضها عمر بن عبد العزيز على المسيحيين بخصوص تولي مناصب رسمية تخلى يوحنا عن منصبه في جباية الضرائب بدمشق واتخذ قراره الحاسم في أن يحيا بقية حياته بعيدا عن الثروة والجاه والنفوذ، بعد أن كان ابن ثلاثين عاما، فالتحق بدير القديس مار سابا في فلسطين ناسكا متعبدا مؤلفا. أثبت يوحنا تفانيه واتضاعه وطاعته أمام الرب وأمام رفاقه الرهبان فقام بكل مهمة أنيطت به مهما كانت وضيعة وانتصر بذلك وسحق رأس شيطان الكبرياء وحب الذات. وتُروى قصة مفادها أن المسؤول عنه في الدير أراد امتحانه ذات يوم في أن يركب حمارا محملا بالسلال لبيعها بأعلى ثمن ممكن في دمشق ويعود للدير وتسنى له ذلك بالرغم من ارتفاع السعر المطلوب فالمشترون كانوا أخيرا من تلامذته وأرادوا مساعدته للتخلص من هذه الورطة. هذا الدير الواقع بالقرب من بلدة العبيدية ووادي النار، حوالي ثمانية كيلومترات إلى الجنوب الشرقي من القدس، يعود تاريخه إلى أواخر القرن الخامس. ويعتقد بأنه يحتفظ بأقدم إنجيل منقول للغة العربية، أقدم مما تحتفظ به مكتبة سانت كترينا في سيناء. ربطته بالبطريرك الأورشليمي، يوحنا الرابع، 706 - 734 صلة طيبة ويعتقد أنه تسمى بـ”يوحنا” تيمنا بالبطريرك ودأب على إلقاء العظات في كنيسة القبر المقدس، القيامة (أناستاسيس)، أم الكنائس. ولعظاته حول مريم العذراء وأعيادها (عيد ميلادها في الثامن من أيلول ورقادها في الواحد والثلاثين من آب) مكانة مميزة في اللاهوت الشرقي.
ويمكن القول إن كتاباته في الكنيسة الشرقية يقابلها الملخص الذي قدمه توما الأكويني (Thomas Aquinas 1225-1274) بالنسبة للكنيسة الغربية.
من مؤلفاته: الإيمان المستقيم؛ ينبوع الحكمة (pege gnoseos) أو “منهل المعرفة”، أول عمل يجمع صفوة الفلسفة اللاهوتية كان قد وصلنا. يضم هذا العمل ثلاثة أجزاء: فصول فلسفية، ديالكتيكا (Kephalaia philosophika)، حول الهرطقة (peri aipeseon) وفيه يذكر مثلا أن الراهب النسطوري بحيرى ساعد النبي محمدا في تدوين القرآن وأن الإسلام هرطقة مسيحية، عرض للإيمان الأرثوذكسي (kdosis akribes tes orthodoxou pisteos)، ويعتبر هذا الجزء أهم عمل ليوحنا وله دوره الهام في اللاهوت المسيحي في الغرب والشرق على حد سواء وكان قد ترجم إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر؛ البنديكستاري، عيد الفصح والخمسون يوما بعده؛ الاكطوايخس وهو كتاب الألحان؛ سفر ضد اليعاقبة؛ كتيّب حول القضاء الصحيح؛ فقرات مختارة؛ شروح لبعض أسفار الكتاب المقدس؛ المتوازيات المقدسة؛ عظات دينية، مقالة عن الثالوث بشكل سؤال وجواب؛ ثلاثة مقالات للدفاع عن الأيقونات؛ حوار بين مسيحي ومسلم، فيه يرفض يوحنا فكرة القضاء والقدر في الإسلام ويدافع عن عقيدة التجسد؛ مقالة ضد الساحرات؛ حياة محمد؛ مقالة في أن للمسيح إرادتين؛ مؤلفات طقسية وأناشيد دينية؛ مقالة في الفضائل والرذائل؛ مقالة عن الأرواح الشريرة؛ سفر حول التفكير الصحيح.
يعتصر جوهر الإيمان لدى يوحنا بأنه الوحي الإلهي لا براعة العقل البشري، والنفس توّاقة دوما إلى معلّم والمعلم الأنزه على الإطلاق هو يسوع المسيح. من أقوال يوحنا الدمشقي “إذا سألك وثني عن إيمانك خذه إلى الكنيسة واشرح له الأيقونات”. “إن لم يكن لدي كتب فإني أذهب إلى الكنيسة، فإن الرسوم تجعلني مفتونا كما تجعل الأرض المعشوشبة والمزهرة، فتحرك مجد الله في روحي”. في محلة الميدان بمدينة دمشق تقع كنيسة القديس يوحنا وهي من أجمل الكنائس. ماذا ندعوك أيها القدّيس؟ أيوحنا المتكلم باللاهوت أم داؤود المرنم؟
(ينظر مثلا في كتاب: منصور بن سرجون المعروف بالقديس يوحنا الدمشقي. تأليف جوزيف نصر الله، ترجمة وتحقيق أنطون هبي. المكتبة البولسية، بيروت 1991).