قراءة في رواية "ساحرة بورتبللو"
للكاتب الرازيلي" باولو كويللو"


فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ "الأنعام/78
زرع فينا الشوق لمعرفته، والشوق أزلي لهذه المعرفة لا ينضب،ولكن يُعبر عنه بأشكال مختلفة، وكلٌّ بحسب قدراته وطاقاته .
"ساحرة بورتوبيللو" مدونة ذاتية عن "أثينا " أو "شيرين خليل" كما أسمتها العائلة اللبنانية التي تبنّتها، تلك المرأة التي صاغت من قلقها المعرفي جوهراً لوجودها، فتعلمت الرقص والموسيقا ومارست فلسفة الحركة المتمثلة بالرقص، والسكون المتمثل بفن الخط العربي لتعبر عن سعيها للاتصال بـ"الذروة"ودخولها في حالة الانخطاف.
تبدأ قصة "أثينا" عندما تشعر بحاجتها لتكون أماً لتتماهى مع السيدة العذراء وقدسيتها، فتتخلى عن دراستها للهندسة من أجل الزواج من زميلها لإنجاب "طفل"وبعد إنجابها لطفلها تنفصل عن زوجها لعدم قدرتهما على تحمل مسؤولية الحياة.
لكن الموقف الأكثر حدّة،والذي فجّر في داخلها طاقة هائلة غيّرت نمط حياتها،
كان في قدّاس يوم الأحد،حين تصرخ امرأة تحمل طفلها لتقرع كلماتها أجراس الكنيسة "أقسم بأنني لن أطأ كنيسة بعد في حياتي، اللعنة على كل من يوصد الباب في وجه أم وطفلها! أنتم تماماً كأولئك الذين أنكروا المسيح عندما كان بأمس الحاجة لصديق".
كانت الصدمة التي تلقتها أثينا بعد طلاقها هي عدم قدرة صديقها الكاهن الذي كان صديقها في الروحانيات على مباركتها بعد طلاقها بسبب القانون الكنسي، رغم يقينه بأنها أكثر من يستحق المباركة في هذه الكنيسة، بعد هذا اليوم رحلت أثينا تجوب العالم بحثاً عن سرها بمعزل عن أي قانون أو انتماء فأضحت سيدة عالم غريب تعلم الناس الرقص، لتصل إلى حالة الانخطاف، والاتصال بالذروة حيث تعتق النفس من الجسد لترتقي إلى السماوات حيث أسطورة "الأم الكبرى".
ولكن سعيها وراء أسطورتها والتي أسمتها "آيا صوفيا"الناطقة بلسانها جعل منها معلمة ،تعلم الناس الحب والتأمل مما دفع الكنيسة ورجال الدين وأصحاب النفوذ باتهامها بعبادة الشيطان والشعوذة وحب الظهور،إلى أن دعيت بـ"ساحرة بورتوبيللو".
وفي النهاية تقرر أثينا الانسحاب من عالمهم بطريقة غريبة، حيث توهم الجميع بأنها قُتلت ومُثّل بجثتها،وهذا التضليل للآخرين كان بالاتفاق مع صديق لها، لتمضي بقية حياتها بمعزل عن عالمهم الذي كان يرفض باستمرار فهم قدراتها الروحية أو تفسيرها بمعزل عن السحر والشعوذة.
في الحقيقة قدم "كويلو" في روايته هذه تساؤلاً مكنونه لأجل من ترفع صلواتنا؟ فما لجوء "أثينا" إلى التأنيث أو ـ الوجه الأنثوي لله ـ إلا هرب من تزمت الكنيسة بنظامها المؤسساتي، فحرمان الأب لـ"أثينا"من مباركة يوم الأحد، رغم يقينه بعمق إيمانها ،دليل على هيمنة الإخلاص للمؤسسة على حساب الإخلاص للجانب الروحاني الذي يفترض أن تقوم عليه هذه المؤسسة.
وهجر "أثينا" للكنيسة دليل على قدرة الإنسان على متابعة رحلته الروحية بمفرده إن كان انتماؤه لمؤسسة يجعله عبداً لقوانينها التي قد تجعله ضحية التهميش والخضوع لها .
فنحن بحاجة لإشباع حاجاتنا الروحية أكثر من تنظيمها، وما حركات الشعوذة التي ظهرت بعد فرض الكنيسة الكاثوليكية الضرائب، إلا دليل واضح على قدرة الإنسان على التفرد أيّاً كان نوعه.
فأثينا أرادت أن تكون مختلفة في التعبير فلجأت إلى الرقص والموسيقا للاتصال بـ"آيا صوفيا " كما أسمتها، وهو نزوع للتأنيث الذي قد يكون "كويلو"استلهم أصوله من التأنيث الرمزي الذي لجأ إليه المتصوفون ،أما "أثينا" فقد استلهمت أصوله من بحثها عن "الوجه الأنثوي لله" كما عرفته القبائل البدائية،من خلال الأساطير حول"غايا" و"هيرا" التي خلقت نفسها، وأنجبت طفلا بمفردها.
فالرؤيا التي أراد"كويلو" تقديمها للعالم تكمن بتعطش الإنسان للمعرفة وسعيه الأزلي لفكّ رموز ذاته ورموز الكون من حوله،فلم يعد الكون لغزاً للإنسان لكن كينونة الإنسان في الكون وإدراكه لها هو اللغز.
فالمعرفة ليست حكراً على شيخ أو كاهن ،إنما هي كامنة فينا بالقوة والقدرة على الاتصال موجودة وتؤيدها الأديان،فكما ورد في القرآن قوله سبحانه" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ " ق/16.
فلجوء "أثينا" للتأنيث والبحث عن الوجه الأنثوي لله ،كما تسميه، ما هو إلا لحاجتها للحب والحنان لتعوّض نقص أمها التي هجرتها وتركتها طفلة للتبني في ميتم في رومانيا، وهو نزوع للتعامل مع الله في حالة الحب الأمومي وليس الأبوي،فالتعامل مع الله من منطق أمومي يعني بأن هذا الله عادلٌ،يحبني، ويغفر لي الخطايا،ويحيطني بالحماية والرحمة والرعاية فالمرحلة الأمومية للدين تعطي الفرد شعوراُ بالنعمة لأنه محبوب ويتلخّص بأن الأم تحب أطفالها لأنهم أطفالها،وليس لأنهم مطيعون أو"طيبون"أو يحققون رغباتها وأوامرها، فحب الأم قائم على المساواة،كل الناس متساوون لأنهم جميعاً أطفال الأم،وهذا المفهوم البدائي عن الله تتطور في مراحل لاحقة إلى "المرحلة الأبوية"حيث في هذه المرحلة تُخلع الأم عن عرش مكانتها السامية، ويصبح الأب هو الكائن الأعلى في الدين والمجتمع على السواء، وطبيعة الحب الأبوي هي أنه يضع مطالب وقوانين وحبّه لابنه متوقف على طاعة الابن لهذه المطالب وهو يفضل الابن الأكثر طاعة والأفضل ملائمة له كوريث وخليفة لممتلكاته.
فالسرّ هو أن ندرك حاجتنا إلى لله بكل الحالات الواعية وغير الواعية فكما ورد على لسان المعلم الكبير أو الحامي عندما كان يتحدث إلى صديقة أثينا ومعلمتها:
" لتكن يا رب مشيئتك بأي وسيلة تجدها مناسبة، ولتدع ذلك يطول ما يحلو لك لكن، لا ترمني يوماُ فوق خردة الأرواح"
فإدراكك بأنك مختلف عن خردة الأرواح، هو السر الذي يفتح كل الأبواب وصولاُ إلى باب اليقين،فالعالم الروحي في هذه الرؤيا أمام طريقين،الأول كما فعل أسلافنا وما زلنا إلى اليوم لم نكتشف شيئاً جديدا عنهم لأنهم في عصرهم كانوا مجددين أما اليوم فنحن"مقلدون"،وأمّا الطريق الآخر فهو يفتح لنا المجهول ولكن بشرط نبذ فكرة الاكتفاء، التي تقيّد الروح بموجب أحكام مسبقة التصميم.
فالعودة إلى الوثنية ليس الحل بالطبع،ولا يقصد"كويلو" إحياء الدعوات الوثنية أو العودة إلى الطرق البدائية،لكن"أثينا" أرادت العودة إلى ديانات قديمة لم تفسدها بنى السلطة والقمع بعد، فأي دين يحمل الحقيقة والنور سيضيع ويفنى إذا جعل همّه الإخلاص والتفاني في سبيل إعمار مؤسساته، وهذا ما فعله الأب" جيانكارلو فونتانا" صديق أثينا الذي أبكته ذات يوم الموسيقا التي كانت تعزفها بعد الصلاة، فقد منعه إخلاصه للقانون عن تحقيق الرعاية لحقيقة "أثينا"الروحية.
فالحب الذي علمته "أثينا" للناس أساس كل الوجود وهو كما قالت "يحدث ببساطة "
لأنه دليلنا إلى ذلك العالم، فالقلب المفعم بالحب هو الآلة إلى الأبدية في رحلة الانخطاف مع ذواتنا.
[/size][/SIZE]