آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 3 1 2 3 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 45

الموضوع: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»
    ***
    يضم هذا الكتاب معظم المقالات التي كتبت في نقد شعر الدكتور حسين علي محمد

    ***

    ( 1 ) ديوان «شجرة الحلم» لحسين علي محمد،
    والرحيل داخل الذات

    بقلم: مصطفى نجا
    .................... .

    في ديوان "شجرة الحلم" للشاعر حسين علي محمد يضعنا الشاعر وجهاً لوجه أمام مأساة الإنسان الحالم، هذا الإنسان الذي يُحاول جاهداً ـ ولا نقول عبثاً ـ تغيير الواقع المعيش، الذي يحمل في أعماقه بذور العقم والموت والبؤس، ومن ثم يتخذ الشاعر من الأمل ـ وليس من اليأس ـ الركيزة الأساسية التي يقف عليها بنيانه الشعري:
    أقفُ على رأسِ قٍبابٍ نصبوها في الطرقِ الوهميَّهْ
    يشربُ غيري منقوعَ الكلماتِ الشافيةِ من الأدواءْ
    ويبيعُ الفجر الآتي ذات صباحٍ أبيضَ للضُّعفاءْ
    أقفُ وأصرُخُ في الأمواتِ: أفيقوا
    هذا زمنُ الحجرِ الصَّنَمِ الرابضِ في الأبْهاءْ !
    فلتخرُجْ كلُّ شجيراتِ الأحلامْ
    ولتنفضْ عن عاتِقِها ظلَّ غُبارِ الأيَّامْ !
    كي تحمينا ـ نحنُ الإخوة والأبناء ـ
    من هذي الشَّمسِ الحارقةِ الصَّمَّاءْ
    إن الشعر في هذا المقطع من قصيدة "شجرة الحلم" لا يستخدم ألفاظا رقية ناعمة، بل يستخدم ألفاظاً حادة وعميقة ومتوترة وصارخة بالحركة، ومع ذلك فإننا نحس بجمال الصورة، هذا الجمال النابع من تركيب الصورة الكلية، وليس من جمال جزئياتها المتنافرة، فالشاعر لا يتعامل مع الكلمات باعتبارها ترفاً عقليا، بقدر ما يتعامل معها باعتبارها سلاحاً وتصعيداً وجدانيا في مواجهة هؤلاء الموتى الذين يتحدث عنهم الشاعر:
    أقفُ وأصرُخُ في الأمواتِ: أفيقوا
    إن المسيح كان قادراً على إحياء الموتى ـ بإذن الله ـ فهل يستطيع الشاعر أن يكون مسيحاً في القرن العشرين؟ هذا ما سنراه من خلال المقطع السابع من قصيدة "شجرة الحلم":
    هأنذا مُلقى في اليمِّ الجامحِ
    أسبحُ نحو المُدُنِ المجهولهْ!
    وجهي يا تُعساءْ
    يرجو أنْ يأتي ذاكَ الشَّطُّ الطَّيِّبْ
    (وأنا أسألُ نفسي:
    هلْ أصِلُ إليهِ الآنْ؟
    أمْ تُبصِرُني حبَّةُ قلبي جسداً ميْتاً؟
    أمْ أصلُ إليهِ قتيلاً بعدَ فواتِ الوقتْ
    جسداً ميْتاً يُلقى للغربانْ؟)
    إن الشاعر يجسد لنا في هذا المقطع الجو العام لمأساته، وذلك من خلال وعيه لذاته، ورغبته المعذبة في تخطي هذه الذات، والرحيل إلى عالم محكوم عليه بالصمت والموت، إلى عالم مجهول يكون أكثر بهجةً وأكثر إشراقاً.
    إن رحيل الشاعر هنا يُذكِّرني برحيل الشاعر جبران خليل جبران في قصيدة "البلاد المحجوبة":
    هُـو ذا الفجْرُ، فقومي ننْصَرِفْ
    عنْ بـــلادٍ ما لنا فيها صديقْ
    ما عسى يرْجـــو نباتٌ يختلِفْ
    زهْرُهُ عنْ كـــلِّ ورْدٍ وشقيقْ
    وجديدُ القلْــــبِ أنَّى يأْتَلِفْ
    معْ قلوبٍ كلُّ ما فيهـــا عتيقْ
    ولكن إلى أين يكون رحيل الشاعر؟
    إن رحيل الشاعر حسين علي محمد لن يكون رحيلاً عن الديار كرحيل الشاعر جبران خليل جبران، بل سيكون رحيلاً إلى الدّاخل، إلى أعماق ذاته الثائرة، ومنطقية حلمه الميتافيزيقي، وهو يُحاول خلال هذا الرحيل أن يحتفظ بإيمانه بنفسه حتى لا يصل إلى موقف عدمي كما يفعل البعض. كما أنه يحاول أن يقدم خلال عالم الإحباط والهزيمة وعياً حادا بضرورة تغيير الواقع، وهو حينما يتماسك ضد السقوط في اليأس، فإنه يلجأ إلى ممارسة نوعيْن من الحب علهما يُحققان له تلك المعادلة الحياتية الصعبة.
    أما الحب الأول فهو الحب الصوفي تجاه الواقع المدان، وأما الحب الثاني فهو الحب العاطفي تجاه المرأة، ففي الحب الصوفي يقول الشاعر في قصيدة "التجربة":
    اترُكْ أحزانَكَ قُدَّامَ البابِ،
    اخْلعْها جنْبَ حذائكَ،
    وتعالَ إليْنا،
    فستحْيا أحلى لَحَظاتٍ
    في ظِلِّ الشيخِ "وليِّ الدِّينِ" الليْلَهْ!
    فهل حقّق له هذا الحبُّ الصوفي ذلك التوازن النفسي؟
    حينَ صحوْنا
    حاولَ كلٌّ منا أنْ يفتَحَ أُذنيْهِ،
    وأنصَتَ كيْ يستمِعَ إلى موْعظةٍ
    يلقيها شيْخُ الدُّنيا في أحلى كلماتٍ ..
    يتفتَّقُ عنها قلبٌ
    هامَ بحُبِّ اللهَ، وعرَفَ اللهَ فقرّْ.
    *
    لكنَّ الشَّيخَ العاشقَ شربَ الكأْسَ،
    ونظَر ملِيًّا في الصَّدْرِ النَّابِضَ بالحبِّ الأسمى للخالقِ،
    نظرَ وقالَ: أحبَّائي،
    إنِّي أضعفُكُمْ،
    إنِّي آخرُكُمْ قُدَّامَ اللهِ،
    وأعطى ساقيْهِ للريحِ، وفرّْ.
    إن الشاعر الذي بدأ يُمارس حريته المُطلقة من خلال ذلك الحب الصوفي الميتافيزيقي ظن أنه حقق (اليوتوبيا) التي يحلم بها، والتي سيجد فيها الحرية الحقيقية والسلام المنشود، ولكن الشيخ "ولي الدين" الذي كان يُمثِّل لدى الشاعر النقاء الجديد والحقيقة المجردة، أصبح يُمثِّل الخيبة والانهزامية والإحباط.
    ولذلك يلجأ الشاعر إلى النوع الثاني من الحب، وهو الحب العاطفي الذي يتمثّل في المرأة كمعادل موضوعي يُحقق من خلاله التوازن النفسي، فهل تظل المرأة أمامه مجرد حلم يخاف من الاقتراب منه واكتشاف أسراره وخلفياته:
    حينَ أردْتُ دخولَ العالَمْ
    وانفَتَحتْ قُدَّامي
    كلَّ خرائطِ جسدِ امرأةِ الشهوهْ
    كانتْ تلكِ مُغامرةَ العُمرْ
    لكنِّي لمْ أشعُرْ بالعطَشِ،
    ولمْ يهزمْني الدَّيْجورْ
    لمْ تتْعَبْ خيلي في المعركةِ الشَّرِسَهْ
    لمْ تهْرَبْ من هذا النَّقْعَ القاني
    واقتَحَمتْ هذا الحِصْنْ!
    لقد اقتحم الشاعر جسد المرأة، ولكن هل كانت المرأة بالنسبة للشاعر رغبة جنسية يلهث وراءها أم كانت مجرد حب أفلاطوني نقي؟
    إن المرأة لدى الشاعر كانت تُمثل مجرد وهم وحلم في امتلاك هذا الجسد / الشهوة، وتحطيم ذلك الحصن الغامض، عله يستطيع أن يُطفئ في أعماقه ذلك الشوق العارم للمجهول، ذلك الحب الغامض لشيء لم يتحدد بعد، وهو بهذا يُمكن أن تتحول المرأة / الشهوة إلى أكثر من حبيبة حسية، إنها رمز للشيء المفقود الناقص الذي ظل ينتظر مجيئه:
    هاتي عينيْكِ، وهاتي ...
    أعطيني الكوْثَرْ
    قولي إنَّكِ نَجْمٌ أشرقَ في ليْلِ العُمْرْ
    إنكِ قديسَةُ هذا الدَّيْرْ
    وأنا مجنونُكِ ياامْرأةً فاتِنَةً
    تخرجُ من شرنقَةِ الشَّبَقِ،
    وتأسِرُني
    هذا قلبٌ مُلتاعٌ
    يُطْفِئُ وَهَجَ الرَّغبةِ في بحرٍ لُجِّيّْ
    قولي، هذا الشَّعرُ الغَجَرِيّْ
    إنْ لمْ نجعلْهُ غِطاءً
    في الليْلِ المفتونِ بنورٍ قُزَحِيّْ
    .. فماذا .. ماذا؟
    ولكن هل تُعتبر المرأة الملاذ الأخير للشاعر؟ والطريق الوحيد إلى خلاصه من مُعاناته الذاتية؟ أم هل يعود الشاعر حاملاً مرارة الإحباط والهزيمة حتى بعد أن اقتحم أسوار هذه القلعة الحصينة:
    هأنذا مُلقى في القاعِ
    أمُدُّ يَدَيَّ إليها
    لكنَّ حبيبة قلبي
    تهربُ منْ وجهي
    من نظرةِ عينيَّ الخائفتيْنْ
    لقد هربت المرأة المحبوبة من الشاعر، وها هو ملقى في القاع، لقد انتهت رحلته مع المرأة بإحساس أعمق بالانسحاق ومرارة الهزيمة والإحباط:
    أسقُطُ من فوقِ الحبلِ كسيرا
    تُدميني الطَّعَناتْ
    يصرخُ توأم روحي في فَرَحٍ صوفِيّْ:
    "ها قدْ أشْرقَ وجْهُكْ"
    لكنْ لايلْبثُ أنْ يرْفَعَ صوتاً مذبوحاً
    ويُنادي مَنْ لا أَعرفُهُ:
    "يا مَنْ علَّمْتَ أخانا الحُبَّ ونحنُ صغار
    نتوسَّلُ لكْ
    أنْ تقلعَ هذا النَّبْتَ الطيِّبَ
    .. من غاباتِ الشَّجرِ الثَّرثارْ
    وتُعيدَ الغُرسَ إلى تُربتهِ النِّيليَّهْ
    نتوسَّلُ لكْ
    أنْ تقتُلَ أشباحَ الذُّعرِ المُتوحِّشْ
    في الكلماتِ العارِ وفي الرَّغباتِ السريهْ
    إذن لقد سقط الشاعر كسيراً بعد أن أدمته الطعنات، ولكن هل يستسلم الشاعر لهذا السقوط وهذه الطعنات؟ وهل تذوب أحلامه وأمنياته كشيء خرافي يفتقد الوجود والصيرورة؟
    إن الشاعر يندفع نحو نداء صوفي ميتافيزيقي يتراءى له خلال رحلته الضبابية الدائمة لاكتشاف عالمه السرابي المجهول:
    يصرخُ توأم روحي في فَرَحٍ صوفِيّْ:
    "ها قدْ أشْرقَ وجْهُكْ"
    لكنْ لايلْبثُ أنْ يرْفَعَ صوتاً مذبوحاً
    حتى هذا النداء الذي تراءى للشاعر كمعادل موضوعي يُعيد له التوازن النفسي، ما لبث أن تحوّل إلى حلم سرابي لم يستطع الشاعر خلاله أن يتجاوز همومه الذاتية، وأزمته الإنسانية عبر عالم منسحق، لا يفهم مشرعية تطلعه وأحلامه:
    أعينُكم في عينيَّ المُتعَبَتينِ الآملتيْنِ تقولانِ كلاماً
    يُشعرُني بالحبِّ وبالصِّدْقِ،
    وهاأنتم تبتعدونَ وأبقى وحدي
    في ليْلِ الثَّلْجِ، أُجالسُ غربةَ نفسي،
    وأُقاسي عَبَثَ الزَّمنِ وصمتَ الغُربةِ والأحزانْ.
    إن الشاعر هنا يفشل في إقامة استجابة وتقابل متبادلة مع عالمه الإنساني، لذا فإنه يبقى وحيداً في ليل الثلج، وهو يستسلم بسهولة لهذه الوحدة الثلجية، بل إنه يُحاول جاهداً أن يُعيد ذلك التوازن النفسي والاجتماعي من خلال ذلك التساؤل المستقبلي:
    هلْ يتكلَّمُ حضنُ مديحةَ،
    يمنحُني دفئاً وحناناً،
    يتبرْعمُ حُبًّا،
    يحملُ باقةََ ورْدٍ، ويُضِيءْ ؟
    في الشُّباك أُطِلُّ،
    وأنتظرُ الوجْهَ الغائبَ
    ـ وجهَ مديحةَ ـ
    (هلْ يأْتيني معْ نَسَماتِ الصُّبحِ،
    وفي أزهارِ ربيعٍ؟
    حتْماً سيجيءْ.
    إن تجربة الشاعر حسين علي محمد تمثل تجربة إنسانية منسحقة تكشف عن خواء العالم، وفقدانه للتوازن واليقين، لذا فإن الشاعر ينسحب من هذا العالم، ويسبح في تهـويمات حب غامض، ويستغرق في هذا الحلم الميتافيزيقي السرابي، الذي يقوم بنيانه على دعائم الحزن والأسى والانتظار اللامجدي.
    وأخيراً فإن الشاعر حسين علي محمد يعد واحداً من الشعراء القلائل الذين أرسوا تجربتهم الشعرية على مقومات وخصائص وأسس مميزة؛ فالشعر لديه يشكل عنصر مكاشفة ومواجهة مع النفس أولاً، ومع الواقع ثانياً، ومع العصر ثالثاً، وذلك من خلال البساطة والعمق، حيث ابتعد نهائيا عن الكلمة القاموسية إلى الكلمة المألوفة، ولجأ إلى لغة الإيحاء، وحاول استبطان القيم الجمالية التي تحقق عنصر الإدهاش والمفاجأة، فجاءت تجربته الشعرية محمّلة بالإضافة والجدة والثراء.
    مصطفى نجا


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    ( 2 ) لمــحــــة

    بقلم: محمد جبريل
    ......................

    حين كلَّفني أستاذي سليمان مظهر بالإشراف على الصفحة الأدبية بـ"التعاون" القاهرية، لم يكن قد مضى على اشتغالي بالصحافة أكثر من بضع سنوات، ولأني كنت في حاجة إلى تقديم يفوق حاجة الآخرين إلى تقديمي، فقد قبلت المقابل المادي الذي يقل عن معنى الرمز، وحاولت أن أوسّع دائرة صداقاتي بأسماء موهوبة في امتداد الأقاليم المصرية.
    جاءتني رسالته الأولى تحمل قصيدة شعرية، أتبعها برسالة ثانية قبل أن ينقضي الأسبوع، يتساءل فيها: هل رفضت نشر قصيدتي لأني في المرحلة الإعدادية؟
    لم أكن قد قرأت القصيدة بعد، ولم أكن أعرف إذا كان الشاعر طالباً أم شيخاً، لكنني تناسيْتُ تعجله ـ عرفت فيما بعد أن هذا بعض طبعه! ـ لمّا قرأت القصيدة، فدفعت بها إلى المطبعة متحمساً.
    وتراسلنا، يبعث إليَّ بقصائده فأنشر بعضها، وأُبدي الرأي في البعض الآخر، ثم زارني في "المساء" يطلب مني تقديمي لأول دواوينه "عشان مهر الصبية".
    ولأن عين الرضا عن كل عيب كليلة، فقد أغضب تقديمي لديوان حسين الأول ـ تجاوزه فنيا حتى أسقطه من قائمة مؤلفاته ـ معظم الشعراء!، وجدوا فيها مجاملة أساءت إلى الموضوعية ـ النفتقدة أصلاً ـ في حياتنا الثقافية.
    يصعب الآن أن تُخطئ العين مكانة حسين علي محمد في حياتنا الثقافية عموماً، والشعرية على وجه التحديد. إنه يمثل صوتاً واضحاً ونقيا ومتميزاً بين الأصوات الشعرية في وطننا العربي. ومع أنه لم يُجاوز بداية العقد الرابع من عمره، فقد استطاع أن يستقطب مريدين وتلاميذ، يحتذون خطواته، ويُحاولون الاستفادة من تجاربه ورؤاه الفنية.
    وإذا كانت "الوطن" قد استطاعت ـ خلال إصدارها الأسبوعي ـ أن تضم حسين علي محمد بين قائمة كتابها، فإن إحساسنا بالسعادة يتضاعف في خاطرة ثقافية، وعد حسين علي محمد أن يخص بها الصفحة الثقافية في العدد اليومي تحت عنوان "قطرة ندى".
    محمد جبريل
    .................................................
    *الوطن (العُمانية) ـ في 28/12/1982م.


  3. #3
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    (3) الأسود والأبيض في شعر حسين علي محمد (1)

    بقلم: مصطفى النجار
    ........................

    حسين علي محمد شاعر من القطر المصري الشقيق، يمتاز بنشاطه الأدبي المتعدِّد، فمثلما يكتب الشعر يكتب الدراسة الأدبية والنقدية، وقد فاز بالجائزة الأولى في المسابقة التي أجرتها دار البحوث العلمية في الكويت 1976م عن بحثه القيِّم "نظرة إيمانية للصراع الدرامي والشخصية في الأدب المسرحي". وله نشاط في المسرح الشعري، فقد أعدَّ مسرحية للطبع بعنوان "الرجل الذي قال"، كما أنه يُسهم كمحرر بارز في مجلة "صوت الشرق" القاهرية.
    وفي هذا المقال عنه سأكتفي بجانب واحد، إذ سأعرض على القارئ مجموعة من قصائده التي طالعتها عدة مرات. وفي كل مرة أشعر بمتعة جمالية، فالشعر من النوع البسيط العميق، والغنائي الشفاف رغم ما يحمله من معاناة جماعية هي هموم كل إنسان يعيش الواقع اليومي.
    وإن الحديث المُجزَّأ عن شاعر هو غبن له، فالصورة الكاملة تُعطي أبعاداً كاملةً، وبخاصة عن شاعر شاب لم تكتمل عنده ألوان تلك الصورة، ولعل مجموعة شعرية كاملة لحسين علي محمد تساعدنا يوماً في إحاطة تجربته على مدى سنوات العطاء.
    والقصائد التي بين يديَّ وليدة الزمن الأخير (ما بين 1975-1976م)، وهي منشورة في مجلات مصرية (الكاتب ـ الزهور) وفي مجلات سورية (الثقافة ـ الفداء).
    إن قصائد حسين علي محمد وليدة الحالة النفسية التي يعيشها الشاعر إذ أن بعضها يمتاز بالبساطة والوضوح والآخر يمتاز بالغموض. والنفس كالبحر بين مدِّ الحزن وجزر الأفراح! وهذا عائد إلى الصدق عند حسين.
    فمضامين قصائده تأملية واقعية. يُحاول خلق معادل موضوعي لمشاعره، فيبني من خياله الثر أحلاماً تتجاوز هذا الواقع، ورغم ذلك فإن شعره لا يخلو من نبرات اللوعة والأسى، وحتى الخيبة والخوف من الغد. وقصيدته "نهاية الرحلة" تجسِّد المرارة والفراغ النفسي. يقول فيها:
    .. وحينما رحلْتُ في عيونِكِ البُحيْرَهْ
    (أكنتُ راكِباً بساطَ الموْجةِ المُنطفِئهْ ؟
    أكنتُ مُمْسِكاً زِمامَ الماءِ والأعشابِ ..
    والطَّحالبِ المُلوَّنَهْ ؟)
    كانتْ عناكِبُ الخريفِ في انتِظاري !
    تُراقِبُ انكِسارَ ضَوْئها الهتونِ ..
    في مدامِعِ النهارِ !
    هي تصوير دقيق لحالة الإحباط النفسي؛ فالعيون بحيرة، والموجة منطفئة، والطحالب ملونة، والخريف، والانكسار.
    وتزداد الموجة حدة حينما يقول في القسم الثاني من القصيدة:
    ومركبي في الوحلِ ياصديق
    أخافُ منْ عوائقِ الطريقْ
    أخافُ من غدي المجهولْ
    وفي قصيدة "السقوط في الليل" وللعنوان دلالة نفسية مركّبة تُعمِّق من تلك الحالة النفسية التي أتيْنا على ذكرها .. إنه يُخاطبها ـ تلك التي ينتظرها ـ فتطلع عليه في الصباح فيقول:
    والعاشقُ الذي ألقتْهُ في الطريقْ
    عواصفُ الحنينِ والأشواقْ
    يظلُّ مُغمضَ العيْنيْن
    حالماً بقطرةٍ من مائكِ اللُّجيْن
    هي بين يديه ويحلم بقطرةٍ من ماء! وعندما يرى أميرته غمامةً ساعة الظهيرة، يشعر بالطمأنينة والسلام هنيْهات، فلا يُصدِّق هذا الانسجام الشاعري، يقول:
    تُرى كمْ يستمرُّ ذلك الأمانُ
    في أحضانكِ المُظِلَّهْ ؟
    وصحَّ ما توقَّعه، فالنهاية واحدة مهما أخذت أشكالا، وفي أي الأوقات:
    أراكِ في المساءِ تخرجينَ منْ يدي
    وتفلتينَ منْ أصابعي
    يا فُلَّتي البيضاءُ أين تذهبينْ؟
    وتحتدم المأساة حين يراها:
    أراكِ تسقطين
    فراشةً محروقةً في الليْلْ
    أراكِ تسقطينْ
    والليلُ يستمر
    ولعلَّ القارئ يتساءل: ومن السبب؟ فيأتي الجواب من الشاعر:
    والخاطفون
    أنوارُهم مثيرهْ
    أموالهم كثيرهْ
    عيونهمْ ضريرهْ
    لا يُبصرونَ العاشقَ المسكينَ في الظلامْ
    بهذه اللفتة الذكية استطاع أن يُعمِّق من مسار القصيدة فكريا وأن يخلق عنصراً دراميا يُثير فينا الحركة والانفعال.
    الشاعر يسأل دائماً، ولا يرضى السكينة، أو هي التي تفر منه، إن في أعماقه الحركة والمشاعر المنطلقة، لذا عندما كتب قصيدته "تأملات" التي تتألف من ثلاثة مقاطع أخذ الأول شكل القصة المكثفة والمرمزة قد شابها بعض التشويش في مضمونها، مثلاً: كيف المارد يُصبح قزما؟ ثم يصبح القزم فارساً ثم يموت؟ الحقيقة لم أستطع الولوج في تكوين هذا المقطع، وذلك بخلاف المقطع الثالث الجميل المنساب شكلا ومضموناً:
    افتحُ بيتي للآتْ
    وهي جملة تلخص أفكاراً وحالات، فهو يسمع ويشهد ويبحث ـ وهذا ديدن كل المفكرين في العالم ـ، إنه لا ييأس كما لمحنا ذلك في نبرات الخيبة الحزينة، بل يقول:
    أسمعُ موَّالَ البحرِ، وموَّالَ الليلِ
    .. وموَّالَ الأحياءِ / الأمواتْ
    أبحثُ في الصَّدَفاتْ:
    عنْ سرِّ الحسرةِ في الضَّحِكاتْ
    عن سرِّ الدُّودةِ في قلبِ الصَّخْرهْ
    والأوعيةُ المثقوبَهْ
    لا تحتفظُ بقطرةِ ماءْ
    أمشي في طرقاتٍ الليلْ
    أسمعُ وشوشةَ الأغصانِ المنكسرهْ
    في ليلِ الصًّيفِ .. وفي ليلِ البرْدْ
    أنتظِرُ الشمسَ تعودْ
    أنتظرُ عصافيرَ الفجرِ تُوشوِشٌ شجرَ الصبرِ
    بأحلى الهمساتْ
    وحبذا لو توقف هنا ولم يشرح هذا الموقف! إذن ماذا تُضيف على القصيدة تلك الكلمات:
    أنتظرُ الغَدْ
    ما أحلى شمسَ الغدْ
    تقتلُ ميكروبَ الخوفِ،
    وميكروبَ الحَسَراتْ!
    والشاعر حسين علي محمد يُجرِّب تشكيلات مختلفة لقصيدة "الشعر الحديث"، منها ما يحتفظ بالقوافي وتنويعها مما يُضفي جوا موسيقيا محببا يقترب بها من معمار الشعر العربي وما يسميه بعض المتطرفين الجدد بـ "الجديد الكلاسيكي"، ومنها ما يأخذ شكل "الرباعيات"، ولهذا النوع نكهة تنتسب إلى الشعر الفارسي والعربي شكلا.
    وأمامي الآن قصيدة "لماذا تظل العصافير تشدو؟" تتألَّف من خمسة مقاطع، كل مقطع: طريقة كتابته ككتابة النثر وينتهي بروي الميم، مع أن المقاطع غالباً لا تأبه بالقوافي من داخلها. وهذه كتابة مارسها بعض الشعراء عندنا كصلاح عبد الصبور في قصيدة "توافقات" التي نُشرت في مجلة "الشعر" القاهرية عام 1972م، ومارسها غيره تقليداً لبعض الشعراء الأجانب أمثال سان جون برس، ويمكن أن أنسبها إلى العربية إذا ما قورنت بالشكل الكتابي الذي قام به الشاعر أبو العلاء المعري في "الفصول والغايات".
    فالتشكيل نفس التشكيل سوى أن كلامه من غير إيقاع عروضي، وألفت نظر الباحثين والدارسين لهذه النقطة بالذات مما يفتح النوافذ المضيئة على كنوز تراثنا الخالد وارتباطه بالعصر الراهن.
    وشاعرنا حسين علي محمد قام يجرب، ووراء تجريبه ذخيرة من الموهبة والمعاناة، وهذا ما يُميِّز تجريب الأصلاء عن تجريب الدخلاء وأصحاب الألعاب الشكلية والألفاظ الخلبية الذين ابتُلي بهم شعرنا العربي، وكأنما شاعرنا حسين عناهم حين قال:
    قدْ كرِهْتُ الشعرَ والعِشقَ وإني
    راحلٌ يا نفْسُ للأرضِ البعيدَهْ!
    لنْ تراني هائماً أمضي أُغَـنِّي
    فالأغاني كلُّهـا أضْحَتْ بليدَهْ !
    أو في قوله:
    لا تقُلْ نثْراً ولا شعراً كهــذا
    لا تقُلْ شيئاً ففي الصمتِ النجاةْ
    قدْ قضيْنا العُمرَ تغريداً فمـاذا
    قــدْ جَنَيْنا غيْرَ تنكيلِ الطُّغاةْ ؟
    وفي قصيدة "لماذا تظل العصافير تشدو؟" روح تساؤلية قلقة، وشاهدة ومنتظرة، ويمكن أن نفرد لها مقالة خاصة لدراستها وتحليلها، ولعلي أفعل ذلك تحت عنوان "شاعر وقصيدة" إن شاء الله.
    أما رباعياته فهو يحاول فيها أن يُفلسف الوجود من حوله فينقل شرائح مختزلة ناقدة للمجتمع وللحياة، ومصورة لحيثيات الواقع وأسرار الطبيعة الإنسانية.
    وأقتصر على ذكر بعضها، فإن بعضها يغني:
    هذهِ الأرضُ سعـيرٌ في دِمــانا
    ولظاها في حنايانا حــــرائقْ
    قدْ كرهْــنا العيْشَ فيها ونهـانا
    أنَّنا منذُ وُلِــدْنا في الخنــادِقْ
    ولا أجد ما يبعث على استمرارية التغريد على أفنان هذا العمر بكل جسارة إلا ترديد المقطع الأول من قصيدة "الظل والموت" للشاعر حسين علي محمد المنشورة في مجلة "الكاتب" المصرية (عدد نيسان 1976م)، ما يُعطي القارئ مفتاحاً من مفاتيح شخصية هذا الشاعر، وما يدل على اللون الأبيض في اللوحة الرمادية:
    حين تلاقيْنا
    واستلْقى ظلُّكِ في وادي الصَّمْتْ
    كانتْ أُغنيَةُ الحُبِّ السَّكْرى النَّشْوانهْ
    تضْحكُ في عيْنيْنا
    تزرعُ في صحراءِ النَّفْسِ
    ورودَ الأملِ ، وفُلَّ الأحلامِ الرَّيَّانَهْ
    كانتْ تقْتُلُ في داخِلِنا الموْتْ !
    مصطفى النجار
    .................................................. ....................
    (1) نشر في مجلة "الأديب"، مايو 1979، ص28-30.


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    4 ) حسين علي محمد من خلال قصيدتين

    بقلم: أحمد فضل شبلول
    ...........................

    الشاعر حسين علي محمد صوت شعري متميز بين جيل شعراء السبعينيات في مصر، وهو منذ بداياته الأولى يُحاول أن يخلق لنفسه معجما وقاموساً شعرياً يفرقه عن شعراء جيله، فينجح في ذلك أحيانا، ويُخفق أحيانا أخرى. وهو يمتاز بتدفقه الشعري وبغزارة إنتاجه الأدبي وتنوعه، ولعله من شعراء جيله القليلين الذين خاضوا غمار التجربة الشعرية المسرحية، ولعله أيضا من شعراء جيله القليلين الذين يُجيدون الكتابة في الشكلين المعروفين الآن للشعر العربي المعاصر، وهما الشكل ذو الشطرين، والشكل التفعيلي، فإلى جانب حسين علي محمد نذكر د. صابر عبد الدايم، وعبد الله السيد شرف، وأحمد محمود مبارك، وجميل محمود عبد الرحمن، وعزت الطيري، وفوزي خضر، وعبد الستار سليم ممن يجيدون الكتابة في هذين الشكلين من شعراء السبعينيات.
    فهذه الكوكبة من الشعراء لم يُضحوا بالموسيقا في سبيل الفكرة، ولم يُضحوا بالمعنى من أجل اصطياد الصورة الشعرية الغريبة أو غير المألوفة، فإذا أراد القارئ المتابع لمسيرة الشعر المصري المعاصر أن يعرف خصائص هذا الشعر السبعيني ويقف على أرضيته الحقيقية، وصوره المنتزعة من الواقع والبيئة المحلية، في احتكاكها مع الصورة الفنية واللغة الموسيقية، عليه أن يتجه إلى دواوين هؤلاء الشعراء وغيرهم، فهي تمثل بحق خريطة الشعر المصري في تلك الحقبة وما تلاها، ذلك أن هؤلاء الشعراء مازالوا يبدعون وينتجون ويُضيفون رصيدا فنيا جديدا إلى ديوان الشعر العربي المعاصر.
    ومن أعمال الشاعر حسين علي محمد المتعددة ديوانه "ثلاثة وجوه على حوائط المدينة" الذي يتفاوت مستوى قصائده وطولها، ويبدو أن معظم قصائد هذا الديوان كتبت في السنوات 1975-1979م، وخلال تلك الفترة أخذ الشعراء يطبعون أعمالهم الشعرية على نفقتهم الخاصة بطريقة التصوير "بالماستر"، ويجيء ديوان "ثلاثة وجوه على حوائط المدينة" ليكون واحدا من هذه الأعمال التي تدل طريقة طباعتها على وجود أزمة حقيقية في النشر خلال هذه السنوات.
    يحتوي الديوان على ثماني عشرة قصيدة من الشعر التفعيلي، إلى جانبه ثنائية واحدة من الشعر ذي الشطرين يختتم بها الشاعر صفحات ديوانه الصغير الحجم، والذي وقع في 36 صفحة فقط من القطع الصغير، يقول الشاعر في ثنائيته التي جاءت بعنوان "نهر البلادة":
    يا صديقاً باعَ في الدُّنيا رشادَهْ بقروشٍ للمــلاعينِ الطُّغــاهْ
    كيفَ أجتــازُ أنا نهْرَ البلادَهْ وصديقي .. البومُ في الفجرِ نعاهْ !
    غير أني سأتوقف عند قصيدتين فحسب من قصائد الديوان، وهما: "هذا ما حدث لي أمام قبر أمي" و"عنبر الأموات"، لأنهما تعبران عن الاتجاه الفني لبعض أعمال الشاعر في هذه الفترة الزمنية التي كان يكتب فيها قصائده الأولى.
    في القصيدة الأولى "هذا ما حدث لي أمام قبر أمي"، يرسم لنا الشاعر في البداية لوحة منتزعة من المقابر حيث الزمان ليلا، وشخوص اللوحة عبارة عن الشاعر، والصرصار، والشرطي، والأم المسجاة في قبرها.
    جئتُكِ في الليْلْ
    لمَّا نامَ الناسْ
    وزحفْتُ كصرْصارْ
    خوفاً منْ أنْ يلمحَني الشُّرْطِيُّ
    ويعرفُ أنِّي جِئْتُكِ
    كيْ أقتبِسَ شُعاعاً من سرِّكِ
    فيُلازمُني .. ويُقاسِمُني في الميراثْ !
    صراع درامي يتصاعد منذ البداية، وتشبيه ذكي يلجأ إليه الشاعر في قوله: "وزحفت كصرصار"، ومظهر اجتماعي استطاع إبرازه بنجاح وبجرأة في قوله:
    خوفاً منْ أنْ يلمحَني الشُّرْطِيُّ
    فيُلازمُني .. ويُقاسِمُني في الميراثْ !
    وهكذا تجتمع العوامل الإنسانية والفنية والاجتماعية منذ السطور الأولى للقصيدة، ثم يبدأ الحوار الذاتي، ويبدأ البوح في الصعود إلى أجواء القصيدة، وتبدأ الانفعالات والأطوار النفسية التي يمر بها الشاعر في الظهور (أصرخ، أتلولب، أُلقي بالرأس المتعب).
    هأنذا أقفُ على رأسِك
    معذرةً ..
    أقفُ على رأسِِ المقبرةِ أُنادي
    لكنْ ..
    هلْ تسْمعُ أُذناكِ ندائي ؟
    أصرُخُ ..أتلوْلبُ ..
    أُلْقي بالرأسِ المُتْعَبِ في اسْتِخْذاءِ
    ويبدو أن هذه الأطوار النفسية ستقود الشاعر إلى رؤية أمه عن طريق البصيرة:
    أبصرُكِ على ظهرِ جوادِكِ
    تمتشقينَ السيْفَ .. وتبتسمينْ
    وتمدِّينَ إليَّ ـ بيدكِ البضَّةِ ـ وردهْ !
    لكنِّي أخشى هذا الفرَسَ الجامِحْ
    أخشى أنْ يركُلَني في بطني ، ويَفِرْ
    وأنتِ تقولينْ:
    "ثَبِّتْ قلبَكْ
    فسيحْمِلُكَ الفرسُ إلى الشَّطِّ الآخَرْ ...
    قبلَ أذانِ الفجْرْ !"
    إنه فرس الموت الأبيض .. حيث تتنبأ الأم بموت ابنها قبل بزوغ الفجر .. إنها تريده "فسيحْمِلُكَ الفرسُ إلى الشَّطِّ الآخَرْ ..."، وبالعل تتحقق نبوءة الأم في نهاية القصيدة .. ولكن المشكلة أن الشاعر يخاف الموت ـ رغم مناجاته لأمه الميتة أو المسجاة أمامه في قبرها ـ إنه يخاف الموت، ويخاف هذا الجواد الصاهل الذي سيحمله إلى الشط الآخر:
    فالخوْفُ من الصَّاهلِ أجهضَني
    جفَّ النَّبْضُ بصدْري .. وتعقَّبَني
    فوقَعْتُ على الأرضِ قتيلا !
    إنه يخاف الموت خوفا شديدا، ويخاف الفرس الذي سيحمله إلى الشط الآخر، لدرجة أنه مات ، أو قتل من الخوف نفسه، وهذه لقطة ذكية من الشاعر استطاع أن يُجيد التعبير عنها فنيا، ثم ينقل الشاعر قصيدته إلى الإحالة الدينية موظفاً أو مستثمراً قصة موت سيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ وقصة عصاه التي نخرها السوس وهو ميت، ولم يُدرك ذلك من حوله من الإنس والجان:
    نصبوني تمثالا
    ما عرفوا أني مُتّْ
    إلاَّ منْ أدنى حشَرَهْ
    نخَرَتْ جوْفي ..فسقطْتْ
    ضحْكَ الجُبناءُ كثيراً .. وعرَفْتْ
    أسرارَ العالَمِ ..!
    لكنْ بعدَ فواتِ الوقْتْ !
    وعلى الرغم من عدم ذكر العصا في القصيدة إلا أن الإحالة الدينية تنجح في تمثل قصة موت سيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ بأكملها، حيث تتداعى إلى ذهن القارئ أو المتلقي تفاصيل هذا الموت الذي لم يُعرف مثله في التاريخ، وقد وردت هذه القصة في قوله سبحانه وتعالى: "فلما قضينا عليه الموت مادلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين" (سورة سبأ ـ الآية 14).
    إن الشاعر يؤمن بأن الحقيقة الكبرى أو أسرار العالم لا تُعرف إلا بعد رحيل الإنسان عن عالمنا هذا إلى عالم ما بعد الموت، حيث العالم غير العالم، والحواس غير الحواس، والإدراك غير الإدراك.
    لقد استطاع الشاعر أن يتعامل مع هذه القصيدة من أكثر منظور، حيث نجد فيها المنظور الإنساني، والمنظور الاجتماعي، والمنظور الديني. كل هذا إلى جانب المنظور الفني .. مما أدّى إلى خروج هذه القصيدة على هذا المستوى الجيد.
    (2)
    وبالنسبة لقصيدة "عنبر الأموات" فقد جاءت قصيدة مضغوطة كل الضغط، إلا أنها كانت تحتاج إلى شيء من الإضاءة، فالغموض الذي أراده الشاعر لهذه القصيدة جاء في غير صالحها تماما، ولكونها قصيدة قصيرة ومضغوطة فإننا سنضعها أولا بين يدي القارئ:
    في عنبرِ الأمواتِ
    كانتِ القصيدةُ الجديدهْ
    على لِسانِ الوردةِ المُلقاةِ
    تحتَ الشُّرْفةِ الوحيدَهْ
    وحينما تنفَّسَتْ
    بأوَّلِ الحروفِ
    كانَ الليْلُ في شراسةٍ عنيدةٍ ..عنيدهْ
    يُجرْجرُ الأصحابَ
    والزَّنابِقُ السوداءُ ..
    ترقُبُ المجهولَ
    في تعاسةٍ بلِيدَهْ !
    المكان: عنبر الأموات.
    الوقت: ليلا.
    الأشياء المنثورة في اللوحة والمبعثرة في هذا الجو القاتم عبارة عن قصيدة جديدة ملقاة على لسان وردة، تحت شرفة وحيدة في هذا المكان، وحينما تنفست بأول الحروف .. وهنا نتساءل: من المتنفس هنا؟ هل القصيدة التي تنفست بأول حروفها؟ أم أن الوردة هي التي تنفست بأول حروف القصيدة الملقاة على لسانها؟ لا توجد إضاءة تهدينا للإجابة.
    وحينما تم هذا التنفس ـ والذي يعني الحياة ـ كان الليل يجرجر الأصحاب في شراسة عنيدة، ولكن إلى أين؟ هذا هو الغموض الفني الجميل والمحبب للنفس البشرية .. ولا ينبغي على الشاعر أن يُفصح لنا إلى أين، فليتخيل كل منا إلى أين هذا الليل الشرس العنيد يجرجر أصحاب الشاعر، أصحاب الليل نفسه. إن الليل نفسه يخون أصحابه. إن الفعل المضارع "يجرجر" جاء فعلا قويا مناسبا في هذا الإطار، وإسناد هذا الفعل إلى الليل يوحي لنا بمدى شراسة هذا الليل العنيد كما أراد الشاعر أن يُصوره لنا، وفي هذا الليل الشرس تقف الزنابق السوداء ترقب المجهول، ترقب ما يحدث للأصحاب، ترقب ما يحدث في تعاسة بليدة لأنها لا تملك أن تفعل شيئا، ولا تملك أن تُدافع، أو تدفع الليل عن الأصحاب، أو أن تنظر إلى المجهول، ولا ندري ما الذي سيفعله الليل الشرس بهؤلاء الأصحاب؟
    إن كل الأشياء سوداء في هذه القصيدة، أو في هذه اللوحة التي رسمها لنا الشاعر؛ فكل شيء يوحي بالموت والخمول، ولا يوجد شيء مضيء، وكل ما هنالك .. أموات. قصيدة جديدة، ولكنها تولد موؤودة، وردة مُلقاة مهملة، وربما تكون سوداء اللون كما الزنابق السوداء، والشرفة الوحيدة لا يدخل منها ضوء، والليل الشرس، والأصحاب الذين يجرجرون، والمجهول، والتعاسة البليدة.
    اللوحة سوداء، والألفاظ سوداء، والمعاني سوداء، والإحالات كلها سوداء، والشاعر لا يُريد أن يعطينا أية إضاءة.
    أحد عشر سطرا هي كل سطور القصيدة، ولكن نحس أن هناك شيئا يجب إدخاله، أو إضافته، فاللوحة إذا كانت كلها سوداء فإنها لا تُرى بوضوح، وربما الضوء ـ أو اللون الأبيض ـ حينما يدخل على اللون الأسود يُبرز أشياء كانت لا تُرى في اللوحة من قبل.
    أحمد فضل شبلول


  5. #5
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    ( 5 ) الانتظار الحزين في ديوان
    «أوراق من عام الرمادة» لحسين علي محمد*

    بقلم: أحمد زرزور
    ....................

    نهرُ الغضبِ المالئِ كلَّ شغافِ القلبِ
    أراهُ يثورُ، يفورُ ،
    ويملؤ كلَّ مساربِ تربتِنا القاحلةِ ،
    ويحملُ في راحتِهِ الخصْبَ ،
    اندفعتْ منْ شرنقةِ الليلِ نساءُ الفجْرِ ،
    هتفْنَ بصوتِ الغضبِ الثورةِ :
    هذا النهرُ عنيدْ!
    ويفتح لنا الشاعر حسين علي محمد دفاتر أحلامه المسبية في أزمنة الجفاف والزيف والمداهنة مُشيراً إلى مأساة إنسان العصر، وهو يشهد سقوط الكلمات وتهاوي المواسم المعطاء، واندماج المنى وتدحرجها أمام أقدام الموت المثلوج، إنسان يقف وحيداً في مواجهة عوامل الانسحاق والعسف، يتقي الضـربات بالغناء والحلم، متشحاً بثوب الرومانسي، محاولاً ـ في استكـناه حزين ـ أن يكتشف شيئاً متوافقاً مع الومضات الخافقة في حناياه، وسط رُكام العقم والسلبية والإحباط!
    وهو شاعر بسيط يعترف بتواجده الدائم في منطقة الحلم، الحلم بعالم سعيد يسكن مدينة فاضلة، يحلم بترنيمة حب خضراء تُضيء الدروب الفقيرة، يحلم بنهر غضب عنيد يثور إذا دنسته الأقدام الهمجية، يُعطي الخير للفقراء حول ضفتيه، يرفض أن يزف إلى عروس الجدب، وهي تتزيَّن للسذج والواهمين.
    إنه نهر التاريخ الذي جسّده الشاعر في نجيب سرور.
    وهكذا يتوازى نهر الدم ونهر الحياة؛ دم الشاعر الذي رفض المهادنة، وامتشق سيف التبشير بوردة حب لا تركع إلا للظامئين المنسيين في الوطن، ونهر الحياة الذي لايكف عن الحب وهو يشهد الأحداث، لا تعوقه الأحراش أن يأتي يبتسم، يحمل للأطفال المُعدَمين صباحاً رائعاً حلواً:
    أقبلَ هذي الليلةَ منْ خلف الأحراشِ ،
    ويبسمُ في شوقٍ ،
    ويُمنِّينا
    أنْ يحملَ فوقَ قِلاعِ الغضبِ
    صباحَ العيدْ
    ولكن (النهر / نجيب) يغيب، وينطفئ الفجر الأخضرأ يسقط القمر على بساط الرمل. أي حزن فاجع يتولد بين هذا العناق الدّامي: ضوء الفرح وعدمية اليباب، فماذا يستطيع الشاعر فعله، وهو شاهد على الانكسار، إنه يصرخ على طريقة الطيبين، تُباغته فجاءة الرحيل، فيضحك ألم النهر، الصمت مياه راكدة، يتمدّد الغضب جارفاً شعراء البكاء والرطوبة والمزامير، إنها إدانة للكلمة / الموت، والشاعر هنا هو المُعادل للإنسان المسمم بحساباات الحذر، والمسكون بقصائد الرؤوس الطائرة، ولهذا فالشاعر يُواجه ذاته في هذا الموقف الاكتشافي / المحك، يُفتش عن ذاته فلا يجد إلا تصوراً رومانسيا حذراً، يستشهد ـ على أعتابه ـ مع شيء من الاعتذار يُزجيه إلى انطفاء النهر!
    سقطَ القمرُ الغاضبُ فوقَ بساطِ الرملِ ،
    تخبّطَ ،
    لا أقدرُ أنْ أفعلَ شيئاَ ، فصرختُ :
    كفى يا نهْرُ ،
    وملأَ الغضبُ الحذِرُ مساربَ نفسي ،
    ضحكَ النهرُ ،
    تمدّدَ ،
    ضربَ بقبضةِ صرختهِ جدرانَ الصمتِ ،
    وألقاني في اليَمّْ !!
    ***
    والفارس عند حسين علي محمد لا يلوذ بالصمت، ولا يتوارى خلف درع السلبية الخذول وحسب ، بل إنه فارس التساؤلات، إنه ينتظر معجزة تعيد للرؤى سلامتها، وتفتح للاخضرار نوافـذ النضارة المسبية، فالحليب يفسد، والفقراء الصغار يتضورون، والسيادة في هذا العصر للجنون، فلا مجال إذن لكون نبيل، شبه هلوسة تجتاح، فتُفقد الأشياء منطقها، تنهار المرافئ، يُرفرف الرعب فيتشح الفارس بخيبة الرجاء، وندور معه في معظم أغنياته حول حلمه المستحيل الذي لم يتحقق بعد، ولا نضيق معه، كما ضاق مع رفـيقه بالأغاريد القديمة والسعار، فأوان المعجزة ليس تهدجاً مرهفاً يتكئ على أغنيات الفقد والاستلاب، إنه كينونة فرسان لم يقرب الشاعر ساحاتهم بعد!
    فَسَدَ الحليبْ
    وتقولُ لي :
    "هذا أوانُ المعجزهْ"
    قدْ ضِقتُ مثلَكَ بالأغاريدِ القديمةِ
    والسُّعارْ
    والليلُ طالَ ..
    الليْلُ طالْ
    .. ومتى تجيء المعجزهْ ؟
    فلقدْ مللْنا الانتظارْ !
    وشاعرنا حسين علي محمد يتسلم بيمينه مفاتيح التوهجات الرومانسية على معكوسات الواقع، فتبدو بصمات الرومانسيين واضحة على شعره: الغنائيات الشديدة الوقع وما يستتبعها من توارد القافية التي كثيراً ما تأتي متعسفة ومفتعلة فتُفسد الصورة الجيدة (والتي يتفوّق الشاعر هنا من خلالها بتمكنه وخبرته الواضحة)، ومن النماذج المؤيدة لما ذكرت من القوافي الدخيلة، والتي كان من الممكن جدا طرحها والاستغناء عنها بدون أن يختل الوزن الشعري:
    1-أبتاعُ منْ حانوتِنا الليْليِّ أشعارَ الشفقْ
    وأقولُ أنغامَ (المَلَقْ)
    (من قصيدة "متى تجيء المعجزة؟"
    2-في اليومِ الثاني .. منْ ذاكَ الشهرْ
    راجعتُ الكلماتِ المخطوطةَ عندي
    في كراساتِ (الشعرْ)

    قلبي يخشى أن يخفقَ في أحشائي
    فالموْتُ أمامي .. وورائي
    يستشري في الأوردةِ ..
    وفي (أشلائي)
    (من قصيدة "عن الخوف والميلاد")
    3-وعيونُ الصَّخْرْ
    تحلُمُ بالخُضرةِ أنْ تزهرَ ذات صباحْ
    وعيونُ التمساحْ
    تحلمُ بالجسدِ الرّخْصِ ، وتشتاقُ التفاحْ
    (من قصيدة "القاهرة 1975")
    إن "الملق، الشعر، أشلائي، التفاح" لم تكن أكثر من تتمات لفظية واستكمالاً شكليا لوحدة القوافي في القصائد المذكورة، وقد كان في إمكان الشاعر حذفها بدون أن يهتز البناء الشعري عنده.
    وشاعرنا حسين علي محمد بما يمتلك من تميز الطاقة الشعرية وسيولة النفس الوجداني، وعمق الإدراك المعرفي بقضايا إنسان عصره: يستطيع أن يجد لأقدامه رسوخها الواثق في عالم القصيدة المُفجِّرة والمُغامِرة، والمنطلقة إلى دوائر جرأة الاقتحام الفكري دون انسحاب إلى هامشيات الشكلية!
    ***
    على أن أخطر ما يتهدّد هذا الصوت الشعري الجاد تلك النبرة الخطابية، والمُباشرة السياسية فيه، واعتماد القصيدة على الصوت الواحد، الأمر الذي يُصيب الشعر بالنثرية والتقريرية والوقوع في فخ التعبير المشحون بحماس اللحظة وآنية الظرف، ولا شك أن البناء الشعري القائم على أكثر من صوت واحد يُعتبر ـ من الناحية الموضوعية ـ درجة عليا من درجات الفهم للتجارب الإنسانية. وهذه الدرجـة العالية من الفهم ـ كما يقول الناقد رجاء النقاش ـ تحمي الفنان من رؤية السطوح الخارجية للتجارب، والاكتفاء بها، وتحمي الفنان من التعبير المُباشر عن قضاياه.
    ونلمس للشاعر بعض العذر، حيث إن القصائد المُتهمة بالمباشرة والوضوح هي قصائد مبكرة تاريخيا بالنسبة للشاعر، فقد كتبهـا بين عامي 1975و 1977م، وذلك إذا لاحظنا أن قصائده الأحدث بين عامي 1977و1979م تتخلص شيئا فشيئاً من تقريرية الصياغة، فتجده يتعمّق تجربته محاولاً الوصول بها إلى أن تكون تفسيراً أو تأويلاً، وهذا يعني أن الوصف ـ حتى وإن تغيّرت أبعاده في الشعر عمّا هو موجود في الواقع ـ كما يُقرر أرسطو لا يُغنينا شيئاً، ويدخل في الوصف التقرير، أي المُغالاة في التعبير عن الشيء الواقع بأساليب سهلة مُريحة مُسترخية ناعمة، تفرغ منها فور قراءتها.
    ومُطالعة نموذجين مختلفين قد تُبيِّن لنا مدى تطور الشاعر وتقدمه وتخلصه من فجاجة الانفعال الشعري وسكونيته إلى عناق درامي واعٍ للحياة من خلال الشعر:
    1-من قصيدة "القاهرة 1975م)، وقد كُتبت عام 1975م:
    ألِفٌ .. ياءْ
    علِّمْنا أنَّ الحبَّ لمصْرْ
    أنْ يعقِلَ كلُّ الشعبِ مسيرةَ هذا العصْرْ
    فإذا انتقلنا إلى النموذج الثاني وهو يمثل قفزة الشاعر، وتركيزه على التأويل القائم على التأمل العميق، ممّا يُعطيه فرصة الكشف عن وجداناته، إزاء ما يؤثر فيه ويبلـور ـ قبل أو بعد ـ مفهومه للواقع وللحياة كلها، وتلك رسالة الفن الصحيح، ذلك أن الشعر هو الذي يجعل الرؤية عن طريق الحدس تأويلاً عميقاً وذكيا!، وهذا يبدو واضحاً في هذا المقطع:
    2-من قصيدة "العصفور وكرة النار"، كُتبت في عام 1978م:
    هأنذا في غَضَبي الجامحِ لمْ أُبصِرْ ،
    والبصَرُ كليلْ
    خلفَ النّافذةِ المُغلقةِ الليْلةَ عصفورٌ
    يحلُمُ بالأرضِ الموْعودةِ ،
    فجزيرتُهُ ذائبَةٌ فيهِ ،
    وتحتَ الجَفْنِ .. حكايا وتراتيلْ
    الليْلُ يُدحْرِجُ خطْواتي ،
    والعصفورُ يُحاورُني:
    ـ خنتَ صباحاً ، وتراجعَ خَطْوُكَ
    ـ لم أتراجعْ!
    ـ لا تُنْكِرْ
    ـ لا أُنْكِرُ .. لكنَّ الفَرَسَ هزيلْ !
    وهكذا فإن الشاعر حسين علي محمد، وهو واحد من الشعراء الشبان الذين يُطلق عليهم جيل السبعينيات "جيل الاقتحام الشعري الجسور وطرْق أبواب التجربة الجديدة" يُثبت صوته الخاص والمتميز، وهو بقليل من الإصرار يستطيع أن يأخذنا معه في رحـلة مستثبلية تجوس العوالم الجديدة، وتضع أيدينا على مواطئ ومواطن كل ما هو موجع وسيئ ودميم واستلابي وتصادمي يُجابه حركة الإنسان الباحث عن الحق والخير والعدل والجمال!
    أحمد زرزور
    .................................................. .............
    *أحمد زرزور: الانتظار الحزين في "أوراق من عام الرمادة"، صحيفة "الجزيرة"، العدد (3298)، في 6/9/1981م.


  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    ( 6 ) قراءة في ديوان «السقوط في الليل» للشاعر حسين علي محمد *

    بقلم: عزت الطيري
    .......................

    هذا الديوان الصغير الرشيق الذي يأخذ شكل الكراسة يطرح العديد من الأسئلة الهامة قبل أن نبدأ في رحلة القراءة الممتعة:
    ـ هل لكي يصل الشاعر إلى جماهير القراء لا بد وأن تصحبه تضحيات كثيرة؟
    ـ وهل وجود هذه الأعمال الشعرية بين أيدي القراء مرتبط أساسا بوجود المادة بين أيدي أصحاب هذه الأعمال من الشعراء والأدباء؟
    ـ وإلى متى سيظل هذا الحال على ما هو عليه؟
    وإذا قارنا بين الأعمال التي يُصدرها الأدباء الشبان على نفقتهم الخاصة والأعمال التي تتولّى إصدارها الهيئات الحكومية لهؤلاء الأدباء لوجدنا البون شاسعاً، فظهور عشرة أعمال «قطاع خاص» ـ إن جاز لنا هذا التعبير هنا ـ يُقابله عمل واحد لقطاع الحكومة.
    وبالرغم من طبع هذا الديوان على نفقة صاحبه الخاصة فإنه خرج لنا بصورة مرضية، تزينه رسوم معبرة لفنان شاب يشق طريقه في دنيا الفن والتصوير (هو الفنان يوسف غراب). ولا أكون مُغالياً إذا قلتُ: إن هذا الديوان عمل فني مشترك لفنانيْن واعدين أحدهما يُشارك بالكلمة، والآخر باللوحة.
    ويهمنا هنا أن نناقش العمل الشعري، تاركين مناقشة الرسوم لمن هو أقدر منا في معرفة أسرار الرسم والتلوين.
    ولنبدأ بالشاعر أولاً: فشاعرنا شاب دون الثلاثين يعمل بالتدريس في محافظة الشرقية: موطنه وحبه وهواه، وهو يقف بشعره على أرض صلبة تُساعده موهبته الأصيلة ودراسته لأسرار اللغة وفنونها بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، وهو متعدد المواهب، فهو زجال بارع بلغ شوطاً كبيراً في هذا الفن، وفاز بجوائز عديدة، وطبع قصائده المكتوبة بالعامية في كتيبات صغيرة. ويبدو أنه ترك الزجل ليجرب حظه في الشعر الفصيح بعد أن أدرك بفطنته وذكائه أن لغتنا الجميلة هي الأصلح للتعبير، وهي الأكثر انتشاراً بين ربوع الوطن الكبير مهما تعدّدت اللهجات، وإلى جانب ذلك فهو باحث خصب وناقد جاد. ويهمنا هنا ـ أيضاً ـ ـن نستعرض الجانب الشعري من مواهبه.
    وكما قلنا مسبقاً فإن الشاعر ذو ثقافة عربية أصيلة، فهو يستفيد من هذه الثقافة ومن مختلف الثقافات والفلسفات في أشعاره في هذه المجموعة الشعرية. وقد ساعده ذلك على خلق موضوعات جديدة مبتكرة، وبالتالي فهو يُشارك في زملاءه المحدثين في تبني قضايا العصر وطرحها في مختلف أعماله. وهو لا ينغلق على ذاته وهمومها وهواجسها، بل ينفعل بكل ما يُحيط به وبقضايا وطنه وما يمر به من أحداث.
    فحينما يعيش لحظات الضياع عقب هزيمة الخامس من يونيو / حزيران نجده يتخذ موقفه الخاص به؛ فهو لا يُطنطن بالكلمات الرنانة، ولا يؤلف أغنيات الأمل الزائف ليذيعها المذياع، ولا يُبشِّر بنصر يُلقي بالمحتل في أعماق البحر، بل يقف مذهولاً حائراً متأملاً، مُحاولاً معرفة موقعه ومكانه، ويتغلغل بتفكيره كشاعر، ليعرف الحقيقة، طارحاً أسئلة يود لها جواباً شافياً:
    *لماذا تظلُّ العصافيرُ تشدو ؟ وصوْتُ البنادِقِ يعلو ، ويشتعلُ الدَّمُ ، يُشعِلُ فينا الحرائقُ قهْرا ، وأنتِ تموتينَ غدْرا ، وصوْتُ البلابلِ ينسابُ بيْنَ الخلايا ، فتصرُخُ فينا الحنايا بكلِّ حنينِ الشموعِ القديمةِ، تشتعلين فيهدرُ فينا الشبابُ غناءً قديماً عرفناهُ منذُ سنين ، حلمنا بشمسٍ تجيءُ وتُشرِقُ فوقَ جبينِ الربيعِ ، وأشواقنا المستحيلةُ تملؤُ نهرَ الطفولةِ طُهراً ، وتشدو البلابلُ فوق الرؤوسِ ، وتحلمُ بالصُّبحِ يأتي ، ويذهبُ عنَّا الألمْ .
    * لماذا تظلُّ العصافيرُ تشدو ..ونبكي ؟ وجرحُكِ هذا صلاتي ونُسكي ، وجُرحك هذا ربيعي .. وخوفي من القادِمِ الهمجيِّ يُحطِّمُ كالثورِ حانةَ بللورنا المستباحِ ، ودمعُكِ كانَ لآلئ حزنٍ بجِيدِ الزمانِ ، وأنتِ أراكِ مع الليلِ تنتفضينَ .. فيقْمعُكِ اللصُّ ، صوتُ الرصاصِ بأُذني ، وأنتِ تعودين حُلماً قديماً يُشوِّقُنا للخلاصِ ، أراكِ تثورينَ .. تنتفضينَ ، فتسقُطُ كلُّ التَّشابيهِ والمُفرداتِ القديمةِ خوفاً من السَّحْلِ تحْتَ القدَمْ .
    وقبل أن نكمل الحديث يهمني أن أوضح إعجابي الشديد بهذه الصورة الجميلة الرائعة «يُحطِّمُ كالثورِ حانةَ بللورنا المستباحِ».
    وبعد أن يطرح الشاعر أسئلته، يضع النهاية لقصيدته:
    *تظلُّ العصافيرُ تشدو ، وتحلمُ بالفجرِ يأتي ، وتذهبُ مملكةُ الليلِ والأقْبيهْ .
    *وأحلامُنا مُجهضاتٌ على الرَّملِ ، تحتَ السنابكِ والأحذيهْ .
    إذن فشاعرنا يحلم بفجر جديد، جميل المحيا، يزيح عن كاهله الحزن، وحين يلمح تباشير هذا الفجر أو يكاد، يُطالعنا الشاعر بقصيدته «ترنيمة إلى سيناء»:
    وجهُكِ الغالي الذي قدْ غابَ عنا
    تحتَ أثقالِ العذابْ
    وجهُكِ المملوءُ حزناً وصلابهْ
    يرجعُ اليومَ فتيًّا في مهابَهْ
    ولكن هل يظل الشاعر هكذا منفعلاً بكل ما حوله دون أن يُعطي نفسه وروحه بعضاً من التأمل ليُراقب عن كثب همومه وعذاباته؟! إنه سرعان ما يعود إلى نفسه الشاعرة مُحاولاً إفراغ جرعات الحزن الكامن في قلبه:
    هأنذا مُلقىً في الطرقاتْ
    يذبحُني سكِّينُ الوحدهْ
    يُطفئُ فيَّ الخوفُ البسماتْ
    والحزن هو السمة المميزة لهذه المجموعة، فنحن نلمح في معظم القصائد كل مسببات الحزن:
    الخوف مثلاً:
    ومرْكبي في الوحْلِ يا صَدِيقْ
    أخافُ منْ عوائقِ الطَّريقْ
    أخافُ منْ غَدي المجْهولْ ..
    الخَوْفُ في خُطايْ ..
    والموْتُ فيكِ يا سهولْ
    فهذه المقاطع الصغيرة اللاهثة تبين لنا مدى ما يُعانيه شاعرنا من الهواجس والظنون، وبالتالي فإن كل هذا يُكبله ويقيده، ويحرمه من متعة التجوال بين دروب الحياة.
    وإلى جانب الخوف كسبب أساسي لأحزان الشاعر نجد أسباباً أخرى، مثل: القلق، والغدر بشتى صوره: غدر الأصدقاء، وغدر الأحباب، وغدر الزمن والأيام.
    ويجرنا ذلك إلى شيء هام في حياة الشاعر، إنه يُبصرنا بنشأته الريفية وأثر القرية بكل قيمها وأخلاقها ومعتقداتها وموروثاتها وحكاياتها وأساطيرها وأهازيجها وأغانيها. وحين يُهاجر شاعرنا إلى المدينة بكل حضارتها وتحضرها وزيفها تظل كل هذه الأشياء عالقة بذهنه وذاكرته وسط هذا الخضم الكثيف، وحين يحزن شاعرنا يُحاول بينه وبين نفسه أن بتشبّث بأي شيء ليُساعده، ويخفف عنه هذا الحمل الثقيل الملقى على عاتقه وعاتق قلبه مع علمه التام بأن أي شيء من هذه الأشياء التي يلجأ إليها لن يجدي معه شيئاً بأي حال من الأحوال، فهي بعيدة عنه تماماً.
    وهو تارة يلجأ إلى محبوبته:
    انتظريني
    فالشمسُ القاسيةُ صباحا
    فوقَ شبابيكِ مدينتنا المسكينهْ
    تُدنيني
    منْ أهوالٍ تملؤني رُعباُ وجراحا
    تُفزعُ روحي التوّاقةَ لاستقرارٍ وطمأنينهْ
    وتارة يلجأ إلى أمه يسترجع ذكريات الماضي الذي ولّى، حالما بأبسط الأشياء التي كانت تملأه، وتملأ قلبه الصغير سعادة وراحة ودعة: فنجان القهوة، الابتسامة الحنون، الكلمة الطيبة، الدعاء الصالح:
    أحنُّ يا أُمي لقهوةِ الصباحِ من يديْكْ
    أُحسُّ أنني غريبْ
    مُسافرً بلا رفيقْ
    تقطَّعتْ من دونِهِ الأسبابْ
    فَدَقَّ كلَّ بابْ
    ولم يفُزْ بما أرادْ
    وحينما أراد أن يعودَ ثانيا
    لم يُبصرِ الطريقْ
    *
    أحنُّ يا أُمي .. أحنُّ لابتسامهْ
    فمنذُ أنْ رحلتُ من حضنيْكِ
    لمْ أجدْ سوى القتامهْ
    ومنذُ أنْ خَلعْتُ جذريَ العميقْ
    منْ تربتي الطينيهْ
    ونمتُ في العراءِ .. في القواقعِ الصَّدفيَّهْ
    ذبلتُ في مُستنقعِ البلاهةِ الملحيَّهْ
    وجفَّ عودي
    ولأنه حزين فهو يتعلّق بكل المحزونين، يعشقهم، يُناديهم، يرثيهم، يحل طلاسم أحزانهم، فهو يتحدث عن علي بن أبي طالب، وابن الرومي، وبدر شاكر السياب، حتى يصل إلى ياسين وبهية.
    وحزن شاعرنا ليس هو الحزن السلبي الذي يودي بصاحبه إلى هوة التقوقع والتخاذل والانهزامية، بل هو حزن ثائر يُولِّد في النفس طاقات مجتاحة تحطم كل العوائق في عزيمة ومُثابرة، وهو حزن نبيل شفاف يُطهِّر النفس ويوصلها إلى درجة عالية من الشفافية والصفاء، وفي هذه العجالة السريعة لن أتعرّض إلى قضايا الشكل والمضمون لقناعتي أن هذه التقسيمات تهم الدّارسين أكثر مما تهم القارئ العادي، ولقناعتي أن القصيدة أو العمل الجيد هو الذي يترك أثره فينا إلى ما بعد الفترة الزمنية اللازمة لقراءته، وبحث يغرينا دائماً بالعودة إليه، وفي كل مرة يُشعرنا بنكهة أفضل، ورؤية أعمق وأشمل من تلك التي كانت لدينا قبل آخر قراءة.
    لكن لا بأس من إيراد بعض الملاحظات:
    1-نُلاحظ انفلات الموسيقى من الشاعر أحياناً في بعض القصائد، وجنوح العديد من هذه القصائد إلى النثرية الواضحة، مما يُفقدها طعم الشعر ونكهته.
    2-أهمل الشاعر تأريخ القصائد، وهذا ضروري للدارسين الذين يهمهم معرفة مدى التطور الذي حدث لإبداعات الشاعر في فترة زمنية معينة أو بين فترات متقطعة.
    3-الكثير من قصائد الديوان كانت تحتاج إلى مُراجعة قبل أن تُدرج في هذا الديوان الجيد.
    وبالرغم من ذلك فإنه يهمنا في النهاية أن نقول: إن حسين علي محمد في رحلته الشاقة مع الحرف يُحاول بشكل جاد أن يشق طريقه، وأن يبني لنفسه منهجاً معيَّناً يسير عليه.
    وهو كما قلنا في البداية موهبة أصيلة يجب أن يُنظَر إليها بعين العناية والاهتمام، وألا تُترك هكذا سدى، تعتمد على مجهود فردي يقوم به صاحبها!، وأجدني في النهاية أقول كما قال الشاعر:
    هذا الصقرُ الغائبُ عادَ يدُقُّ علينا بابَ البيتِ،
    ولكنْ .. من يفتحُ للطارقِ
    من يفتح للطارق؟ تلك هي المشكلة، وهذا محور السؤال!
    .................................................. .........
    * نشر في مجلة «الثقافة الأسبوعية» الدمشقية، العدد (39) في 7/10/1978م.


  7. #7
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    ( 7 ) بين تحديث الأصالة وتأصيل الحداثة:
    قراءة في ديوان «النائي ينفجر بوحاً» للشاعر الدكتور حسين علي محمد

    بقلم: محمد سليم الدسوقي
    ..............................

    ليس كل من أمسك القلم بمستطيع أن يكتب عن الدكتور حسين علي محمد، لأنه شاعر ذو أبعاد عديدة:
    فهو عندما يكون شاعراً يصعد فوق قمة الدلالات والمرامي، ويمتلك ناصية الهدف.
    وبين هذا وذاك يملك لغة مطواعاً، وجدة فيّاضة يقطفها من أغصانها، ويضعها في سلاله باقتدار وبفن جذاب خلاّب، ويجعلك تراها وتتذوّقها بفطرتها هي لا بشهيتك أنت، وكأنها خلقت هكذا في بهاء وجمال، وتأبِّي هذه السلال اللهم فيما يفوح فيها من قطوف ومن عبير، وفيما يُرى فيها من طيوف ومن حرير، وفيما يُسمع منها من هموم ومن هدير.
    وعندما يكون قاصا فإنك تغوص معه في معاني القص ودروبه وأزقته وعذوبته.
    وعند اختلاط السبل وتعدد المسارات تقف قليلاً لتسأل أين أنا الآن؟ فتجد لافتة أمامك برقم الهاتف وإشارات الطريق.
    وعندما يكون ناقداً فإنك تقرأ له أو تستمع إليه وهو يسوق إليك المنهج والأمثولة، وقد أسلمت إليه القياد لترى وتلمس ما كنتَ تود أن تسمعه وأن تراه.
    وأعتقد من واقع تجربتي الشخصية معه، أنه واحد من أولئك الأدباء الكبار الذين لهم طابعهم الخاص، وتميزهم المتفرد الذي يعشق الأدب ويهضمه لحماً وشحماً ويُعايشه بشكل غير عادي قراءةً وكتابةً.
    فهو غيطه وهو بيته، وهو حياته، بل كل ثانية من ثواني هذه الحياة الخصيبة قراءةً وكتابةً وحديثاً وتفكيراً.
    فهو قد ينسى ماذا طعم وماذا شرب؟ لكنه بالتأكيد لا ينسى فكرةً أو أسلوباً أو تعبيراً قاله منذ سنين، أو زميلاً عايشه هنا أو هناك جمعته به أدنى الصلات، والحديث الذي دار والزمان والمكان وكأنه يقرأ من كتاب.
    وأشهد وأنا واحد من هؤلاء أنه دفع بي دفعات قوية إلى الأمام، وأنني إذا كنتُ حققتُ أعمالاً فهو مَن وراء ذلك، وأنه الصاحب الحقيقي لما كتبتُ من «صلوات على زهرة الصبار»، و«طقوس الليلة الممتدة»، و«الحب في زمن الرمادة»، و«من دفتر العشق الإلهي».
    فطالما كان يسألني عندما كنا نلتقي زمان اغترابي عن الأدب فترة طويلة هذا السؤال الذي أرجعني سريعاً إلى جادة العمل الأدبي وهو: ماذا عن الإبداع؟
    وكنتُ أجلس لأقرأ وأكتب لأجيبه على هذا السؤال الصعب عندما أقابله.
    وأعتقد أنه كذلك كان مع الكثير من الزملاء غيري، وتلك لمحة ما كان بالإمكان أن أداريها أو أنكرها عليه أو على نفسي فهو محب لزملائه، محب لأعمالهم، ومشجع لهم، وموجه إلى تصويب العمل وتجويده.
    ولستُ أنسى عندما قال لي يوماً: «عليك أن تسلك دروب الجديد وأنت قادر على ذلك»، وقد كان.
    ***
    وبالقراءة المتأنية لهذا الديوان الجديد «النائي ينفجر بوحاً» نجد أنه خطرات جميلة لما يعتمل في نفس الشاعر من لواعج الغربة وتداعياتها من غربة في الوطن، وغربة عن الأهل والسكن، وغربة عن الأصدقاء، وحنين إلى ذكريات الراحلين.
    وتلك دلالات ومواقف في الشعر العربي قديمِه وحديثِه، ومنذ عُرف الشعر والشعراء والتعبير الجميل.
    لكنه في جذورنا القديمة كان على بكاء الأطلال، وحنيناً إلى الديار الدوارس.
    ففي الأدب الجاهلي:
    قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ
    بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
    وفي الأدب الأندلسي:
    جادك الغيْثُ إذا الغيْثُ همى
    يا زمانَ الوصْلِ بالأندلـسِ
    لكن لغة العصر وتناولاتها تختلف مع التوحد في الرؤية والهدف: وهذا هو الاستحداث الذي أفرزته العصور المتتالية والمتتابعة تتابع الأيام والليالي.
    ***
    ونستطيع أن نستطلع البوح الذي جاء بهذا الديوان ما بين:
    *بوح الأسرة والأولاد وأولاد الأصدقاء,
    *بوح للوطن، وتصد بالقلم والوجدان لأعدائه الخارجين من المستعمرين وجنرالاتهم، أو لأعدائه من داخل الوطن نفسه والمتعالين عليه تعاليَ جنرالات الأعداء.
    *بوح رثائي لزملاء الغربة وأصدقاء الكلمة ممن دهاهم الدّهر، ولفهم الموت بعباءته السوداء.
    *بوح إخواني لأصدقاء فارقوا دار الغربة فقط إلى ديارهم بعد طول غياب عن أرض الوطن يُذكِّره بهم دموع الحاسوب، وكوب الشاي، وفنجان القهوة، ولقمة الخبز.
    وذلك كله في إيقاع حداثي رتيب، يمتاز بالصقل والتجويد، ونبض اللغة، وفيض الدلالات.
    أو في إيقاع خليلي قشيب يمتاز بالشجو والتطريب والتجديد ودوران الألفية الثالثة بعد القرن الفائت ـ (انظر هذه اللغة: سوحي ـ شيّأني الحاسوب ـ الأوانس ـ ذوات الحجال).
    1-فالبوح الأول تجلى في هذه القصائد: «النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة»، و«فراشات زرقاء»، و«أغان صغيرة إلى فاطمة»، و«عرس أمينة» .. وذلك على سبيل المثال لا الحصر، يقول في قصيدة «النائي ينفجر بوحاً»، (ص40):
    كانتْ كالوَتَرِ المقطوعِ
    تُدنْدِنُ أغنيةً خضراءَ الأحرُفِ
    في عيْنيْها حُزْنٌ يَدْفُقُ
    في رَهَقِ أُنوثتِها
    ويقول:
    ـ وأنتَ النِّيلُ المانحُ سرَّ التَّكوينِ
    نشيدَ الخلْقِ
    ـ دمي طوْعُ بنانِكَ
    ـ شيَّأني هذا الدَّرْبُ الصَّامتُ
    ـ حاصرني فيْضُ حنينِك
    ويقول في قصيدة « فراشات زرقاء» (ص5):
    في صُبْحٍ آخَرْ
    ـ وصهيلي في الآفاقِ يُردِّدُ أُغنيةَ البدْءِ
    أراني قُدَّامَكِ
    تتفتَّحُ أزْهارُكِ
    ويُمازِجُني عِطْرُكِ
    وتُفاجِئُني أطيارُكِ إذْ تخْرُجُ
    في كَفَّيَّ لآلئَ خضْراءْ
    تنفَتِحُ على القلْبِ
    أماكِنَ
    ومجالاتٍ
    ورُؤى
    تتجدَّدُ ، أوْتُخْصِبُ باللذَّةِ
    (هذا النَّصُّ يُغايِرُ
    ما ألِفتْهُ العيْنُ قديما
    في آفاقِ الشُّعراءْ !)
    ...
    فلماذا يقْبَعُ حسْنُكِ
    في الطَّلَلِ الباكي
    إيقاعاً
    خاصًّا
    يتَنَزَّى في شريانِ القلْبِ
    صباحاً
    ومساءْ!
    فوْقَ رُخامِ الحسَدِ الجنَّةِ
    فوقَ النَّهْدِ
    وتحتَ الخَصْرِ
    وحوْلَ العيْنيْنِ
    وفَوْقَ جبينٍ
    كاللؤلؤةِ يُضِيءُ
    حنين كامل إلى رفيقة دربه، وهو يحلم بالضوء والخضرة والعشب والصباح الذي يُبدد تعب الأم الرؤوم بين أبنائها، تُكافح وتُنافح لتبني مُستقبلاً وتُنشئ جيلاً، وهي راضية مبتسمة ابتسامة الصباح الجديد الوليد، رغم الإحساس باغتراب الأب الحاني صاحب الحديقة المونقة الخضراء التي تنتج عطراً وأملاً وارتواء.
    ويشتاق للأبناء والبنات وهن تذهبن وتجئن في رعاية الأم وحلم الأب وحنين اللقاء.
    وفي « أغان صغيرة إلى فاطمة» ابنة الصديق، يقول:
    أهذي العصافيرُ جاءتْ
    تُغنِّي بشدوِكِ يا فاطِمَهْ ؟
    وهذا غِناؤكِ يقتحِمُ الصَّمْتَ
    يلمسُ أحلامَنا القادِمَهْ
    ويقول:
    أطِلِّي على ضِفَّةِ الغَيْمِ
    هاتي ظلالَ النَّخيلِ .. عطاءَ السَّعَفْ
    وقولي لعمِّكِ: يا كمْ تعِبْتَ منَ السُّهْدِ
    .. والمَشْيِ في المُنتصَفْ
    فهو يُداعب فاطمة الصغيرة، ابنة صديقه ورفيق عمره الدكتور حلمي محمد القاعود، ويبعث لها بتهنئة عيد الميلاد الذي يراه يستحق التهنئة الجميلة في ثوب شعري غنائي، تنمو فيه الفكرة وتشب عن الطوق بنموها هي.
    فهو يستقرئ أسماء ثلاث فواطم أثيرة لديه؛ من الرفيقة أم الأبناء، إلى الوليدة ابنة الصديق، إلى صاحبة البيت الأثير والمنزلة السامية لدى المسلمين جميعاً فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
    وفي قصيدة « عرس أمينة»، (ص12)، وهي عروس الديوان لجماليتها وغنائيتها يقول:
    العُرسُ حان وقتُهُ
    فأيْنَ يا صِغارْ ..
    الدّفُّ والمزمارْ ؟
    لا تُبْعِدوا الصِّغارْ
    سناءَ أوْ سميحَهْ
    فالدَّارُ عندنا فسيحَهْ
    ويقول:
    زَغْرِدْنَ يا بناتُ لِلْفَرَحْ
    حسيْنُ قدْ نَجَحْ
    كأنَّما النَّخيلُ قدْ طَرَحْ
    والموْجُ للسَّلامِ قدْ جَنَحْ !
    جميل جداً أن يخلد الحلم للراحة، ويميل الخاطر إلى هذه الآفاق المبهجة، ويطلب العرس على أوسع نطاق، حيث الدار عندنا فسيحة، وهو تعليل رائع لرحابة الصدر وجيشان الخاطر.
    وفي المقطع الثاني هنا يقول:
    حسيْنُ قدْ نَجَحْ
    كأنَّما النَّخيلُ قدْ طَرَحْ
    والموْجُ للسَّلامِ قدْ جَنَحْ !
    وهو إحساس كبير بنجاح المقصد، واستواء القطاف بعد طول الغربة والسنوات العجاف.
    2-والبوح الثاني: في قصيدتيه «الجنرال والوطن المنفى» و«الشاعر والجنرال».
    يقول في الأولى، (ص20):
    لنْ أُبرئَكَ من الجمْهَرَةِ بسوحي
    المُمْتلئةِ بالرُّعْبِ،
    وبالأقذاءْ
    وببحرِ دماءْ
    يتفجَّرُ منْ ظلِّ الجنرالِ الضَّخْمْ
    لنْ أُبرئكَ من الوهْمْ
    في خِسَّةِ ليْلٍ يتمدَّدُ ،
    يبتلِعُ العصفورَ الأخضرَ
    في ساحِ الشُّهداءْ
    إلى أن يقول:
    نمشي فوقَ مناكِبِ قتلانا
    كلَّ مساءْ
    تصفعُنا ذكراهُمْ
    ليلاً ،
    فجْراً ،
    ظُهْراً ،
    عصراً ،
    صيفاً ،
    وشِتاءْ
    فلماذا تُمسِكُ مرآةَ الأيامِ السوداءْ
    وتُحدِّقُ في الأُفْقِ المجدولِ بعارِكَ
    في خُيَلاءْ ؟
    وفي القصيدة الثانية، (ص24):
    لا أدري لِمَ تحقِدُ يا إنسانْ ؟!
    ولماذا في شعرِكَ ..
    تتخصَّبُ تلك الثَّمَرَاتُ المُرَّهْ
    بِلقاحِ الحرمانْ؟
    لا تسْألْني
    هلْ هذا آخرُ شعرِكْ ؟
    آخرُ شعري لمْ يُكْتَبْ بعْدْ !
    فاكتُبْهُ أنتْ!
    القصيدتان تحكيان موقفين يختلفان في الوسيلة، ولكن الغاية واحدة، وهي أن الجنرال المعتدي والجنرال السلطوي كلاهما جنرال، وكلاهما معتدٍ، سواء أجاء غازياً أم جاء نبتاً من شوك الوطن؛ فالعدوانية واحدة، ولذا كانت البكائية والصيحة واحدة، فهي تحمل الشهد المضرّج بالدماء من وسط الميدان مرة، وتحمل الكرامة المضمخة بالتراب فوق أرض الوطن مرة أخرى.
    (يتبع)


  8. #8
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    ويلحق بنبرة المقاومة والتأبي هنا قصيدتان، هما: «سبع سنابل خضر إلى بغداد» (ص63)، و«هوامش المسلم الحزين» (ص46).
    جاء في الأولى:
    وهذي مآذنُها في الفضاءِ
    البعيدِ
    تُناجي السماءَ
    .. وهذي الصَّواريخُ تنهالُ
    فوقَ رؤوسِ الشيوخِ / الصبايا / النساءْ
    إلى أن قال:
    .. وهذي مروجُ الضِّياءِ
    وهذي قناديلُنا في الليالي البهيجةِ
    تضحكُ "نازكُ" ..
    يُشرقُ وجْهُكَ يا "بدْرُ"
    يُشْعَلُ في الليْلِ ضوْءُ السِّراجْ
    وجئتُكِ بغْدادُ ..
    .. غنَّيْتُ شعبَكِ ، أرْضَكِ ..
    ما عاقَني ـ في الطريقِ ـ السِّياجْ !
    وفي الثانية:
    هذا هو القرآنُ في العيونْ
    رفيقي الحنونْ
    يضيءُ دربيَ المسكونْ
    بالرُّعبِ والجنونْ !
    متى سنتلو "سورة القتال"
    نكونُ خيرَ أمةٍ قدْ أُخرجتْ للناسْ
    العدو واحد إذن، فالهتاف واحد كذلك، وهو قمة أدب المقاومة، وإن كنتُ لا أرى «وذاكَ العتلُّ الزنيمُ على صدْرها جاثمٌ في اشْتهاءْ» في المكان الصحيح من قواميس السياسة والمداورة على الأقل، فقد تدور الأيام، ويُصبح صديقاً للشعر العربي والحلم العربي كما كان.
    أما الصرخة المطلقة إلى مسلمي العالم في: هذا هو القرآنُ في العيون" فهي صحيحة تسامتْ فوق ما نعرف وما نقرأ من صيحات ودلالات.
    3-أما النوع الثالث وهو البوح الرثائي والمتمثل في قصائد «صبيحة الغياب» و«انكسار» و«رحيل آخر عام 1996م» و«الصارخ في البرية» و«فخاخ الصحراء» و«الغائب» و«نام في سلام» و«مكان في القلب»، وسأمثل لبعض هذه القصائد.
    وهي قصائد رثاء في لهجة حميمة إلى أصدقائه الذين طواهم الموت، وقد خلّفوا أعمالاً وأحلاماً لا يطويها الزمن، ولا تمحوها الأيام
    يقول في « صبيحة الغياب» (ص16) يرثي صديقه المرحوم عبد الله السيد شرف:
    متى ستُشرقِينَ في غيابِهِ الطويلْ ؟
    (تُجيبُ في قَلَقْ)
    ـ غداً
    ـ إذنْ متى ستكتُبينَ سطرَكِ الجميلَ
    في الرسالةِ الأخيرَهْ ؟
    إلى اللقاءِ يا حبيبتي المُسافِرهْ
    في دوْرَةِ الفَلَكْ ؟
    ويقول في «الصارخ في البرية» (ص44) يرثي صديقه المرحوم كمال النجمي:
    كنتَ وحيداً تقفُ على رأسِ طريقِكَ
    تصرُخُ في جمْعِ الشُّعراءْ :
    كونوا مِلْحَ الأرْضِ
    سياجاً للضُّعفاءْ
    نوراً في الظَّلْماءْ
    ازْوَرُّوا عنْكَ جميعاً ،
    كانوا في الليْلِ فراشاً
    يتساقطُ دونَ الأضواءْ
    ويقول في « فخاخ الصحراء»:
    تعالَ إلى حِضْنِ "عصايِدِكَ" الملهوفةِ
    بالشوقِ
    أعدْني طِفلاً ، لأهازيجِ الحقلِ
    ولغوِ السُّمَّارِ
    وقُلْ لي :
    كيفَ تُضِيءُ حقولَ الصمتِ / الثرْثارِ
    وتُسْرِجُ في قفْرِ هزائمِنا
    خيْلَ النار ؟
    ويقول في قصيدة «ونام في سلام»:
    تعودُ للترابْ
    يا أيُّها المسافرُ الحبيبْ
    تعودُ .. في العينيْنِ أُغنيهْ
    وفي الدروبْ:
    مقاطعُ الغيابْ /
    مدى كيانِكَ الرَّحيبْ /
    ونبْضُ أُمسيَهْ
    .. ملأتَها بالشعرِ والسَّمَرْ
    يا أيُّها الغريبْ !
    متى يعودُ صوتُكَ المليءُ بالبروقِ والضِّياءْ
    يقصُّ لي حكايةً خضراءْ
    عنِ الفراشةِ الزرقاءِ،
    والغيوبِ،
    والأحلامْ
    وطفلةٍ كفلْقةِ القمرْ
    تدعو .. بأنْ تعيشَ ألفَ عامْ
    ويقول في قصيدة «مكان بالقلب» الخليلية:
    لئنُ غالنـا عاصِفٌ في شتـاءٍ
    ومزّقتِ القلبَ ريـحُ الشمالْ
    فإنكَ بالقلبِ نبضُ اشتيــاقٍ
    وذكرى وجــودٍ عصيِّ المنالْ
    ***
    وفي مكــةَ الحـلمُ كمْ ضمّنا
    خيــالٌ لـهُ في الفيافي جلالْ
    وقُلتَ: أنـا في القـصائدِ نبْضٌ
    وفي الشعرِ عاطفةٌ لا تُنـــالْ
    كذلكَ أنتَ صديقـــي هنا
    مكــانُكَ بالقلبِ أغلى اللآلْ!
    دلالات واضحات على مدى حبه لرفاق دربه وغربته، وقصيدة عبد الله السيد شرف، وكمال النجمي، وكذلك أحمد الذي لم يعرفنا به، ويبدو أنه رمز لعزيمة يونيو وشهدائها.
    وتتداعى الأحلام والرؤى فيذكر قريته الجريحة بالشوق، ويتمنى أن يعود الزمن إلى الوراء، فتعود أغنيات الحصاد واللهو البريء، فيقاوم الهزيمة بلعبه وخيوله.
    أما رثاؤه الكبير في قصيدتيه إلى صديقه الراحل الدكتور محمد علي داود، فيذكر بالتفصيل لمسات اللقيا، وطفلته الغريرة الجميلة كفلقة القمر التي تدعو لأبيها أن يعيش ألف عام.
    ولكنني هنا أسأل: وماذا بعد الألف عام؟
    ويودع صديقه الوداع الأخير، ثم يستدرك: ولكن وداعك إلى مكانك الأثير بالقلب يا أجمل الكنوز وأحلى اللآلئ.
    4-والبوح الإخواني لصديقه الشاعر أحمد فضل شبلول، وقد تركه وعاد إلى وطنه وبلده الإسكندرية. فيقول في قصيدة «دموع الحاسوب» (ص37):
    هذا شايٌ باردْ
    لنْ التفِتَ إليْهْ
    لنْ أُبعِدَهُ عنْ طاوِلَتي
    في هذا الصُّبْحْ
    فالحاسوبُ يُراقِبُ بادِرتي
    هلْ يُمليني شيئا من حكْمتِهِ
    ويُداوي الجُرْحْ ؟
    تجارب إنسانية، كلها تشير إلى نفس صافية محبة عاشقة، عشق الروح للروح، مستقاة من وحي الغربة، فليس ثمة ما يبعد خواطر الاغتراب وأحلام العودة صباح مساء عن المغترب القابع في أقصى الباحة سوى أوراقه وقلمه، وجلسة وديعة، ودمعة شجية يسكبها يراعه الحالم، والذي يحس إحساسه وينبض نبضه.
    وتلك خلجات حزن وبارقات أمل، وأغنيات عشق نزجيها إلى أصدقائه وأحبابه وأهل بيته ورموز فكره علها تخفف لوعة البُعد ولواعج الفراق.
    بقيت قصيدتان هما «أحزان صباحية» و«القاهرة 1968م» وهما من قصائد النثر، وقد أضافهما الشاعر إلى بكائياته وهمومه في شكلهما النثري القصصي، فهو قد عبّر عن خلجاته بشتى فنون الشعر وأشكاله العمودي منها والحداثي والنثري وحتى العامي؛ فقد سمعته يقرأ قصيدة من هذا النوع العامي، ولكنها جميلة بكل المقاييس، ورامزة [يقصد قصيدة «جواب من بقرة إلى ساقية»]، وإن كان يعدها ذكرياتٍ درستْ من تراجم الماضي السحيق.
    وأنا هنا أسأله: وما الذي يعيب شعراً عامياً بهذا الجمال؟!
    وهنا أستأذن من يسمعون ومن يقرأون فأنا لستُ ناقداً ولا كاتباً له منهجه وفعالياته .. إنما هي فقط مشاركة إيجابية في المُدارسة والحكْي، فقد سمعتُ أخي وصديقي الدكتور حسين علي محمد صاحب هذا الديوان يقول:
    «إذا لم نكتب نحن عن أنفسنا فلن يكتب عنا أحد».
    ولذا رأيتُ أن أستجيب لهذه الوصية!
    وأعتقد أنني هنا ألوي عنان القلم مخافة أن يستطرد أكثر وأن يبوح أكثر سيما والحديقة أمامه تزخر بالطيوب والأزاهير.
    والبوح لا مدى ولا غاية له إلا إذا أوقفنا نحن دموعه ولواعجه، وأغلقنا فيوض النبع وقطوفه، ولكن إلى حين.
    وأشكركم، وتفضلوا بقبول تحياتي.
    محمد سليم الدسوقي
    ديرب نجم 12/8/2000م.


  9. #9
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    ( 8 ) مقدمة في شعر حسين علي محمد*

    بقلم: أ.د. طه وادي
    ......................

    من الظواهر الصحية لدى الشباب المثقف اليوم أن هموم الحياة لا تؤثر في عزائمهم، ولا تجعلهم يستسلمون أمام الضغوط الهائلة التي تحول دون التحام الفرد بالجماعة، والتي تسلبه ـ أحياناً ـ كل قدرة على التوافق حتى مع ذاته، ومن ثم تتحوّل هموم كثير من هؤلاء إلى توتر خلاق في محاولة لشجب الاغتراب، ونفي كل عوامل القهر والسلب التي تحول دون سعادة البشر على المستوى العام والمستوى الخاص.
    وتعكس المجموعة الشعرية "انتظار التي لاتجيء" لحسين علي محمد هذه الحقيقة بصدق ووضوح، تقرؤها فتحس أنك أمام شاب يستقطب أزمة جيل في الإحساس بتكاثف كل عوامل القهر المادي والمعنوي أمامه، وبسبب من هذا التكـاثف الأسود للضغوط تكاد تُحس ـ وهذا ما لا نُوافق شاعرنا عليه ـ أنه بـدأ يستسلم، ويُلقي السلاح .. أكثر من هذا لقد بدأ يحس الموت يسري في أوصاله وهو حي:
    لا قمر في حدائق الشتاء
    لا حبة من ضوء
    فلتغلقوا الأبواب
    فلتغلقوا الأبواب
    أشعر أنني
    أموت في العراء
    وإذا ما تساءلنا عن سر اغتراب الشاعر واستسلامه هذا لقوى القهر المحيطة به، فإننا يمكن أن نرد هذا إلى عاملين كبيرين، أحدهما عام، والآخر خاص مترتب عليه.
    العامل الأول المسبب لاغتراب الشاعر ـ كما تعكس ذلك هذه المجموعة ـ هو: عدم الإحساس بالأمان والعدل، يُضاعفه الشعور بالعجز عن استرداد كل الحقوق المغتصبة، وهذا ما تؤكده قصيدة "دموع من أورشليم":
    كرامتنا أريقت في أكفهمو
    وهمْ يلهون
    يبيعونَ القضيةَ بالجنيْهاتِ
    فقُمْ معنا
    ففي أُذنيَّ صوتُكَ منْ وراءِ الغيبْ
    يُناديني ،
    يُفتِّتُ في جراحاتي:
    أضاعوني
    وضاع دمي
    أضاعوني
    وفي أعناقهمْ ثاري
    والشاعر في معرض التعبير عن هذه الفكرة يستلهم أرواح أصحاب المآسي الحزينة في تراثنا مثل يوسف الصديق، وياسين الصريع ـ حبيب بهية ـ وأبي فراس الحمداني، وابن الرومي. والشاعر يُحاول أن يُنطق كل شخصية من هذه الشخصيات بجانب من جوانب المأساة العامة التي تعتصر شباب جيله، لترسم في النهاية صورة لكل ما يُعاني منه.
    العامل الثاني الذي سبّب اغتراب الشاعر في هذه المجموعة، أنه أمام كل هذه الضغوط بدأ لا يتعاطف مع أمه التي أنجبته إلى هذا العالم الكئيب:
    أأنتِ التي ..
    نذرتني للشمس منذ الولادهْ
    وأنتِ التي ..
    عرَّيْتني في طرق الصمتِ والبلادهْ
    وأنتِ التي
    ذبحتِني
    وبعْتِ لحمي في القرى ..
    وفي النجوعِ والدَّساكرْ؟!
    أكثر من هذا، لقد أصبحت هذه السلبيات كلُّها تحول دون استمتاعه بالحب، وتُعجزه عن أن يسعد بالحبيبة:
    فلا تنسَوْا حكايتَنا .. أحبائي
    وليلةَ عُرسِنا المأمولْ
    فياكمْ قدْ سهرتُ أعانِقُ المجهولْ
    وأبذُرُ حبَّنا في أولِ الفجرِ
    فيُنبِتُ في الأصيلِ لنا ـ ويا للهوْلِ ـ
    خفقَ شُعاعْ !!
    أموتُ هناكْ
    وأغمسُ أصبعي في الدَّمْ
    وأكتُبُ فوْقَ هامِ الموْجِ:
    "ذاتَ صباحْ
    رأيتُ الحبَّ مشنوقاً
    على بابي" !
    أمام هذا الاغتراب العام والخاص كان من المحتَّم أن نجد الموسيقى عند حسين علي محمد جنائزية خفيضة رقيقة مُوقَّعة، كأنها موكب خلف نعش ميت!
    ولعل ما يؤكِّد هذا أيضاً كثرة مراثيه في هذه المجموعة الصغيرة، وهذا ما يُفضي بنا إلى القول إن موسيقى شعر حسين علي محمد تنبع أساساً من مضمونه الفكري.
    أحياناً قليلة ونادرة نحس أننا أمام شاعر تشع من قصائده روح التفاؤل والأمل المضيء، وهذا ما نتمنّى أن يكون سمة عامة له في شعره القادم، فالشاعر شاب ريفي يحمل عراقة أرض مصر التي لا تعرف اليأس والاستسلام، ومن هذه الومضات المشعة بالأمل المقطع الأخير من قصيدة "طائر الرعد":
    .. ويُنادي طيرُ الرّعدِ بصوْتٍ باك:
    لا تقلقْ
    فالبابُ هو البابْ
    وغداً
    يتركهُ الحجّابْ
    وغداً
    سيعودُ الأحبابْ
    وأخيراً؛ فإن هذه هي بعض السمات العامة لشعر شاعر شاب جاد في أول الطريق، ونتمنّى أن يكون وتراً فنيا يُضاف إلى قيثارة الشعر العربي الحديث، كما نتمنّى أن تكون أشعاره طاقات أمل، وإشعاعات هدى تُضيء الطريق للغد المشرق.
    أ.د. طه وادي
    ........................................
    *طه وادي: مقدمة في شعر حسين علي محمد: نشر في "الثقافة الأسبوعية" الدمشقية العدد 9 في (4/3/1978م) كما نشر في "أخبار الأسبوع" الأردنية، في 25/5/1978م.


  10. #10
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    ( 9 ) «حوار الأبعاد الثلاثة» مجموعة شعرية جادة

    بقلم: بـدر بديـر
    .................

    كتب الأستاذ الشاعر حسين علي محمد "رسالة القاهرة الثقافية" في عدد 9/2/1978م من جريدة "أخبار الأسبوع"، وتعرّض في إحدى فقرات رسالته لسلسلة "كتابات الغد" التي قدمت عطاء خصبا وجادا تمثل في سبعة كتب أصدرتها خلال عام.
    وفي هذه الرسالة من القاهرة نعرض لديوان "حوار الأبعاد الثلاثة"، وهو الكتاب الثاني في هذه السلسلة، ويضم مجموعة شعرية للشعراء الشبان: حسين علي محمد، ومحمد سعد بيومي (وهما من مصر)، ومصطفى النجار (من سورية)، وقد قدمت السلسلة هذه المجموعة الشعرية بقولها:
    "تضم هذه الرحلة ثلاثة أصوات جديدة تُضيف إلى النبض الشعري حيوية وحركة وإثراء، ويُحاول كل منهم أن يُقدِّم رؤيته المتفردة للكون والحياة. وأصحاب هذه القصائد لا يثقدِّمون تجاربهم الأولى هنا، وإنما يحرصون على أن يقدموا شعاعا جديداً للقارئ العربي، وقلة القصائد لا تعني شُحا في الإنتاج بقدر ما تعكس أزمة النشر وضيق ذات اليد".
    إن صدور هذه السلسلة من "كتابات الغد" يدل على روح الإصرار التي يتمتع بها فريق من الأدباء الشبان، فهم بهذا الإصرار يتحدون أزمة النشر وانصراف معظم الصحف والمجلات عن الاهتمام بالناحية الأدبية عموما وبإنتاج الشباب على وجه الخصوص.
    ولولا هذا الإصرار لحُرمنا لحظات ثرية قضيناها مع "حوار الأبعاد الثلاثة".
    وإذا ألقينا نظرة على قصائد هذه المجموعة المشتركة طالعنا اللوحة التي تضم عدة صور حية تجمع اللون إلى الحركة إلى الصوت فـ "القاهرة 75":
    وجهُ مصبوغٌ بالألوانِ الصَّارخةِ الفتّانهْ
    عاهرةٌ تحبسُ جسداً رخصاً في فستانْ
    تجلسُ في مَرَحٍ نشوانَهْ
    وهي أيضا:
    رجلٌ لايملكُ نصفَ القرشْ
    كيْ يبتاعَ رغيفاً
    يرفعُ رأساً مخضوباً بالحنَّاءْ
    وهي أيضا:
    طفلٌ يتعلمُ: ألفٌ .. باءْ
    هذه الصور الجزئية التي تتقابل وتتجمَّع لتكوِّن لوحة حية نابضة بالحياة بكل ما فيها من خير أو شر.
    وإذا تناول النيل باعتباره معلما رئيسا للقاهرة بتناوله كفكرة للسخاء ورمز له:
    النيلْ
    يعطي، لا يبخلْ
    فيّاضٌ لا يتمهَّلْ
    ينسابُ الزورقُ فوقَ مياهِ النهرْ
    وعيونُ الصَّخْرْ
    تحلُمُ بالخضرةِ أنْ تُزهِرَ ذاتَ صباحْ
    وحسين علي محمد لايكتفي باللوحة الحية، وإنما هو شاعر استطاع في أكثر قصائده أن يوسع دائرة همومه، فهو لا يدور في فلك ذاته وإنما يقترب من هموم الناس بشكل غير مباشر، وهذه الخاصة تؤهله لكتابة الشعر المسرحي القادر على عرض آفاق الحياة.
    وحتى حينما يقترب حسين علي محمد من ذاته ويُعبِّر عن تجربة خاصة من أرق ما قرأت بعنوان "القيظ"، حتى في هذه التجربة الذاتية عندما يصف مدينته يصفها بأنها مسكينة، والشمس قاسية صباحا على شبابيكها:
    انتظريني
    فالشمسُ القاسيةُ صباحا
    فوقَ شبابيكِ مدينتنا المسكينهْ
    تُدنيني
    منْ أهوالٍ تملؤني رُعباُ وجراحا
    تُفزعُ روحي التوّاقةَ لاستقرارٍ وطمأنينهْ
    وإني لأحب أن أقرأ هذا الجزء الختامي للقصيدة مرات عديدة:
    مادمتِ معي
    أحزانُ العالَمِ لا تجتاحُ قلوعي
    أو تقدرُ أنْ تهزمني !
    اقتربي مني
    همساتُكِ تُذهبُ عني جزعي
    وتُعيدُ إليَّ ربيعي
    أما الشاعر محمد سعد بيومي ـ في قصائده الثلاث التي تضمها هذه المجموعة: الصوت الآخر، والغريق، والخروج من البحر ـ فإن الحيرة سمة بادية في شعره؛ فهو إما غريق، أوْ مصارع للموج، أوخارج من البحر، والبحر هنا تيه وحيرة وهموم تصبغ الكلمات بلون حزين:
    الجزرُ يُلاحقُ ظهرَ المَدِّ
    وطيْري المرجوُّ يُجافي أُفقي
    والبحرُ عنيدٌ يُزبِدُ في صفحاتِ النفسِ
    ويصعدُ بالموْجِ إلى حلْقي
    والجوعُ يُقلِّصُ أوردةَ القلْبِ
    ولا أملِكُ ما يكفي رمقي
    والعاصفةُ المحمومةُ في القلبِ تلوكُ خليّاتي
    والشوقُ الدوّامةُ يُطمعُني في الشاطئِ
    والبرُّ بعيدٌ .. بعدَ الأفقِ عنِ الشفقِ

    وقفتْ دفَّةُ عمري بينَ الموْجِ
    اختلطَ الأبيضُ بالأسودِ في عيْني
    ها قدْ أصبحْتُ طريداً للأمواجِ
    ولا عاصمَ منْ قبْضِ البحرِ ولا راحمَ
    إلا الشاطئَ
    والشاطئُ لا يبدو في عيْني !
    والسخط على النفس بارز في قصيدة "الغريق" فهو صندوق خرب، وأفئدة الأحباب والأصحاب والأحياء الموتى كلها صناديق خربة:
    صندوقٌ خربٌ أتحرّكُ
    في ضوضاءِ الطبلِ الأجوفِ
    آكلُ، أشربُ، ألهثُ
    أتحرّكُ نحوَ القمةِ
    فوقَ القمةِ صندوقي الفارغ
    وإذا كان السخط على كل شيء سمة بارزة للشاعر في هذه القصيدة فالشاعر في قصيدة "الصوت الآخر" صاحب قضية اجتماعية يُدافع عنها منددا بالانتهازية والانتهازيين الذين يعتصرون دماء الكادحين:
    نبضاتُ المطحونينَ هي الجانحةُ على الطرقاتِ
    لتُحصي أيديهمْ
    والإفرازاتُ الكادحةُ البكرُ هي الأجيالُ، وهاهمْ
    يردمُ كلٌّ منهم بركَ الضغْنِ المدسوسةَ حول الأشجارِ ..
    المشرقةِ الملأى بثمار المكدودينَ ، وهاهمْ ..
    يبسطُ كلٌّ منهمْ راحتهُ،
    لنْ تدمي قدماكِ من السيْرِ على راحاتِ المطحونينَ
    .. فغنِّي لشبابِ العُمْرِ ..
    فما أجملَ أنْ يتغنَّى فمُكِ الباسمْ
    وإذا كان اندماج شاعرينا السابقين في دائرة أوسع من دائرة ذاتيْهما قد سبب لهما أحيانا شيئاً من الغموض فإن شاعرنا مصطفى النجار بتركيزه على تجربته الذاتية يتميز شعره بالبساطة المحببة إلى النفس؛ فقد جاءت قصائده الثلاث من الغزل، فهو في الأولى يدعو صاحبته إلى الابتسام ومسح الدموع، وفي قصيدته الثالثة يجري من عيني محبوبته إلى عينيها، فالحب قدره ودربه.
    وأما قصيدته الثانية "في محطة الانتظار" فهي أرق نغمات هذا الشاعر الغزل، وهو يقترب فيها من مستوى الشعر الإنساني الخالد، فقد استطاع ان يعبر عن انفعال الإنسان في موقف خاص حيث تمر السنون والأمل في اللقاء يتجدد، ولا يضيع إلى آخر لحظة:
    ومرّت السنونْ
    وأزهر الحنينُ والحسُّونْ
    يستنظرُ الغصونْ
    هلْ يلتقي الحنينُ بالحسُّونْ؟
    أقولُ يا واعدتي
    ترمّدتْ مواقدُ البخورْ
    وصوّحتْ مشاتلُ الزهورْ
    أم أنني مخمور ؟
    أوّاه يا واعدتي
    لو يكذبُ الشعورْ !
    والشاعر في هذه القصيدة يستخدم أرق الألفاظ وأكثر العبارات ثراء بالحنين.
    تحية إلى الشعراء الثلاثة، ونرجو ان نقرأ لهم باستمرار.
    بدر بديــر
    .................... .............
    *أخبار الأسبوع" الأردنية ـ في 16/2/1978م.


  11. #11
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    ( 10 ) صوت جديد:
    حسين علي محمد في «ثلاثة وجوه على حوائط المدينة»

    بقلم: أحمد سويلم
    ....................

    ظاهرة تدعو إلى التأمل والدراسة معاً، تلك الأعمال الأدبية ـ الشعرية والقصصية ـ التي يُغامر أصحابها بإصدارها على نفقتهم الخاصة بعيداً عن أجهزة النشر التقليدية، فيسقط الكثير منها، ولا يصح غير القليل النادر.
    ولو كان الأمر مجرد قدرة مادية على طباعة كتاب، لهانت كل المشاكل. ومع ذلك فأنا ألتقط اليوم ـ من هذا القليل النادر الواعد ـ صوت حسين علي محمد في ديوانه "ثلاثة وجوه على حوائط المدينة"، ومنذ البداية يُعرِّفنا حسين علي محمد على هذه الوجوه الثلاثة: الوجه الصامت الحكيم في مواجهة المحنة، والوجه الذي تحدّى المحنة بالعطاء والغناء، والوجه الجديد الذي جنى ثمار المعاناة في لقاء مؤكَّد بالحب والحرية. وهي في الواقع محاور ثلاثة لهذا الديوان تتحدّى مجرد ملامح الوجوه إلى غوص شعري في أعماق التجربة الجماعية انطلاقا من الحس الخاص.
    يقول في قصيدة «ثلاثة وجوه على حوائط المدينة»:
    الوجْهُ الأولُ وسْطَ ظلامِ المحنهْ
    رفع السيفَ / القشَّ على الرأسِ وأغفى
    واستلقى في مملكةِ الصَّيفِ ولمْ ينطِقْ حرْفا
    وضعَ على الوجْهِ تعابيرَ الحكمةِ والفِطنهْ
    **
    الوجهُ الثاني رفعَ الكفَّ المغموسةَ بدماءِ الأطفالِ
    وخضَّبَ أوجهَنا بالعطْرِ ، وقالْ
    اليومَ أُغني ..
    (غنى للساحاتِ الرحبَهْ ،
    والمُطربِ ذي الصَّوتِ الفظّْ،
    وكِلابِ السَّادَهْ ،
    والقصْرِ العالي ذي الدَّرَجاتِ الألْفْ ،
    وطِيبَةَ ذاتِ البوَّاباتِ السَّبْعْ)
    وقالْ :
    "الليلةَ عُرْسي يا أشْبالْ !"
    غَنَّى ثانِيَةً ..
    لكِنْ لمْ يبْكِ الأطْلالْ !
    غَطَّى أوْجُهَنا بصراخٍ وضجيجْ
    لمْ نُبْصِرْ شَيْئاً
    (كانَ الفيَضَانُ الكاسِحُ يجْتاحُ مدينتَنا
    بَكَتِ النِّسْوَةُ هلعاً ، والأطفالْ
    والفتياتُ جَرَيْنَ عرايا
    والوجْهُ الجيفَةُ يبْسَمُ
    في بلَهٍ وخَبَالْ !)
    **
    الوجْهُ الثالثُ حارْ :
    هلْ يُوضَعُ بيْنَ الوجْهيْنِ الإلْفيْنْ
    أَمْ يَرْكبُ فَرَسَ النَّارْ ؟
    **
    في اليوْمِ التَّالي ..
    كانتْ صحفُ القُطْرِ تُبارِكُ هذا المشوارْ
    "منْ أجلِ مسيرةِ كلِّ الشرفاءِ الأحرارْ"
    كانَ الوجْهُ الثالثُ ـ بيْنَ الوجْهيْنِ الإلفيْنْ ـ
    مبتهِجاً بعجائبِ هذا الزمنِ الدَّوَّارْ
    ولِقاءِ الثُّوَّارْ ! !
    وفي سبيل ذلك التصاعد ينطلق حسين بين كثير من الرموز التاريخية، والمواقف الوجدانية والتأملية، في محاولة جادة للاقتراب من الشعر الصادق في مواجهة العصر، ورؤيته رؤية فنية خاصة.
    وقد يشوب هذا الديوان كثير من الخطابية والصوت العالي، بالرغم من أن صاحبه لديه إمكانات البُعد عن هذا المزلق، كذلك جاء منهجه في تناول التراث واسترفاده تناولاً تاريخيا ـ في أغلب التجارب ـ يعني بالأحداث دون الأثر الوجداني المطلوب ـ وهذا في تصوُّري يحتاج من الشاعر أن يُعايش تراثه معايشةً أكثر إخلاصاً وحبا.
    وصوت حسين علي محمد ـ في النهاية ـ يسير على طريق التجديد بكثير من الثقة التي سوف تزداد ـ قطعاً ـ لو أخلص في تطوير أدواته الفنية بعيداً عن طوفان التيّارات المتعجلة الارتجالية التي تُضيِّع أصواتها في الزعيق والإحباط وتعاني منها ساحة الشعر.
    أحمد سويلم
    .............................................
    * مجلة "أكتوبر"، العدد (148)، في 26/8/1979م، ص55.


  12. #12
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    ( 11 ) قراءة في ديوان «حوار الأبعاد الثلاثة»

    بقلم: محمد حسن حسين
    ............................

    ليس أروع من الإنسان عندما يُحاول إيصال أفكاره إلى الآخرين ليؤدِّي رسالته التي فرضها الله عليه والتي أرادها منه المجتمع، رغم صعوبة التواصل وقلة المنافذ التي يستطيع الدخول منها لتحقيق هذا الهدف.
    نقول هذا الكلام وأمامنا ديوان واحد لشعراء ثلاثة، هم: حسين علي محمد، ومحمد سعد بيومي، ومصطفى النجار.
    وبالرغم من صغر حجم الديوان واصفرار أوراقه إلا أنه يحمل في ذاته مشكلة تُواجه الشاعر الحديث الذي يود أن ينطلق من ذاته ليُسمع صوته للجميع، فهل نجح هؤلاء؟
    وللإجابة على هذا السؤال نتوقف مع شعر كل واحد منهم، لترى إلى أي حد أبدع، وإلى أي درجة أجاد؟
    وفي البداية نقف مع الشاعر حسين علي محمد الذي شارك بخمس من قصائده، ذات منطلق وطني، ينطلق عبر شوارع القاهرة وميادينها إلى بقية أنحاء وطنه العربي ليُعلن عن حبه له، ومشاركته لما يدور في داخله ومعرفته الشاملة للأحداث التي تنطلق منه والتي تجري به، فيلون أفكاره ويحاول أن يبسطها واضحة أمام الجميع، لتعبر عن المضمون الذي يريده بألفاظ عادية سهلة حياتية تتكرر يوميا، وبعبارات متماسكة، تجمع وتنظم حسب أصول صحيحة وقواعد مرسومة، رغم قلة صوره ووضوحها، ويبدو أن مواضيعه أوسع من خياله، وظروفه تحتم عليه أن يصور الواقع كما يراه، فبالإضافة لقلة اهتمامه بالموسيقا لطغيان الموضوع عليه، وبالإضافة إلى التجربة التي لفتت الشاعر وجعلته يأخذ أحداثه كما هي، ورغم الصدق الموضوعي عنده إلا أنه لم يستطع أن يطغى عليه، ليُحقق الصدق الفني، وتكون عاطفته الجياشة التي نتمناها، ولكن يكفي الشاعر بعد ذلك كله أنه قد استطاع أن ينفذ إلى معرفة واسعة، وجرأة في الحديث، وقدرة على التعبير.
    (…) وبعد؛
    فقد استطاع هؤلاء الشعراء بتعاونهم تحقيق أهدافهم، وقد ضربوا أروع الأمثلة في التعاون والمشاركة في الإطار الثقافي والأدبي العربي.
    ونود في النهاية إلى أن نشير إلى أن الطبعة الأولى من ديوان «حوار الأبعاد الثلاثة» صدرت في مصر، صيف 1967م مقتصرة على حسين علي محمد ومحمد سعد بيومي ومصطفى النجار، وهي ذات الطبعة التي تدور حولها هذه المقالة. أما الطبعة الثانية من هذا الديوان، فقد ظهرت في سورية بحلب، شتاء 1979م مزيدة ومنقحة بعنوان «حوار الأبعاد»، وقد انضم إلى الطبعة الثانية الشاعر السوري سمير ددم.
    محمد حسن حسين
    .................................................. ...
    *أخبار الأسبوع (عمّان) ـ في 6/9/1979م.


  13. #13
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    (12) رسائل جامعية
    شعر حسين على محمد (1977م - 2000م): دراسة فنية
    رسالة ماجستير للباحث السيد مختار جاب الله الحسيني القهوجي
    كلية الآداب ـ جامعة المنصورة 2007م.

    عرض: فرج مجاهد عبد الوهاب
    ......................................

    «يقدم هذا البحث نموذجا شعريا معاصرا يجهله كثيرون، عن أحد الأصوات الشعرية المعاصرة فى محافظة الشرقية بمصر.
    ... حالة هائمة من الاغتراب عبر عشرين عاما من الترحال المتواصل .. كونت وجدانه، ورسخت قدرا هائلا من التأزم فى مخزونه الانفعالي. إنه الشاعر حسين على محمد أو الصوت المرتحل دائما فى الشاطئ الأخر..
    كتب شاعرنا عبر مدة الدراسة ما يناهز الثلاثة عشر ديوانا فأعطى لقرائه مساحة شافية من التدبر الموضوعي ، وأعطى لنقاده مساحة أرحب من التدبر النقدي والفني، وعكس فى إنتاجه هذا قدرا هائلا من همومه الخاصة، التي تنطلق دائما من الحيز الاغترابي النفسي، كذلك الهموم الجمعية التي تشكل وجداننا المعاصر المتأزم ، والمتعطش إلى صنوف من الطمأنينة النفسية والوجدانية والاجتماعية والاقتصادية».
    بهذه السطور يقدم الباحث السيد مختار جاب الله الحسيني القهوجي لبحثه الذي نال عنه درجة الماجستير بدرجة امتياز مؤخرا من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب جامعة المنصورة تحت إشراف الدكتور عبد الحميد عبد العظيم القط أستاذ الأدب والنقد بكلية التربية جامعة المنصورة ود. مختار عطية عبد العزيز أستاذ الدراسات البلاغية المساعد بكلية الآداب جامعة المنصورة، واشترك فى المناقشة د. حلمي بدير أبو الحاج الأستاذ المتفرغ بآداب المنصورة ود ، محمد مصطفى أبو شوارب رئيس قسم اللغة العربية بكلية التربية جامعة الإسكندرية.
    والرسالة تقع فى ما يقرب من (760) سبعمائة وستين صفحة وتنقسم إلى تمهيد وبابين ثلاثة وتوصيف إحصائي وقد اتبع فيها الباحثُ المنهج التكاملي الذي يوظف المناهج النقدية الأخرى مجتمعة للبحث والتحليل ، مثل المنهج التاريخي والمنهج النفسي والمنهج التحليلي الموضوعي ثم المنهج الفني .
    فى التمهيد يقدم الباحث تعريفا شافيا بالشاعر الذي ولد بقرية العصايد مركز ديرب نجم بمحافظة الشرقية بمصر فى الخامس من مايو سنة1950م، ودخل الكتاب وهو دون السابعة فأتم حفظ ما يقرب من نصف القرآن، ثم ترك الكتاب ليكتفي بالدراسة المدنية. وكانت لتلك النشأة الدينية فى القرية آثارها فى تحديد التوجه الثقافي له، فظهر ذلك فى إنتاجه الشعري والتوجه القرآني.
    ويعترف الشاعر بفضل والده عليه الذي كان يعمل بالتجارة وكان يلبى كل احتياجات الشاعر التي تختص بالقراءة حتى أنه اشترى له (سيرة النبي) لابن هشام و(صحيح مسلم) و(تجريد الأغاني) لابن واصل الحموي وهو فى المرحلة الإعدادية. بالإضافة إلى نحو خمسمائة كتاب من سلاسل وزارة الثقافة. الأمر الذي ساعده على نشر مقالاته وهو فى الصف الأول الثانوي. بمجلة "الإصلاح الاجتماعي" عن مجموعة «لغة الآي آي» ليوسف إدريس الذي كان معجبا به. وتواصلت المسيرة فى الجامعة فى قسم اللغة العربية بآداب القاهرة فتأثر بالأساتذة الدكاترة: شوقي ضيف، ورشاد رشدي، وحسين نصار، وعبد المحسن طه بدر، وعبد المنعم تليمة، والنعمان القاضي.
    ثم عمل بالتعليم العام بعد حصوله على الليسانس، ثم تقدم للماجستير فحصل عليها فى المسرح الشعري عند عدنان مردم بك. كما حصل على الدكتوراه فى الأدب المعاصر سنة 1990م.
    وكان أول مقال فى حياته نشر فى مجلة «الرسالة» عام 1964م بعنوان «أفريقيا فى شعرها شم الرفاعي»، ثم نشر مقالين أو ثلاثة فى بريد القراء بمجلة «الثقافة»، ثم نشر أول أعماله وكان ديواناً بالعامية المصرية بعنوان «عشان مهر الصبية» فى بداية 1969م ثم نشر الديوان الثاني «المغناوي» فى منتصف 1972م، عن سلسلة «اخترنا للفلاح»، بعدها ترك شعر العامية إلى الآن.
    وأصدر عشر مجموعات شعرية في فترة الدراسة، هي: «السقوط فى الليل» 1977م، و«شجرة الحلم» 1980م، و«أوراق من عام الرمادة » (1980م)، و«رباعيات» 1982م، و«الحلم والأسوار » 1984م، و «الرحيل على جواد النار» 1985م، و«حدائق الصوت» 1993م، و«غناء الأشياء» 1997م، و«النائي ينفجر بوحاً» 2000م. كما قدم العديد من المسرحيات الشعرية، ومنها: «الرجل الذي قال»، و«الباحث عن النور»، و«الفتى مهران 99»، و «بيت الأشباح»، و«سهرة مع عنترة»، و«الزلزال».
    وله «مذكرات فيل مغرور»،وهي شعر قصصي للأطفال ..
    هذا بالإضافة إلى عشرات الدراسات النقدية والكتب الإبداعية الأخرى ..
    فى الباب الأول يتناول الباحث «شعر حسين على محمد .. الموقف الفكري» فنجد الفصل الأول بعنوان الرؤى الموضوعية العامة قراءة وتحليل ونقد ، فقد كان للشاعر رؤى فكرية منوعة تجاه قضايا حياتية خاصة وعامة تشكلت بفاعلية ونضج فى إبداعه الشعري فكان يرى المرأة من منظوره عاطفي خالص ، بعيدا عن التعقيدات الفكرية المتشابكة ، فجاءت المرأة فى شعره انسيابية / براقة / من الوجهة العاطفية .
    كذلك استثمر غرض المدح ليدعم الصلات النفسية بينه وبين الأصدقاء والأسرة والرموز القيمة التي أثرت فى حياته
    أما الرثاء فكان وسيلته الفاعلة للتعبير عن انكسار الذات والبحث عن المفقودات، فكان ينتقل دائما من العام الى الخاص، وكانت انطلاقته الأكثر فاعلية عندما عبر عن اغترابه داخل الوطن وخارجه مدعما رؤاه الاغترابية بمنظومة حاكية تامة النضج طرفاها ( الموت والحنين ) . أما رؤاه الإسلامية فاستحدث فاعليتها من تفعيل بعض الرموز الإسلامية الخالدة وإعطائها أدواراً معاصرة للذود عن هموم المسلم المعاصر .
    ويتناول البحث الرؤى الموضوعية للمضامين التقليدية من الغزل والمدح وقضايا الرثاء وصنوف الاغتراب، ثم الرؤية الوطنية ومنظومة الوطن من حيث المفهوم العام والقيمة، والرموز ، الثورة ، قضايا وأحداث خالدة .
    أما الفصل الثاني: «من قضايا الذات الشاعرة» وهو قراءة نقدية فى المؤثرات والمضامين وفيه يتناول أربع فرضيات بحثية – شكلت قضايا فكرية ومواقف عقلية أصيلة في الموقف الفكري لدى الشاعر، أولها: العوامل النفسية الضاغطة التي شكلت تجربته النفسية المغلقة. ثانيها: يتناول الحلم الذي صنعه شاعرنا شعرا تميز بالفردية حينا وبالجمعية حينا آخر، ومع الآخر فى موضع ثالث. ثالثها: مواجهات متأزمة بين الذات الشاعرة والآخر، وهى مواجهات ذات طابع تصادمي يرصده البحث مبررات تداعياته، وماهية الصدام وكيف ينعكس على الموقف الفكري. رابعها: الرؤى النقدية المتفاوتة من حيث الأهمية لشاعرنا وهى ثلاث فئات، نقد الشاعر لذاته ، نقد الشاعر لقضايا سياسية ، نقد الشاعر للواقع الجمعي.
    استدعاء الشخصيات التراثية والحس القصصي الشعري
    يرى الباحث أن شاعرنا عندما يوظف شخصياته التاريخية والتراثية لا يقصد التواصل الضمني والفني مع إيقاع الحياة المعاصرة فحسب، بل هو فى المقام الأول تحاول مجاراة ما يقبع داخل نفسه من هواجس وآلام وصراعات، ويحاول خلالها التنفيس الانفعالي عن عواطف ضاغطة من التوتر والقلق بفعل الغربة ، فكل شخصية يصادقها شاعرنا ( مستدعيا / موظِّفا ) تمثل قضيتها جانبا ما فى حياته، ونفسه، ويرى الباحث أيضاً أن الحاجة الإبداعية قد ترفع الشاعر أيضا إلى أبعد من مجرد التستر وراء حجاب أو قناع مهربا من قهر بعض السلطات التي اعتادت قصف الأقلام، فالشاعر العربي المعاصر ربما احتاج من خلال استدعاء الشخصيات التراثية إلى تبنى قضايا بعينها هي قضايا شخصياته المستدعاة وقد تكون قضاياه هو، من وحي أزمته الخالصة فيتنفس عن أزمته تلك تنفيسا لا إراديا، كذلك قد تعلن الشخصيات المستدعاة عن مواجهات صاحبها النفسية والفكرية والاجتماعية ولعل صاحبها يستملح كثيرا أن يعبر عن نفسه من خلالها، وهى تشير أيضا إلى نوعية ثقافية صاحبها.
    ويتناول البحث بعد ذلك مصادر الشخصيات التراثية فى شعر حسين على محمد، ووجوه التأزم فى قضايا الشخصيات التي استدعاها، والتقنيات الفنية في استخدام الشخصية التراثية، ثم المآخذ التي رآها الباحث على ظاهرة استدعاء الشخصيات التراثية عنده.
    أما الحس القصصي عند الشاعر فيقدم الباحث عنه قراءة فى المحتوى والتقنيات فيتناول الأنساق المضمونية لتجارب الحس القصصي من خلال قصيدة ( عصفوران ) المنشورة بديوان «حدائق الصوت»؛ حيث يصنع النسق القصصي مقاربة ذكية مركزة بين قصة العصفورين المتحاربين / المنهارين وبين أزمة الإنسان المعاصر فى افتقاد القيمة مدفوعا بالضغوط الحياتية.
    وقد استعان شاعرنا بتقنيات الحس القصصي فى شعره من فني القصة والمسرح وأعانه ذلك على خلق حس قصصي دينامي في قصائده تشكل من مخزونه الانفعالي بالحدث / القضية الفكرية التي يتبناها ذاتيا / جمعيا، واستعان بالسرد والحوار واللغة، والشخصيات /و الراوي والصراع الدرامي ليقدم نصَّه الجديد.
    الدراسة الفنية
    والباب الثاني من الدراسة يتضمن الدراسة الفنية لشعر حسين على محمد من خلال فصول ثلاثة يتحدث الفصل الأول: عن الموسيقى فى شعر الشاعر، وكانت رؤية الباحث تتمثل فى البحث عن القيم الفنية الجمالية والفكرية عبر أطر عدة.
    الأول: دراسة موسيقاه الظاهرة عبر شعره التفعيلي / العمودي ، واضعا فى الاعتبار الاعتماد المنهجي على أوزان الخليل.
    الثاني:: الوقوف عند أهم مثيرات الإيقاع الداخلي لفظا ومعنى وأكثرها شيوعا .
    الثالث: الموسيقى الشعرية وقد ارتبطت ارتباطا تلقائيا وثيقا بفكره ومضمونه ، كما نلتمس ضربا من ضرب تلك العلاقة الجدلية بين البحر وقوافيه / والمضمون من وجهته الدلالية ، وذلك لرسم رؤية نقاشية جدلية قد تربط بينهما.
    واللغة والتركيب عند شاعرنا لغة معاصرة تميزت بإطارها التصويري فكانت أداة منطقية لمزج المركبات الحسية بالمشاعر والانفعالات على المستوى المعنوي المجرد ، قد تتميز بالحزن أحيانا.
    أما الصورة الفنية فيقسمها الباحث إلى ثلاثة أنماط موضوعية وهى:
    1 -الصورة الدرامية.
    2 –الصورة الذهنية / التجريدية
    3 –الصورة الحسية.
    وعن الصورة الشعرية الفنية ذات الحس الدرامي يرى الباحث أنها هي النمط التصويري الأكثر شيوعا / قيمة / تأثيرا ، لأنها كما يرى تتناسب موضوعيا وطاقات البوح تلك التي شكلت معظم الرؤى الموضوعية شديدة الذاتية لدى شاعرنا ، فهو يملك قدرة فنية موضوعية لافتة دأب من خلالها على الصراخ والبوح الذاتي، لذلك كان ميلة المنطقي للأبنية الدرامية ذات الحس الدرامي بما فيها من طاقات تصويرية خلاقة تستوعب فنيا كل أنماط التأزم التي قد تحتاجها. وقد تأثرت بالأدوار البلاغية لفنون التشبيه / الاستعارة / الكناية / وكذلك البناء النامي وطاقات السرد التصويري البلاغي.
    ومصادر الصورة الفنية عند حسين على محمد هي:
    1 - مصادر حسية، وهى حية ومتحركة وحسية ثابتة.
    2 –مصادر معنوية / موروثاته فكرية ، وهى الموروث الديني، والموروث الاجتماعي، والموروث الشعبي، والموروث الثقافي.
    كما تلعب وظائف الصورة الفنية عنده أدواراً وجدانية وجماليه لتدعيم الرسالة النصية فى ذهن المتلقي، وأدواراً للتقريب والتوضيح لتحقيق مصداقية البوح الذاتي، كما أن لها وظيفة نفعية للقيمة الدينية الوعظية.
    ولا شك أن هذا التنوع الكيفي لأنماط الصورة عند حسين على محمد قد أعطى فرصة فنية قيمه لتنوع مصادر الصورة الفنية ووظائفها.


  14. #14
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    (13) حديث الوردة .. حديث النار
    قراءة في بعض الظواهر الشعرية لدى الشاعر حسين علي محمد(1)

    بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
    ...................................

    (1)
    حسين علي محمد (1950- ) واحد من أهم شعراء السبعينيات، الذين حملوا رؤية صافية نقية، تنبع من فهم واع لهوية الأمة وشخصيتها، وتحركوا من خلال تصور واثق، يؤمن بقيمة الفن ووظيفته في مخاطبة المشاعر والأفئدة، وتجييش العواطف والأحاسيس بما يجعل المتلقي، قارئا أو مستمعا، شريكا في العمل الفني بالاستجابة والتفاعل، وليس مجرد مشاهد لا يفهم أو لا يدري ما يُقال أو يُتلى أو يُقرأ.
    إن "حسين علي محمد" شاعر ينتمي إلى الريف المصري، وقد ظل وفيا لهذا الريف منذ مولده وحتى اليوم، يعيش مع أهله وناسه همومهم وآمالهم، دون استعلاء عليهم، أو تنكر لهم، فهو واحد منهم، يُغني أناشيدهم، ويُنشد أغانيهم، دون أن تستهويه أضواء العاصمة، أو تخلعه من جذوره، أو تجعله يبيع هويته في سوق الرق الفكري، الذي يشتري الباحثين عن الشهرة بأبخس الأثمان، وأرخص القيم.
    ظل حسين علي محمد في بلدته الصغيرة "ديرب نجم ـ بمحافظة الشرقية" يقرأ ويدرس ويعمل ويقرض الشعر، حتى استطاع بموهبته وخبرته ومثابرته أن يفرض أدبه وإنتاجه في معظم الصحف والدوريات التي تصدر في العاصمة، وبقية العواصم العربية، وأن يكون واحداً من شعراء زماننا الذين يُقدِّمون شعرا عذبا وجميلا، يذهب بطعم الحصرم ـ الذي نتجرّعه بالقوة والإرهاب ـ عبر الوسائط الإعلامية والأدبية، لنفر من الطغاة الذين ظنوا السخف الذي يقولونه أو يكتبونه شعراً وأدباً، وذهبت بهم الصلافة والغرور إلى الحد الذي تصوروا معه أنهم أتوْا بما لم يأت به الأوائل، وأنهم أحدثوا تطورا غير مسبوق وَصَلَ بالشعر العربي إلى ذروةٍ لم يصل إليها أحد من الغابرين! وهيهات أن يكون هذا الأمر صحيحاً، إذ لو كان كذلك ما أعرض عن كلامهم الناس، ولا وقفوا منه موقف "الأطرش في الزفة" .. ولكن الآلة الإعلامية الرهيبة تعمل على قلب الحقائق، وتوهم بالباطل بما لا أساس له في الواقع.
    على كل، فإن "حسين" قد نمت موهبته الشعرية من خلال دراسته النظامية التي وصلت به إلى الحصول على درجة "الدكتوراه" (عام 1990م)، وإن كنت أرى أن ثقافته الحقيقية قد نمت وتبلورت من خلال قراءاته ومتابعاته الأدبية والثقافية خارج الدرس "النظامي"، فالتثقيف الذاتي ـ فيما أعلم ـ كان وراء ذلك الوعي العميق الذي يظهر عبر قصائده وأشعاره بأبعاد التراث الإسلامي، الناضج، والواقع الراهن بملامحه المأساوية المتردية، والحلم الجميل بمستقبل أفضل من خلال تتبع ما يجري في الدنيا، ولدى الآخرين من مميزات التفوق والقوة والبناء.
    نحن إذن أمام شاعر يملك نضج الرؤية الحضارية على المستوى الفكري، حيث يلتقي الماضي والحاضر والمستقبل في وجدانه وعقله وخياله، وهو بهذا يستطيع إذا أنشد أن يقدم لنا شعراً ذا قيمة، وذا أصالة أيضا .. فضلا عن "الكم" الكبير الذي نشره وكتبه من القصائد والمسرحيات.
    نشر "حسين علي محمد" مجموعة من الدواوين أو المجموعات، بعضها بالجهد الذاتي (بطريقة الماستر)، وبعضها عبر أجهزة النشر الحكومية، وأيضا فإن لديه أكثر من مسرحية ومجموعة شعرية لم تنشر، وإن كان نشر بعض قصائدها في صحف ودوريات محلية وعربية متعددة.
    من المجموعات التي نشرها بجهده الذاتي"السقوط في الليل" عام 1977م، وساعده في نشرها: اتحاد الكتاب العرب بدمشق، أيضا نشر بجهده الذاتي مجموعته "أوراق من عام الرمادة" عام 1980م، ضمن دورية"أصوات" التي كان يُصدرها في الشرقية مع فريق من زملائه الشعراء والفنانين التشكيليين، وهي أسبق من الدورية الأخرى التي صدرت بالاسم نفسه بوساطة فريق آخر في القاهرة.
    ومن المجموعات الأخرى المخطوطة التي لم تنشر بعد: "تجليات الواقف في العراء"، و"زهور بلاستيكية"، و"من دفاتر العشق" .. وله أيضا مسرحيتان مخطوطتان: "الرجل الذي قال"، و"الحاجز الرمادي".
    وإلى جانب ذلك فهناك بعض الدراسات الأدبية التي نشرها الشاعر، مثل: "البطل في المسرح الشعري المعاصر"، وصدر في القاهرة عام 1991م، و"القرآن ونظرية الفن"، وقد صدرت طبعته الثانية عام 1992م.
    ومازال الشاعر ينشد شعرا، ويكتب دراساته ومقالاته التي تدل على أصالة وعيه العميق.
    (2)
    من يقرأ شعر حسين علي محمد يستشعر أنه بإزاء شاعر له شخصيته المتفردة في الأداء الفني والرؤية الشعرية، صحيح أننا نستشعر ملامح التقليد في البدايات ـ وهذا أمر طبيعي ـ ولكن مرحلة النضج قدّمت شاعراً يمتلك الأداة التي يستخدمها بتميز، ليعبر من خلالها عن رؤيته الصافية وحلمه المتميز.
    في البداية بدا الشاعر معجباً بمجموعة من شعراء التجديد المعاصرين أمثال بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وقد رثى السياب عند وفاته بقصيدة جيدة، ولكن تأثره الواضح ارتبط بالشاعر صلاح عبد الصبور، ولعل ذلك يرجع إلى شهرة الأخير في مطلع حياة حسين الشعرية، وإلحاح أجهزة الإعلام حينئذ على شعره وأخباره، ومن ناحية أخرى فلعل العامل الجغرافي كان من وراء هذا التأثر، حيث ينتمي الشاعران إلى محافظة واحدة هي محافظة الشرقية، ولعل أبرز نماذج التأثر تبدو في قصيدة حسين التي عنوانها "أربع صفحات من مذكرات أبي فراس" التي نشرها في مجموعة "السقوط في الليل"، ويقول في مطلعها:
    "أعودُ منْ بلادِ الثلجِ والضبابِ والرؤى المهوِّمهْ
    وقلبيَ الصغيرُ وزدةٌ حمراءْ
    تنِزُّ بالدِّماءْ
    أعودْ
    وليتني ما عدْتُ يا صِحابْ
    فهاهيَ الوجوهُ مُعْتِمهْ
    لمْ تبْتسِمْ لعوْدَتي بالحبِّ والصَّفاءْ
    وهاهُمُ الصِّغارُ في الأركانِ نائمونْ
    يحلمونَ أنْ تقومَ فوقَ أركانِ المدينةِ المُهَدَّمَهْ
    مدينةٌ جديدهْ
    مدينَةٌ سعِيدَهْ
    لايصدِمُ الصِّغارَ فيها منظرُ الدِّماءِ والأشلاءْ" (ص36)
    وإذا كنا في هذه القصيدة نستشعر صورا عديدة تذكرنا بقصيدة "صاحب الوجه الكئيب" خاصة، فإن قصيدة حسين تقودنا بوجه أخص إلى قصيدة صلاح عبد الصبور الشهيرة، التي عنوانها "الخروج"، وفيها يستلهم هجرة الرسول  من مكة إلى المدينة، ليعبر عن تجربة شخصية مرَّ بها، ويقول في أحد مقاطعها:
    "لو مت عشت ما أشاءُ في المدينةِ المنيرهْ
    مدينةِ الصحو الذي يزخرُ بالأضواءْ
    والشمسُ لا تُفارقُ الظهيرهْ
    أوّاهُ يا مدينتي المُنيرهْ
    مدينة الرؤى التي تشربُ ضوءِا
    هل أنتِ وهم واهمٍ تقطّعتْ بهِ السُّبلْ؟
    أم أنت حق؟
    أم أنتِ حق" (الأعمال الكاملة، ص237)
    ولسنا هنا في مجال المقارنة والتقويم بين الشاعرين، ولكننا نشير إلى بدايات الشاعر التي تكون عادة أقرب إلى التقليد والتأثر بالآخرين، منها إلى الاستقلال والذاتية الصرفة، وهو ما صنعه الشاعر فيما بعد، رؤية وأداة.
    والحديث عن رؤية الشاعر وأبعادها يقضي مجالا أرحب، ولكننا نشير إليه هنا باقتضاب، لنؤكد على ما يمكن أن نسميه "الواقعية المثالية" .. حيث ينطلق الشاعر من واقعه ليطلب المثال وفق تصور واضح، لا غموض فيه ولا التباس ولا التواء.
    وهذا الواقع الذي ينطلق منه هو واقعه اليومي المعاش على المستوى الشخصي ومستوى الأمة. وإن كان ما يجري للأمة ويعصف بكيانها وحضارتها وتاريخها ومستقبلها يمثل العنصر الأغلب والأعم والأكثر أهمية .. قليلة هي القصائد التي تنضح بالهم الشخصي، وقليلة هي الأشعار التي تقدم لنا معالم خاصة في حياة الشاعر تشغله أو تمنعه عن التفكير في واقع الأمة ومأساتها .. إنه شاعر يعيش لأمته، وينسى نفسه إلا في حالات قليلة يمكن عدها على الأصابع، بل إنه يوظف تجاربه الشخصية لتكون معبرا يصل إلى واقع الأمة، أو صدى لواقع الأمة.
    من تجاربه الشخصية القليلة التي استأثرت بهمه الذاتي رثاؤه لأبيه الذي فقده، وهي مرثية قصيرة محكمة، يبدو فيها الرضا بالقدر والتسليم بالقضاء مع الإحساس الحاد بالفقد:
    " .. وهلْ يسمعُ الشيخُ صوْتَ الرياحِ
    بوادي الفناءْ
    أيا فرسَ الموتِ ،
    أقبِلْ ، وطِرْ بي
    ودعْهُ هنا نائماً
    مُستريحاً
    وألْقِ عليْهِ .. الرِّداءْ".
    وبصفة عامة فإن التجارب الذاتية تدور غالباً حول الرثاء للأحبة والأصدقاء والشعراء الذين ارتبط بهم عاطفيا وفنيا، ومن خلالها يبث شجنه، ويومئ ضمنا إلى الهم العام الذي يؤرقه ويضنيه، والذي يتفرد بالساحة الشعرية للشاعر، ويفرض ملامحه عليها، وعليه أيضا، كما نرى في قصيدة "الحصار يليق بالشاعر"، حيث يصير الشاعر "مجرَّدُ فرْضٍ في ذاكرةِ الطينِ"!:
    "في الشارعِ يقفُ السمسارْ
    في النّافذةِ المُخبرُ
    في الذاكرةِ بقايا النّارْ
    كيْفَ تُخاطبُكَ الأشجارْ
    يا رجلَ الأقدارْ
    ـ أنت مجرَّدُ فرْضٍ في ذاكرةِ الطينِ
    وقبرُكَ
    محفورٌ
    في الأشعارْ".
    ولعل هذه القصيدة القصيرة تجمع عناصر رؤيته في ذلك الصراع غير المتكافئ بينه وبين قوى الشر العاتية المتمثلة في "السمسار": رمز الانتهازية، والميكافيللية، والكسب بلا تعب، والمخبر: رمز السلطة والحصار والملاحقة .. ونتيجة الصراع واضحة سلفاً، حيث إنها محسومة لصالح الجبهة التي يقودها السمسار والمخبر .. أما الشاعر ـ رجل الأقدار ـ فمصيره إلى القبر!، وعلى الرغم من أن القصيدة تومئ إلى ملامح المقاومة والوقوف ضد التيار من خلال "بقايا النار" و"الأشجار"، وسنرى فيما بعد دلالة "النار" على صورة المقاومة والتطهير والأمل، فإن "الأحجار" بكل ما ترمز إليه من صلادة وقسوة وفقدان للإحساس، تعطي ملمحا مأساويا يُكرِّس الهزيمة والموت!! مما يعني واقعية الشاعر ومثاليته في وقت واحد.
    (يتبع)


  15. #15
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    وللإنصاف فإن الشاعر على مدى تجربته الشعرية، كان الأمل يومض في أشعاره بالرغم من قتامة الواقع المحبط، والذي يتبدّى عبر تفاصيل الحياة اليومية والأحداث السياسية والاجتماعية، وظل يحلم بهذا الأمل إلى عهد قريب، ولكنه ـ فيما يبدو ـ وصل مؤخرا إلى درجة الاقتناع باليأس وعدم الجدوى، لأنه يرى ما حوله ينبئ عن الهزيمة، ويتحدث عن الموت. ولا بأس أن نورد نموذجاً للأمل الذي كان يُداعب خيال الشاعر باستمرار طوال فترة غير قصيرة، ظل يحلم فيها ـ إلى درجة اليقين ـ بقدوم السلام والأمان:
    "لنْ أضربَ في أرجاءِ الوهِمِ الحيْرانِ
    سأعودُ لداري فرِحاً
    ذات مساءٍ نشوانْ
    وستُفرِخُ أطيارُ الحبِّ على نافذتي
    وستشدو ..
    ذات مساءٍ نشوانْ :
    عمَّ الكونَ سلامٌ وأمانْ
    عمَّ الكونَ سلامٌ وأمانْ".(من قصيدة "هموم شاعر أشبيلية العاشق")
    وإذا كان هذا الحلم يبدو "طوباويا" ساذجا، ينقض ما أشرنا إليه من قبل عن "الواقعية المثالية" لدى الشاعر، فإنه في قصائد أخرى يتشكل وفقاً لقانون التضحية والفداء، وهو يُعلن عنه بخطابية مباشرة:
    "أقفُ وأحميكِ من السِّفْلةِ والأوغادْ
    وأُقدِّمُ عمري قُربانا
    حتى ترتسمَ على أوجهِ أطفالكِ
    بسماتُ الأعيادْ
    ويظلُّ الشعرُ رسولاً للإيمانْ
    سيفاً في الأرزاءْ
    أنزفُهُ كلَّ صباحٍ ومساءْ
    منْ أجلِ بنيكِ الفقراءِ الشرفاءْ" (ختام قصيدة "وشم على ذراع مصر")
    وفي كل الأحوال فإن الهم العام يظل يؤرق الشاعر، ويحضر أمامه في شتى المناسبات التي تجعله يحمل الأمة في حنايا صدره، يهتف لها، ويغني جراحاتها، ويأمل في غدها الجميل، وقد تحزبه هموم آنية، فتضيق أمامه جسور الأمل، وتسودُّ الرؤية، ولكن الأمل يظل قائما في أكثر من صورة يجسدها بصفة عامة إحساسه الحاد بضرورة الحركة نحو الأفضل والأنقى والأصفى.
    ثمة ملمح آخر للرؤية الشعرية لدى حسين علي محمد يتمثل في تجاوز الدائرة الوطنية والقومية إلى الدائرة الإسلامية حيث يُعاني المسلمون ألوان عديدة من القهر والعسف، والطرد من بلادهم، وتطهيرهم منها بعد مذابح دامية بشعة ورهيبة، وغير مسبوقة في العصر الحديث، كما حدث في "البوسنة والهرسك" مثلاً، والشاعر لا ينسى في غمرة همومه ما يجري هناك لإخوانه المسلمين، الذين تآمر عليهم أعداء الإنسانية، وأشرار الأرض، وخذلهم المسلمون وصمتوا على ما يحدث لهم.
    في قصيدته "أربعة مقاطع دامية أو: صهيب ينادي وا معتصماه!" التي يهديها "إلى سراييفو المحاصرة"، يوجز مأساة المسلم المعاصر، الذي تتناوبه الأرزاء، ويزري به الأعداء، ويعيش حالة بؤس وانفصام لا مثيل لها في تاريخه، ولعل المقطع الأول في القصيدة يُلخص هذه المأساة حين يستخدم النص القرآني في قوله تعالى أول سورة الروم "ألم غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون" لتقديم المفارقة في الواقع الإسلامي الراهن، وبدلا من أن يكون الحكم هو "هزيمة الروم" (غُلِبتْ = على البناء للمجهول) يجعل الشاعر الحكم معكوساً (غَلَبتْ = على البناء للمعلوم)، ويسرد ما تفعله الروم (رمز الإجرام الغربي المعاصر) بالمسلمين في سراييفو (أو البوسنة والهرسك) .. ويكثف الشاعر المفارقة من خلال الإشارات التاريخية إلى الماضي حيث كان المسلمون يغلبون، وكانت جيوش محمد  تحقق انتصاراتها في كل مكان، وكان يستنجد به كل مظلوم، وكل مقهور، وكل خائف:
    "مشى الرومُ فوقَ جبينيَ هذا المساءْ
    وداستْ خيولُهمو بالسنابكِ وجهَ الضياءْ
    وكان "صهيبُ" يُنادي جيوشَ محمدْ
    فلمْ تُرجعُ الريحُ حتى الصّدى
    وضَاعَ النداءْ
    وظلِّي تجمّدْ
    فلا الأُفقُ تعلوهُ رايةُ أحمدْ
    فلا الخيْلُ خيلي
    ولا الظلُّ ظلِّي !"
    وبالرغم من اسوداد الواقع الراهن، وسوءاته، وبالرغم من العجز والإحباط الذي يتبدّى في مقاطع القصيدة، فإن الشاعر في المقطع الأخير تراوده الآمال التي يراها بعيدة، ولكنه يتساءل عنها في لهفة وسخرية:
    "هلْ تضحكُ الأيامُ للوجْهِ الحزينْ ؟
    هلْ تعرفُ المخدوعةُ الحسناءُ
    أكثرَ منْ حصادْ التُّرَّهاتْ ؟"
    وهكذا فإن مأساة المسلم المعاصر ليست قاصرة على إقليم بعينه، ولكنها حالة عامة تشغل الشاعر في سياق عام يمثل محورا مركزيا في بصيرة الشاعر، وإن تعددت الملامح وزوايا الرؤية.
    (3)
    إلا الذئاب التي تعوي، وعام الرمادة، والصحاب الجوف، والليل اللدود، والدمع الذي يحفر نهره في الوجه المكدود ..
    يبدأ الشاعر قصيدته بمقطع يمتزج فيه الماضي والحاضر، والخاص بالعام، في إشارة ذكية وموحية، بل عامرة بالإيماءات من خلال مفردات تشير إلى الوحدة والجوع والشوق والأمل:
    "هذا أنا
    وحدي هنا
    خلفَ الجموعْ
    الجوعُ يقتلُ ناقتي
    والشوقُ يعصِفُ بالضلوعْ !"
    ثم يُقلِّب معاني هذا المقطع بصورة أخرى تُشير ضمنا إلى الشاعر ووظيفة الكتابة، مع إحساس رومانسي عارم، يحفل بالتشاؤم والأسى:
    "هذا أنا
    سقطتْ إشاراتُ الكتابةِ ، والدموعْ
    سالتْ على وجْهي ، وأوراقُ الربيعْ
    سقَطَتْ ، تهاوتْ .. والمُنى
    ذبُلتْ بقلبي ، تحتَ أقدامِ الصقيعْ"
    وإحساس الوحدة الذي يستشعره الشاعر، ينبئ في المقطع التالي عن وجهين، أو وجه يمكن أن نديره، فيكون خاصا مرة،أي معبرا عن تجربة شخصية، وعاما مرة أخرى، أي يحتضن رؤية اجتماعية تلمّح إلى فجيعة يعيشها المجتمع، حيث لم يبق صامدا ونقيا إلا الشاعر ـ وما يرمز إليه ـ أما الساحة التي تحولت إلى فياف وقفار، فإن الذئاب هي التي تعمرها بالعواء والوحشة، والوحشية أيضا:
    "مرَّ الصحابْ
    وبحثتُ عنهمْ في الفيافي والقِفارْ
    وظللتُ أصرخُ علّني أجدُ الجواب
    فلمْ أجدْ غيرَ الذئابْ
    تعوي ، ولمْ أجدِ الصحابْ !"
    ويُلاحظ أن الشاعر هنا يستخدم قافية "الباء" ذات الجهارة والانفجار في ختام أغلب الأشطر بوصفها قافية ذات دلالة وتناغم مع المناخ المتوحش الذي بستشعره في وحدته وصموده، وصراخه أيضا.
    في المقطع الرابع والختامي ـ وهو أطول المقاطع ـ يبدو الشاعر وكأنه يفيق من مثاليته ليجبه الواقع، الذي ينكشف عن جهامة عام الرمادة والصحاب الجوف، والليل اللدود، والدمع الذي يهمي .. وهنا تبدو الحيرة والتخبط، فهل يرجع الشاعر عن متابعة البحث عن الطريق ويستريح من العناء: عناء الوحدة والوحشة، أو عناء مواجهة المجتمع الذي تحوّل إلى ذئاب، أم يُتابع المسيرة ويقف خلف الجموع، يُعرِّض ناقته الجائعة للخطر، وضلوعه للشوق العاصف؟
    "ضَلَّتْ خُطاكْ
    يا أيها المجنونُ قدْ ضَلَّتْ خُطاكْ
    وبحثتَ عنْ أثرِ الخُطا
    وبحثتَ عنْ أثرِ الطريقِ
    فلمْ تجدْ أثراً هناكْ
    عامُ الرمادةِ ، والصحابُ الجوفُ
    والليلُ اللدودُ
    هواجسٌ ، والدّمعُ يحفرُ نهرَهُ
    في وجهِكَ المكدودِ ، هلْ تبْغي الرجوعْ ؟"
    ولكن الحيرة تبقى قائمة، والفجيعة تظل جاثمة، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام، لأن الصحاب مروا، ولم يبق إلا الذئاب، وإن كان الشاعر يُقرِّر أيضاً أنه لم يبق في حوزته إلا الدموع!:
    "لمْ يبقَ لي غيْرُ الدموعْ
    هذا أنا
    وحدي هنا
    خلفَ الجموعْ
    الجوعُ يقتلُ ناقتي
    والشوقُ يعصِفُ بالضلوعْ !"
    وأيضاً، لنا أن نتأمل هنا "قافية العين" الذي يختتم بها بعض الأشطر في هذا المقطع لنرى تأثيرها الموسيقي الفاجع، والذي يُنبئ عن عمق الفجيعة والحسرة، وهو عمق يتساوى مع موضع خروج العين من الحلق، ودلالته الحزينة اليائسة.
    لعل "أوراق من عام الرمادة" التي قرأنا بعضها هنا تُنبئ عن توظيف جيد وساطع، لدلالة عام الرمادة ومعطياته في التعبير عن تجربة الشاعر تجاه لحظة حياتية أو واقع يلتحم به، ويصطلي بأحداثه وأناسه.
    (يتبع)


  16. #16
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    من ناحية أخرى فإن الشاعر يستدعي شخصية الشاعر "ابن الرومي" ليطرح من خلالها مأساة الشعراء الصادقين في كل زمان ومكان، عبر حكاية فقر ابن الرومي وجوع أولاده، وعدم قدرته على الوصول إلى أبواب السلطان كي يمدحه وينال نصيباً من المال يُعينه على مواجهة الحياة. وابن الرومي في ذاته شخصية معروفة على مستوى الشعر، ولكن ما يتعلق بها ـ على مستوى الشاعر ـ وقصة فقره، وطموحه إلى مديح السلطان، غير معروف لدى عامة القراء أو جمهورهم على الأقل، وهذا يُضعف التواصل بين الجمهور وابن الرومي، أو بين القراء وقضية العلاقة بينه وبين السلطة، وما يستتبع هذه العلاقة من أثر اجتماعي وخلقي.
    ويمكن القول إن الشاعر أخفق في تقديم "ابن الرومي" بوصفه رمزاً ناجحاً على المستوى الفني، كما كانت الصياغة للمقاطع الخمسة التي كوّنت القصيدة "أوراق عن ابن الرومي" متفاوتة من ناحية الإحكام البنائي، فالمقطعان الأول والثاني جيدان، أما المقاطع الثلاثة الأخرى فليست على مستوى المقطعين الأول والثاني، فبينما نجده في المقطع الأول يُقدم توطئة مقبولة، بل مشوقة لما يريد أن يطرحه من خلال ابن الرومي، نجده في المقطع الأخير يلجأ إلى تقديم نهاية غير مبررة (فنيا) وتاريخيا، فضلاً عن صوت جهير يتسم بالتقريرية والمباشرة، وهو ما ينطبق إلى حد ما على المقطعين الثالث والرابع.
    ولنقرأ ما قدّمه في المقطع الأول حيث يقدم توطئته التي تعتمد الحكاية والقص:
    "افتحْ لي باباً أدخلُ منهْ
    يا موْلايَ السُّلطانْ
    أبعدني عنكَ الحجَّابْ
    طردوني دونَ البابْ
    ظنوني أحدَ السِّفْلهْ
    خافوا أنْ أفتكَ ـ حاشا ـ بالسلطانْ
    وأنا...
    ـ علِمَ اللهْ ـ
    أعْددتُ قصيدةَ مدْحٍ عصماءْ
    وحلُمتُ بأنْ أُلقيَها في حضْرتِكُمْ ذات مساءْ
    فتنيلوني شيْئاً
    أوْ ترضونَ عليّ"
    أما المقطع الأخير، فيبدو صاخباً على هذا النحو:
    "عابَ أشعاري وفي منزِلِــهِ كلُّ عَــارٍ ومخَــازٍ ورِيَبْ
    أنا لا أشتُـمُ إلاَّ أُمَّــــهُ فلْيزِدْني غضـباً فـوقَ غضَبْ
    مالِمَنْ يُغمــزُ في أنْسابِـهِ ويَعيبُ الشعرَ منْ أهلِ الأدبْ"
    ويبدو أن الشاعر لم ينتبه إلى أن قصة "ابن الرومي" كان يمكن أن تُشكل في السياق الذي صنعه دلالة أخرى أكثر غنىً وعمقاً، وبخاصة أنها دارت حول محور البحث عن "النوال"، ولكنه آثر فيما يبدو أن تنتهي تلك النهاية التي تعيب فيها "البطانة" أشعار ابن الرومي، وهنا يتوقف الشاعر حسين علي محمد حيث لم نستطع فهم السبب الذي يجعل السلطان ـ ولو من خلال الحلم ـ لا يُجيز قصيدة عصماءَ "قد صيغتْ لآلئها بألفيْ بيْتْ".
    (4)
    يمكن القول إن لغة "حسين علي محمد" في إطارها العام، أقرب إلى الرمز الشعري منها إلى لغة الخطاب العادي، فمعظم ألفاظه تنحت لنفسها دلالة تتجاوز المعنى المُتداوَل، لتُشير إلى معنى خاص يفرضه أداء الشاعر وصياغته. ومن هنا فإن "الرمز اللغوي" لديه يُشكِّل معجماً له ملامحه وسياقاته التي يُمكن تتبعها عبر قصائده، لنستخلص منها دلالات رمزية توحي بما يلح عليه الشاعر ويؤرقه.
    ويمكننا أن نذكر هنا بعض الألفاظ / الرموز غزيرة الاستخدام ، أو التي تُشكِّل بعضاً من معجم الشاعر، ويستطيع الباحث لو أراد أن يغوص في حقولها الدلالية، فيكشف كثيراً من الرؤى والمعطيات على أكثر من مستوى، ومنها على سبيل المثال:
    (الحلم ـ الندى ـ الحنين ـ السراب ـ الليل ـ الفجرـ النور ـ العشق ـ الحب ـ الرحيل ـ السفر ـ الغربة ـ الوحدة ـ الموت ـ الحزن ـ الشدو ـ الغياب ـ الصمت ـ الجرح ـ القنديل ـ الفصول الأربعة ـ الخوف ـ الريح ـ الشجرة ـ العصفور ـ الغراب ـ الصحراء ـ اللؤلؤ ـ الغيم ـ القوافل ـ الصهيل ـ النسيان … إلخ).
    وكل لفظة منها تأتي مفردة أو مجموعة أو مضافة أو مشتقة أو مرادفة، لتتقلب عبر القصائد بدلالات شتى ومتعددة.
    في هذه الوقفة القصيرة نكتفي بالدوران قليلا في حقلي "الوردة والنار"، فكل منهما تملأ حقلا دلاليا يُضيء في أكثر من اتجاه، وقد تكررت كل منهما في عناوينه وسطوره، لدرجة توحي بسيطرتهما عليه، واقتحامهما لشعوره، ولاشعوره أيضا. ففي العناوين يمكن ان نقرأ مثلاً: "الرحيل على جواد النار" ـ عنوان مجموعة شعرية ـ وفي القصائط يمكن ان تقرأ أيضا بعض الأمثلة: "العصفور وكرة النار"، و"ووردة"، و"أيتها الوردة"، و"زهور بلاستيكية"، و"زهرة الصبار"، و"زهور جافة إلى يارا" …
    تتحوّل "الوردة" ـ ومرادفاتها ـ في حقولها الدلالية إلى صورة "الحلم الجميل" الوديع، هذا الحلم الذي يتبدّى في أكثر من صورة وأكثر من وجه ـ كما سنرى إن شاء الله ـ وكذلك "النار" التي تُمثِّل الوجه الآخر لهذا الحلم، الذي يمكن أن نسميه "الحلم المناضل" ـ كما فعل الدكتور "علي عشري زايد" في مقدمة لمجموعة الشاعر "شجرة الحلم" ـ إنه الحلم الذي يقضي ـ في كل الأحوال ـ بتحطيم الواقع الظالم وإحراقه وتطهيره .. فالنار مطهِّر فعال، لأنها لا تُبقي أثراً للظلم أو التشويه!!
    في مستهل قصيدة "جراح" يقول الشاعر:
    "لا يذكرْ
    كيفَ الوردةَ صارتْ
    مُفتتحا للجرح !"
    الورد غالباً مرتبط بالجراح والطعنات والآلام والإحباطات، ولعل المشابهة بين لون الورد ولون الجرح هي التي جعلت الشاعر ـ في العادة ـ يختزل فيها ومن خلالها كثيراً من الأحزان والصعوبات.
    وفي قصيدة أخرى قصيرة تحمل اسم "وردة" يلخص الشاعر تصوره لمفهوم عام من مفاهيم الوردة، يكاد يكون هو المسيطر على دلالاتها الأخرى عبر شعره. إنه يصفها في إيجاز شديد بوردة الفجر .. ثم ينوع بعد ذلك أوصافها وملامحها، ولكنها تظل في معظم الأحوال "وردة" الشاعر التي يحلم بها، سواء أكانت قصيدة جميلة أم غاية يسعى إليها، أو وطناً يتغلّب على عجزه وسكونه وهزائمه .. يخبرنا الشاعر بحديث وردته في أبيات أو سطور تحكمها قافية توحي بالعمق والغموض والأحزان في آن واحد:
    "هيَ وردةُ الفجْرِ التي
    ألقَتْ مباسمَها إليْكَ
    ولا تروحُ !
    ولكلِّ لفْظٍ نبْضُهُ
    ولكلِّ فاتنةٍ جموحُ
    ولكلِّ سهْمٍ برْقُهُ
    ولكلِّ لاحظةٍ جروحُ !"
    وقد تكون الوردة رمزاً رومانسيا حالماً للمستقبل المنشود الذي يملأ جفاف الحياة / الصحراء، بالري بعد الظمأ، ويُعيد الدنيا ربيعاً منتشياً بالنصر بعد عذابات الهزيمة والضياع، كما نرى في قصيدته "بقية الموال" من مجموعته "السقوط في الليل":
    "متي يجيُْ الفارسُ المُهابْ
    على حصانِهِ السريعْ
    ويزرعُ الفلاةَ بالورودِ واللبْلابْ
    ونحيا عمرنا ربيعْ ؟"
    وفي دوائر الحزن التي تُحيط بالشاعر تتحول "الوردة" إلى علامة على الرحيل والبعث في آن واحد، أو دلالة على الموت والعزاء في الوقت نفسه، شريطة أن تكتسب حالة مغايرة للورد الذي نعرفه في الحديقة، وفي شعر الشاعر .. فهي هنا "وردة أخرى" أو "وردة ثلجية" تنبت في الثلج، أو هي بنت الثلج، وما أكثر دلالات الثلج في الواقع وفي النفس معاً:
    "هذي وردتُكَ الأُخرى !
    وردتُكَ الثلجيةُ .. تعلو شاهِدَ قبرِكْ
    تتفتَّحُ بوْحاً .. وعزاءْ :
    ما عادَ القلبُ بصيرا
    ما عادَ الحبُّ كبيرا
    فابْكِ صباحاً
    ومساءْ
    وابكِ صباحاً
    ومساءْ!" (من قصيدة "زهور بلاستيكية" التي تحمل عنوان مجموعة شعرية).
    وترتبط الوردة الثلجية ـ كما نرى ـ بعمق الأحوال الشعورية لدى الشاعر؛ فالقلب الذي فقد البصيرة، والحب الذي تقامأ وتصاغر حتى لم يعد له وجود، يُنبئ عن محنة أصابت الشاعر، وجعلته يُكرّر الدعوة إلى البكاء صباحاً ومساءً، وتبقى "الوردة الأخرى" أو "الثلجية" شاهداً على قبر "الحلم" و"الأمل" الذي لا بد له أن يتجدّد بالرغم من كل شيء!
    وإذا كانت "الوردة" بصفة عامة رمزاً للنقاء والصفاء والأمن والاطمئنان والسلام، والحلم الطوباوي الرومانسي، فإنها تأتي في صورة أخرى ـ وما أكثر ما تأتي ـ دلالة على الحبيبة / الوطن، التي أُصيبت بالطعنات والجراح، وأُثقلت بالأحزان والآلام. وفي المقطع الثاني من قصيدة "مواريث" ـ مجموعة "تجليات الواقف في العراء" ـ يُشير الشاعر إلى ما أصاب الوردة من طعنات وأحزان، وإن كنت لا أ دري لم حدّد عدد الطعنات بإحدى عشرة طعنة؟:
    "أيتها الوردةُ
    في نسغٍكِ إحدى عشرةَ طعْنهْ
    وضِمادانْ
    تلكَ فضاءاتُكِ مُثقلةٌ بالبوْحِ
    وبالأحزانْ
    قولي …
    كيفَ اخْتَرَمتْ يُمناكِ السمةُ والجُرْحْ ؟"
    وفي مطوّلة الشاعر "ثلاثة مشاهد" والتي يتناول فيها مأساة الواقع العربي، العاجز والمُحبَط والذليل، نراه يستلهم مع الرمز الديني سيدنا "نوح" ـ عليه السلام ـ بوصفه المُنقذ من الغرق، رمز الوردة أو الورد، فيصير للوردة أوردة، وتتحوّل إلى كائن حي، يتحدث إليها خرير الذاكرة الصخرية، ثم تتحوّل مرة أخرى إلى بديل للمطر، يُمطر صحراء الروح:
    "ألا تمسحُ دمعكَ يا "نوحُ"
    ألا تُمطرني بالوردِ النازفِ في بطْنِ السَّدِّ
    تُبلِّلُ صحراءَ الروحِ بأمطارِ يقينِكَ ؟"
    وتدخل الوردة في سياق التناص أو الاقتباس، بديلا للدنيا في عبارة "علي بن أبي طالب" ـ  ـالمشهورة: "يا دنيا غُرِّي غيري"، وكأنَّ الشاعر يتوهّمَها مُقبلةً عليه، ولكنها في الواقع تتمنّع وتتأبَّى وتُراوغ، والشاعر أيضا يُراوغها بحثاً عنها، أو عن الحلم الضائع:
    "يا "وردةُ" غُرِّي غيْري
    أخلعُ ثوبَكِ منْ ذاكرتي الناسيةِ
    هلُمِّي تحجبُكِ الشمسُ نهارا
    تُشرقُ أعمدةُ التذكارِ عشيا
    أُلقي في تابوتِ الأجداد جنيني"
    وتتحوّل الوردة أو الورد في نهاية القصيدة ـ مرةً أخرى ـ إلى رديف للجنون، يُنذر بالويل في الواقع العربي، المليء بالفوضى والجنون:
    "يا ويْلي !
    أتساقطُ ورداً وجنونا
    في فوْضى الصحراءِ العربيهْ
    وثنايا الوهْمْ !"
    إن الوردة تتحوّل في ثنايا النسيج الشعري إلىكائن حي، له وجوده الفاعل بإيحاءاته ودلالاته، وينطلق وينطق بكثير مما يُريد الشاعر أن يقوله شعراً .. ويمكن أن نجد نظائر عديدة للوردة في السياق الشعري الفاعل، مثل الزهرة، والنرجس، واللبلاب، والفل، وبقايا الأنواع المنسوبة إلى عالم الوردة والورد.
    وتُشكِّل "الوردة" في منعطف آخر، مزيجاً مع "النار"، لتُنتج ثنائية الحلم الهامس مع الحلم المناضل، أو الحلم الأول الذي يقود إلى الحلم الثاني، الذي يود الشاعر أن يُصبح حقيقة .. هاهو في قصيدته الأولى من "تجليات الواقف في العراء" التي يُهديها إلى الشاعر الراحل "محمد العلائي"، يتوجّه إليه بالخطاب، وقد واجه بعد رحيله منذ ست عشرة سنة نوعاً من الجحود والنكران، والسطو أيضا:
    "أغلقْ عينيْكَ ثانيةً
    أيها المسكونُ بوجعِ النارِ
    غيرِ المُقدَّسة
    ووردةِ الفوْضى
    فالأغوالُ التي ذُعِرتْ منها قصائدُكْ
    مازالتْ تتريَّضُ في الساحةِ
    بصحبةِ الثعابينِ والدببةِ"
    وهكذا يبدو مزيج "وردة الفوضى" و"وجع النار"، محكوماً عليه بالموت أو الرجوع إلى القبر: "أغلقْ عينيْكَ ثانيةً" فالأعداء كثيرون، والقتلة أكثر (الحدأة، الأغوال، الثعابين، الدببة ..).
    ويأخذ مزيج الوردة والنار بُعداً آخر، فبالرغم من صخبه وعنفوانه يُعطينا إحساساً يقينيا بالأمل، وانبلاج الصبح، وعن طريق ما يُعرف في بلاغتنا القديمة بالمقابلة والمطابقة، أو ما يُعرف الآن بالمُفارقة، فإن الشاعر يجمع بين صورتين للنار والوردة: (النار المستعرة بالأعراق، والأوردة الثلجية التي صارت وردة)، ويُقدِّم من خلال مُفارقة أُخرى (أهداب الليل ـ أكمام الصبح) معالم الأمل الذي يحلم به، ويُناضل من أجله:
    "النَّارُ بأعراقي مُسْتَعِرَهْ
    أوردتي الثلْجِيَّةُ صارتْ ورْدَهْ
    أهدابُ الليلِ أراها تتفتَّحُ
    .. عنْ أكمامِ الصُّبحِ المُمتدَّهْ" (المقطع الثالث من "شجرة الحلم")
    (يتبع)


  17. #17
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    وفي المقطع السادس من القصيدة السابقة، والذي جعل عنوانه "عرس الكلمات"، تنفرد النار بالحلم المناضل، وتصير الكامات ناراً، ويُشير الشاعر إلى الدور الذي كانت تلعبه في الماضي كلماته ـ ويقصد شعره طبعاً ـ لتغيير الواقع وترطيب جهامته بالنسبة للناس، وبخاصة الفقراء .. ثم يُوازن بين بعض كلامه الآن حيث صار هشيماً لا قيمة له، وبعض كلامه الان حيث هو نار محرقة مُطهِّرة ، تقوم بدورها في وضوح لا لبس فيه، ويؤكِّد ذلك التكرار الذي تبدأ به السطور الثلاثة الأولى:
    "كلماتي كانتْ زاد الفقراءْ
    كلماتي كانتْ نبعَ الماءِ الدَّافِقِ في الصَّحراءْ
    كلماتي كانتْ مُنذ زمانْ
    أما الآنْ
    .. فبعْضُ كلامي صار هشيماً تذروهُ الرَّيحْ
    والبعضُ الآخر صارَ النَّارْ"
    في القصيدة المدوّرة "فيلم عربي" مقطع بعنوان "النار / النار"، تبدو فيه النار مصنعاً يُنضج الأفكار والأجساد، ويُعدُّها لمواجهة الواقع، ولكن ما تفعله النار يذهب بدداً، وتنهبه الثعالب من شتى أنحاء الأرض، وتبدو النار هنا قريناً للأمل المحبط أو الحلم الضائع، أو رديفا للاستلاب والقهر .. يتساءل الشاعر في بداية المقطع:
    "لماذا كلُّ هذا الرعبِ ؟ والجسدُ الذي في النارِ أنضجناهُ تأكلُهُ الثعالبُ منْ فِجاجِ الأرضِ ، تنهشُ حدأةٌ في الرُّوحِ ألواحاً من الصَّخْبِ الذي عشناهٌ أحقاباً .."
    ويكشف الشاعر ملامح هذا الجسد الذي يُعبِّر عن نصر شامخ (عشناه) أشعاراً من قبل، فيما يُشبه بكاء الماضي، ولكنه يستخدم الجسد (طفلة في النار) مرةً أخرى، آملا أن تقوم النار بدورها في الإنضاج والإثمار:"في نيشانِ نصْرٍ شامخٍ (عِشناهُ) أشعاراً ، تركنا طفلةً في النارِ .. تُنضِجُها سمُومُ القصْفِ والغسقِ المُحمْحِمِ في خضابِ الرملِ والقيعانِ :
    هيّا يا جياعَ القلبْ !"
    على كل فالنار هنا تظل هي المُنضجة للأمل، الحلم بالرغم من الغيبوبة التي (عشناها) في نصر كذوب (مُتناه) من قبل:
    “هذي قبضةٌ مرفوعةٌ بعلامةِ النصرِ الذي (مُتْناهُ) فوقَ الحائطِ المهدومِ .."
    ويستخدم الشاعر "النار" منذ مرحلة شعرية مبكرة في معنى التطهير والإنضاج لتحقيق الحلم المناضل، ففي قصيدته "العصفور وكرة النار" تأتي النار مقابلاً للعصفور في تحقيق التوازن والتكامل بين الحلم الجميل المأمول، والحلم المناضل الواقعي، فالعصفور رمز الأول، والنار هي رمز الثاني، وكلاهما ـ كما سبقت الإشارة ـ يُكمل الآخر، ويدعمه ليتحقق على أرض الواقع:
    "مع نسماتِ الفجرِ أراني أولدُ ثانيةً في تغريدةِ عصفورٍ دحْرجَ كرةَ النّارِ على أوديةِ الأحزانْ"
    إن "كرة النار" هي المطهِّر الذي يأتي على الأحزان والآلام، ويصنع عالماً جديداً، ويحقق الحلم المأمول.
    في لفظة "اللهيب" ـ رديف النار ـ نجد المضمون ذاته الذي يحمل معنى التطهير، والقيام بدور المزيل للحزن الأزلي، والصدأ الذي يترسّب على القلوب والصدور .. حيث يتحقق الحلم الذي يرجوه الشاعر ويأمله:
    " ونحلُمُ أنّا وُلِدْنا
    وأنَّ الصدورْ
    ربيعٌ ونورْ
    وأنَّ اللهيبَ يمورْ
    ويقضي على حزنِنا الأزلِيّْ
    ويأكلُ كلَّ الصَّدأْ
    فتولدُ فوقَ الشِّفاهِ
    ابتسامةُ شعْبٍ ظَفَرْ"
    ولا ريب أن الحلم باللهيب أو النار لتطهير الواقع هو حلم عام، على المستوى الذاتي والقومي والإنساني، يبحث عنه الشاعر مع آخرين، ينتظرون ولادة "ابتسامة" فوق شفاه الشعب الصابر، وهنا نتأكد أن النار رمز لمعنى كبير، يحقق للشاعر والأمة: الأمل والنصر والحرية.
    (5)
    إذا كان الشاعر قد استخدم الرمز الذي ينسجم مع رؤيته تاريخيا ولغويا، فإنه دعَمَ هذا الاستخدام بالشكل الشعري الذي يُتيح له هذه الفرصة الأفضل للتعبير عن هذه الرؤية .. وبصفة عامة يُمكن القول: إن الشاعر اتكأ على الموسيقا السريعة الأقرب إلى الدفقات الشعورية المتلاحقة، والنغمات الراقصة، التي ما تكون غالباً ـ ويا للمفارقة ـ في ساعة الموت أو الوحدة أو الإحباط أو القهر! وهي موسيقا تقوم عادة على بحرين صافيين: "المتدارك" و"المتقلرب"، وفيهما ما فيهما من تدافع أو تدفق نغمي يتناغم مع حالات الفرح والحزن، وإن كانت رؤية الشاعر بصفة عامة تُثير من الشجن والأسى أكثر ما تُثير من المرح والبهجة، ونادراً ما نجد الشاعر يعبر إلى موسيقا البحور المركبة، بسبب إلحاح رؤيته الشعرية على التعامل مع الواقع الممتلئ بالجراح والآلام والأحزان.
    ولعل لهذا السبب أيضاً تفاوتت قصائده قصراً وطولا، وإن كانتْ عموماً أميل إلى الإيجاز والتركيز، ومُحاولةً أن تكون القصيدة دفقة شعورية واحدة، تجمل رؤية الشاعر وهمومه .. ومن ثم تعددت صور القصيدة أو الشكل الشعري لديه، فهناك القصيدة التقليدية، وقصيدة التفعيلة، والقصيدة المدورة، وهناك أيضا ما يسمى بـ"قصيدة النثر"، فضلاً عن محاولاته في المسرح الشعري، وشعر الأطفال.
    وتكاد تكون القصيدة التقليدية (العمودية المقفاة) نادرة، ولم أجد فيما لديَّ من إنتاجه غير قصيدة واحدة قصيرة لا تتجاوز خمسة أبيات بعنوان "شتاء على القلب":
    أقبِلْ على درْبِنا ، إني إليْــكَ ظَمي
    أشْـرِعُ أماميَ بابَ الفتْحِ لا النَّـدَمِ
    الليْلُ في جُرْحيَ الممْرورِ بعضُ شذى
    فافْتحْ ذراعيْكَ واحْضُنْ بـوْحَ مُنْهَزِمِ
    الليْـلُ والآهُ في نبْضي قدِ امْتَزَجـا
    فأوْرَقَ الحُـــلْمُ في بوّابةِ الحُمَمِ !
    حدِّقْ بشوْقِكَ ، أمْطِرْني بفيْضِ ندى
    لعلَّ صمْتيَ مُشتــــاقٌ إلى النَّغَمِ
    يا أيُّها النَّبْـعُ ، يا ذكْرَ الرياضِ أَعِدْ
    لمسْمَعِ القلْبِ موسيقـا من القِمَـمِ !
    ولعل بداية الشاعر من خلال شعر التفعيلة، هي التي وجّهته بحكم الإلف إلى الإنشاد من خلال تفعيلاته التي تطول سطورها أحياناً، بل وتتطور في بعض القصائد إلى ما يُسمّى "التدوير" أو "القصيدة المدورة"، وهي عبارة عن فقرات شعرية طويلة تتكوّن من عدد كبير من التفغيلات، قد يصل أويتجاوز ثلاثين تفعيلة في الفقرة الواحدة، والفقرة الشعرية في هذه الحالة تعدُّ بمثابة البيت أو السطر الشعري، وهناك عدد واضح الحضور من "القصائد المدورة" سواء في مجموعاته المبكرة أو الجديدة، منها على سبيل المثال: "العصفور وكرة النار"، في مجموعته "أوراق من عام الرمادة"، و"الأميرة تنتصر" في مجموعته "شجرة الحلم"، و"لماذا تظل العصافير تشدو؟" في مجموعته "السقوط في الليل"، و"جراح" في مجموعته "تجليات الواقف في العراء"، و"فيلم عربي"، و"محاولة للنسيان"، و"السر الأعظم"، و"خمس صفحات من كراسة المجنون" في مجموعته "زهور يلاستيكية"، وقد أشرنا من قبل إلى بعض التماذج، ونورد هنا نموذجاً آخر يكشف أكثر كيف تتتابع التفعيلات لتشكل الفقرة الشعرية ـ بديلا عن البيت ـ دفقة شعورية متناغمة رغم كثرة عدد التفعيلات وعدد الجمل أيضا. يقول في قصيدة "محاولة للنسيان":
    "لماذا تُناديكَ هذي السفوحُ بخضرتِها ؟ وبهذي الفلولِ الأليفةِ ؟ (كانتْ تسوقُ تراباً فيرتجُّ منا الفؤادُ ، طيورُ أبابيلَ تُسقِطُ أحجارَها ، وأفيالُ صنعاءَ تتركُ أسوارَها ، وورْدتُكَ / النارُ تُفرغُ كأْساُ".
    ويقول في أحد مقاطع "الأميرة تنتصر" الذي تطول تفعيلاته بصورة ملحوظة، معبرا عن لحظة الصدام بالصليبيين في المنصورة بينما جسد الصالح أيوب مُسجّى، و"شجر الدر" تُدير المعركة:
    *أولادُكِ يامصرُ الحرةُ يأتونَ ، وإني مُبْتهِلٌ في السَّحَرِ إلى اللهِ ، وأحمِلُ سيْفي كيْ أدفعَ عنْكِ الأعداءَ ، وهذا شجرُ النيلِ الأسمرِ يتحرّكُ ويُقاتلُ أعداءكِ . هذي ذرَّاتُ ترابِكِ نارٌ وبراكينُ تُحمحِمُ في الميدانِ ، وهذا صوتُ الحافرِ يخلعُ أفئدةَ الصُّلبانِ ، وإنّا مُعتكِفونَ على حُبِّكِ يا مصْرُ ، نُصلِّي للهِ ، وفي القلبِ القرآنُ (أهذا قصرً الصالحِ نجْمِ الدينِ .. فهيّا ندخلْ مملكةَ الريحِ ، ونبْعثُ في الجسدِ الميِّتِ روحاً ، نحفرُ فوقَ نوافذهِ الصَّامتةِ الليْلةَ ـ هذا الفرْحَ / النَّصْرَ / الذُّرَّهْ !".
    والتدوير له مزالقه الفنية التي توقع في النثرية بصفة خاصة ما لم يكن الشاعر واعياً لطبيعة التدوير بوصفه وسيلة متناغمة مع مع الرؤية الشعرية المتدفقة، وقد لاحظ الدكتور "علي عشري زايد" في مقدمته لمجموعة الشاعر "شجرة الحلم"، أن قصائده سلمت من المزالق إلى حد كبير "وإن كان الشاعر لم يسلم تماماً من الوقوع في مزالق النثرية وعدم الانضباط التي يقود إليها استخدام هذا الأسلوب" (ص25).
    وقد لاحظ الدكتور "عزالدين إسماعيل" أنه قد تحقق من خلال عملية التدوير في الشعر مزية كان من الصعب من قبل تحققها، وهي ألا يرتبط الجرس الصوتي للكلمات بإيقاع الوزن، دون إلغاء لهذا الإيقاع.
    وعلى هذا الأساس ـ كما يقول ـ فإن كل تدوير تُنفى عنه هذه الوظيفة، حين تقوم كل عبارة فيه، أو بعض هذه العبارات مستقلة إيقاعيا ومعنويا .. ومن ثم يفقد التدوير مبرره الفني (الشعر العربي: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الفكر العربي، ط3، ص431).
    أي أن الكاتب يرى أن تكون الفقرات شحنات نفسية ومعنوية، تتكامل العبارات في تقديمها للكاتب، فإذا استقلت عبارة فنية إيقاعيا ومعنويا عن الأخرى فَقَدَ التدوير معناه.
    وبالنسبة لشاعرنا "حسين علي محمد" فإن التدوير كان وعاءً مناسباً لتدفقه الشعري والشعوري معاً، وإن كان شرط الدكتور عز الدين إسماعيل بالنسبة لترابط الإيقاع بالمعنى، لم يتحقق تماماً، وهو ما أشرنا إليه قبل قليل من خلال كلام الدكتور علي عشري زايد.
    وسوف نلاحظ بصفة عامة أن الشاعر يحرص على نوع من التقفية بالنسبة لسطوره، أو فقراته الشعرية، مما يتضح في كثير من النماذج التي قدّمناها سلفاً ـ وهو ما يعني احتفاء الشاعر بالإيقاع، بالرغم من ميله إلى التجريب فيما أسماه بـ"قصيدة النثر"، فقدرته الموسيقية وسيطرته على الإيقاع (وزناً وقافيةً) تُؤهِّلُ للاستغناء عن هذا اللون الذي ابتدعه بعض الشعراء لغايات غير أدبية .. فالقصيدة النثرية المزعومة، لا تُمثل إلا حالة تعبيرية نثرية مغايرة تماماً للشعر الذي يعتمد على الإيقاع أولا وآخرا؛ فلا شعر بدون إيقاع، وقد سبق لأدباء عديدين ـ لعل أبرزهم "الرافعي" يرحمه الله ـ كتابة هذا اللون من النثر الذي يعتمد على الصورة والخيال والتكثيف، بصورة جيدة وراقية، دون أن يدّعوا أنه قصيدة نثرية، أو نثر شعري، ولأنني لا أريد أن أخوض كثيراً في هذه المسألة، فسأكتفي بتقديم نموذج من هذا اللون الذي كتبه الشاعر تحت مسمّى "القصيدة النثرية"، وهاهو مقطع مما كتبه تحت عنوان "أحمد زلط"، يقول فيه مُشيراً إلى رحلته للعمل في اليمن:
    يمسحُ نظارتَهُ الطبيهْ
    استعداداً لسهرةٍ شجيةٍ
    مع محمد حسين هيكل ومحمد زغلول سلام
    والسنهوتي وصابر عبد الدايم
    ومحمد عبد الحليم عبد الله
    قبلَ أنْ يُلقيَ بالكتب إلى عُبابِ النهرِ
    متتبعا آثارَ بلقيس !
    وواضح أن هذا النص ـ وغيره أيضا ـ يشد الشاعر إلى طبيعته الأصيلة بالرغم من محاولته الانفلات من الإيقاع، ليقلد من كتبوا "قصيدة النثر"، فهناك ما يمكن وزنه، فضلاً عن إنه يكتب كلامه على هيئة الشعر، مما يؤكد أن تلك المحاولة في كتابة القصيدة النثرية، ماهي إلا نزوة سيُقلع عنها في يوم قريب، لأن طبيعته الأصيلة ـ وهي الشعر ـ أقوى في كل الأحوال من محاولات الهبوط إلى قاع النثرية.
    (6)
    ثمة ظاهرة شعرية جديدة نباركها ونؤيدها، وندعو إليها، وهي الكتابة الشعرية للأطفال، فمنذ المحاولات القديمة لأحمد شوقي ومحمد الهرّاوي وبعض الشعراء في مصر والدول العربية، لم يكتب المعاصرون شعراً للأطفال إلا قليلاً، ومع الإغراق في الضبابية والإلغاز الذي سقط فيه فريق من شعراء السبعينيات في مصر والعالم العربي، فإن الكتابة الشعرية للأطفال تُصبح حدثاً مهما تنبغي الحفاوة به، حتى لو كانت قيمته الشعرية متواضعة، أملاً في تنميته وازدهاره وتفوقه .. وبخاصة أن أدب الأطفال العرب يُعاني عموماً من فقر حاد، لأسباب لا مجال للخوض فيها هنا.
    يُحسب لشعراء السبعينيات أن أحدهم (وهو أحمد زرزور)، قد فاز بجائزة تشجيعية حول أشعاره للأطفال، وإن كنت للأسف لم أطلع على هذه التجربة، كذلك فهناك من أطلعني على بعض نماذجه التي لم تُنشر في هذا المجال مثل الشاعر أحمد فضل شبلول . أما شاعرنا "حسين علي محمد" فقد أعد مجموعة قصصية شعرية للأطفال بعنوان "مذكرات فيل مغرور" تضم ست قصص أو حواريات شعرية، تحمل قيما خلقية نبيلة، واداءً فنيا ناضجاً.
    وأتصوّر أن اتجاه شعرائنا نحو أدب الأطفال سوف يُسهم في حل معضلات فنية عديدة، لعل أبرزها الخروج من دائرة الغموض والإبهام التي تجتاح بتيارها وعواصفها كثيراً من النماذج الشعرية التي تُطرح في الساحة للكبار .. كذلك أتصوّر أن هذا الاتجاه سيُخرج الشعراء أنفسهم من دائرة الرتابة والتكرار، والتي حوّلت الكثير من النماذج الشعرية (وخاصة ما يأتي منها في إطار الشعر الحر) إلى فصائد تقليدية، يمكن الاستغناء يواحدة منها عن مائة، لتشابهها ونمطيتها .. أيضا فإن التوجه إلى أدب الأطفال سيُثري التجربة الشعرية العربية المعاصرة عامة، وتجربة أدب الأطفال خاصة.
    وفي إيجاز يمكن أن نجد في تجربة "حسين علي محمد" الشعرية للأطفال خصوبة وثراءً واضحيْن، فقد اتجه الشاعر إلى مجال القص أو الحكْي، وهو أساس أدب الأطفال عموماً؛ لأن القصة أو الحكاية هي المجال الذي يعشقه الأطفال ويحبونه على تفاوت أسنانهم وأعمارهم، ولذا فإن الشعر حين يأتي مرتكزاً على القصة أو الحكاية يتسلّل إلى أعماقهم ومشاعرهم، ويجذبهم للتفاعل مع النص والعيش معه، على العكس من الوصف الخارجي لبعض التجارب التي لا تقوم على القص أو الحكي .. ولعلنا نتذكّر أن قصائد شوقي للأطفال كانت تعتمد على "الحدوتة"، مما جعل الأطفال ـ بل والكبار ـ يتناغمون معها ويتفاعلون.
    يقدم "حسين علي محمد" مجموعة من القصص التي تستدعي التاريخ الحقيقي أو الأسطورة، ومن النوع الأول القصة الأولى "مذكرات فيل مغرور"، وتتحدث عن قصة "أبرهة الأشرم" الذي حاول هدم الكعبة بعد أن حاول أن يُقيم لنفسه كعبة في اليمن تحج إليها العرب، وسماها "القليس"، أما النوع الثاني فمعظمه يرتكز على أساطير هندية، تدعو إلى الخير والحق والعدل ..
    وأسلوب الشاعر في قصصه سهل وبسيط، ويعتمد على ألفاظ قريبة المنال، بعيدة عن المجاز ـ غالباً ـ ولا تجنح إلى مزالق الكلمات ذات المعاني المتعددة.
    وفي كل الأحوال فقد استخدم الشاعر نظام الشعر التفعيلي الحر لينطلق في قصصه وحكاياته على سجيته، ويُوصِّل مفاهيمه إلى الأطفال، ولنأخذ مثالا من "مذكرات فيل مغرور"، بعد هزيمة "أبرهة الأشرم" وأفياله، وعدم قدرته على هدم الكعبة:
    "أُبصِرُ "عبدَ المطَّلبِ" وجبهتُهُ ترتفعُ
    إلى علياءِ سماءْ
    يضحكُ جذلاً مسروراً
    : قدْ جاءَ الطفلُ مُحمَّدْ
    نوراً يرتفعُ إلى آفاقِ الجوزاءْ
    ينحازُ إلى الضُّعفاءِ الفقراءْ"
    وربما كانت قصص الأساطير أكثر إحكاماً من الناحية الفنية لدى الشاعر، ويقل فيها الإلحاح على مخاطبة الكبار الذي تفرضه العادة والإلف، ولعل قصة "الطفل الأخضر" من أفضل قصصه الشعرية، لبساطتها من ناحية، وإحكامها الفني من ناحية أخرى، وهي تحكي قصة طفل يتيم فقير، يتصف بالأمانة، يسمع الساحر "دندش" عن أمانته فيختبرها، وينجح محمود، فيكافئه الساحر:
    أنت أمينٌ يا محمودْ
    وسأُعطيك هديَّهْ
    خذ هذا الخاتمَ يا محمودْ
    سيساعدُكَ كثيراً في المستقبلْ"
    وترمد عين السلطان، وتعمى، ويقول الطبيب إن شفاء العين في زهرة "شجر القشدة" في قمة جبل "عبقر"، ولا يستطيع أحد أن يصل إليها، ويسمع محمود القصة، فيُصرُّ على تحقيق طلب السلطان، ويستخدم الخاتم الذي أهداه له "دندش"، ويعود بعد جهد بالمطلوب .. فيشفى السلطان، ويقول لعائلته:
    "محمودٌ ولدٌ طيبْ
    وشجاعْ
    بنتي "نرجسُ" معجبةٌ بهْ
    سأُزوِّجها ـ لو يرغبُ ـ لهْ"
    وتبدو الغاية من القصة أكبر من المكافأة التي حصل عليها محمود من الملك، بالزواج من ابنته، وتولي السلطة من بعده، إنها تكمن في الوعي بقيمة العمل والجهد والمبادرة، وهو ما يُفصح عنه الحوار التالي بين الساحر دندش ومحمود بعد نجاح الأخير في الحصول على زهر "شجر القشدة" التي شفي بسببها السلطان:
    "دندش: أنت شجاعٌ ، وجريءٌ، وصبورْ
    محمود: لولا خاتمُكَ الذهبيّْ
    ما كنتُ وصلْتُ
    لقمة (عبقرْ)
    دندش: الخاتمٌ لا يفعلُ شيئاً يا ولدي
    أنت شُجاعْ
    وسأحكي قصتكَ لمنْ ألقاهْ"
    وهكذا يملك الشاعر مفاتيح الخطاب الشعري للأطفال في لغة شفافة وبسيطة من خلال الحكي والقص، ويستلهم في كل الأحوال نماذج تراثية ملائمة وشائقة.
    ولعلنا في هذه المناسبة نأمل أن يتوجّه الشعراء إلى تراثنا الإسلامي ليأخذوا من قصصه وحكاياته ما يلائم أطفالنا قصصا ومسرحيات وحواريات، فما أغزر هذا التراث، وما أكثر ما يمتلئ به معينه الذي لا ينضب ولا يجف.
    ***
    وبعد؛
    فهذه الرحلة السريعة والخاطفة مع شعر "حسين علي محمد"، تُنبئ عن شاعرية شاعر ناضج ومتمكن، يملك لغة الشعر بأبعادها الفنية المتنوعة، ويملك أيضا الرؤية الشعرية المنتمية إلى الأمة الإسلامية بتراثها المضيء، وحاضرها المضطرم، ومستقبلها المنشود
    د. حلمي محمد القاعود
    ..................
    (1) نشر في كتاب «الورد والهالوك» للدكتور حلمي محمد القاعود، ط1، دار الأرقم، الزقازيق 1993م


  18. #18
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    (14 ) رباعيات حسين علي محمد

    بقلم: أ.د. حلمي محمد القاعود
    ........................................

    الشاعر الشاب حسين علي محمد له تجربة طيبة في عالم الشعر، وقد أخرج أكثر من مجموعة شعرية معظمها بالجهد الشخصي الشاق، وقد أصدرت له هيئة الكتاب منذ فترة مجموعة باسم "شجرة الحلم" نالت إعجاب ناقد كبير، ممّا حدا به إلى الكتابة عنها في مقدمتها.
    وتأتي "رباعياته" التي صدرت مؤخراً ضمن مطبوعات جماعة "أصوات" لتحمل روحاً شفافة تفيض بالعذوبة والأشواق، وتغزو عالماً زاخراً بالألم والأمل، وترتكز على قاعدة من الحلم الجميل بالغد الأفضل والأكرم.
    إنها ـ أي المجموعة ـ مناغاة للواقع المرير برؤية صافية، وترصد السلبيات والإيجابيات بلغة الشعر، مع لمسات من الأسى تطفو على السطح بين الحين والحين.
    والجديد في هذه "الرباعيات" أن الشاعر قد تخلّى عن الشعر المرسل أو شعر التفعيلة تماماً، وأثيت وجوده ـ ربما لأول مرة ـ في عالم الشعر المُقفّى ذي الشطرين، من خلال أداء راق يؤكِّد أن هذا الشعر يملك إمكانات مذهلة لو وجد الشاعر المُجيد الذي يستطيع امتلاك ناصيته.
    قد تبدو بعض الألفاظ غريبة على أذن القارئ أو قاموس الشاعر، مثل "النبيذ" في الرباعية الثانية، أو "عنصريا" في الرباعية الثامنة، ولكن هذا لا يُقلل من هذه المجموعة التي تتألّق بمعانقة الإنسان والانحياز له.
    يقول في الرباعية السادسة والثلاثين، والتي تُذكِّرنا بنغمات الشعر الفارسي:
    قدْ أهاجتْني دموعُ العاشقينْ .:. في عذابٍ لفـــــراقٍ أوْ لِقاءْ
    قدْ قضيْتُ العمْرَ بحثاً عنْ جبينْ .:. تُشرقُ الفرحةُ فيهِ والصَّفـــاءْ !
    وفي الرباعية السابعة والعشرين يقول:
    لمْ تُحَرِّكْني دفوفُ الأرْضِ يوْما .:. أوْ غِناءُ المُطــرِبِ الموْهوبِ ليْلَهْ
    قدْ قَضِيْتُ العمْرَ تسبيحاً وصَوْما .:. في ظـلامِ الليــلِ أشتاقْ الأهِلَّهْ !
    ومن خلال هاتين الرباعيتين يستطيع القارئ أن يُدرك مدى سيطرة الشاعر على ناصية الشعر
    حلمي محمد القاعود
    .................................................. ..
    *مجلة "الإذاعة والتليفزيون"، العدد (2500)، في 12/2/1982م.


  19. #19
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    ( 15 ) ملامح بكائية الفقد، وصرخة المقاومة، وهدأة الجراح
    قراءة في ديوان «النائي ينفجر بوْحاً إلى فاطمة»

    بقلم: أ.د. أحمد زلط
    ........................

    أمّا قبل:
    فثمة حقيقة غائبة يجب أن نُفصِح عنها قبل الدخول إلى التجربة الشعرية الإنسانية في ديوان حسين علي محمد الذي بين يدي القراء، والمعنون بدلالة لفظية أو فكرية تقول "النائي ينفجر بوْحاً إلى فاطمة"، أما الحقيقة فمفادها متابعتي النقدية لكل عطاء يثمره الشاعر أو يُطالعنا به، وليس قلمي فيما قد يظن البعض هو الوحيد المتابع، بل هناك عشرات الأقلام التي تابعت نتاج الشاعر في الربع الأخير من القرن العشرين، أمثال الأساتذة والدكاترة: طه وادي، وعلي عشري زايد، وحلمي القاعود، وصابر عبد الدايم، وحامد أبو أحمد، وحسني سيد لبيب، ومحمد جبريل، ومصطفى النجار، وأحمد سويلم، وأحمد فضل شبلول … وغيرهم.
    إن جيل السبعينيات والذي تحول إلى تجمّعات أدبية أشبه بالمعادل الموضوعي الذي تحقق حلمه في الطموح الإبداعي غداة انتصار 1973م، ألفيناه يتجمّع في جماعات أدبية، مثل: الكلمة الجديدة، وأصوات معاصرة، وفاروس، وإضاءة … وغيرها، ولقد نحتت هذه الجماعات نقّادها، وقدّمت إلى الساحة الأدبية نخبة من المبدعين طوال الربع الأخير من الألفية الثانية، وكانت المتغيرات المحيطة بجيل السبعينيات في قوتها واندفاعها كفيلة بأن تعكس هموم هؤلاء وأولئك بنفس فدر التطلع إلى حلمهم الإبداعي المشروع الجميل.
    في ضوء تلك التوطئة خرجت إلى النور "أصوات معاصرة" ممثلة لما ذكرناه، منذ أن أصدر مؤسسها حسين علي محمد عددها الأول في أبريل 1980م.
    ومن المنطقي أن يكون من بين كل تجمّع أدبي الأقلام التي يقع على عاتقها هم الإبداع الأدبي ونقده، في خط مساوٍ لهموم النشر والتوزيع، ذلك أن المجهودات الفنية والطباعية والتسويقية وغيرها عبّرت عن إرادة جيل أدبي لفّه الانكسار ـ مع أنه جيل الإنجاز ـ كانت أقلام حسين علي محمد، وصابر عبد الدايم، وأحمد زلط تختط مع بقية جماعة "أصوات معاصرة" طرائقها، وتحدّد ملامح رسالتها، وتنوّعت التجربة عند كل في الشعر والقصة والمسرحية والنقد، كأنما تتكرّر تجربة الأجيال الروّاد الأوائل الذين قادوا النهضة الأدبية في الأدب المصري، بل الأدب العربي الحديث، حيث عضّد كل قلم الآخر، في موضوعية وصدق، ولذلك تواصلت نجاحات "أصوات معاصرة" من طباعة "الماستر" المحدود إلى الطباعة المعاصرة الفاخرة، وهي في ضوء ذلك وعاء لمحتوى رصين وباق، لا يكتب المكرور والتافه، ولا يقصد إلى إزهاق روح المتلقي بأفانين ما بعد الحداثة.
    ومؤسس الجماعة (حسين علي محمد صاحب هذا الديوان الجديد) يمتلك مع زميليه صابر عبد الدايم وأحمد زلط آفاق التجديد، لكنهم لا ينطلقون إلا من ثوابت أصيلة في أرض الواقع إلى فضاءات التجديد المحلقة النقية التي تبني ولا تهدم، ويقيني أن عدة طبعات في عشرات من العناوين لأقلام هؤلاء في الإبداع والنقد كفيلة بالرد على كل راصد للحركة الفاعلة في جماعة "أصوات معاصرة" وحيويتها.
    إن الحرية الفكرية أو مبدأ الاستقلال لفكري عند هؤلاء لم يكن ليمنع من تحقيق رسالتهم الجماعية (الأدب العربي المعاصر: حق وخير وجمال)؛ فلكل خطه الإبداعي أو نهجه الفكري الفردي، لكنه لا يتعارض مع كون "أصوات معاصرة" رسالة تبني وتعلو، وبحمد الله لم تؤطَّر "أصوات معاصرة" في أي منحى إيديولوجي أو مادي، ذلك لأن أصحابها أدركتهم هواية الأدب، ونوافذ أحلامه المعطّرة بأنداء الحياة.
    أبعاد التجربة الإنسانية في ديوان
    "النائي ينفجر بوْحاً إلى فاطمة"
    بين يدي القراء ديوان صغير الحجم، كبير القيمة، أسماه صاحبه الشاعر حسين علي محمد "النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة"، ويضم عشرين قصيدة، منها التجربة المطولة والتجربة المكثفة، وهي نصوص شعرية ناضجة كعهد القارئ بالشاعر في إصداراته الأخيرة غنائية أو درامية. وعنوان الديوان من العناوين المستقاة من وحي غربة الشاعر حيث يعمل بالمملكة العربية السعودية، ولا ينخدع القارئ بأن عنوان الديوان تكرار لتجربة الغربة في ديوانه السابق "غناء الأشياء" الذي أهداه لفاطمة؛ فالبوح هنا غناء في أبعاده الإنسانية المستجادة، حول الفراق أو الموت، وثلة الأصدقاء، وهي في عمومها غنائيات تدور في دائرة البعد الإنساني (الأسري / العائلي)، ولم تشذ عن هذا الاتجاه العام إلا قصائده:
    1-الجنرال والوطن المنفى.
    2-الشاعر والجنرال.
    3-سبع سنبلات خضر إلى بغداد
    4-هوامش المسلم الحزين.
    بينما عبّرت ست عشرة قصيدة عن الأبعاد الإنسانية التي ألمحنا إليها، وهي قصائد:
    1-فراشات زرقاء.
    2-أغان صغيرة إلى فاطمة.
    3-عرس أمينة.
    4-صبيحة الغياب.
    5-انكسار.
    6-رحيل آخر 1996.
    7-النائي ينفجر بوحاً إلى فاطمة.
    8-الصارخ في البرية.
    9-فخاخ الصحراء.
    10-الغائب.
    11-.. ونام في سلام.
    12-حوار سيدين في مطلع الرحيل.
    13-دموع الحاسوب.
    14-مكان بالقلب.
    15-أحزان صباحية.
    16-القاهرة 1968.
    وسنحاول استقراء النص الشعري لغةً وفكراً وبناءً في مجموع قصائد الديوان، وليكن استهلالنا في مقاربة تللك النصوص التي تتكئ على علاقة المثقف بالنخبة العسكرية، ثم مردود فعل العسكر في نص "هوامش المسلم الحزين"، يقول الشاعر حسين علي محمد في قصيدة "الجنرال والوطن المنفى"، يخاطب الجنرال المتوهم بالغزو، وأم معارك النصر، وما آل إليه فعله الأحمق:
    ماذا تفعلُ
    تحت غيومَ الوطنِ
    المُثقَلِ بالفقْدِ ،
    وأوحالِ الدَّاءْ ؟
    خُضتَ بحارَكَ حتَّى الرَّقَبَهْ
    هلْ كان الموتُ يُسابِقُ حُلْمَكَ ..
    يَسْرِي في نبْضِ دِماءْ
    تُعلِنُ عنْ ليْلٍ يتخفَّى
    تحت الأضلاعِ الستة للنجمةِ
    في الأنحاءْ ! (ص21)
    لقد أجاد الشاعر وصف الجنرال في عناده وغيه، وفي تعطشه الدموي، وفي أوحال يجول ويصول فيها العسكر الذين أذاقوه الخزي والعار، وجعلوه يردد طعم المذاق المر / العلقم: الانتصار!
    وفي مقطع لاحق من القصيدة يفطن الشاعر إلى فداحة جرم الجنرال الذي عذب وطنه، بل أوجد ـ بعناده ـ عذاباتٍ وجراحاً لا تندمل، وقد استعار الشاعر تفصيلات الزمن في المقطع كي يؤكِّد على طول المعاناة، وآثلر الذكرى الأليمة التي تُشبه العلقم، نتيجة وسبباً لخيلاء الجنرالات، أو عنادهم البغيض.
    (يتبع)


  20. #20
    أستاذ بارز الصورة الرمزية د. حسين علي محمد
    تاريخ التسجيل
    03/12/2006
    العمر
    73
    المشاركات
    394
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: النص الكامل لكتاب «العاشق والوردة: دراسات في شعر حسين علي محمد»

    (تابع/ دراسة أ.د. أحمد زلط)
    ..................................
    يقول الشاعر في رسم تصويري يُجسِّد العار:
    نمشي فوقَ مناكِبِ قتلانا
    كلَّ مساءْ
    تصفعُنا ذكراهُمْ
    ليلاً ،
    فجْراً ،
    ظُهْراً ،
    عصراً ،
    صيفاً ،
    وشِتاءْ
    فلماذا تُمسِكُ مرآةَ الأيامِ السوداءْ
    وتُحدِّقُ في الأُفْقِ المجدولِ بعارِكَ
    في خُيَلاءْ ؟ (ص21،22)
    ويبدو أن الشاعر حسين علي محمد لم يكف عن إلقاء السؤال مرة أخرى في قصيدة ثانية مماثلة، بعنوان "الشاعر والجنرال"، حيث يتساءل في مطلع استهلالي قائلاً:
    لا تسألني عن آخر أشعاري
    فأنا في الليلِ الدَّامسِ .. أخطو
    ولحفلٍ شرسٍ أدعو الغربان
    وفوقَ الطَّاولةِ المملوءةِ بالجثثِ المذبوحةِ
    والخُطَبِ النَّاريَّةِ
    ودسائسِ أولادِ القَرَدةِ
    أخطُبُ ..
    حتى يتثاءبَ في الليلِ الآتي
    ظِلُّ غزالٍ يُشرقُ في برْقٍ ونُعاسْ (ص24)
    والتجربة ـ كما نلاحظ ـ في هذا النص مغايرة لنصه الأول "الشاعر والوطن المنفى"، وإن بقيت الصورة النفسية لسيكولوجية الجنرال، تومئ للطغاة أينما كانوا، لكن الشاعر في ظل إجاباته عن تساؤلاته، يلعب دوراً إيجابيا مأمولاً من المثقف أمام الطغاة من العسكر.
    إن لعبة تحييد البعض، وتجنيد بعضهم على بعض، أو التهديد بالسجن ـ وما أدراك ما سجن العسكر! ـ … وغيرها أضحت ـ كلها عند شاعرنا ـ غير ذي بال، فالشاعر هنا يقف مقاوماً، منوباً عن المقهورين والمظلومين، ومن ثم فإننا نراه ينتظر السياف:
    حدُّوا شفْراتِكمو المُتأجِّجَةَ لبعضِ الموتْ
    الرابضِ بينَ دمي والحرفْ
    وليحفرْ كلٌّ منكمْ قبْرَهْ
    وليعزِفْ موسيقاهُ السَّوداءْ

    أبْعِدْ عنِّي يامسْرورْ
    هذا الكذَّابَ المُختالْ (ص25)
    يا تُرى كم صاحب قلم تحوّل إلى مُقاوم يقاتل كل محتال كذّاب بحد السيف وحد الكلمة المقاومة الحقيقية التي هي حدُّ الحق؟! حتى يتحوّل "مسرور" أداة الجنرال الطاغية وسيافه إلى رجاء يكشف احتيال وكذب الجنرال المختال طوال الوقت.
    إن الشاعر إزاء السلطة في موقف فكري منشود يتكرّر بالإلحاح الصادق:
    لا تسْألْني
    هلْ هذا آخرُ شعرِكْ ؟
    آخرُ شعري لمْ يُكْتَبْ بعْدْ !
    فاكتُبْهُ أنتْ (ص28)
    وقد يقول قائل إن الشاعر تراجع عن موقفه كبطل إيجابي مقاوم، وترك أغلى ثرواته، وهي هبة الفكر ووميض الإبداع: الشعر، حين تركه للجنرال وأعوانه يكتبونه، ومما لا شك فيه أن شعرهم سيكون النقيض الذي يكون معاكساً للحياة وتدفقها، بينما شعر الشعراء رسالة تحتاج إلى مناخ يكون أكثر وعيا بالحياة وصدقاً في تصويرها، لا كذباً أو تسلطاً أو اختيالاً، وهذا ما قصده شاعرنا من تهكمه اللاذع في سطره الساخر الأخير "فاكتُبْهُ أنتْ".
    إن إتباع قصيدة "الجنرال والوطن المنفى" بقصيدة "الشاعر والجنرال" لا يعني أنهما متصلتان معاً بروابط فنية، أو أن القصيدة الثانية امتداد للقصيدة الأولى، أو هما ثمرتان لتجربة شعرية واحدة، كلا .. رغم أن "الجنرال" اسماً وصفة يظل كما هو بسلوكه العدواني ـ أو الفردي ـ غير أن التجربة عند الشاعر حسين علي محمد في القصيدتين ليست واحدة، بل متعددة التأويل.
    أما ما نحمده للشاعر من شجاعة فكرية ومزية فنية معاً فهو بوْحه العاقل ـ أو شاعريته المُدرِكة ـ في نصه الشعري "سبع سنبلات خضر إلى بغداد"، وبغداد ـ كما هو معروف تاريخيا ـ من أهم مراكز الإسلام الحضارية، وعاصمة الخلافة والعلم، وصاحبة القوة والمنعة، بل هي بغداد الشاطئ والنخيل، يستعيدها الشاعر في رؤى ثاقبة: المآذن والقباب، والمروج والضياء، أين بغداد القديمة؟
    إن حسين علي محمد يستحضرها، ويذكرها مشيراً إلى من ابتعد بها عن مجرى الحضارة:
    "وأشارتْ: نأيْتَ بعيداً وكنتَ السِّراجْ
    ـ …
    ـ تناءيْتَ في الظلماتِ بعيداً
    أعاقَكَ هذا السِّياجْ ؟" (ص63،64).
    وليس من شك أن ما جعل حالها يؤول إلى تلك الحال هو:
    "ذاكَ العتلُّ الزنيمُ على صدْرها جاثمٌ في اشْتهاءْ" (ص63)
    والعتل الزنيم فيما صوّره الشاعر عن الجنرال المتوهّم القاعد على كرسي الطغاة، يشرب في لذة نخب الخراب والدمار، وموات الوطن في مكتسباته، ومجموع شعبه العظيم الذي أصابه اليأس والقنوط.
    وفي المقطع الثاني من النص تهفو النفس ـ مع الشاعر ـ إلى تلك المواجهة:
    "لأزقِّةِ الكرخِ العتيقةِ
    شفَّني وجْدٌ ..
    وكمْ يهْفو الفؤادْ
    لصبيَّةٍ خضراءَ
    في قصْرِ الرَّشيدِ
    نأتْ عن القلْبِ المُضَرَّجِ بالسَّوادْ
    ولخصلةِ الشعرِ الجميلِ على جبينٍ فاتنٍ
    .. لحكايةٍ فاتتْ ليالي شهرزادْ
    لقصائدِ الشِّعْرِ المُضَمَّخِ بالبطولاتِ النبيلةِ والعواطفِ والودادْ !
    والجُرْح يرعفُ بالسؤالِ وقدْ نبا عنَّا الرُّقادْ :
    أعصابةُ الأشرارِ تُخفي رأسَها في الجُحْرِ
    هانئةَ ، ويُدمينا القَتَادْ ؟" (ص64)
    وفي نقلة متباعدة مع الزخم الموروث السابق واقعة وذكرى، حيث يومئ الشاعر إلى غياب عقل بغداد، و"مقياس" وجودها المعنوي .. أحلام الشعراء، وأفكار النخبة في مزج الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل، حيث تسقط إلماعات نازك الملائكة المجددة، وثورة بدر شاكر السياب الموغلة في الآتي، وتسقط الأفكار والأحلام إلا من فكر واحد، وحلم مخرب واحد للعتل الزنيم الطاغي الذي لسان حاله يقول: أنا قائد الغر المنهزمين، لقد حاربتُ كل الجيران، وناس كثر من كل أجناس العالم راحوا جميعاً، وبقيت وحدي، ولا يفيق الطاغية إلا على كابوس مزعج: أين بغداد القديمة الجديدة، وكأنه لا يعلم ماذا جنت يداه قبل وأثناء وهم "أم المعارك"، ويقول الشاعر على لسانه:
    "ـ أنا أبغي الأمامْ !
    ـ هيّا إلى النَّوْمِ اللّذيذِ .. أما .. تنامْ ؟
    الموْتُ مفتتَحُ الكلامِ ..
    ـ أنا .. أنا ..
    أبغي الأمامْ !" (ص67)
    أما بغداد ـ يا حادي الطغاة ـ فتحتضر في اليوم ألف مرة، وأنت في وهم وغي بالغين. لقد كانت بغداد صنو القاهرة ودمشق والرياض والدار البيضاء، و.. ويا للأسف خاب الأمل وضاع الرجاء، ولقد أرجعت بغداد قروناً إلى غياهب الوراء، والظلام، والموت، والعجز. وما مِن نهوض لأنك جاثم فوق الصدور المتعبّة! وياللخزي إذ تغني للنصر الكاذب والفتح الكذوب، وأنت تعرف ـ وكل أفراد شعبك يعرفون ـ أنك مهزوم مهزوم!
    لا يفقد الشاعر سراجه، أو صوته الحر المأمول دائماً بين الكاف والنون، الله أكبر على كل طاغية وباغ. ويفطن الشاعر حسين علي محمد إلى اللمسة الإيمانية الصافية في نصرة الشعب، ونهضة بغداد، بالرغم من مصيدة أعداء الأمس، وأعداء اليوم، فلا بد من كبوة لهم، ولا بد للطاغية من ميتة، فتحيا بغداد، وتحيا الحياة .. يقول الشاعر حسين علي محمد تحت مقطع غنائي آمل يحمل عنوان "الله أكبر":
    "…
    وبعدَ قليلٍ ،
    أمُرُّ على بيْتِكِ الحلْوِ
    أتْرُكُ أحزانَ قلبي ورائي
    ورتْلُ الجرادِ إزائي
    سيسْقُطُ دونَ كرومِكِ
    أهتفُ :
    يا أيُّها العابرونَ
    مضيْتُمْ .. كليْلةِ حزنٍ طويلٍْ
    ويا أيها الصُّبْحُ أشرقْ عليْنا
    تَرَ اللهَ أكبرَ فوقَ المآذنِ ..
    تسمعُ رجْعَ الصَّهيلْ
    .. وهذي مروجُ الضِّياءِ
    وهذي قناديلُنا في الليالي البهيجةِ
    تضحكُ "نازكُ" ..
    يُشرقُ وجْهُكَ يا "بدْرُ"
    يُشْعَلُ في الليْلِ ضوْءُ السِّراجْ
    وجئتُكِ بغْدادُ ..
    .. غنَّيْتُ شعبَكِ ، أرْضَكِ ..
    ما عاقَني ـ في الطريقِ ـ السِّياجْ !" (ص68،69)
    لقد أضاف النص قيمةً ووزناً فكريا، بل تعاطفاً إنسانيا تجاه بغداد الإنسان والزمان والمكان، وهو شعور عربي وإسلامي جارف، عكسه الشاعر في أبعاده الإنسانية العميقة.
    ***
    (يتبع)


+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 3 1 2 3 الأخيرةالأخيرة

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •