آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: هل أسس النبى محمد دينه على الوثنية؟ تفنيد سخافات المدعوّ: سام شمعون

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية إبراهيم عوض
    تاريخ التسجيل
    21/12/2007
    المشاركات
    828
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي هل أسس النبى محمد دينه على الوثنية؟ تفنيد سخافات المدعوّ: سام شمعون

    "رَمَتْنى بدائها وانْسَلَّتِ"
    هل أسس النبى محمد دينه على الوثنية؟
    (تفنيد سخافات المدعوّ: سام شمعون)
    د. إبراهيم عوض


    الوثنية، كما جاء فى تعريفها فى "الموسوعة العربية الميسرة"، هى "معتقَدٌ يقوم على عبادة غيرِ الله عز وجل أو صورٍ لآلهة أو روحٍ. وهذا التعبير يعني أيضًا عبادة الآلهة المزيفة". وفى "Encyclopædia Britannica: الموسوعة البريطانية" (إصدار 2008م) يعدد كاتب مادة "idolatry" بعضا من ألوان الوثنية قائلا إنها قد تتبدى فى تمجيد أى شخص أو أى شىء: مَلِكًا كان أو شمسًا أو حيوانًا أو صنمًا حتى لو صاحَبَ ذلك الإيمان بالله وعبادته كما حدث حين عبد بنو إسرائيل العجل الذهبى أثناء ذهاب موسى عليه السلام للقاء ربه فوق الجبل:
    “Several forms of idolatry have been distinguished. Gross، or overt، idolatry consists of explicit acts of reverence addressed to a person or an object—the sun، the king، an animal، a statue. This may exist alongside the acknowledgment of a supreme being; e.g.، Israel worshiped the golden calf at the foot of Mount Sinai، where it had encamped to receive the Law and the covenant of the one true God”
    وفى موسوعة الــ"Encarta " فى نسختها الفرنسية أن الوثنية هى
    “culte voué à une image figurant un être surnaturel، dont la représentation matérielle est vénérée comme la demeure de celui-ci”.
    ونطالع فى موسوعة "Laousse" الضوئية أنها "Culte rendu à des idoles ou à des créatures adorées comme la divinité même".
    وثم لون آخر من الوثنية، وهو النزول بالإله من علياء مجده إلى مرتبة المخلوقات حيث يتجسد ويتعدد ويظهر للبشر عيانا بيانا، وإن كان هذا الضرب من الاعتقاد يسير فى خط معاكس لخط الوثنية السالفة الذكر، مع انتهائه فى نفس الوقت إلى ذات النقطة التى تنتهى عندها، إذ الوثنية فى أصلها هى الارتفاع بالمخلوق إلى مرتبة الخالق، بينما الاعتقاد الذى نحن بصدده ينزل بالخالق إلى مرتبة المخلوق. أما النقطة التى يلتقى عندها الخطّان فهى التسوية بين الخالق ومخلوقاته.
    وقد وقع لى فى الأيام الأخيرة كتاب بعنوان "محمد والوثنية" من تأليف شخص يُسَمَّى: سام شمعون ادعى فيه أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يمارس طقوس الوثنية قبل أن يَطْلُع على العالم بدينه، الذى كونه من تلك الطقوس بعدما أعطاه مضمونا توحيديا. ومن هذه الطقوس التى كان يمارسها الرسول الكريم حسبما ورد فى ذلك الكتاب أَكْلُه من ذبائح الأوثان وطوافه بالكعبة وسعيه بين الصفا والمروة... إلخ. والحق أن الكتاب وصاحبه قد أضحكانى كما لم أضحك منذ وقت طويل، إذ وجدتهما ينطبق عليهما المثل العربى المعروف: "رَمَتْنى بدائها وانْسَلَّتِ". أَوَدِينُ محمد دين وثنى؟ ومن يصفه بذلك؟ إنه سام شمعون وأشباهه، الذين يفيض دينهم بالوثنيات بعد أن حرفوه وعبثوا به. أليس ذلك أمرا يبعث على القهقهة؟
    ولنفترض أن الأمر كما قال سام شمعون، فهل فيه ما ينال من النبى عليه الصلاة والسلام؟ كلا وألف كلا، إذ إنه عليه السلام لم يكن فى ذلك الوقت قد أصبح نبيا يُوحَى إليه بعد، ولم يكن فى بلاد العرب دين سماوى صحيح يتبعه الناس، بل كانوا فى معظمهم وثنيين، ومن المعتاد أن يكون الإنسان على دين قومه. لقد كان من العرب من يدين باليهودية والنصرانية، إلا أن أيا من هاتين الديانتين لم تكن ديانة قوم النبى عليه السلام، ودَعْنا من أن كلتا الديانتين كانت قد تم تحريفها والعبث بها. كذلك من المعروف أن الإسلام يَجُبّ ما قبله، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولم يكن فى ذلك الوقت رسول ولا نبى يدعو الناس إلى الإيمان بما أتى به من دين مثلما وقع حين بُعِث رسول الله بعد ذلك رحمةً للعالمين. لهذا كله لا نرى، ولا يمكن أن يرى أى عاقل، فى اتباع محمد قبل البعثة ديانة قومه شيئا من الغرابة، بل العبرة كل العبرة بما بعد البعثة.
    هذا من الناحية النظرية المبدئية، أما من الناحية التاريخية الواقعية فأول ما نتريث إزاءه هو ما نقله شمعون من "صحيح البخارى"، ونَصُّه أنه عليه الصلاة والسلام "لقي زيد بن عمرو بن نُفَيْل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها. ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذُكِر اسم الله عليه"، إذ هناك رواية أخرى للحديث تقول إنه صلى الله عليه وسلم قد "لقي زيدَ بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وذاك قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدِّمَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: إني لا آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه". والفرق بين الروايتين كبير كما ترى. وقد يُفْهَم من الروايتين، إذا ضممناهما معا، أن القوم كانوا قد قدموا إلى رسول الله ذلك الطعام فرفضه، ثم بدا له أن يعرضه على زيد، فرفض زيد كذلك، فاتفقت إرادتاهما على عدم الأكل منه.
    وفى "فتح البارى" أن العلماء قد فسروا الأمر "بأن القوم الذين كانوا هناك قدموا السفرة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقدمها لزيد، فقال زيد مخاطبا لأولئك القوم ما قال". ويؤكد هذا ما ورد فى حديث ثالث، إذ رُوِىَ "أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقُدِّمَتْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله، إنكارا لذلك وإعظاما له".
    كما أن الرواية الأولى تخلو مما يدل على أن اللحم كان من أضحية قدمها النبى إلى وثن من الأوثان، بل كل ما هنالك أنه عليه السلام كان معه لحم فقدمه إلى زيد، فرفض زيد أن يأكل منه، وهذا كل شىء. وفضلا عن ذلك قد يكون معنى كلام زيد أنه لا يرفض بالذات الأكل من السفرة التى قدمها النبى وزيد بن حارثة له، بل يعرض شروطه فى الأكل حتى إذا كان الطعام المقدم له متحققة فيه هذه الشروط أكل منه، وإلا فلا. وأتصور أن الأخير هو أقوى الاحتمالات لأنه لا يوجد ما يدل على ما ذهب إليه سام شمعون لا من قريب ولا من بعيد.
    فكما هو واضح قد أورد شمعون ما يظن أنه موصِّله إلى ما يريد من تشويه صورة النبى عليه السلام، وتجنَّب عن عمد وسبق إصرارٍ الأحاديثَ الأخرى النافية أكله صلى الله عليه وسلم من لحوم الأنصاب. ولكن فلنسايره ونقول معه إنه صلى الله عليه وسلم قد كان يأكل منها، فماذا فى ذلك؟ لقد قلنا إن العرب لم يكونوا يحرّمون هذا النوع من الطعام، إذ لم يكن لهم دين ينهاهم عن ذلك، فكيف ننكر على محمد ما كان سائر قومه يأكلونه؟ ثم هل أكله صلى الله عليه وسلم من هذا اللحم معناه بالضرورة أنه كان يعبد الأوثان؟ الواقع أن من الصعب امتناعه هو أو أى إنسان آخر من بنى قومه بسهولة ودون وقوع باعث له على النظر فى ذلك عن أكل هذا اللحم. وفى "فتح البارى" عن الخطابى: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل مما يذبحون عليها للأصنام، ويأكل ما عدا ذلك وإن كانوا لا يذكرون اسم الله عليه لأن الشرع لم يكن نزل بعد، بل لم ينزل الشرع بمنع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه إلا بعد المبعث بمدة طويلة".
    وحتى لو أخذنا بحديث زيد بن حارثة عند أبي يعلى والبزار وغيرهما، وقد أورده ابن حجر فى "فتح البارى، ونصه: "خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من مكة وهو مُرْدِفِي، فذبحنا شاة على بعض الأنصاب فأنضجناها، فلقينا زيد بن عمرو... فقال زيد: إني لا آكل مما لم يذكر اسم الله عليه"، فليس معناه بالضرورة أنهما قد ذبحا الشاة باسم وثن من الأوثان، بل كل ما يدل عليه هو أنهما ذبحاها على نُصُبٍ من الأنصاب، والأنصاب هى الحجارة التى كانت قريش تذبح عليها عند الأوثان، فهى مواضع مهيأة لذبح الذبائح عليها. إنها فى هذا كالمسالخ هذه الأيام. والمسلمون فى البلاد الأوربية مثلا يمكنهم دون أى حرج أن يذبحوا حيواناتهم فى نفس المجازر التى يذبح فيها الأوربيون غير المسلمين حيواناتهم. وكذلك لو افترضنا أن مسلما هنديا ذبح ذبيحته بجوار معبد هندى وثنى أو حتى بداخل المعبد ذاته، فهل يقال إنه قد ذبح ما ذبح باسم البُدّ الموجود فى ذلك المعبد؟
    وأنا وأمثالى كثيرا ما نصلى فى مساجد ذات أضرحة، ولا يعنى هذا أبدا أننا نشارك من يؤمنون بــ"الأولياء" فى إيمانهم ذاك المغبَّش، بل يعنى أننا نصلى فى تلك الجوامع فقط رغم أن هناك فريقا ممن يصلى معنا يعتقد فى الشيخ المدفون بضريح المسجد اعتقادات لا يستريح إليها دين محمد عليه الصلاة والسلام. فرغم أن الفريقين يصليان جنبا إلى جنب فإن قلوبهما فى هذه النقطة غير متفقة. والعبرة بالنية والتوجه، وإلا فصلاة طوائف كبيرة من المصريين باطلة وفيها شرك بالله، أستغفر الله، لأن كثيرا من مساجد مصر يحتوى على أضرحة ومزارات. ومن يقول بهذا إلا أحمق ضيق العطن؟ ولقد سمح الرسول للنصارى أن يؤدوا شعائر صلواتهم فى مسجد المدينة، فهل صاروا بذلك موحدين؟ لقد كانوا قبل ذلك، وظلوا أثناء ذلك وبعد ذلك، من المثلثين رغم كل هذا. ويقال، حسب رواية أوربية، إن فرانسيس الأسيزى، وهو راهب إيطالى عاش فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر الميلاديين ووفد إلى مصر لمقابلة الملك الكامل الأيوبى أثناء الحروب الصليبية، قد صلى، بناء على اقتراح الملك الكامل، فى أحد المساجد المصرية قائلا إن دعاء الله مقبول فى أى مكان. فهل جعلته صلاته فى المسجد مسلما؟ كلا وألف كلا. بل لقد جاء إلى الملك وحاشيته كى يعرض بضاعته النصرانية على المسلمين لا ليدخل دين محمد عليه الصلاة والسلام. كما أن بطرك القدس، عند فتح المسلمين لها وحضور الفاروق مراسم تسليمها إليهم، قد عرض عليه أن يقيم صلاته داخل الكنيسة. ولولا أن عمر رضى الله عنه وأرضاه خشى أن يطالب المسلمون بتحويل الكنيسة مسجدا لصلاته فيها لاستجاب للبطرك، وعندذاك ما كانت صلاته لتنقص عن مثيلتها فى أى مسجد بسبب ذلك، إذ العبرة بالنية والتوجه كما ذكرنا مرارا.
    وبناءً على هذه القاعدة أذكر أننى فى صيف 1982م قد صليت الظهر والعصر أنا وزوجتى فى مسجد القاديانيين بلندن. ولم يكن هناك أحد يصلى غيرنا. فهل من متنطع من شاكلة السيد شمعون يزعم أن صلاتنا تلك ليست صلاة إسلامية؟ لقد ناقشت من كان موجودا هناك فى اعتقاداتهم واختلفتُ معهم فى الرأى، وحمّلونى بعض كتبهم هديةً بالإضافة إلى ما اشتريته منها بالفلوس، وكانت هذه وتلك معتمدى فى كتابتى عنهم وانتقادى لهم فى الفصل الذى خصصته لعرض تفسيرهم للقرآن المجيد فى كتابى: "من الطبرى إلى سيد قطب- دراسة فى مناهج التفسير ومذاهبه". ولماذا نذهب بعيدا، ولدينا الكنيسة الأرثوذكسية المصرية تقيم كل عام إفطارا لكبار رجال الدولة وعلماء الإسلام داخل الكاتدرائية، فضلا عن صلاتهم المغرب هنالك، ويقوم بالخدمة أثناء ذلك رجال الكنيسة؟ فهل يصح الزعم بأن الصيام والصلاة غير مقبولين لأنهما تما داخل البطركية؟
    (وهنا أستأذن القارئ فى استطرادة أود أن أقوم بها لأنفس قليلا عن ضيق صدرى من عجز المسلمين الذين يبلغون نحو المليارين عن معاقبة أولئك الذين تجرأوا فى عصرنا هذا من علوج الكفر على النبى محمد عليه الصلاة والسلام فى الكتب والصحف والمنتديات والبرلمانات والفضائيات فى كل مكان يرون فيه لأنفسهم منعة مستغلين حالة الذلة والخزى التى عليها المسلمون بعامة حكاما وشعوبا على السواء، فأُورِد هذه السطور التى سجلها ابن خلكان فى كتابه: "وفيات الأعيان" عن الملك الكامل الأيوبى المتقدم ذكره تحت عنوان "منقبة للملك الكامل جرت في هذه النوبة"، أى فى مواجهة المسلمين للصليبيين آنذاك فى دمياط وانتصارهم الساحق عليهم: "لما وقع الحصار على مدينة دمياط اتفق أن عِلْجًا منهم، لعنه الله، قد ألهج لسانه بسبب النبي صلى الله عليه وسلم، معلنًا به على خنادقهم، ومُنْكِيًا لمن يليهم من حرس الإسلام ورجالهم. وكان أمره قد استفحل، وداء اشتهاره بهذه العظيمة قد أَعْضَل. وقد جعل هذا الأمرَ دَيْدَن جهاده، وذهب عنه أن الله تعالى ينتقم لنفسه من عُتُوّ هذا اللعين وعناده.
    فلما كانت الوقعة المشهورة في شعبان من سنة عشرة التي أُسِر فيها أعلاج الكفر وكنودهم، وأفاء الله على أهل دينه عدوهم وعديدهم، واستولى منهم على ما يناهز ألفي فارس، عُرِف هذا العلج في جملة من اشتمل عليه الاستيلاء منهم حصرًا وعدًّا، وعوجل بعقوبة كفره الذي تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هَدًّا. فلما صُفِّد في وَثَاقه، وخَرِسَتْ شقاشق شِقَاقه، أُشْعِر السلطان الملك الكامل بموضعه، فتنوعت المشورات بصورة قتل هذا الكافر واللحاق بروحه إلى الجحيم التي هي مأوى الفاجر. فصمم الملك الكامل على إرسال هذا العلج مع من يوصله إلى والي المدينة النبوية، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وإشعاره بأمره، وأن يباشر بذلك المحل الشريف تطهير الأرض من كفره. فلما وصل أقيم بين يدي الضريح المطهر، ونوجي ذلك المحل الأطهر، وذلك في عيد الفطر من السنة المذكورة، وقيل: يا رسول الله، هذا عدو لله وعدوك، والمصرِّح في ملة كفره بسبك وسب صاحبك، قد أرسله محمد سلطان مصر ليقتل بين يديك، ويشكر الله لما وفقه من مجاهدة الشرك الذين كفروا بما أُنْزِل إليك، ورام أن يجعله عبرة لمن انتهك حرمتك واجترأ عليك. فتهادته أيدي المنايا ضربًا بالسيوف، وفرح المؤمنون بنصر الله لدينه على طوائف الشرك وأن رغمت منها الأنوف، والحمد لله رب العالمين.
    لا جرم أنه (أى الملك الكامل عليه رحمة الله) بعد وفاته أثيب على هذا المقصد السديد، والتوفيق الذي ما على النعمة به من مزيد، أن الإنبرور (أى الإمبراطور) ملك صقلية وغيرها من بلاد الفرنج، وهو اليوم أكبر ملوكهم خطرًا، وكانت بينه وبين الملك الكامل صداقة ومهاداة يألف بها إلى أن تأكدت له محبته وصار ذبه عن بلاده من طوائف الكفر ديدنه وعادته، كان عنده من الأسرى المأخوذين من مدينة ميرقة من الغرب عند استيلائه عليها جماعة، فأحضرهم الانبرور بين يديه، وقال لهم: يا حُجّاج، قد أعتقتكم عن الملك الكامل. وسيَّرهم مع قصاد تقودهم إلى عكا، وأمرهم بحل قيودهم عند قبره، وإطلاق سبيلهم. وكانت وفاته (أى الملك الكامل) بدمشق يوم الأربعاء آخر النهار، ودفن يوم الخميس في الساعة الثانية منه، وذلك لتسع بقين من شهر رجب سنة خمس وثلاثين وستمائة بالكلاسة رحمه الله تعالى".
    ألا ما أشبه الليلة بالبارحة! فهؤلاء العلوج يُقِلّون أدبهم دائما ويتسافهون على رسول الله كلما شموا من أنفسهم قوة، ومن المسلمين ضعفا وتخاذلا وجبنا، ثم يزعمون أن دينهم هو دين السلام والتسامح وأن الإسلام هو دين الإرهاب والعدوان. إلا أنهم فى ذلك الزمان كانوا يجدون حكاما مسلمين أعزَّة كراما يغارون لرسولهم ويُنْزِلون بكل خنزيرٍ كفورٍ لئيم الطبع سفيه اللسان التأديبَ الذى يستحقه فيقطفون رأسه. أما حكام المسلمين اليوم فهم مثال على الرخاوة والطراوة مع هؤلاء، وأسود هصورة باطشة مع أهل الإسلام. ماذا نفعل؟ إنها محنة الشعوب المنتسبة إلى الإسلام، إذ ترضى بالهوان والعجز والمذلة وتستكين لما تُوقِعه بها حكامها وتستنيم إلى هذا العار غير واجدة فيه ما يشين، بل إنها لتستزيد منه! فهنيئا لها ما هى فيه، ولْيَزِدْها الله مما تريد حتى تشبع، ولن تشبع!).
    أما قول ابن الكلبى: "وقد بلغنا أن رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ذكرها يوما فقال‏:‏ لقد أهديت للعزى شاة عفراء، وأنا على دين قومي‏.‏ وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول‏:‏ واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى‏!‏ فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لتُرْتَجَى‏!‏ كانوا يقولون‏:‏ بنات الله عز وجل عن ذلك‏، وهن يشفعن إليه‏" فثم طائفة من الأسئلة تنبثق فى الذهن على التو وتريد جوابا، وهى: بَلَغَه عَمَّنْ؟ ومن روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف قاله رسول الله بهذه البساطة؟ وكيف لم يثر ذلك الكلام استغراب أحد من الصحابة؟ ثم متى قدّم رسول الله الشاة؟ وفى أية ظروف كان ذلك؟ ومن كان معه؟ ولماذا لم يَرْوِها إذن صاحبه الذى كان معه؟ ولم سكتت قريش فلم تعيّره بهذا حين نزل القرآن يهاجمهم ويهاجم اللات والعزى ومناة وغيرها من الأوثان، ويحمل حملة شعواء على الأكل مما ذُبِح لتك الأوثان على النُّصُب؟
    وأرجو من القارئ أن يتمعن النص التالى، والكلام فى أوله وفى آخره لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: "قد كان نفر من قريش: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وعثمان بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، وعبد الله بن جحش بن رئاب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم حليف بني أمية، حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم. فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض، قالوا: تصادقوا، وليكتم بعضكم على بعض. فقال قائلهم: تعلمون والله ما قومكم على شيء. لقد أخطأوا دين إبراهيم عليه السلام وخالفوه. ما وثنٌ يُعْبَد لا يضر ولا ينفع؟ فابتغوا لأنفسكم. فخرجوا يطلبون ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل الكتاب من اليهود والنصارى والملل كلها. فأما ورقة بن نوفل فتنصر، فاستحكم في النصرانية، واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب. فلم يكن فيهم أعدل أمرا ولا أعدل شأنا من زيد بن عمرو بن نفيل: اعتزل الأوثان وفارق الأديان من اليهود والنصارى والملل كلها إلا دين إبراهيم. يوحد الله عز وجل ويخلع مَنْ دونه، ولا يأكل ذبائح قومه. باداهم بالفراق لما هم فيه.
    ... عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري. ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته.
    ... عن ابن اسحق قال: حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل أن زيدا كان إذا دخل الكعبة قال: لبيك حقا حقا، تعبُّدًا ورِقًّا. عذت بما عاذ به إبراهيم وهو قائم، إذ قال: أنفي لك عانٍ راغم. مهما تجشمني فإني جاشم. البِرَّ أبغي لا الخال (يقول: لا الفخر). ليس مُهَجِّرٌ كمن قال.
    ... عن ابن اسحق قال: حدثني هشام بن عروة قال: رواني عروة بن الزبير أن زيد بن عمرو بن نفيل قال:
    أربًّا واحدا أم ألفَ ربٍّ أدينُ إذا تقسمت الأمورُ؟
    عزلت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الجلد الصبور
    فلا العزى أدين ولا ابنتيها ولا صنمَيْ بني عمرو أزور
    ولا غنما أدين وكان ربًّا لنا في الدهر إذ حلمي يسير
    عجبت، وفي الليالي معجبات وفي الأيام يعرفها البصير
    بأن الله قد أفنى رجالا كثيرًا كان شأنهم الفجور
    وأبقى آخرين ببر قوم فيربك منهم الطفل الصغير
    وبينا المرء يعثر ثاب يومًا كما يتروّح الغصن المطير
    ... عن ابن اسحق قال: وقال زيد بن عمرو بن نفيل أيضا:
    وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ له الأرض تحمل صخرًا ثقالا
    وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ له المزن تحمل عذبا زلالا
    إذا هي سيقت إلى بلدة أطاعت فصبت عليها سجالا
    وأسلمتُ وجهي لمن أسلمتْ له الريح تُصْرَف حالا فحالا
    ... عن ابن اسحق قال: وكان الخطاب بن نفيل قد آذى زيد بن عمرو بن نفيل حتى خرج عنه إلى أعلى مكة، فنزل حراء، مقابل مكة، ووكل به الخطاب شبابا من شباب قريش وسفهاء من سفائهم، فقال: لا تتركوه يدخل مكة. فكان لا يدخلها إلا سرا منهم. فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب، فأخرجوه وآذَوْه كراهية أن يفسد عليهم دينهم وأن يتابعه أحد منهم على فراقهم. وكان الخطاب عم زيد وأخاه لأمه، فكان يعاتبه على فراق دين قومه حتى آذاه. فقال زيد بن عمرو وهو يعظم حرمته على من استحل من قومه ما استحل:
    اللهم إنى محرم لا أحله * وإن بيتى أوسط المحلة
    عند الصفا ليس بذى مظلة
    ... عن ابن اسحق قال: فحُدِّثْتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدِّث عن زيد بن عمرو بن نفيل: إنْ كان لأول من عاب علي الأوثان، ونهاني عنها. أقبلت من الطائف ومعي زيد بن حارثة حتى مررت بزيد بن عمرو وهو بأعلى مكة، وكانت قريش قد شهرته بفراق دينها حتى خرج من بين أظهرهم، وكان بأعلى مكة، فجلست إليه ومعي سفرة لي فيها لحم يحملها زيد بن حارثة من ذبائحنا على أصنامنا، فقربتها له، وأنا إلام شاب، فقلت: كل من هذا الطعام أَيْ عَمِّ. قال: فلعلها، أي ابن أخي، من ذبائحكم هذه التي تذبحون لأوثانكم؟ فقلت: نعم. فقال: أما إنك يا ابن أخي لو سألت بنات عبد المطلب أخبرنك أني لا آكل هذه الذبائح، فلا حاجة لي بها. ثم عاب على الأوثان ومن يعبدها ويذبح لها، وقال: إنما هي باطل لا تضر ولا تنفع، أو كما قال. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما تحسستُ بوثن منها بعد ذلك على معرفة بها، ولا ذبحتُ لها حتى أكرمني الله عز وجل برسالته صلى الله عليه وسلم.
    ... عن المسعودي عن نفيل بن هشام عن أبيه قال: مر زيد بن نفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى زيد بن حارثة، فدعواه إلى سفرة لهما، فقال زيد: يا ابن أخي، إني لا آكل ما ذُبِح على النُّصُب. قال: فما رُئِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم يأكل شيئا ذبح على النصب.
    ... عن ابن اسحق قال: وقد كان زيد أجمع على الخروج من مكة يضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم، فكانت امرأته صفية ابنة الحضرمي كلما أبصرته قد نهض إلى الخروج وأراده آذنت به الخطاب بن نفيل. فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الأول دين إبراهيم ويسأل عنه. فلم يزل في ذلك حتى أتى الموصل أو الجزيرة كلها، ثم أقبل حتى أتى الشام فجال فيها حتى أتى الموصل أو الجزيرة كلها، ثم أقبل حتى أتى راهيا انتهى إليه علم النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحيفية دين إبراهيم، فقال الراهب: إنك لتسأل عن دينٍ لستَ بواجد من يحملك عليه اليوم. لقد درس علمه، وذهب من يعرفه، ولكنه قد أظلك خروج نبي يُبْعَث بأرضك التي خرجت منها بدين إبراهيم الحنيفية، فعليك ببلادك فإنه مبعوث الآن. هذا زمانه. وقد كان شامَ اليهوديةَ والنصرانيةَ، فلم يرض شيئا منهما، فخرج سريعا حين قال له الراهب ما قال، يريد مكة. حتى إذا كان بأرض لخم عَدَوْا عليه فقتلوه...
    عن ابن أسحق قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، أو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن عمر بن الخطاب وسعيد ابن زيد قالا: يا رسول الله، نستغفر لزيد؟ فقال: نعم، فاستغفروا له، فإنه يُبْعَث أمة وحده... عن المسعودي عن نفيل بن هشام عن أبيه أن جده سعيد بن زيد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه وزيد بن عمرو فقال: يا رسول الله، إن أبي زيد بن عمرو كان كما رأيت وكما بلغك. فلو أدركك آمن بك. أفأستغفر له؟ قال: نعم، فاستغفرْ له، فإنه يجيء يوم القيامة أمة وحده. وكان، فيما ذكروا، يطلب الدين فمات وهو في طلبه". وليس فى كلام سعيد بن زيد ما يشى، ولو على سبيل التوهم، بأنه كان فى ذهنه أىّ شىء عن تناول رسول الله قبل البعثة طعاما من لحوم الأنصاب، بل بالعكس نرى سعيدا وهو يحاول نيل رضا الرسول على أبيه لأنه تُوُفِّىَ قبل بعثة النبى عليه السلام فلم يكتب له الدخول فى دين الله. ولو كان الأمر كما فهم سام شمعون من أكل النبى من ذبيحة الأنصاب ورفْض زيد لها لما كانت بسعيد بن زيد حاجة إلى طلب الاستغفار من النبى لأبيه، إذ إن أباه فى هذه الحالة قد عرف طريقه إلى الهدى لا يُعْوِزه دعاءٌ ولا ترضٍّ من أحد، بل لما دخل سعيد فى الإسلام أصلا ويعرض نفسه للأذى والإهانة والخوف والتخفى بدينه الجديد وهو يرى أباه قد سبق النبى فى هذه الأمور!
    ونفس الشىء قل فى طواف النبى حول الكعبة وسعيه بين الصفا والمروة قبل مبعثه، فإنه لم يكن يعتقد فى الأصنام والأوثان، بل كان يتقرب إلى الله. ولم يكن ثم معبد آنذاك فى مكة يخلو من الاصنام والأوثان حتى يستغنى به الرسول عن البيت الحرام. ولو ترك الطواف حول الكعبة والسعى بين الصفاوالمروة لهذا الاعتبار لما كان مستطيعا أن يؤدى شعيرة. والعبرة بالنية والتوجه كما قلنا ونقول. ولم يكن محمد وحده من بين من لا يؤمنون بالأصنام والأوثان يصنع ذلك، بل كان يصنعه كذلك على سبيل المثال زيد بن عمرو بن نفيل، الذى يظن شمعون أنه قادر على النيل من رسول الله بمقارنته به. فعن أسماء بنت أبى بكر: "لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري. ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحته". وعن بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل أن "زيدا كان إذا دخل الكعبة قال: لبيك حقا حقا، تعبُّدا ورِقًّا. عذت بما عاذ به إبراهيم وهو قائم، إذ قال: أنفي لك عانٍ راغم. مهما تجشِّمني فإني جاشم. البِرَّ أبغي لا الخال (أى لا الفخر). ليس مهجِّرٌ كمن قال".
    كما كان يصنعه ورقة أيضا. وقد أورد سام شمعون ذاته خبرا من سيرة ابن إسحاق، وهو مجرد مثال، يقول إن ورقة قد لقى النبى وهو يطوف حول الكعبة، أى أن ورقة كان يطوف بها هو أيضا، فدار بينهما ما دار من حوار. فهل كان ورقة وثنيا؟ بالطبع كلا ثم كلا ألف مرة! لقد بُنِيَت الكعبة لعبادة الله الواحد الأحد، وكان الطواف حولها والسعى بين الصفا والمروة جزءا من العبادة التوحيدية منذ أقام بنايتها إبراهيم وإسماعيل. ثم جاء الوثنيون فنصبوا بها الأوثان والأصنام، فهى إذن بريئة من هذه وتلك، ولا تثريب على من يعبد الله فيها مخلصا له الدين. إنما التثريب والملامة على من يشرك بالله شيئا من تلك الأصنام والأوثان حتى لو لم يطف بالكعبة أو يَسْعَ بين الصفا والمروة. المشكلة إذن فى الأصنام والأوثان والاعتقاد فيها وإشراكها بالله سبحانه عز شأنه، وما عدا هذا فهو من الشعائر التوحيدية القديمة كما وضحنا، فلا داعى للتنطع والنفاق الثقيل الظل.
    وبالمناسبة لقد كان المسيح عليه السلام يتردد على هيكل بيت المقدس ويؤدى فيه شعائر العبادة بوصفه واحدا من بنى إسرائيل رغم أن اليهود كانوا يدنسونه بتجارتهم ورباهم ومؤامراتهم ونفاقهم ويبيعون فيه الحمام، فضلا عن تحويلهم إياه مغارة لصوص كما أكد عيسى بن مريم عليه السلام حسب رواية الإنجيل المنسوب إلى مرقس فى الإصحاح الحادى عشر... إلى أن نهرهم عيسى عليه السلام وطردهم خارجه، وإن عادت الأمور بعد قليل إلى ما كانت عليه سابقا: "15وَجَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ الْهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَّبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ. 16وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَجْتَازُ الْهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. 17وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلا لَهُمْ:«أَلَيْسَ مَكْتُوبًا: بَيْتِي بَيْتَ صَلاَةٍ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ». 18وَسَمِعَ الْكَتَبَةُ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ فَطَلَبُوا كَيْفَ يُهْلِكُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوهُ، إِذْ بُهِتَ الْجَمْعُ كُلُّهُ مِنْ تَعْلِيمِهِ". كما أن الشيطان قد اعتلى الهيكل مرة على الأقل، وذلك حين أراد تجربة المسيح لمعرفة مدى إيمانه بربه سبحانه وتعالى طبقا لما كتبه متى فى الإصحاح الرابع من إنجيله: "5ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، 6وَقَالَ لَهُ:«إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ»".
    وكان تلاميذالمسيح قد رَأَوْا بعد تركه الدنيا أن الهيكل لا يليق بأن يجتمعوا فيه، فكيف ينبغى، بناء على طريقة سام شمعون، أن نحكم على تردده هو عليه، وهو السيد، وهم التلاميذ؟ ولنقرأ هذه الفقرة القصيرة من مادة "هيكل" فى "دائرة المعارف الكتابية": "بعد صعود الرب يسوع المسيح بدأ الرسل والتلاميذ يجتمعون فى الهيكل فى أورشليم (أع 2: 46، 3: 1- 10، 5: 12، 20 و24 و42). ولكن يتضح من حديث إستفانوس أنهم أدركوا أن الإيمان بالمسيح لا يتفق مع النظام الذي يعبر عنه الهيكل اليهودي (أع 6: 11- 15، 7: 48- 50). فنجد التلاميذ بعد ذلك مجتمعين فى بيت مريم أم يوحنا الملقب: مرقس، للصلاة من أجل بطرس (أع 12: 13)". والآن هل يلام المسيح على تردده على الهيكل للعبادة؟ أم هل يُنْظَر إلى عمله حسب نيته ومقصده؟
    وقبل هذا جاءت على الهيكل أوقات نُصِبَ فيه كثير من الأصنام والأوثان كما تبين النصوص التالية من الإصحاحين الحادى والعشرين والثالث والعشرين من سفر "الملوك الثانى"، والثالث والثلاثين من سفر "الأيام الثانى"، والثامن من سفر "حزقيال"، وهى مجرد أمثلة ليس إلا. فهل صيرت هذه الأصنام الهيكل معبدا وثنيا؟ كلا، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى، بل الذى يبوء بالإثم هو من أدخل الوثنية إلى هيكل الرب، ذلك الهيكل الذى أوجب الله سبحانه على عباده المؤمنين أن يبعدوا عنه كل صنم ووثن، وأن يبقوه معبدا توحيديا خاصا به جل وعز، تماما مثلما الأمر بالنسبة إلى البيت الحرام، وكذلك يبوء بالإثم من كان يعبد تلك الأوثان. وهذه هى النصوص على التوالى: "1كَانَ مَنَسَّى ابْنَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ، وَاسْمُ أُمِّهِ حَفْصِيبَةُ. 2وَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ حَسَبَ رَجَاسَاتِ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. 3وَعَادَ فَبَنَى الْمُرْتَفَعَاتِ الَّتِي أَبَادَهَا حَزَقِيَّا أَبُوهُ، وَأَقَامَ مَذَابحَ لِلْبَعْلِ، وَعَمِلَ سَارِيَةً كَمَا عَمِلَ أَخْآبُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ، وَسَجَدَ لِكُلِّ جُنْدِ السَّمَاءِ وَعَبَدَهَا. 4وَبَنَى مَذَابحَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ الَّذِي قَالَ الرَّبُّ عَنْهُ: «فِي أُورُشَلِيمَ أَضَعُ اسْمِي». 5وَبَنَى مَذَابحَ لِكُلِّ جُنْدِ السَّمَاءِ فِي دَارَيْ بَيْتِ الرَّبِّ. 6وَعَبَّرَ ابْنَهُ فِي النَّارِ، وَعَافَ وَتَفَاءَلَ وَاسْتَخْدَمَ جَانًّا وَتَوَابعَ، وَأَكْثَرَ عَمَلَ الشَّرِّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ لإِغَاظَتِهِ. 7وَوَضَعَ تِمْثَالَ السَّارِيَةِ الَّتِي عَمِلَ، فِي الْبَيْتِ الَّذِي قَالَ الرَّبُّ عَنْهُ لِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ابْنِهِ: «فِي هذَا الْبَيْتِ وَفِي أُورُشَلِيمَ، الَّتِي اخْتَرْتُ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ، أَضَعُ اسْمِي إِلَى الأَبَدِ. 8وَلاَ أَعُودُ أُزَحْزِحُ رِجْلَ إِسْرَائِيلَ مِنَ الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُ لآبَائِهِمْ، وَذلِكَ إِذَا حَفِظُوا وَعَمِلُوا حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَيْتُهُمْ بِهِ، وَكُلَّ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَمَرَهُمْ بِهَا عَبْدِي مُوسَى». 9فَلَمْ يَسْمَعُوا، بَلْ أَضَلَّهُمْ مَنَسَّى لِيَعْمَلُوا مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ".
    "4وَأَمَرَ الْمَلِكُ (يُوشِيَّا) حِلْقِيَّا الْكَاهِنَ الْعَظِيمَ، وَكَهَنَةَ الْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ، وَحُرَّاسَ الْبَابِ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ هَيْكَلِ الرَّبِّ جَمِيعَ الآنِيَةِ الْمَصْنُوعَةِ لِلْبَعْلِ وَلِلسَّارِيَةِ وَلِكُلِّ أَجْنَادِ السَّمَاءِ، وَأَحْرَقَهَا خَارِجَ أُورُشَلِيمَ فِي حُقُولِ قَدْرُونَ، وَحَمَلَ رَمَادَهَا إِلَى بَيْتِ إِيلَ. 5وَلاَشَى كَهَنَةَ الأَصْنَامِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ مُلُوكُ يَهُوذَا لِيُوقِدُوا عَلَى الْمُرْتَفَعَاتِ فِي مُدُنِ يَهُوذَا وَمَا يُحِيطُ بِأُورُشَلِيمَ، وَالَّذِينَ يُوقِدُونَ: لِلْبَعْلِ، لِلشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالْمَنَازِلِ، وَلِكُلِّ أَجْنَادِ السَّمَاءِ. 6وَأَخْرَجَ السَّارِيَةَ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ خَارِجَ أُورُشَلِيمَ إِلَى وَادِي قَدْرُونَ وَأَحْرَقَهَا فِي وَادِي قَدْرُونَ، وَدَقَّهَا إِلَى أَنْ صَارَتْ غُبَارًا، وَذَرَّى الْغُبَارَ عَلَى قُبُورِ عَامَّةِ الشَّعْبِ. 7وَهَدَمَ بُيُوتَ الْمَأْبُونِينَ الَّتِي عِنْدَ بَيْتِ الرَّبِّ حَيْثُ كَانَتِ النِّسَاءُ يَنْسِجْنَ بُيُوتًا لِلسَّارِيَةِ".
    "1كَانَ مَنَسَّى ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ. 2وَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ حَسَبَ رَجَاسَاتِ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. 3وَعَادَ فَبَنَى الْمُرْتَفَعَاتِ الَّتِي هَدَمَهَا حَزَقِيَّا أَبُوهُ، وَأَقَامَ مَذَابحَ لِلْبَعْلِيمِ، وَعَمِلَ سَوَارِيَ وَسَجَدَ لِكُلِّ جُنْدِ السَّمَاءِ وَعَبَدَهَا. 4وَبَنَى مَذَابحَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ الَّذِي قَالَ عَنْهُ الرَّبُّ: «فِي أُورُشَلِيمَ يَكُونُ اسْمِي إِلَى الأَبَدِ». 5وَبَنَى مَذَابحَ لِكُلِّ جُنْدِ السَّمَاءِ فِي دَارَيْ بَيْتِ الرَّبِّ. 6وَعَبَّرَ بَنِيهِ فِي النَّارِ فِي وَادِي ابْنِ هِنُّومَ، وَعَافَ وَتَفَاءَلَ وَسَحَرَ، وَاسْتَخْدَمَ جَانًّا وَتَابِعَةً، وَأَكْثَرَ عَمَلَ الشَّرِّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ لإِغَاظَتِهِ. 7وَوَضَعَ تِمْثَالَ الشَّكْلِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي بَيْتِ اللهِ الَّذِي قَالَ اللهُ عَنْهُ لِدَاوُدَ وَلِسُلَيْمَانَ ابْنِهِ: «فِي هذَا الْبَيْتِ وَفِي أُورُشَلِيمَ الَّتِي اخْتَرْتُ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ أَضَعُ اسْمِي إِلَى الأَبَدِ. 8وَلاَ أَعُودُ أُزَحْزِحُ رِجْلَ إِسْرَائِيلَ عَنِ الأَرْضِ الَّتِي عَيَّنْتُ لآبَائِهِمْ، وَذلِكَ إِذَا حَفِظُوا وَعَمِلُوا كُلَّ مَا أَوْصَيْتُهُمْ بِهِ، كُلَّ الشَّرِيعَةِ وَالْفَرَائِضِ وَالأَحْكَامِ عَنْ يَدِ مُوسَى». 9وَلكِنْ مَنَسَّى أَضَلَّ يَهُوذَا وَسُكَّانَ أُورُشَلِيمَ لِيَعْمَلُوا أَشَرَّ مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. 10وَكَلَّمَ الرَّبُّ مَنَسَّى وَشَعْبَهُ فَلَمْ يُصْغُوا. 11فَجَلَبَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ رُؤَسَاءَ الجُنْدِ الَّذِينَ لِمَلِكِ أَشُّورَ، فَأَخَذُوا مَنَسَّى بِخِزَامَةٍ وَقَيَّدُوهُ بِسَلاَسِلِ نُحَاسٍ وَذَهَبُوا بِهِ إِلَى بَابِلَ. 12وَلَمَّا تَضَايَقَ طَلَبَ وَجْهَ الرَّبِّ إِلهِهِ، وَتَوَاضَعَ جِدًّا أَمَامَ إِلهِ آبَائِهِ، 13وَصَلَّى إِلَيْهِ فَاسْتَجَابَ لَهُ وَسَمِعَ تَضَرُّعَهُ، وَرَدَّهُ إِلَى أُورُشَلِيمَ إِلَى مَمْلَكَتِهِ. فَعَلِمَ مَنَسَّى أَنَّ الرَّبَّ هُوَ اللهُ. 14وَبَعْدَ ذلِكَ بَنَى سُورًا خَارِجَ مَدِينَةِ دَاوُدَ غَرْبًا إِلَى جِيحُونَ فِي الْوَادِي، وَإِلَى مَدْخَلِ بَابِ السَّمَكِ، وَحَوَّطَ الأَكَمَةَ بِسُورٍ وَعَلاَّهُ جِدًّا. وَوَضَعَ رُؤَسَاءَ جُيُوشٍ فِي جَمِيعِ الْمُدُنِ الْحَصِينَةِ فِي يَهُوذَا. 15وَأَزَالَ الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ وَالأَشْبَاهَ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ، وَجَمِيعَ الْمَذَابِحِ الَّتِي بَنَاهَا فِي جَبَلِ بَيْتِ الرَّبِّ وَفِي أُورُشَلِيمَ، وَطَرَحَهَا خَارِجَ الْمَدِينَةِ. 16وَرَمَّمَ مَذْبَحَ الرَّبِّ وَذَبَحَ عَلَيْهِ ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ وَشُكْرٍ، وَأَمَرَ يَهُوذَا أَنْ يَعْبُدُوا الرَّبَّ إِلهَ إِسْرَائِيلَ. 17إِلاَّ أَنَّ الشَّعْبَ كَانُوا بَعْدُ يَذْبَحُونَ عَلَى الْمُرْتَفَعَاتِ، إِنَّمَا لِلرَّبِّ إِلهِهِمْ. 18وَبَقِيَّةُ أُمُورِ مَنَسَّى وَصَلاَتُهُ إِلَى إِلهِهِ، وَكَلاَمُ الرَّائِينَ الَّذِينَ كَلَّمُوهُ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ، هَا هِيَ فِي أَخْبَارِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ. 19وَصَلاَتُهُ وَالاسْتِجَابَةُ لَهُ، وَكُلُّ خَطَايَاهُ وَخِيَانَتُهُ وَالأَمَاكِنُ الَّتِي بَنَى فِيهَا مُرْتَفَعَاتٍ وَأَقَامَ سَوَارِيَ وَتَمَاثِيلَ قَبْلَ تَوَاضُعِهِ، هَا هِيَ مَكْتُوبَةٌ فِي أَخْبَارِ الرَّائِينَ. 20ثُمَّ اضْطَجَعَ مَنَسَّى مَعَ آبَائِهِ فَدَفَنُوهُ فِي بَيْتِهِ، وَمَلَكَ آمُونُ ابْنُهُ عِوَضًا عَنْهُ".
    21كَانَ آمُونُ ابْنَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ سَنَتَيْنِ فِي أُورُشَلِيمَ. 22وَعَمِلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ كَمَا عَمِلَ مَنَسَّى أَبُوهُ، وَذَبَحَ آمُونُ لِجَمِيعِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي عَمِلَ مَنَسَّى أَبُوهُ وَعَبَدَهَا. 23وَلَمْ يَتَوَاضَعْ أَمَامَ الرَّبِّ كَمَا تَوَاضَعَ مَنَسَّى أَبُوهُ، بَلِ ازْدَادَ آمُونُ إِثْمًا. 24وَفَتَنَ عَلَيْهِ عَبِيدُهُ وَقَتَلُوهُ فِي بَيْتِهِ. 25وَقَتَلَ شَعْبُ الأَرْضِ جَمِيعَ الْفَاتِنِينَ عَلَى الْمَلِكِ آمُونَ، وَمَلَّكَ شَعْبُ الأَرْضِ يُوشِيَّا ابْنَهُ عِوَضًا عَنْهُ".
    "1وَكَانَ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، فِي الشَّهْرِ السَّادِسِ، فِي الْخَامِسِ مِنَ الشَّهْرِ، وَأَنَا جَالِسٌ فِي بَيْتِي، وَمَشَايِخُ يَهُوذَا جَالِسُونَ أَمَامِي، أَنَّ يَدَ السَّيِّدِ الرَّبِّ وَقَعَتْ عَلَيَّ هُنَاكَ. 2فَنَظَرْتُ وَإِذَا شِبْهٌ كَمَنْظَرِ نَارٍ، مِنْ مَنْظَرِ حَقْوَيْهِ إِلَى تَحْتُ نَارٌ، وَمِنْ حَقْوَيْهِ إِلَى فَوْقُ كَمَنْظَرِ لَمَعَانٍ كَشِبْهِ النُّحَاسِ اللاَّمِعِ. 3وَمَدَّ شِبْهَ يَدٍ وَأَخَذَنِي بِنَاصِيَةِ رَأْسِي، وَرَفَعَنِي رُوحٌ بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَأَتَى بِي فِي رُؤَى اللهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى مَدْخَلِ الْبَابِ الدَّاخِلِيِّ الْمُتَّجِهِ نَحْوَ الشِّمَالِ، حَيْثُ مَجْلِسُ تِمْثَالِ الْغَيْرَةِ، الْمُهَيِّجِ الْغَيْرَةِ. 4وَإِذَا مَجْدُ إِلهِ إِسْرَائِيلَ هُنَاكَ مِثْلُ الرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتُهَا فِي الْبُقْعَةِ. 5ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ، ارْفَعْ عَيْنَيْكَ نَحْوَ طَرِيقِ الشِّمَالِ». فَرَفَعْتُ عَيْنَيَّ نَحْوَ طَرِيقِ الشِّمَالِ، وَإِذَا مِنْ شِمَالِيِّ بَابِ الْمَذْبَحِ تِمْثَالُ الْغَيْرَةِ هذَا فِي الْمَدْخَلِ. 6وَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ مَا هُمْ عَامِلُونَ؟ الرَّجَاسَاتِ الْعَظِيمَةَ الَّتِي بَيْتُ إِسْرَائِيلَ عَامِلُهَا هُنَا لإِبْعَادِي عَنْ مَقْدِسِي. وَبَعْدُ تَعُودُ تَنْظُرُ رَجَاسَاتٍ أَعْظَمَ». 7ثُمَّ جَاءَ بِي إِلَى بَابِ الدَّارِ، فَنَظَرْتُ وَإِذَا ثَقْبٌ فِي الْحَائِطِ. 8ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا ابْنَ آدَمَ، انْقُبْ فِي الْحَائِطِ». فَنَقَبْتُ فِي الْحَائِطِ، فَإِذَا بَابٌ. 9وَقَالَ لِي: «ادْخُلْ وَانْظُرِ الرَّجَاسَاتِ الشِّرِّيرَةَ الَّتِي هُمْ عَامِلُوهَا هُنَا». 10فَدَخَلْتُ وَنَظَرْتُ وَإِذَا كُلُّ شَكْلِ دَبَّابَاتٍ وَحَيَوَانٍ نَجِسٍ، وَكُلُّ أَصْنَامٍ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ، مَرْسُومَةٌ عَلَى الْحَائِطِ عَلَى دَائِرِهِ. 11وَوَاقِفٌ قُدَّامَهَا سَبْعُونَ رَجُلا مِنْ شُيُوخِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ، وَيَازَنْيَا بْنُ شَافَانَ قَائِمٌ فِي وَسْطِهِمْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِجْمَرَتُهُ فِي يَدِهِ، وَعِطْرُ عَنَانِ الْبَخُورِ صَاعِدٌ. 12ثُمَّ قَالَ لِي: «أَرَأَيْتَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا تَفْعَلُهُ شُيُوخُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ فِي الظَّلاَمِ، كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَخَادِعِ تَصَاوِيرِهِ؟ لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الرَّبُّ لاَ يَرَانَا! الرَّبُّ قَدْ تَرَكَ الأَرْضَ!». 13وَقَالَ لِي: «بَعْدُ تَعُودُ تَنْظُرُ رَجَاسَاتٍ أَعْظَمَ هُمْ عَامِلُوهَا». 14فَجَاءَ بِي إِلَى مَدْخَلِ بَابِ بَيْتِ الرَّبِّ الَّذِي مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ، وَإِذَا هُنَاكَ نِسْوَةٌ جَالِسَاتٌ يَبْكِينَ عَلَى تَمُّوزَ. 15فَقَالَ لِي: «أَرَأَيْتَ هذَا يَا ابْنَ آدَمَ؟ بَعْدُ تَعُودُ تَنْظُرُ رَجَاسَاتٍ أَعْظَمَ مِنْ هذِهِ».16فَجَاءَ بِي إِلَى دَارِ بَيْتِ الرَّبِّ الدَّاخِلِيَّةِ، وَإِذَا عِنْدَ بَابِ هَيْكَلِ الرَّبِّ، بَيْنَ الرِّوَاقِ وَالْمَذْبَحِ، نَحْوُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلا ظُهُورُهُمْ نَحْوَ هَيْكَلِ الرَّبِّ وَوُجُوهُهُمْ نَحْوَ الشَّرْقِ، وَهُمْ سَاجِدُونَ لِلشَّمْسِ نَحْوَ الشَّرْقِ. 17وَقَالَ لِي: «أَرَأَيْتَ يَا ابْنَ آدَمَ؟ أَقَلِيلٌ لِبَيْتِ يَهُوذَا عَمَلُ الرَّجَاسَاتِ الَّتِي عَمِلُوهَا هُنَا؟ لأَنَّهُمْ قَدْ مَلأُوا الأَرْضَ ظُلْمًا وَيَعُودُونَ لإِغَاظَتِي، وَهَا هُمْ يُقَرِّبُونَ الْغُصْنَ إِلَى أَنْفِهِمْ. 18فَأَنَا أَيْضًا أُعَامِلُ بِالْغَضَبِ، لاَ تُشْفُقُ عَيْنِي وَلاَ أَعْفُو. وَإِنْ صَرَخُوا فِي أُذُنَيَّ بِصَوْتٍ عَال لاَ أَسْمَعُهُمْ»".
    ترى هل كان الهيكل مهجورا طوال ذلك من قبل المؤمنين فلا يؤمّه إلا الوثنيون؟ هذا ما لا يمكن أن يكون، وإلا كان معنى ذلك أنه لم يعد ثم مؤمنون أو كان ثم مؤمنون لكنهم لم يكونوا يؤدون لله حق العبادة. الواقع أن المؤمنين كانوا يؤمونه هم أيضا لتأدية شعائر العبادة لربهم رغم وجود الأوثان بداخله كما شاهدنا. فهل نقول إن عبادة المؤمنين فى هذه الحالة وثنية؟ بالطبع كلا. إذن إلام يرمى سام شمعون بسخافاته تلك؟
    ومما يدل على أن العبرة بالنية والتوجه هذه السطور التى ننقلها من الإنجيل الذى ألفه متى، إذ نقرأ فى مفتتح الإصحاح السادس: "1«اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 2فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 3وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، 4لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 5«وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 6وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 7وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلا كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. 8فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ... 16«وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. 17وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، 18لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً". فها هو ذا السيد المسيح يؤكد أن صلاة اليهود وصيامهم غير مقبولين رغم أنهما لم يكونا يؤدَّيان لصنم ولا لوثن، إذ النية فيهما غير خالصة لوجه الله سبحانه.
    كذلك كان بنو إسرائيل يأخذون على السيد المسيح امتزاجه بالعَشّارين والخطاة، لكنه لم يكن يرى بهذا بأسا، إذ كانت نيته طيبة، وهى العمل على هدايتهم، فلهذا كان رأيه مختلفا تماما عما يَرَوْن: ":«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ الْعَشَّارِينَ وَالزَّوَانِيَ يَسْبِقُونَكُمْ إِلَى مَلَكُوتِ اللهِ، 32لأَنَّ يُوحَنَّا جَاءَكُمْ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَلَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ، وَأَمَّا الْعَشَّارُونَ وَالزَّوَاني فَآمَنُوا بِهِ. وَأَنْتُمْ إِذْ رَأَيْتُمْ لَمْ تَنْدَمُوا أَخِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِهِ". كما انتقدوه هو وتلاميذه لعدم مراعاتهم شعيرة السبت، فأفحمهم بأن السبت إنما شُرِع للإنسان لا الإنسان للسبت، طبقا لما سجله متى فى الإصحاح الثانى عشر من الإنجيل الذى وضعه: "1فِي دلِكَ الْوَقْتِ ذَهَبَ يَسُوعُ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ، فَجَاعَ تَلاَمِيذُهُ وَابْتَدَأُوا يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ. 2فَالْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا نَظَرُوا قَالُوا لَهُ:«هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السَّبْتِ!» 3فَقَالَ لَهُمْ:«أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ 4كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ، بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ. 5أَوَ مَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟ 6وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ههُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ! 7فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ! 8فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا».9ثُمَّ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ وَجَاءَ إِلَى مَجْمَعِهِمْ، 10وَإِذَا إِنْسَانٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ، فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ:«هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السُّبُوتِ؟» لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ. 11فَقَالَ لَهُمْ:«أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ يَكُونُ لَهُ خَرُوفٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ سَقَطَ هذَا فِي السَّبْتِ فِي حُفْرَةٍ، أَفَمَا يُمْسِكُهُ وَيُقِيمُهُ؟ 12فَالإِنْسَانُ كَمْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْخَرُوفِ! إِذًا يَحِلُّ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي السُّبُوتِ!» 13ثُمَّ قَالَ لِلإِنْسَانِ:«مُدَّ يَدَكَ». فَمَدَّهَا. فَعَادَتْ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى". وهذا ما نقوله، إذ المهم النية. قال رسولنا الكريم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى". ومن هنا باء المنافقون فى عهده بغضب المولى عز شأنه رغم أنهم كانوا يصلون ويصومون ويشهدون ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصنعون كل شىء كما يصنع المؤمنون، ويتحدثون بذات الكلام الذى يتحدث به المؤمنون. وفى ذات الوقت بشر الله سبحانه وتعالى بالنجاة من اضْطُرَّ إلى إعلان الكفر به جل شأنه تحت ضغط معذبيه من الكفار ما دام قلبه منطويا على الإيمان به جل جلاله.
    أما الأشهر الحرم، التى يقول سام شمعون إنها من أوضاع الجاهلية، فلا أدرى ما المشكلة فيها؟ أكان على الإسلام أن يعارض كل ما كان قائما فى المجتمع العربى آنذاك حتى لو كان أمرا نافعا طيبا كالأشهر الحرم؟ لقد كانت تلك الأشهر فرصة يلتقط فيها العرب أنفاسهم من الاقتتال المدمر الذى كان يحتدم بينهم لأتفه الأسباب. أفإن جاء الإسلام ووجد هذا النظام الجميل (الذى من الممكن أن يكون مرجعه إلى ديانة إبراهيم وإسماعيل أو دين أحد آخر من أنبياء العرب) أيقول لذلك النظام: كلا لا نريدك، وليبق العرب يحتربون دون هوادة ودون أن تكون هناك نسمة ملطفة تخفف من حر هذا الجحيم الحربى؟ وسواء كانت الأشهر الحرم اختراعا عربيا صرفا أو كانت جزءا من تشريعات ديانة من الديانات إنها لعبقرية من عبقريات الإسلام أن يحافظ على هذا التقليد العظيم و لا يرفسه كما يصنع الأغبياء الذين لا يريدون أن يبقى شىء من النظام القديم مهما بانت صحته وجدواه. لقد كان العرب يأكلون ويشربون ويتزاوجون ويعبدون الله ويسافرون ويتاجرون ويَرْعَوْن ويزرعون ويتضايفون ويتعاونون ويتحالفون ويكرم بعضهم بعضا، فهل كان واجبا على الإسلام أن يرفض كل ذلك لا لشىء إلا لأن العرب كانوا يفعلونه؟ هنا تظهر العبقرية الإسلامية: فما كان صالحا بوضعه القائم أبقاه الإسلام كما هو، وما كان بحاجة إلى مراجعةٍ راجعه الإسلام، وما كان يمترج فيه الصواب والخطأ، والهدى والضلال، نقاه الإسلام من الخطإ ونفى عنه الضلالة واستغله بعد هذا على خير وجه. وعلى كل حال أريد أن أسأل العقلاء: ما وجه الوثنية فى الأشهر الحرم؟ أويريد الله لعباده أن يظلوا يتحاربون حتى يفنى بعضهم بعضا دون أدنى هوادة أو استراحة؟ افإن وجد الرب عباده وقد فاؤوا إلى السلام أربعة أشهر فى العام غضب عليهم وسخط واغتاظ منهم وكرههم؟ لكن لماذا؟ أهو إله حرب وعدوان لا يرتوى من الدماء؟ إن مثل هذا الإله لا يمكن أن يكون هو إله الإسلام الرحمن الرحيم.
    أما الطواف حول الكعبة والسعى بين الصفا والمروة سبع مرات فهذا مأخوذ من شريعة إبراهيم، وهو من الأمور التى احتفظ بها العرب لم يغيروها رغم تطاول الزمان. ومن التنطع الفاسد الذى لا معنى له ولا طعم ولا لون ولا رائحة أن يتساءل سام شمعون: ولماذا سَبْعٌ؟ وهو سؤال لن ننتهى منه إلى الأبد مهما غيرنا العدد فجعلناه ستا أو ثمانى أو أربعا أو عشرا أو ثلاثا أو عشرين أو مائة، إذ يمكن أى متساخف تافه أن يطرح ذات السؤال: ولماذا ثلاث؟ أو لماذا أربع؟ أو لماذا عشرون؟ أو لماذا تسعون؟ أما قول يوسف على، طبقا لما أورده سام شمعون، إن السبعة رقم صوفى، فهو كلام ليوسف على لا يلزمنا فى قليل أو كثير. وأنا لا أشاركه هذا التفسير بتاتا، وأراه تكلفا لا يستند إلى أى أساس. وكل ما أفهمه هو أنه هكذا كان الطواف والسعى منذ إبراهيم عليه السلام، وسيظل هكذا إلى يوم الدين. وثم رواية تشير إلى أن هاجر حين عطش رضيعها فى تلك البرية العربية المهلكة جعلت تذهب وتجىء سبع مرات إلى أن وجدت قدم ابنها الذى كان يدقها فى الأرض من بُرَحاء العطش قد فجرت عين ماء فعنئذ توقفت وسقته واستقت، فمن هنا كان العدد سبعة فى السعى بين الصفا والمروة.
    أما تفسير السماوات السبع بأنها الكواكب فهو تفسير خاطئ لم يقل به القرآن ولا قالت به الأحاديث، لأن الكواكب ليست سبعة فقط، كما أن معنى السماوات يختلف عن معنى الكواكب كما يعلم كل من لديه ذرة من عقل، إذ السماء تشمل الكواكب والنجوم والمجرات والشموس والأقمار. إن أى عامى يرفع رأسه وينظر إلى فوق يقول ببساطة متناهية: هذه هى السماء. وذلك صحيح تماما. فهل السماء بهذا المعنى تقتصر على الكواكب السبعة، إن صح أنها سبعة فقط؟ وأين تذهب الشمس والقمر والنجوم التى تتناثر هنا وهناك فى صفحة السماء؟ إن الذى أفهمه من السماوات السبع أنها سبع سماوات كسمائنا هذه، مثلما هناك أرضون سبعٌ كأرضنا هذه، ومع كل سماء أرضها. أما كيف؟ فلا أدرى. إن علم الفلك، رغم تقدمه الهائل، لا يزال فى الواقع يحبو بالقياس إلى ما تحتويه السماء من أسرار وأجرام. وقد أكون مخطئا رغم ذلك كله فى فهمى. أقول هذا حتى لا يأتى متعلل فيعتل على القرآن بتفسيرى هذا الذى لا يزيد عن كونه مجرد اجتهاد بشرى.
    وبالنسبة إلى الفارق الزمنى بين بناء الكعبة والمسجد الأقصى وأنه أربعون سنة كما جاء فى بعض الروايات فى البخارى، على حين أن الفارق بينهما هو مئات السنين كما علّق شمعون، فلا أرى أى موجب للقلق، إذ البخارى ليس قرآنا، ونحن غير مأمورين بتصديق كل ما جاء فيه عميانيًّا، بل علينا أن نعرضه على القرآن والمعارف اليقينية كى نتبين أنه لا يصادم أيا منهما. والبخارى وإخوانه أصحاب المجاميع الحديثية عباقرة بكل يقين، ولا يوجد لهم نظير فى أية ثقافة بشرية، إلا أنهم رغم عبقريتهم السامقة يَبْقَوْن بشرا فى نهاية المطاف يصيبون ويخطئون. ولا موجب من ثم للقلق، فالإسلام أكبر من البخارى ومسلم والنسائى والترمذى وابن داود وابن حنيل ومالك وسائر جامعى الحديث الشريف، رضى الله عنهم أجمعين.
    وهذا لو كان المسجد الحرام قد وضعه إبراهيم أول واحد، وكان المسجد الأقصى هو هيكل بيت المقدس وأن سليمان هو أول من بناه، فهل هناك من يقطع أن المسجد الأقصى فى الحديث هو هيكل بيت المقدس الذى بناه سليمان عليه السلام وأن إبراهيم هو أول من بنى البيت الحرام؟ لقد سكت الحديث عن هذا وذاك، ومن ثم لا يجوز أن نخطِّئ الحديث بناء على ما نتصوره نحن. فلربما قصد النبى بالمسجد الأقصى شيئا آخر غير ما نظن. كما أن من الممكن جدا ألا يكون إبراهيم هو واضع المسجد الحرام أول واحد، أو لا يكون سليمان هو أو ل بناة الأقصى.
    هذا ما خطر لى، ثم بدا لى أن اراجع ما قاله علماؤنا فى هذا الموضوع فوجدت على سبيل المثال هذا التوجيه فى "فتح البارى بشرح صحيح البخارى": "‏قال ابن الجوزي: فيه إشكال، لأن إبراهيم بنى الكعبة، وسليمان بنى بيت المقدس، وبينهما أكثر من ألف سنة... ومستنده في أن سليمان عليه السلام هو الذي بنى المسجد الأقصى ما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بإسناد صحيح "أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثا"... الحديث. وفي الطبراني من حديث رافع بن عميرة "أن داود عليه السلام ابتدأ ببناء بيت المقدس، ثم أوحى الله إليه: إني لأقضي بناءه على يد سليمان". وفي الحديث قصة، قال: وجوابه أن الإشارة إلى أول البناء ووضْع أساس المسجد، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس، فقد روينا أن أول من بنى الكعبة آدم ثم انتشر ولده في الأرض. فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس، ثم بنى إبراهيم الكعبة بنص القرآن. وكذا قال القرطبي إن الحديث لا يدل على أن إبراهيم وسليمان لما بنيا المسجدين ابتدآ وضعهما لهما، بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما. قلت: وقد مشى ابن حبان في "صحيحه" على ظاهر هذا الحديث فقال: في هذا الخبر رَدٌّ على من زعم أن بين إسماعيل وداود ألف سنة. ولو كان كما قال لكان بينهما أربعون سنة، وهذا عين المحال لطول الزمان بالاتفاق بين بناء إبراهيم عليه السلام البيت وبين موسى عليه السلام. ثم إن في نص القرآن أن قصة داود في قتل جالوت كانت بعد موسى بمدة. وقد تعقب الحافظُ الضياءَ بنحو ما أجاب به ابن الجوزي. وقال الخطابي: يشبه أن يكون المسجد الأقصى أول ما وضع بناءه بعض أولياء الله قبل داود وسليمان ثم داود وسليمان فزادا فيه ووسعاه فأضيف إليهما بناؤه... وقد رأيت لغيره أن أول من أسس المسجد الأقصى آدم عليه السلام. وقيل: الملائكة وقيل: سام بن نوح عليه السلام. وقيل: يعقوب عليه السلام. فعلى الأولين يكون ما وقع ممن بعدهما تجديدا كما وقع في الكعبة، وعلى الأخيرين يكون الواقع من إبراهيم أو يعقوب أصلا وتأسيسا، ومن داود تجديدًا لذلك وابتداءَ بناءٍ، فلم يكمل على يده حتى أكمله سليمان عليه السلام. لكن الاحتمال الذي ذكره ابن الجوزي أوجه. وقد وجدت ما يشهد له ويؤيد قول من قال إن آدم هو الذي أسس كلا من المسجدين، فذكر ابن هشام في "كتاب التيجان" أن آدم لما بنى الكعبة أمره الله بالسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه. وبناء آدم للبيت مشهور. وقد تقدم قريبا حديث عبد الله بن عمرو أن البيت رُفِع زمنَ الطوفان حتى بوّأه الله لإبراهيم. وروى ابن أبي حاتم من طريق معمر عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم لما هبط، ففقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال الله له: يا آدم، إني قد أهبطت بيتا يطاف به كما يطاف حول عرشي، فانطلقْ إليه. فخرج آدم إلى مكة، وكان قد هبط بالهند، ومد له في خطوه فأتى البيت فطاف به". وقيل: إنه لما صلى إلى الكعبة أُمِر بالتوجه إلى بيت المقدس فاتخذ فيه مسجدا وصلى فيه ليكون قبلة لبعض ذريته... والله أعلم".
    وفى "البداية والنهاية" لابن كثير "عن أبى ذر قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة. قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركت الصلاة فصل، فكلها مسجد. وعند أهل الكتاب أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى، وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرَّفه الله. وهذا متجه ويشهد له ما ذكرناه من الحديث فعلى هذا يكون بناء يعقوب، وهو إسرائيل عليه السلام، بعد بناء الخليل وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء. وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجود إسحاق لأن إبراهيم عليه السلام لما دعا قال في دعائه كما قال تعالى: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ،* رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ* الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ* رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ* رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ"، وما جاء في الحديث من أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا كما ذكرناه عند قوله: "قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي" وكما سنورده في قصته، فالمراد من ذلك، والله أعلم، أنه جدَّد بناءه كما تقدم من أن بينهما أربعين سنة".
    ولعل ابن كثير يشير هنا إلى ما جاء فى الإصحاحين الثامن والعشرين والخامس والثلاثين من العهد القديم عن بناء يعقوب نصبا للعبادة سماه: "بيت إيل"، ووعد ربه أنه متى سلّمه فى طريقه ورزقه ما يحفظ عليه حياته أن يكمل بناء ذلك المعبد: "10فَخَرَجَ يَعْقُوبُ مِنْ بِئْرِ سَبْعٍ وَذَهَبَ نَحْوَ حَارَانَ. 11وَصَادَفَ مَكَانًا وَبَاتَ هُنَاكَ لأَنَّ الشَّمْسَ كَانَتْ قَدْ غَابَتْ، وَأَخَذَ مِنْ حِجَارَةِ الْمَكَانِ وَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ، فَاضْطَجَعَ فِي ذلِكَ الْمَكَانِ. 12وَرَأَى حُلْمًا، وَإِذَا سُلَّمٌ مَنْصُوبَةٌ عَلَى الأَرْضِ وَرَأْسُهَا يَمَسُّ السَّمَاءَ، وَهُوَذَا مَلاَئِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا. 13وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ: «أَنَا الرَّبُّ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ. الأَرْضُ الَّتِي أَنْتَ مُضْطَجِعٌ عَلَيْهَا أُعْطِيهَا لَكَ وَلِنَسْلِكَ. 14وَيَكُونُ نَسْلُكَ كَتُرَابِ الأَرْضِ، وَتَمْتَدُّ غَرْبًا وَشَرْقًا وَشَمَالاً وَجَنُوبًا، وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ. 15وَهَا أَنَا مَعَكَ، وَأَحْفَظُكَ حَيْثُمَا تَذْهَبُ، وَأَرُدُّكَ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ، لأَنِّي لاَ أَتْرُكُكَ حَتَّى أَفْعَلَ مَا كَلَّمْتُكَ بِهِ».16فَاسْتَيْقَظَ يَعْقُوبُ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: «حَقًّا إِنَّ الرَّبَّ فِي هذَا الْمَكَانِ وَأَنَا لَمْ أَعْلَمْ!». 17وَخَافَ وَقَالَ: «مَا أَرْهَبَ هذَا الْمَكَانَ! مَا هذَا إِلاَّ بَيْتُ اللهِ، وَهذَا بَابُ السَّمَاءِ». 18وَبَكَّرَ يَعْقُوبُ فِي الصَّبَاحِ وَأَخَذَ الْحَجَرَ الَّذِي وَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ وَأَقَامَهُ عَمُودًا، وَصَبَّ زَيْتًا عَلَى رَأْسِهِ. 19وَدَعَا اسْمَ ذلِكَ الْمَكَانِ «بَيْتَ إِيلَ»، وَلكِنِ اسْمُ الْمَدِينَةِ أَوَّلاً كَانَ لُوزَ. 20وَنَذَرَ يَعْقُوبُ نَذْرًا قَائِلاً: «إِنْ كَانَ اللهُ مَعِي، وَحَفِظَنِي فِي هذَا الطَّرِيقِ الَّذِي أَنَا سَائِرٌ فِيهِ، وَأَعْطَانِي خُبْزًا لآكُلَ وَثِيَابًا لأَلْبَسَ، 21وَرَجَعْتُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِ أَبِي، يَكُونُ الرَّبُّ لِي ِلهًا، 22وَهذَا الْحَجَرُ الَّذِي أَقَمْتُهُ عَمُودًا يَكُونُ بَيْتَ اللهِ، وَكُلُّ مَا تُعْطِينِي فَإِنِّي أُعَشِّرُهُ لَكَ»... _ قَالَ اللهُ لِيَعْقُوبَ: «قُمِ اصْعَدْ إِلَى بَيْتَِ إِيلَ وَأَقِمْ هُنَاكَ، وَاصْنَعْ هُنَاكَ مَذْبَحًا ِللهِ الَّذِي ظَهَرَ لَكَ حِينَ هَرَبْتَ مِنْ وَجْهِ عِيسُو أَخِيكَ». 2فَقَالَ يَعْقُوبُ لِبَيْتِهِ وَلِكُلِّ مَنْ كَانَ مَعَهُ: «اعْزِلُوا الآلِهَةَ الْغَرِيبَةَ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَتَطَهَّرُوا وَأَبْدِلُوا ثِيَابَكُمْ. 3وَلْنَقُمْ وَنَصْعَدْ إِلَى بَيْتِ إِيلَ، فَأَصْنَعَ هُنَاكَ مَذْبَحًا ِللهِ الَّذِي اسْتَجَابَ لِي فِي يَوْمِ ضِيقَتِي، وَكَانَ مَعِي فِي الطَّرِيقِ الَّذِي ذَهَبْتُ فِيهِ». 4فَأَعْطَوْا يَعْقُوبَ كُلَّ الآلِهَةِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِي أَيْدِيهِمْ وَالأَقْرَاطَِ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ، فَطَمَرَهَا يَعْقُوبُ تَحْتَ الْبُطْمَةِ الَّتِي عِنْدَ شَكِيمَ. 5ثُمَّ رَحَلُوا، وَكَانَ خَوْفُ اللهِ عَلَى الْمُدُنِ الَّتِي حَوْلَهُمْ، فَلَمْ يَسْعَوْا وَرَاءَ بَنِي يَعْقُوبَ. 6فَأَتَى يَعْقُوبُ إِلَى لُوزَ الَّتِي فِي أَرْضِ كَنْعَانَ، وَهِيَ بَيْتُ إِيلَ. هُوَ وَجَمِيعُ الْقَوْمِ الَّذِينَ مَعَهُ. 7وَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا، وَدَعَا الْمَكَانَ «إِيلَ بَيْتِ إِيلَ» لأَنَّهُ هُنَاكَ ظَهَرَ لَهُ اللهُ حِينَ هَرَبَ مِنْ وَجْهِ أَخِيهِ".
    ولكى تكتمل الصورة يحسن أن أورد ما جاء فى "دائرة المعارف الكتابية" مما يتعلق بموضوعنا تحت عنوان "بيت إيل"، ونصه: "كان اسم المدينة قبلا "لوز" (تك 28: 19... إلخ). وعندما جاءها يعقوب، وهو في الطريق إلى فدان أرام، صادف مكانا وبات هناك (تك 28: 11) وكلمة "مكان" هنا، هي في العبرية "مقوم"، وهي شبيهة باللفظة العربية "مقام" لفظا ومعنى، أي أنها تعني "مكانا مقدسا". ولا شك أنه كان "المكان" الذي بنى فيه إبراهيم مذبحا للرب ودعا باسم الرب (تك 12: 8). وفي الصباح أخذ يعقوب الحجر الذي وضعه تحت رأسه (وسادة له)، وأقامه عمودا وصب زيتا على رأسه ودعا اسم ذلك المكان "بيت إيل"، أي "بيت الله" (تك 28: 18 و19)، أي "الله" الذي ارتبط ظهوره له بذلك العمود. وأضحت تلك البقعة مركزا بالغ الأهمية، فتزايدت عظمة المدينة. وبمرور الزمن اندثر اسم "لوز" وحل محله اسم "المقام المقدس". وأصبحت المدينة و"المقام" شيئا واحدا".
    لقد استشهدت بهذه النصوص كى يرى القارئ أن للأمر جوانب أخرى ينبغى له أن يلم بها ولو إلماما سريعا. وكما قلت من قبل إنه حتى لو أخطأت الرواية التى نحن بصددها فلا يُعَدّ هذا طعنا فى الإسلام لأن تلك الروايات والأحاديث شىء، والقرآن المجيد شىء آخر. أما نحن فحين نحتكم هنا إلى نصوص القوم فإنما نحصر أنفسنا فى كتابهم المقدس ولا نحاجُّهم بسواه. على أنه لا بد من طرح بعض الأسئلة التى أرى أنها مما لا يستغنى عنه فى سياقنا: هل المقصود بالمسجد الأقصى هو ما نعرفه اليوم من هذه الكلمة؟ يقينا لم يكن للمسجد الأقصى بذلك المعنى وجود فى عصر الرسول حين سئل هذا السؤال الذى نحن بصدده رغم أن القرآن قد استعمل ذلك اللفظ. لكن هل يقصد القرآن بكلمة "المسجد" ما نقصده الآن بتلك الكلمة؟ لا أظن، إذ لم تكن هناك مساجد فى ذلك الوقت. ومن المحتمل جدا أن يكون المراد مكان السجود بإطلاق حتى لو تم ذلك فى الهواء الطلق بعيدا عن العمران. وهل هناك تطابق فى المكان بين المسجد الأقصى بهذا المعنى وهيكل بنى إسرائيل؟ لا أحد يستطيع أن يجيب على ذلك السؤال جوابا يقينيا. ثم لدينا حكاية بانى كل من المسجدين: من هو؟ ومتى كان ذلك؟ وأخيرا وليس آخرا: إلى أى مدى نستطيع الاعتماد على نصوص الكتاب المقدس كوثائق تاريخية مقطوع بصحتها؟ ليس هناك عالم حقيقى يولى تلك النصوص كبير أهمية. وأنا لا أقصد علماء المسلمين فقط، بل علماء الغرب أولا، وكثير منهم من رجال الدين، بل من كبارهم على ما هو معلوم للجميع... إلخ. وأيا ما يكن الأمر فمن الواضح أنه لا علاقة لهذا الحديث بأية وثنية، فضلا عن أن المسألة التى يتناولها ليست مسألة أساسية فى موضوعنا، بل مسألة جانبية لا تقدم ولا تؤخر.
    وفى الختام ينتهى سام شمعون إلى إصدار حكمه على الرسول العظيم بأنه بدأ وانتهى بدين وثنى، مع فارق وحيد: أنه أعاد تغليفه بمضمون توحيدى. وهو كلام مضحك لأن المضمون لا يغلَّف به، بل الذى يغلَّف به هو الشكل، أما المضمون فيغلَّف، والشكل هو الذى يغلفه. كما أن قوله إن الدين الذى غلفه محمد بمضمون توحيدى ظل دينا وثنيا هو كلام لا يصدر إلا عن الحمقى، إذ كيف يكون الدين توحيديا ووثنيا فى ذات الوقت؟ ومع هذا فرغم كل ما فندنا به ترهاته ومزاعمه فسوف نسلِّم كعادتنا بحاصل ما قال، وهو أن محمدا، الذى كان وثنيا، قد صير الوثنية توحيدا. فماذا نجد؟ لسوف نجد معا أن ما حدث من قوم شمعون هو العكس تماما من هذا، إذ انقلب على أيديهم دين التوحيد إلى ديانة وثنية. وإليك، يا قارئى العزيز، بيان ذلك. ولن نعتمد فى بياننا إلا على الكتاب المقدس ذاته، على عكس ما صنع هو، إذ استند إلى الأحاديث، وهى نصوص لا ترقى أبدا إلى مرتبة النص القرآنى من حيث الوثاقة، مع احترامنا للجهود العبقرية التى نهض بها علماء الحديث عندنا على نحو ليس له نظير. ونود أن ننبه إلى أننا لن نورد كل ما فى كتابهم المقدس، فهو يفيض بالبراهين النصية القاطعة على ما نقول، بل سوف نكتفى بأمثلة منها فحسب.
    نحن نعلم أن من العرب فى الجاهلية من كانوا يزعمون ان لله سبحانه وتعالى بنات كالملائكة واللات والعزى ومناة، وقد أنكر القرآن عليهم هذا الاعتقاد الوثنى فى آيات متعددة يعرفها كل من له صلة بالكتاب الكريم. فماذا نجد على الضفة الأخرى فى الكتاب المقدس لدى شمعون وقومه؟ لن نذهب بعيدا، ففى سادس إصحاح من سفر "التكوين" نجد أن البنات هذه المرة من نصيب الناس، أما الله عز وجل فنصيبه الذكور، الذين يقول عنهم مؤلف السفر إنهم "أبناء الله" و"بنو الله"، هكذا نصا دون أى تدخل من جانبنا: "لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الأَرْضِ، وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ، 2أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا. 3فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ. وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً». 4كَانَ فِي الأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذلِكَ أَيْضًا إِذْ دَخَلَ بَنُو اللهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلاَدًا، هؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ". فانظر كيف يكرر الكتاب المقدس التفرقة بين الذكور والإناث تفرقة قاطعة لا لبس فيها ناسبا الذكور فى كل مرة إلى الله سبحانه وتعالى. فهذا أول القصيدة!
    وكأن ذلك غير كاف، إذ نجد لوقا، فى نسب يسوع الموجود فى نهاية الإصحاح الثالث من إنجيله، يؤكد أن آدم هو "ابن الله": "23وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ، بْنِ هَالِي، 24بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي، بْنِ مَلْكِي، بْنِ يَنَّا، بْنِ يُوسُفَ، 25بْنِ مَتَّاثِيَا، بْنِ عَامُوصَ، بْنِ نَاحُومَ، بْنِ حَسْلِي، بْنِ نَجَّايِ، 26بْنِ مَآثَ، بْنِ مَتَّاثِيَا، بْنِ شِمْعِي، بْنِ يُوسُفَ، بْنِ يَهُوذَا، 27بْنِ يُوحَنَّا، بْنِ رِيسَا، بْنِ زَرُبَّابِلَ، بْنِ شَأَلْتِيئِيلَ، بْنِ نِيرِي، 28بْنِ مَلْكِي، بْنِ أَدِّي، بْنِ قُصَمَ، بْنِ أَلْمُودَامَ، بْنِ عِيرِ، 29بْنِ يُوسِي، بْنِ أَلِيعَازَرَ، بْنِ يُورِيمَ، بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي، 30بْنِ شِمْعُونَ، بْنِ يَهُوذَا، بْنِ يُوسُفَ، بْنِ يُونَانَ، بْنِ أَلِيَاقِيمَ، 31بْنِ مَلَيَا، بْنِ مَيْنَانَ، بْنِ مَتَّاثَا، بْنِ نَاثَانَ، بْنِ دَاوُدَ، 32بْنِ يَسَّى، بْنِ عُوبِيدَ، بْنِ بُوعَزَ، بْنِ سَلْمُونَ، بْنِ نَحْشُونَ، 33بْنِ عَمِّينَادَابَ، بْنِ أَرَامَ، بْنِ حَصْرُونَ، بْنِ فَارِصَ، بْنِ يَهُوذَا، 34بْنِ يَعْقُوبَ، بْنِ إِسْحَاقَ، بْنِ إِبْرَاهِيمَ، بْنِ تَارَحَ، بْنِ نَاحُورَ، 35بْنِ سَرُوجَ، بْنِ رَعُو، بْنِ فَالَجَ، بْنِ عَابِرَ، بْنِ شَالَحَ، 36بْنِ قِينَانَ، بْنِ أَرْفَكْشَادَ، بْنِ سَامِ، بْنِ نُوحِ، بْنِ لاَمَكَ، 37بْنِ مَتُوشَالَحَ، بْنِ أَخْنُوخَ، بْنِ يَارِدَ، بْنِ مَهْلَلْئِيلَ، بْنِ قِينَانَ، 38بْنِ أَنُوشَ، بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ابْنِ اللهِ".
    وعقب نص سفر "التكوين" مباشرة نقرأ النص التالى، وفيه أن الله سبحانه وتعالى يتأسف ويحزن ويحس أنه كان قد اتخذ قرارا خاطئا فيقرر أن يهدم كل ما كان قد بناه عاطلا مع باطل ثم يستبدل به شيئا آخر: "5وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. 6فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ، وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ»".
    وقبل ذلك، وتحديدا فى ثالث إصحاح من سفر "التكوين" أيضا، نقرأ الآتى: "8وَسَمِعَا (أى آدم وحواء) صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. 9فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: «أَيْنَ أَنْتَ؟»". فالله يتمشى فى الجنة عند هبوب ريح النهار. أى أنه بعد أن مضت القيلولة وانفثأت زمتة الحر بدا له أن يتمشى تمشية العصارى فى الجنة، فلما شعر به آدم وحواء اختبآ خشية أن يعاقبهما على أكلهما من ثمرة الشجرة التى نهاهما عن الأكل من ثمارها، فلم يستطع سبحانه وتعالى أن يعرف مكان اختفائهما، فجعل يناديهما إلى أن أجابا نداءه، فعندئذ فقط عرف أين يختبئان.
    وفى الإصحاح السابع عشر من سفر "التكوين" كذلك يظهر الله لإبراهيم عليه السلام ويكلمه فيسجد له إبراهيم وهو يرى شخصه بعينيه ويسمع صوته بأذنيه، ويدور بينهما أخذٌ ورَدٌّ: "وَلَمَّا كَانَ أَبْرَامُ ابْنَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً ظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ لَهُ: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلا، 2فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأُكَثِّرَكَ كَثِيرًا جِدًّا». 3فَسَقَطَ أَبْرَامُ عَلَى وَجْهِهِ...". وبعدما انتهى الحوار بينهما تركه الله ومضى لحال سبيله: "22فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَهُ صَعِدَ اللهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ". على أنْ ليست هذه هى المرة الوحيدة التى ظهر فيها الرب لإبراهيم، فها هو ذا مؤلف السفر فى إصحاحه التالى يكتب أنه جل جلاله قد ظهر له مرة أخرى فغسل إبراهيم له رجليه من تراب الطريق وأطعمه لحما وزبدا وسقاه لبنا: "1وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ، 2فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَال وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لاسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ الْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى الأَرْضِ، 3وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلاَ تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. 4لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَاتَّكِئُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، 5فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ ثُمَّ تَجْتَازُونَ، لأَنَّكُمْ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَى عَبْدِكُمْ». فَقَالُوا: «هكَذَا تَفْعَلُ كَمَا تَكَلَّمْتَ». 6فَأَسْرَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْخَيْمَةِ إِلَى سَارَةَ، وَقَالَ: «أَسْرِعِي بِثَلاَثِ كَيْلاَتٍ دَقِيقًا سَمِيذًا. اعْجِنِي وَاصْنَعِي خُبْزَ مَلَّةٍ». 7ثُمَّ رَكَضَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى الْبَقَرِ وَأَخَذَ عِجْلا رَخْصًا وَجَيِّدًا وَأَعْطَاهُ لِلْغُلاَمِ فَأَسْرَعَ لِيَعْمَلَهُ. 8ثُمَّ أَخَذَ زُبْدًا وَلَبَنًا، وَالْعِجْلَ الَّذِي عَمِلَهُ، وَوَضَعَهَا قُدَّامَهُمْ. وَإِذْ كَانَ هُوَ وَاقِفًا لَدَيْهِمْ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَكَلُوا". وكالعادة لا ينسى مؤلف السفر أن ينهى حكايته قائلا:"33َوذَهَبَ الرَّبُّ عِنْدَمَا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَكَانِهِ".
    وكما ظهر الله لإبراهيم ظهر كذلك لابنه إسحاق حسبما كتب مؤلف السفر فى الإصحاح السادس والعشرين: "وَكَانَ فِي الأَرْضِ جُوعٌ غَيْرُ الْجُوعِ الأَوَّلِ الَّذِي كَانَ فِي أَيَّامِ إِبْرَاهِيمَ، فَذَهَبَ إِسْحَاقُ إِلَى أَبِيمَالِكَ مَلِكِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، إِلَى جَرَارَ. 2وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ وَقَالَ: «لاَ تَنْزِلْ إِلَى مِصْرَ. اسْكُنْ فِي الأَرْضِ الَّتِي أَقُولُ لَكَ. 3تَغَرَّبْ فِي هذِهِ الأَرْضِ فَأَكُونَ مَعَكَ وَأُبَارِكَكَ، لأَنِّي لَكَ وَلِنَسْلِكَ أُعْطِي جَمِيعَ هذِهِ الْبِلاَدِ، وَأَفِي بِالْقَسَمِ الَّذِي أَقْسَمْتُ لإِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ. 4وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، وَأُعْطِي نَسْلَكَ جَمِيعَ هذِهِ الْبِلاَدِ، وَتَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ، 5مِنْ أَجْلِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ لِقَوْلِي وَحَفِظَ مَا يُحْفَظُ لِي: أَوَامِرِي وَفَرَائِضِي وَشَرَائِعِي». 6فَأَقَامَ إِسْحَاقُ فِي جَرَارَ".
    وبالمثل ظهر الله ليعقوب بن إسحاق، يعقوب المزوِّر المدلِّس من أجل الحصول على البركة التى كانت حقا لأخيه عيسو طبقا لما كتبه عنه مؤلف السفر، وإن كان قد زوّدها هذه المرة حبتين، إذ أدار مصارعة بين يعقوب وربه قبض عليه يعقوب فيها قبضة حديدية لم يستطع أن يفلفص منها إلا بعد أن ضربه على حُقّ فخذه ضربة آلمته وجعلته يخمع: "22ثُمَّ قَامَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَأَخَذَ امْرَأَتَيْهِ وَجَارِيَتَيْهِ وَأَوْلاَدَهُ الأَحَدَ عَشَرَ وَعَبَرَ مَخَاضَةَ يَبُّوقَ. 23أَخَذَهُمْ وَأَجَازَهُمُ الْوَادِيَ، وَأَجَازَ مَا كَانَ لَهُ. 24فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ، وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. 25وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. 26وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي». 27فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». 28فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ». 29وَسَأَلَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: «أَخْبِرْنِي بِاسْمِكَ». فَقَالَ: «لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟» وَبَارَكَهُ هُنَاكَ. 30فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلا: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي». 31وَأَشْرَقَتْ لَهُ الشَّمْسُ إِذْ عَبَرَ فَنُوئِيلَ وَهُوَ يَخْمَعُ عَلَى فَخْذِهِ. 32لِذلِكَ لاَ يَأْكُلُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عِرْقَ النَّسَا الَّذِي عَلَى حُقِّ الْفَخِْذِ إِلَى هذَا الْيَوْمِ، لأَنَّهُ ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِ يَعْقُوبَ عَلَى عِرْقِ النَّسَا".
    ثم تكرر ظهوره له حسبما جاء فى الإصحاح الخامس والثلاثين: "9وَظَهَرَ اللهُ لِيَعْقُوبَ أَيْضًا حِينَ جَاءَ مِنْ فَدَّانَِ أَرَامَ وَبَارَكَهُ. 10وَقَالَ لَهُ اللهُ: «اسْمُكَ يَعْقُوبُ. لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِيمَا بَعْدُ يَعْقُوبَ، بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِسْرَائِيلَ». فَدَعَا اسْمَهُ «إِسْرَائِيلَ». 11وَقَالَ لَهُ اللهُ: «أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. أَثْمِرْ وَاكْثُرْ. أُمَّةٌ وَجَمَاعَةُ أُمَمٍ تَكُونُ مِنْكَ، وَمُلُوكٌ سَيَخْرُجُونَ مِنْ صُلْبِكَ. 12وَالأَرْضُ الَّتِي أَعْطَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ، لَكَ أُعْطِيهَا، وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أُعْطِي الأَرْضَ». 13ثُمَّ صَعِدَ اللهُ عَنْهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ تَكَلَّمَ مَعَهُ. 14فَنَصَبَ يَعْقُوبُ عَمُودًا فِي الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ تَكَلَّمَ مَعَهُ، عَمُودًا مِنْ حَجَرٍ، وَسَكَبَ عَلَيْهِ سَكِيبًا، وَصَبَّ عَلَيْهِ زَيْتًا. 15وَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ تَكَلَّمَ اللهُ مَعَهُ «بَيْتَ إِيلَ»". ثم فى الإصحاح السادس من سفر "الخروج" يعود مؤلف السفر فيلخص، على لسان الله، حكايات الظهور لإبراهيم وإسحاق ويعقوب: "2ثُمَّ كَلَّمَ اللهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: «أَنَا الرَّبُّ. 3وَأَنَا ظَهَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ".
    ولدينا كذلك موسى عليه السلام، الذى كنت متحرجا أن أورد اسمه بين من ذكر الكتاب المقدس رؤيتهم لله سبحانه وتعالى، إلا أن حرجى زال حين وجدت د. إسرائيل ولفنسون (أبا ذؤيب) يقول ذلك فى كتابه عن "كعب الأحبار"، الذى حصل به على درجة الدكتورية من ألمانيا سنة 1933م، فقد أشار إلى الآيات 18- 23 فى الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر "الخروج" بوصفها دالة على رؤيته عليه السلام لربه. والآيات فعلا واضحة فى الدلالة على ذلك، وإن نفت إمكان رؤية وجهه جل جلاله، بل ظهره فقط، وكأن لله ظهرا وبطنا، ووجها وقفا. وهذا هو نص الآيات الأربع: " فَقَالَ: «أَرِنِي مَجْدَكَ». 19فَقَالَ: «أُجِيزُ كُلَّ جُودَتِي قُدَّامَكَ. وَأُنَادِي بِاسْمِ الرَّبِّ قُدَّامَكَ. وَأَتَرَاءَفُ عَلَى مَنْ أَتَرَاءَفُ، وَأَرْحَمُ مَنْ أَرْحَمُ». 20وَقَالَ: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ». 21وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ، فَتَقِفُ عَلَى الصَّخْرَةِ. 22وَيَكُونُ مَتَى اجْتَازَ مَجْدِي، أَنِّي أَضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ الصَّخْرَةِ، وَأَسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أَجْتَازَ. 23ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وَأَمَّا وَجْهِي فَلاَ يُرَى»". وسبب تحرجى السابق هو أن النص لم يقل إنه رأى وجهه بل ظهره فقط، إذ قلت لنفسى: خلنا فى الرؤية الكاملة التى أثبتها الكتاب المقدس لغير موسى، وهو ما تكرر وقوعه فى ذلك الكتاب (يراجع كتاب أبى ذؤيب المذكور/ مطبعة الشرق التعاونية/ شعفاط- القدس/ 1976م/ 32- 33).
    ولكى يتبين الفرق الهائل بين دين محمد وما صنعه قوم شمعون وأمثاله بدينهم نورد هنا ما عقبت به السيدة عائشة الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين، رضى الله عنه وأرضاها، على ما بلغها من كلام كعب الأحبار شرحا لقوله تعالى فى الآيتين 13- 14 من سورة "النجم" عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولقد رآه نزلةً أخرى* عند سِدْرة المنتهى"، وهو أن الله تبارك وتعالى قسم رؤيته بين موسى ومحمد: فكلمه موسى مرتين، ورآه محمد مرتين. لقد سألها بعضهم عند سماعه هذا الكلام من كعب: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله. لقد وقف شعر رأسى لما قلت، فقد كذب من أخبرك أن محمدا رأى ربه. وقد علق أبو ذؤيب على ذلك قائلا: وليس من شك أن نظرية كعب فى مسألة رؤية النبى لربه هى بعينها المذكورة فى التوراة عن موسى، الذى رأى ربه" (المرجع السابق/ 33). ومن هنا يتضح الفارق العظيم بين دين التوحيدية النقية الصافية تمام الصفاء والنقاء وبين دين عبثت به أيدى من ينتسبون إليه فأفسدوه. ومع هذا يتهم بعض أولئك المنتسبين سيدنا رسول الله بممارسة الوثنية وتأسيس دينه عليها!
    وكان أبو ذؤيب قد نقل من تفسير الطبرى كلام عائشة وكعب والشخص الذى سألها بالمعنى لا بالنص، وهأنذا أورد كل ما وجدته فى تفسير سيد المفسرين فى هذا الموضوع بما فيه الخبر الخاص بكعب الأحبار: "حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، قال: حدثنا داود، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة، أن عائشة قالت: يا أبا عائشة، من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أمّ المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني. أرأيت قول الله: "وَلَقَدْ رآه نَزْلَةً أُخْرَى"، "وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ المُبِينِ"؟ قالت: إنما هو جبريل، رآه مرّة على خلقه وصورته التي خلق عليها، ورآه مرّة أخرى حين هبط من السماء إلى الأرض سادًّا عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض. قالت: أنا أوّل من سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الاَية، قال: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلامُ... حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها قالت له: يا أبا عائشة، من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، والله يقول: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصارَ وَما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ إلاّ وَحيْا أوْمِنْ وَرَاء حِجاب". قال: وكنت متكئا فجلست وقلت: يا أمّ المؤمنين، انتظري ولا تعجلي. ألم يقل الله: "وَلَقَدْ رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى"، "وَلَقَدْ رآهُ بالأُفُق المُبِين"؟ فقالت إن أوّل هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: لَمْ أَرَ جِبْرِيلَ عَلى صُورَتِهِ إلاّ هاتَيْن المَرّتَيْن مُنْهَبِطا مِنَ السّماء سادًّا عِظَم خَلْقِهِ ما بَينَ السّماءِ والأرْض... حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر، قال: ثني عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن كعب أنه أخبره أن الله تبارك وتعالى قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلّمه موسى مرّتين، ورآه محمد مرّتين، قال: فأتى مسروق عائشة، فقال: يا أمّ المؤمنين، هل رأى محمد ربه، فقالت: سبحان الله لقد قفّ شعري لما قلت: أين أنت من ثلاثة من حدّثك بهنّ فقد كذب؟ من أخبرك أن محمدا رأى ربه فقد كذب. ثم قرأت: "لا تُدْرِكُه الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارُ وَهُوَ اللّطِيفُ الخَبِير"، "وَما كانَ لِبَشَر أنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ إلاّ وَحْيا أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجاب". ومن أخبرك ما في غد فقد كذب. ثم تلت آخر سورة لقمان: "إنّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنْزّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما في الأرْحام وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَدا وَما تَدْرِي نَفْسٌ بأيّ أرْضٍ تَمُوتُ". ومن أخبرك أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب. ثم قرأت: "يا أيّها الرّسُولُ بَلّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبّكَ". قالت: ولكنه رأى جبريل عليه السلام في صورته مرّتين. حدثنا موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو أُسامة، قال: ثني إسماعيل، عن عامر، قال: حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: سمعت كعبا، ثم ذكر نحو حديث عبد الحميد بن بيان، غير أنه قال في حديثه: فرآه محمد مرّة، وكلّمه موسى مرّتين. ذِكْر من قال فيه: رأى ربه عزّ وجلّ. حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن سماك بن عكرِمة، عن ابن عباس أنه قال: "وَلَقَدْ رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى"، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه، فقال له رجل عند ذلك: أليس لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدرِكُ الأبْصَارَ؟ قال له عكرِمة: أليس ترى السماء؟ قال: بلى. قال: أفكلها ترى؟". نعم هناك من يقول إن محمدا رأى ربه فى تلك الليلة، لكنها مجرد أخبار لم يرد منها شىء فى القرآن الكريم، بل هى اجتهادات من أصحابها لا تنسجم مع ما قاله الكتاب المجيد فى هذا الموضوع مما وضحته الصديقة بنت الصديق أتم توضيح وأبلغه وأوفاه بالإقناع.
    وقد حكى القرآن الكريم هذه القصة، ولكن على نحو مغاير، إذ لم ير موسى ربه لا من أمامه ولا من ورائه لأنه سبحانه ليس كائنا ماديا حتى تمكن رؤيته ولو من الخلف كما يقول مؤلف سفر "الخروج" فى العهد القديم، وكأنه سبحانه وتعالى له بطنٌ وظهرٌ ووجهٌ وقفًا وأمامٌ ووراءٌ، بل خَرَّ عليه السلام صَعِقًا بمجرد أن تجلى ربه للجبل، ثم لما أفاق أقر بتجاوزه حدوده. جاء فى الآية الثالثة والأربعين بعد المائة من سورة "الأعراف": "وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ".
    أما مع هارون عليه السلام فنحن أمام مصيبة متلتلة، إذ صنع، وهو النبى وأخو النبى، عجلا من الذهب كى يعبده بنو إسرائيل ويرقصوا حوله عرايا بلابيص. وإلى القارئ نص ذلك بالحرف من الإصحاح الثانى والثلاثين من سفر "الخروج": "1وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ، اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: «قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ». 2فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: «انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَاتُونِي بِهَا». 3فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ وَأَتَوْا بِهَا إِلَى هَارُونَ. 4فَأَخَذَ ذلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالإِزْمِيلِ، وَصَنَعَهُ عِجْلا مَسْبُوكًا. فَقَالُوا: «هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ». 5فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ بَنَى مَذْبَحًا أَمَامَهُ، وَنَادَى هَارُونُ وَقَالَ: «غَدًا عِيدٌ لِلرَّبِّ». 6فَبَكَّرُوا فِي الْغَدِ وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ. وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ..."، و"25... رَأَى مُوسَى الشَّعْبَ أَنَّهُ مُعَرًّى لأَنَّ هَارُونَ كَانَ قَدْ عَرَّاهُ لِلْهُزْءِ بَيْنَ مُقَاوِمِيهِ". ولنلاحظ أن هارون قد مارس الوثنية وصنع العجل وهو نبى وأخو نبى، وليس إنسانا عاديا يعيش فى الجاهلية. ولم يقتصر الأمر، كما نرى، على متابعة قومه على عبادة عجل كان موجودا من قبل، بل هو الذى صنعه بيديه. كما أن المسألة ليست مجرد أكل من لحم مذبوح للأوثان، بل صنعا للأوثان ذاتها لتسهيل عبادتها لمن يعبدها ويرقص عريانا حولها.
    وفى الإصحاح الأول من "أخبار الملوك" الثانى نقرأ أيضا أن الله قد تراءى لسليمان: "7فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ تَرَاءَى اللهُ لِسُلَيْمَانَ وَقَالَ لَهُ: «اسْأَلْ مَاذَا أُعْطِيكَ». 8فَقَالَ سُلَيْمَانُ ِللهِ: «إِنَّكَ قَدْ فَعَلْتَ مَعَ دَاوُدَ أَبِي رَحْمَةً عَظِيمَةً وَمَلَّكْتَنِي مَكَانَهُ. 9فَالآنَ أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ لِيَثْبُتْ كَلاَمُكَ مَعَ دَاوُدَ أَبِي، لأَنَّكَ قَدْ مَلَّكْتَنِي عَلَى شَعْبٍ كَثِيرٍ كَتُرَابِ الأَرْضِ. 10فَأَعْطِنِي الآنَ حِكْمَةً وَمَعْرِفَةً لأَخْرُجَ أَمَامَ هذَا الشَّعْبِ وَأَدْخُلَ، لأَنَّهُ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ هذَا الْعَظِيمِ» 11فَقَالَ اللهُ لِسُلَيْمَانَ: «مِنْ أَجْلِ أَنَّ هذَا كَانَ فِي قَلْبِكَ، وَلَمْ تَسْأَلْ غِنًى وَلاَ أَمْوَالا وَلاَ كَرَامَةً وَلاَ أَنْفُسَ مُبْغِضِيكَ، وَلاَ سَأَلْتَ أَيَّامًا كَثِيرَةً، بَلْ إِنَّمَا سَأَلْتَ لِنَفْسِكَ حِكْمَةً وَمَعْرِفَةً تَحْكُمُ بِهِمَا عَلَى شَعْبِي الَّذِي مَلَّكْتُكَ عَلَيْهِ، 12قَدْ أَعْطَيْتُكَ حِكْمَةً وَمَعْرِفَةً، وَأُعْطِيكَ غِنًى وَأَمْوَالا وَكَرَامَةً لَمْ يَكُنْ مِثْلُهَا لِلْمُلُوكِ الَّذِينَ قَبْلَكَ، وَلاَ يَكُونُ مِثْلُهَا لِمَنْ بَعْدَكَ»".
    إلا أن سليمان، الذى آتاه الله الحكمة والمعرفة، يرسب رغم ذلك فى الامتحان وبجدارة، ففى الإصحاح الثالث والعشرين من سفر "الملوك" الثانى تقابلنا "13َالْمُرْتَفَعَاتُ الَّتِي قُبَالَةَ أُورُشَلِيمَ، الَّتِي عَنْ يَمِينِ جَبَلِ الْهَلاَكِ، الَّتِي بَنَاهَا سُلَيْمَانُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ لِعَشْتُورَثَ رَجَاسَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَلِكَمُوشَ رَجَاسَةِ الْمُوآبِيِّينَ، وَلِمَلْكُومَ كَرَاهَةِ بَنِي عَمُّونَ، نَجَّسَهَا الْمَلِكُ". وسليمان نبى من أنبياء الله وملك كبير من ملوك بنى إسرائيل بل أعظم ملوكهم، وليس شخصا وثنيا من قوم وثنيين لم يأتهم رسول من عند الله بدعوة التوحيد حتى نقول إنه معذور، ولو إلى حد ما، فى متابعة قومه. وفى الإصحاح الحادى عشر سفر "الملوك" الأول نجد شيئا من التفصيل لهذا الانحراف الوثنى: "1وَأَحَبَّ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ نِسَاءً غَرِيبَةً كَثِيرَةً مَعَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ: مُوآبِيَّاتٍ وَعَمُّونِيَّاتٍ وَأَدُومِيَّاتٍ وَصِيدُونِيَّاتٍ وَحِثِّيَّاتٍ 2مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ قَالَ عَنْهُمُ الرَّبُّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: «لاَ تَدْخُلُونَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ إِلَيْكُمْ، لأَنَّهُمْ يُمِيلُونَ قُلُوبَكُمْ وَرَاءَ آلِهَتِهِمْ». فَالْتَصَقَ سُلَيْمَانُ بِهؤُلاَءِ بِالْمَحَبَّةِ. 3وَكَانَتْ لَهُ سَبْعُ مِئَةٍ مِنَ النِّسَاءِ السَّيِّدَاتِ، وَثَلاَثُ مِئَةٍ مِنَ السَّرَارِيِّ، فَأَمَالَتْ نِسَاؤُهُ قَلْبَهُ. 4وَكَانَ فِي زَمَانِ شَيْخُوخَةِ سُلَيْمَانَ أَنَّ نِسَاءَهُ أَمَلْنَ قَلْبَهُ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى، وَلَمْ يَكُنْ قَلْبُهُ كَامِلا مَعَ الرَّبِّ إِلهِهِ كَقَلْبِ دَاوُدَ أَبِيهِ. 5فَذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَرَاءَ عَشْتُورَثَ إِلهَةِ الصِّيدُونِيِّينَ، وَمَلْكُومَ رِجْسِ الْعَمُّونِيِّينَ. 6وَعَمِلَ سُلَيْمَانُ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلَمْ يَتْبَعِ الرَّبَّ تَمَامًا كَدَاوُدَ أَبِيهِ. 7حِينَئِذٍ بَنَى سُلَيْمَانُ مُرْتَفَعَةً لِكَمُوشَ رِجْسِ الْمُوآبِيِّينَ عَلَى الْجَبَلِ الَّذِي تُجَاهَ أُورُشَلِيمَ، وَلِمُولَكَ رِجْسِ بَنِي عَمُّونَ. 8وَهكَذَا فَعَلَ لِجَمِيعِ نِسَائِهِ الْغَرِيبَاتِ اللَّوَاتِي كُنَّ يُوقِدْنَ وَيَذْبَحْنَ لآلِهَتِهِنَّ. 9فَغَضِبَ الرَّبُّ عَلَى سُلَيْمَانَ لأَنَّ قَلْبَهُ مَالَ عَنِ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ الَّذِي تَرَاءَى لَهُ مَرَّتَيْنِ، 10وَأَوْصَاهُ فِي هذَا الأَمْرِ أَنْ لاَ يَتَّبعَ آلِهَةً أُخْرَى، فَلَمْ يَحْفَظْ مَا أَوْصَى بِهِ الرَّبُّ". أرأيت كيف يصور العهد القديم نبى الله سليمان شيخا بريالة تلعب نساؤه بقلبه وعقله فيتحول من دين التوحيد إلى دين الوثنية، هكذا بكل بساطة، ورغم إيتاء الله إياه العلم والحكمة ورغم مشاهدته له سبحانه مرتين؟
    وفى الإصحاح الثانى من سفر "إرميا": "8اَلْكَهَنَةُ لَمْ يَقُولُوا: أَيْنَ هُوَ الرَّبُّ؟ وَأَهْلُ الشَّرِيعَةِ لَمْ يَعْرِفُونِي، وَالرُّعَاةُ عَصَوْا عَلَيَّ، وَالأَنْبِيَاءُ تَنَبَّأُوا بِبَعْل، وَذَهَبُوا وَرَاءَ مَا لاَ يَنْفَعُ". وفى الإصحاح الثالث والعشرين من نفس السفر نجده عز وجل يقول إن "َ11الأَنْبِيَاءَ وَالْكَهَنَةَ تَنَجَّسُوا جَمِيعًا، بَلْ فِي بَيْتِي وَجَدْتُ شَرَّهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 12لِذلِكَ يَكُونُ طَرِيقُهُمْ لَهُمْ كَمَزَالِقَ فِي ظَلاَمٍ دَامِسٍ، فَيُطْرَدُونَ وَيَسْقُطُونَ فِيهَا، لأَنِّي أَجْلِبُ عَلَيْهِمْ شَرًّا سَنَةَ عِقَابِهِمْ، يَقُولُ الرَّبُّ. 13وَقَدْ رَأَيْتُ فِي أَنْبِيَاءِ السَّامِرَةِ حَمَاقَةً. تَنَبَّأُوا بِالْبَعْلِ وَأَضَلُّوا شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. 14وَفِي أَنْبِيَاءِ أُورُشَلِيمَ رَأَيْتُ مَا يُقْشَعَرُّ مِنْهُ. يَفْسِقُونَ وَيَسْلُكُونَ بِالْكَذِبِ، وَيُشَدِّدُونَ أَيَادِيَ فَاعِلِي الشَّرِّ حَتَّى لاَ يَرْجِعُوا الْوَاحِدُ عَنْ شَرِّهِ. صَارُوا لِي كُلُّهُمْ كَسَدُومَ، وَسُكَّانُهَا كَعَمُورَةَ"... ترى هل يكفى هذا؟ أم هل ينبغى أن أمضى فى تعداد هذه الوثنيات التى يعج بها العهد القديم فلا أنتهى لا اليوم ولا غدا ولا بعد غد؟ إننا لا نتكلم هنا عن أشخاص عاديين يعيشون فى مجتمعات وثنية، بل عن أنبياء آتاهم الله الحكمة والمعرفة وكلفهم تبليغ رسالة التوحيد فى أمة لم تتوقف يوما عن إنجاب الأنبياء!
    هذا عن العهد القديم، أما فى النصرانية المثلِّثة (وهى غير النصرانية الموحِّدة) فنجد الله يتجسد وينزل إلى الأرض ويصبح إنسانا يجوع ويعطش ويتبول ويتبرز وينام ويتعب ويمرض ويضعف وينسى ويتعرض للإهانات وألوان الأذى ويُصْلَب ويُشْتَم ويُضْرَب ويُتَهَكَّم عليه ويُطْعَن فى خاصرته وتُكْسَر ركبتاه ويموت ويُدْفَن، وذلك كله بعد أن حملت به أمه وولدته وأرضعته حتى نما وكبر وشَبَّ وبلغ مبلغ الرجال... إلخ. كما أنه سبحانه وتعالى لم يَعُدْ واحدا، بل صار ثلاثة: أب وابن وروح قدس... وهكذا. لقد أصبح الله، الذى كان خالقا ومطلقا لا حدود له وجودًا وقدرةً وإرادةً وعلمًا، بشرا مخلوقا ضعيفا محدودا فى كل شىء. وحين كان يموت على الصليب كان يصرخ من بُرَحاء الألم وينادى الله فى عليائه كى يهب فينقذه ويجيز عنه تلك الكأس المرة، ولكنْ ما من مجيب. كما أضحى النصارى يلقبونه بــ"الخروف" (انظر مادة "Lamb" فى "EncyclopediaWebBible" حيث نقرأ:
    “The lamb was a symbol of Christ (Gen. 4:4; Ex. 12:3; 29:38; Isa. 16:1; 53:7; John 1:36; Rev. 13:8). Christ is called the Lamb of God (John 1:29، 36)، as the great sacrifice of which the former sacrifices were only types (Num. 6:12; Lev. 14:12-17; Isa. 53:7; 1 Cor. 5:7)”
    وانظر كذلك مادة "الخروف" فى "دائرة المعارف الكتابية" حيث جاء فيها أنه "يُكَنَّى عن المسيح بــ"حَمَل اللـه" (إش 53: 7، يو 1: 29 و35، رؤ 5: 6)". وقد تكرر الكلام عن الخروف فى "رؤيا يوحنا اللاهوتى" مرارا كثيرة مقصودا به المسيح (الربّ بطبيعة الحال)، ومنها هذه النصوص الثلاثة الموجودة فى الإصحاحات: الخامس والسابع عشر والحادى والعشرين على التوالى: "وَرَأَيْتُ فَإِذَا فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ خَرُوفٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ، لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُنٍ، هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ الْمُرْسَلَةُ إِلَى كُلِّ الأَرْضِ"، "14هؤُلاَءِ سَيُحَارِبُونَ الْخَرُوفَ، وَالْخَرُوفُ يَغْلِبُهُمْ، لأَنَّهُ رَبُّ الأَرْبَابِ وَمَلِكُ الْمُلُوكِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ مَدْعُوُّونَ وَمُخْتَارُونَ وَمُؤْمِنُونَ»"، "10وَذَهَبَ بِي بِالرُّوحِ إِلَى جَبَل عَظِيمٍ عَال، وَأَرَانِي الْمَدِينَةَ الْعَظِيمَةَ أُورُشَلِيمَ الْمُقَدَّسَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، 11لَهَا مَجْدُ اللهِ، وَلَمَعَانُهَا شِبْهُ أَكْرَمِ حَجَرٍ كَحَجَرِ يَشْبٍ بَلُّورِيٍّ. 12وَكَانَ لَهَا سُورٌ عَظِيمٌ وَعَال، وَكَانَ لَهَا اثْنَا عَشَرَ بَابًا، وَعَلَى الأَبْوَابِ اثْنَا عَشَرَ مَلاَكًا، وَأَسْمَاءٌ مَكْتُوبَةٌ هِيَ أَسْمَاءُ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ. 13مِنَ الشَّرْقِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ، وَمِنَ الشِّمَالِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ، وَمِنَ الْجَنُوبِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ، وَمِنَ الْغَرْبِ ثَلاَثَةُ أَبْوَابٍ. 14وَسُورُ الْمَدِينَةِ كَانَ لَهُ اثْنَا عَشَرَ أَسَاسًا، وَعَلَيْهَا أَسْمَاءُ رُسُلِ الْخَرُوفِ الاثْنَيْ عَشَرَ".
    وقد علق ناشد حنا فى تفسيره للكتاب المقدس الصادر عن مكتبة الأخوة على النص الأول بما يلى: "وَرَأَيْتُ فَإِذَا فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ خَرُوفٌ قَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ": وجَّه أحد الشيوخ نظر يوحنا إلى الأسد الغالب صاحب الحقوق الشخصية والاكتسابية لإعلان مشورة الله وتنفيذها، ولكن لما التفت يوحنا لم ير أسدا بل رأى خروفا وديعا. وهذا الخروف هو في وسط العرش كالدّيان، وفي وسط الحيوانات كسيد الخليقة، وفي وسط الشيوخ كالفادي، فهو مركز الدائرة والمحور الذي يدور عليه كل شيء. كان لا بد أن يظهر فشل الجميع لكي يبرز هو بكمال استحقاقه. والمقصود بمنظر الخروف الذي كأنه مذبوح هو جسد قيامته الممجَّد الذي فيه آثار الجراح، نفس الجسد الذي رآه التلاميذ بعد قيامته حين "أراهم يديه وجنبه ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب" (يو 20: 20). وهو نفس الجسد الذي رآه توما حين قال له الرب: "هات إصبعك إلى هنا وأبصر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا". وهو نفس الجسد الذي به صعد إلى السماء، والذي به سيأتي في مجده وتنظره كل عين والذين طعنوه. لقد تكلم إشعياء عن احتقار المسيح وآلامه وتقديم نفسه ذبيحة حين قال: "كشاةٍ تساق إلى المذبح، وكنعجة صامتة أمام جازّيها" (إش 53: 7). وتكلم عنه المعمدان قائلا: "هو ذا حَمَل الله الذي يرفع خطية العالم" (يو 1: 29). نفس هذا الـحَمَل نراه هنا ولكن في مشهد مختلف، لا محتقرا ومخذولا فيما بعد، بل نراه وإذا هو مركز الدائرة في مجد السماء. ومع ذلك فهو يحمل في جسده آثار الصليب، تلك الآثار الخالدة. فالذي رُفِض في الأرض نراه مركز المجد في السماء. والصليب الذي كان موضوع تعييره في الأرض هو أساس استحقاقه ومجده في السماء كابن الإنسان. "خروف قائم": لقد قال له الآب عند صعوده إلى السماء بعد إتمام عمل الفداء: "اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك" (مز 110: 1). وهو يقول لملاك كنيسة لاودكية: "كما غَلَبْتُ أنا أيضا وجلستُ مع أبي في عرشه" (ص 3: 21). ولكننا نراه هنا "قائما" فكأن وقت صبره وانتظاره قد انتهى، فيقوم مستعدا للعمل لكي يخضع أعداءه ويضعهم تحت قدميه. "لَهُ سَبْعَةُ قُرُونٍ وَسَبْعُ أَعْيُنٍ، هِيَ سَبْعَةُ أَرْوَاحِ اللهِ الْمُرْسَلَةُ إِلَى كُلِّ الأَرْضِ": نحن نعرف أن عدد سبعة هو رمز الكمال، وهو يتكرر ثلاث مرات في هذه الآية: فهو كمال إلهي مطلق، كمال القوة لأن القرون رمز القوة، وكمال الحكمة والبصيرة المشار إليها بالأعين، وله الروح القدس في كمال أعماله. من هذا الذي له سبعة أرواح الله؟ أليس هذا دليلا أيضا على لاهوته؟ (انظر أس 11: 2)".
    ويعلق البابا شنودة الثالث على ذات النص فى الحلقة الرابعة والعشرين من "تأملات فى سفر الرؤيا" المنشورة فى موقعه الخاص قائلا: "إننا لا ننسى ذبيحة المسيح حتى فى السماء، فهو الذبيحة التى تشفع فينا فوق السماء". ثم يمضى فيقول إن المسيح قد شُبِّه فى هذه الرؤيا بخروف قائم كأنه مذبوح: فالذبح إشارة إلى أنه مات عن البشر، والقيام إشارة إلى قيامه بعد ذلك وانتصاره على الموت.
    ونفس الشىء تقوله مادة "Lamb" فى "Easton's Bible Dictionary: قاموس إيستون للكتاب المقدس"، إذ نطالع ما يلى:
    "The lamb was a symbol of Christ (Genesis 4:4; Exodus 12:3; 29:38; Isaiah 16:1; 53:7; John 1:36; Revelation 13:8). Christ is called the Lamb of God (John 1:29،36)، as the great sacrifice of which the former sacrifices were only types (Numbers 6:12; Leviticus 14:12-17; Isaiah 53:7; 1 Corinthians 5:7)".
    ويعدّد كاتب مادة "ِِAgneau: الخروف" فى طبعة 2009م من "Encyclopaedia Universalis: الموسوعة اليونيفرسالية" المعانى التى يرمز إليها الخروف فيقول إنها الطاعة والوداعة والتضحية والفداء والتطهير والغذاء، مشيرا إلى العبارة التى قالها يحيى المعمّد فى حق المسيح حسب رواية الأناجيل الحالية من أنه "حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!"، وإلى لفظة "الخروف" التى استعملها له يوحنا مرارا فى رؤياه، وكذلك إلى التهكمات التى صبها الوثنيون فى القرون الأولى على رؤوس النصارى بسبب إطلاقهم هذا اللقب على المسيح. يقول الكاتب:
    "La représentation du Christ sous forme d'un agneau se justifiait scripturairement par le texte de Jean (i، 29) : Ecce agnus Dei. Elle a été très courante jusqu'au ixe siècle، mais elle a été interdite par le canon 82 du concile in Trullo de 692 ; il semble que les païens aient vu volontairement dans la dévotion à l'Agneau un culte animalier idolâtrique. Il semble également que le jeu de mots entre AGNUS et AS(i)NUS ait donné lieu à des plaisanteries. Le Christ، Agneau de Dieu، symbolise، dans l'iconographie chrétienne primitive، toutes les réalités évoquées par l'Écriture; il est modèle d'obéissance et de douceur، victime، rédempteur، purificateur، aliment. On peut même، dans certains dessins des catacombes، retrouver l'image du Christ à la fois brebis et pasteur، sous la forme d'une brebis qui porte le sceau et la houlette. Le rôle de victime est signalé par la position couchée de l'agneau et par l'association du symbole de la croix. La brebis sans croix représente fréquemment l'Église، et assez souvent les apôtres.
    Une autre source essentielle du symbolisme de l'Agneau est le texte dit de l'Agneau mystique، dans l'Apocalypse de saint Jean. Justifiées elles-mêmes par l'apostrophe du Baptiste، dont elles sont des développements littéraires (Jean، I، 29 : «Voici l'Agneau de Dieu qui ôte le péché du monde»)، les formules de l'Apocalypse ont fait naître une abondante iconographie: elles expliquent notamment la représentation de l'Agneau sur la montagne d'où s'échappent quatre ruisseaux purificateurs (Apoc.، xiv، 1). Plutôt que des images symboliques، il y a là des illustrations et comme des rappels de passages scripturaires".
    ويستطيع من يبغى من القراء تفصيلا أكبر أن يرجع مثلا إلى الطبعة الثانية من "The New Catholic Encyclopedia: الموسوعة الكاثوليكية الجديدة" تحت عنوان "Lamb of God".
    على أن عقيدة الثالوث معروفة فى كثير من الديانات الوثنية القديمة، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم فى الآية الثلاثين من سورة "التوبة": "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ". ومن هذه الثواليث ثالوث ميترا وفارونا وأريامان فى الهند، وثالوث أهورامزدا وميترا وأناهيا فى فارس، وثالوث سين وشمش وعشتار فى بابل، وثالوث جوبيتر وجونون ومنيرفا لدى الرومان. كما اختيرت للأعياد النصرانية نفس مواقيت الأعياد الوثنية القديمة المناظِرة مع تبنِّى تقاليدها وشعائرها، مثلما هو الحال فى ميلاد المسيح، فقد جُعِل فى يوم الخامس والعشرين من ديسمبر، وهو ذات اليوم الذى درج الوثنيون على الاحتفال فيه بالعيد الشمسى حيث يتم الانقلاب الشمسى الشتائى فى التقويم الرومانى القديم، وكذلك اليوم الذى كان الوثنيون يحيون فيه ذكرى مولد ميترا أيضا. وبالمثل وقَّت النصارى موت المسيح وصعوده إلى السماء بالفترة الزمنية التى يحتفلون فيها بموت الإله أتيس.
    وهناك قُدّاس التناول الذى يأكل فيه النصارى الخبز من يد الكاهن على أنه جسد المسيح، ويحتسون الخمر معتقدين أنهم يشربون دمه، ذلك القداس الذى يحاكى ما عند الوثنيين القدماء كما لاحظ العالم النفسانى السويسرى الشهير كارل يونج. أما عيد الغطاس فمرجعه أن الكنيسة أرادت أن تستبدله بعيد الماء الوثنى الذى كان يحتفَل به فى ذلك اليوم سواء فى عبادة ديونيزوس أو فى عبادة زُحَل أو فى عبادة إيزيس. كذلك تكثر فى الوثنيات القديمة قصص الملوك والزعماء ذوى الأصل الإلهى كما هو الحال مع كثير من أباطرة الصين وملوك سومر وملوك الحيثيين والفراعنة والإسكندر الأكبر، وبعض الحكماء والأبطال كابن بتاح وابن رع وابن توت فى مصر، وهرقل فى اليونان. وقد توقف العلماء لدن رؤيا يوحنا اللاهوتى ورأوا فيها انعكاسا لكير من الأفكار الوثنية... وهكذا. ويؤكد الفيلسوف الفرنسى إرنست رينان أن الدراسات التاريخية للمسيحية وأصولها تثبت أن كل ما ليس له أصل فى الإنجيل مقتبس من أسرار الوثنية.
    ويجد القراء الكرام تفصيلات كثيرة عن هذه المشابهات والاستعارات فى كتاب "الأصول الوثنية للمسيحية" لمؤلفيه أندريه نايتون وإدجار ويند وكارل جوستاف يونج، وهو من ترجمة سميرة عزمى الزين، ومنشورات المعهدالدولى للدراسات الإنسانية. وهذا كتاب واحد من كتب لا حصر لها تناولت هذاالموضوع الذى لم يَعُدْ ثَمَّ أى خلاف بشأنه بين أهل العلم والتحقيق.
    ولنتريث قليلا مع التثليث بصفة خاصة لأنه هو الأساس الذى تقوم عليه النصرانية الحالية بوجه عام وتنفرد به رغم خلوّ الأديان السماوية منه جميعها خلوا تاما، فى حين أنه موجود فى كثير من الأديان الوثنية كما سوف نرى. وقد تناولت "الموسوعة العربية العالمية" مثلا مفهوم "التثليث"، فكتب محرر المادة المخصصة لذلك أن "التثليث عند النصارى يُقصد به الاعتقاد بوجود ثلاثة أقانيم (شخوص مقدسة، مفردها "أقنوم") في اللاهوت، ويسمى ذلك: الثالوث الأقدس، ويُعَدّ ذلك معتقدًا نصرانيًّا مركزيًّا يزعم بأن الرب هو في الجوهر واحد لكنه ذو أقانيم (أشخاص) ثلاثة، تعالى الله عن ذلك ـ وهذه الأقانيم هي الأب والابن والروح القدس. وهذا المفهوم ليس مقبولا من وجهة نظر المسلمين وقطاعات كبيرة من النصارى أيضًا.
    والمعروف أنه لم يرد تعبير التثليث أو الثالوث في الأناجيل، إلا أن أتباع الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانت يتمسكون بهذه التعاليم ويذهبون إلى أنها مطابقة لنصوص الإنجيل. وكان هذا المفهوم مثار جدل قبل انعقاد مجمعيْ نيقية والقسطنطينية. واحتدم هذا الجدال في الشرق على وجه الخصوص، وكان جزاء الذين رفضوا هذه الفكرة أن حكمت عليهم الكنيسة بالهرطقة (الابتداع)، وكان من جملة المعارضين الأبيونيون، الذين تمسكوا بشدةٍ بالقول إن المسيح إنسان كسائر البشر، وكذلك السابيليون الذين كانوا يعتقدون أن الأب والابن والروح القدس إنما هي صور مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس، والأيوسيون الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزليًّا كالأب بل هو مخلوق منه قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له، والمكدونيون الذين أنكروا كون الروح القدس أقنومًا.
    أما مفهوم الثالوث كما يعتقده النصارى اليوم فقد تبلور تدريجيًّا إثر مناظرات ومناقشات ونزاع طويل، ولم يتخذ صورته النهائية إلا عقب انعقاد مَجْمَع نيقية عام 325م ومَجْمَع القسطنطينية عام 381م. ولما انعقد مجمع طليطلة عام 589م حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضًا، ومن ثمَّ قبلت الكنيسة اللاتينية هذه الإضافة، إلا أن الكنيسة اليونانية رفضت هذه الإضافة واعتبرتها بدعة. وكانت هذه العبارة ولا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيستين: الكاثوليكية واليونانية.
    كان من المتوقع أن يصلح اللوثريون والكنائس الإصلاحية هذا الخلط، إلا أنهم أَبْقَوْا على ما قررته الكنيسة الكاثوليكية. وقد وجدت فكرة الثالوث معارضة شديدة بدءًا من القرن الثالث عشر الميلادي حيث قاد هذه المعارضة جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم، قائلين إن فكرة التثليث مخالفة للكتاب المقدس والعقل".
    وفى "دائرة المعارف الكتابية" نقرأ أنه "لم ترد كلمة "الثالوث" في الكتاب المقدس، حيث لا يذكر الكتاب المقدس هذا اللفظ بالذات تعبيرا عن مفهوم أنه ليس هناك سوى الله الواحد الحقيقي، وأن في وحدانية الله ثلاثة أقانيم هم واحد في الجوهر ومتساوون في الأزلية والقدرة والمجد، لكنهم متمايزون في الشخصية. وعقيدة الثالوث عقيدة كتابية، ليس باعتبار ورودها نصا في الكتاب المقدس، لكن باعتبارها روح الكتاب المقدس. والتعبير عن عقيدة كتابية بعبارات كتابية أفضل لحفظ الحق الكتابي... قد ظهرت بلا شك "ثلاثيات" من الآلهة في كل الديانات الوثنية تقريبا، وإن كانت الدوافع لظهور تلك الثلاثيات مختلفة: ففي الثلاثي أوزوريس وإيزيس وحورس صورة لعائلة بشرية مكونة من أب وأم وابن. وقد يُظْهِر ثلاثي الديانة الهندوسية المكون من براهما وفشنو وشيفا أن هذا ثلاثي آلهة كمجرد محاولة للتوفيق بين ثلاثة آلهة تعبد في أماكن مختلفة لتصبح موضوع عبادة الجميع. بينما يبدو من يمثل الحركة الدورية لتطور وحدة الوجود، ويرمز إلى المراحل الثلاثة من الكيان والصيرورة والانحلال. وفي بعض الأحيان يكون ثلاثي الآلهة نتيجة لميل طبيعي في الإنسان إلى التفكير في "ثلاثيات" مما أضفى على الرقم "ثلاثة" صبغة مقدسة.
    وليس من غير المتوقع أن تعتبر إحدى هذه الثلاثيات بين الحين والآخر أساسا لعقيدة الثالوث الأقدس في المسيحية: فجلادستون يرى هذا الثلاثي في أساطير هوميروس، في رمح بوسيدون ذي الشعب الثلاث. أما هيجل فقد رأي ذلك في الثلاثي الهندوسي، وهو ما يتفق مع عقيدته في وحدة الوجود. وقد رأي البعض الآخر ذلك في الثلاثي البوذي، أو في بعض مفاهيم ديانة زرادشت، أو الأصناف الأغلب في الثلاثي العقلاني عند الفلسفة الأفلاطونية. بينما يؤكد جولز مارتن وجوده في المفهوم الرواقي الجديد عند فيلو عن "القوي"، وبخاصة عند تفسيره لزيارة الثلاثة الرجال لإبراهيم".
    والخلاصة أن محمدا، الذى زعم سام شمعون أنه كان وثنيا وأنه أسس دينه على الوثنية، أستغفر الله من هذا الرجس النجس، قد نجح نجاحا باهرا فى تصيير الوثنية توحيدا صافيا وصارما، فى الوقت الذى فشل فيه قوم شمعون وأنبياؤهم (حسبما يقول كتابهم المقدس ذاته لا كما نقول نحن) فى الحفاط، مجرد الحفاظ، على التوحيد وتَدَهْدَوْا إلى حمأة الوثنية وحضيضها! فماذا بقى فى جَعْبَة سام شمعون وبقية العصابة الكذابة المفترية على الحق والشرف بعد هذا يا ترى من أكاذيب ومفتريات؟

    التعديل الأخير تم بواسطة إبراهيم عوض ; 12/06/2009 الساعة 01:06 AM

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •