راهن الكثيرون ومنذ فترة طويلة من الزمن, على ان الصين ستكون القوة المستقبلية العظمى القادمة خلال القرن الحادي والعشرين, وبالطبع فقد تم بناء ذلك الاحتمال على أسس وعوامل منطقية وعلمية قوية للغاية, منها على سبيل المثال لا الحصر, ان الصين تملك اليوم ثاني اكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الاميركية, مع مراعاة تراجع الاقتصاد الاميركي خلال العقد الأول من القرن الراهن , ومروره بأخطر أزمة اقتصادية منذ الأزمة التي مر بها عقب انهيار برجي التجارة العالميين في العام 2001 م.
وهي - أي - الصين تحتفظ اليوم بأكبر ثاني احتياط من العملات الأجنبية عالميا ـ معظمها بالدولار الاميركي ـ , ولديها أكبر جيش في العالم ـ ما يزيد عن 5ر2 مليون عسكري , مع ان ذلك الجيش بحاجة ماسة الى التحديث والتطوير ـ , ورابع اكبر ميزانية عسكرية تزداد بنسبة متسارعة كل سنة, هذا على غرار مؤهلات أخرى تدفع معظم المراقبين والمحللين المستقبليين الى تأكيد تلك النظرة.
والحقيقة التي لا شك فيها, هي ان الصين تطمح كثيرا الى الظهور كقوة عظمى منافسة ومهيمنة خلال المرحلة القادمة من القرن الحادي والعشرين , وهو طموح شرعي له ما يؤكده ويدفع به الى الإمام, وذلك من خلال المعطيات والمؤهلات الكثيرة التي تملكها الصين اقتصاديا وتاريخيا, والمفارقة القوية هنا تكمن في انه وفي العام الذي غزا فيه الاتحاد السوفيتي أفغانستان, منهيا بذلك حقبة العملاق الشيوعي الأحمر, والذي كان المنافس الوحيد للامبراطورية الاميركية حينها , كان نفسه العام الذي انطلق منه لهب التنين الصيني الى العالم, وذلك من خلال اجتماع اللجنة المركزية الـ 11 للحزب الشيوعي الصيني, والتي ترأسها في وقتها رئيس الحزب القوي الجديد دينج هسياو بينج.
وقد اعتبرت الخطبة التي القاها دينج هسياو بينج في ذلك الوقت الأكثر أهمية في تاريخ الصين الحديث, والفتيل الذي أشعل رماد القوة الصينية العظمى, حيث طالب من خلالها النظام بالتركيز على التطوير والعصرنة , وان يسمح للحقائق ـ لا للايدولوجيا ـ بقيادة مساره , ومن أجمل ما قال دينج هسياو بينج في ذلك السياق المناشد للتطوير وتخطي عقبة الثقافة الأيديولوجية المتقوقعة من انه " ليس مهم ان كان القط أسود أو أبيض , فطالما كان قادرا على اصطياد الفئران , فهو قط جيد".
ولكن ماذا إذا قمنا بنظرة الى النصف الآخر من المعادلة سالفة الذكر, مفندين من خلالها تلك القدرات والمؤهلات الصينية, وخصوصا في كونها قادرة على الإمساك بزمام الهيمنة الجيوسياسية او الجيواستراتيجية لرقعة الشطرنج الدولية خلال القرن الحادي والعشرين, مع مراعاة ان العنصر الذي ساهم في إخلاء الساحة العالمية للقوة الصينية ـ أي ـ الاتحاد السوفيتي, قد عاد ولكن بامتداد جديد ـ ونقصد ـ روسيا الاتحادية, بالرغم من انه ليس هناك من مقارنة ما بين الاقتصاد الروسي والاقتصاد الصيني, ولا من حيث القدرات البشرية.
وهنا نسأل السؤال التالي وهو: هل القوة الصينية الجبارة ذات المؤهلات القوية سالفة الذكر كافية لفتح الطريق أمامها للامساك بزمام القيادة العالمية كبديل للإمبراطورية الاميركية خلال القرن الحادي والعشرين ؟ هذا إذا ما افترضنا جدلا ان القرن الراهن سيفتح مجالا أرحب للهيمنة الأحادية او الثنائية القطبية , مع ان هذا الاحتمال مستبعد لأخر الحدود من ـ وجهة نظرنا الشخصية ـ , وقبل الإجابة على هذا السؤال , لابد ان نفهم أولا ما هي المتطلبات والمؤهلات والخصائص المطلوبة لولادة إمبراطورية صينية عالمية بمعنى الكلمة.
فأولا يجب ان تملك الامبراطورية الصينية الاتساع الجيواستراتيجي الكافي لتخطي حدود الدولة, أي ، ان تملك المساحات الجغرافية من خلال تواجدها وحضورها في مختلف أرجاء الأرض, او من خلال اكبر مساحة من الهيمنة كما هي عليه الولايات المتحدة الاميركية اليوم, والتي استطاعت بطريقة او بأخرى التسلل الى كل أرجاء المعمورة, وهو ما يعطيها القدرة على المناورة والتدخل للمحافظة على مصالحها الاستراتيجية والسياسية المفترضة, وبالتالي يجب عليها ان تملك موازنة مع ما سبق ذكره من الإمكانيات للمحافظة على تلك القدرة وتلك المصالح , كما ولابد لها ، ثانيا، من امتلاك القدرة على السيطرة من خلال قوى الجذب الناعمة والصلبة التي تنهي من خلالها مرحلة المساواة مع الآخرين والانتقال الى مرحلة التبعية لها في تلك المجالات, كما هي الولايات المتحدة الاميركية اليوم في عدد من نواحي الحياة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر تجتذب هذه الأخيرة من خلال قوتها الناعمة فقط ما يقرب الستة أضعاف من المهاجرين الأجانب أكثر من ألمانيا التي تليها مباشرة , كما ان الولايات المتحدة الاميركية هي أول واكبر مصدرين الأفلام والبرامج التلفزيونية في العالم , وتمتلك أوسع وأكثر شبكات الانترنت ومضيفيها , كما تجذب جامعاتها أكثر من مليونين طالب من جميع أنحاء العالم , وتنشر كتبا أكثر من أي بلد آخر, هذا على غرار قوتها الصلبة التي تملك اكبر ترسانة نووية وعسكرية في العالم, واكبر ميزانية نقدية وقوة تكنولوجية ووو الخ , وهو ما أهلها ولفترة زمنية قياسية من التحكم بدفة القيادة العالمية سياسيا وعسكريا وعلميا وتكنولوجيا وغيرها من نواحي الحياة المدنية والعسكرية.
فهل تملك الصين حاليا تلك القدرات او حتى البعض منها ؟ بالطبع لا, وحتى البعض مما تملكه لا يؤهلها الى تلك القيادة العالمية في الوقت الراهن على اقل تقدير , فهي على سبيل المثال لا الحصر ما زالت لا تملك القدرة العسكرية اللوجستية التي تؤهلها للمحافظة على مصالحها خارج نطاق محيطها الإقليمي الجغرافي حتى الآن , كامتلاكها لطائرات التزود بالوقود في الجو, أو حاملات للطائرات بالرغم من تزايد الأنفاق العسكري للصين ، خاصة استثماراتها في التكنولوجيا العسكرية المتقدمة, كما إنها لا تملك سوى ترسانة نووية إستراتيجية محدودة , كما أنها لا تملك الكمية الكافية من الغواصات النووية القادرة على احتواء او مواجهة ابسط الأخطار الموجهة الى سيادتها تحت المياه, وغيرها الكثير من نقاط الضعف العسكرية والاستراتيجية, هذا بخلاف تراجع النفوذ الصيني السياسي في العالم وتقوقع الثقافة الصينية.
إذا، وبتقديري الشخصي، وبناء على المعطيات السابقة, فإن الجبروت الاقتصادي الصيني الحالي, والذي يعول ويراهن عليه الكثيرون, لا يمكن له ان يحول بحال من الأحوال الجمهورية الصينية الى قوة إمبراطورية عالمية عظمى بكل ما تعنيه الكلمة من معنى , فليس بالاقتصاد وحده تولد الإمبراطوريات, رغم انه العامل الأهم في ذلك , كما ان الصين لا تملك المعطيات الكافية في الوقت الراهن على اقل تقدير للتحول من الدولة الى الامبراطورية العالمية, وليس ذلك ممكنا بشكل قطعي خلال العقدين القادمين من القرن الحادي والعشرين.
ولكن ما نستطيع التأكيد عليه هنا, هو كون الصين ستكون خلال العقدين القادمين القوة الوحيدة القادرة على مواجهة ومنافسة الاقتصاد الاميركي, والمهيمن الأكبر على الاقتصاد العالمي خلال هذا القرن, بالاضافة الى انها - ومن وجهة نظرنا الشخصية - ستكون القوة الاقتصادية العظمى إقليميا فقط , وبشرط المحافظة على نمو اقتصادها كما هو اليوم, أما من الناحية العسكرية فسيكون ذلك صعبا حتى إقليميا, بالرغم من بعض الاحتمالات على ذلك, ففي دراسة أعدتها مؤسسة راند Rand في العام 2000 م , الى انه وبحلول العام 2015 م ستكون نفقات الصين العسكرية ستة أضعاف نفقات اليابان , كما ان رأسمالها العسكري المتراكم سيصل الى خمسة أضعاف ما لدى اليابان ـ بحسب قياس تعادل القوة الشرائية , ولكن العقبات التي تحول دون ذلك كثيرة وبالغة الصعوبة, فهي الى الآن لا تملك السيطرة حتى على محيط بيتها التاريخي القديم, ولا تملك القدرة العسكرية حتى على احتواء آسيا الشرقية, مع عدم تناسي القوى العالمية العسكرية المحيطة بها كروسيا الاتحادية والولايات المتحدة الاميركية على سبيل المثال لا الحصر.
إذا فإن خلاصة الأمر, هو التأكيد على استحالة ولادة إمبراطورية صينية عظمى عالمية حتى نهاية العام 2030م على اقل تقدير قادرة على لعب دور عالمي جيوسياسي او جيواستراتيجي, وهذا فقط في حال استمرار الوضع الاقتصادي والعسكري المتنامي ايجابيا للصين وتراجع دور الامبراطورية الاميركية العالمي, وعدم ظهور أي تحولات ومتغيرات إقليمية او عالمية سلبية تحول دون ذلك حتى تلك الفترة , مع التأكيد على إمكانية بروز الصين كقوة عظمى إقليمية آسيوية خلال الفترة القادمة بنفس ثبات المعطيات والشروط سالفة الذكر, مع الأخذ في الاعتبار بأن القرن الحادي والعشرين سيكون قرنا متعدد الأقطاب والقوى العالمية الفضفاضة الكبرى , وبالتالي صعوبة امتلاك قوة بعينها دفة الهيمنة العالمية.