صدر الجزء الاول من كتاب بعنوان ( ملامح الصورة الفنية في الأحاديث النبوية )


من تأليف الشاعر محفوظ فرج ابراهيم


عن مطبعة النحلة مجمع باب المعظم بغداد


الطبعة الاولى الجزء الاول


أيار 2009





وهذا حديث نبوي شريف مقتطع من الكتاب


قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي ذر رضي الله عنه




( إني أرى ما لا ترون ، أطّتْ السماء وحُقّ لها أن تَئِط،


ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى


والله لو تعلمون ما أعلم


لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا


وما تلذذتم بالنساء على الفرش


ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى )



رواه الترمذي وقال حديث حسن


رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين
الصفحة 189


المشاهد المترامية


إن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم هو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة وغشاه بالقبول وجمع له بين المهابة والحلاوة وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام مع استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً ولا أقصد لفظا ولا أعدل وزنا ولا أجمل مذهبا ولا أكرم مطلبا ولا أحسن موقعا ولا أسهل مخرجا ولا أفصح معنى ولا أبين في فحوى من كلامه صلى الله عليه وسلم ( البيان والتبيين / الجاحظ )
في الحديث الشريف صورة غيبية ليست محسوسة صوّرها النبي صلى الله عليه وسلم كما لو أن الذي يقرأ الصورة قد شاهدها معه حقيقة، لقد نقلها مجسدة تعج بالصوت والحركة وإذا كانت الرؤيا في (زمن) ماضٍ فانه يمتد إلى جميع الأزمان.


فالسماء (المكان) المترامي الأطراف قد استوعب الأزمان وهو مسرح الصورة.



والصورة الفنية الأولى تتحرك من خلال الأفعال ( أرى، ترون، أطّت، تأط) ولعل(واضعٌ، وساجداً) بين الثبات والتحول هما مركز الصورة التي وردت على صيغة اسم الفاعل لكي لا يتحدد الزمن ولذالك لم يقل (يضع، يسجد ) أو (وضع ، سجد ).


لقد افتتحت الرؤيا بالطباق الذي يدلل من الناحية النفسية على انفعاله (صلى الله عليه وسلم) وقلقه على أمته.
وهذا الطباق السلبي قد أفضى إلى تراسل الحواس المدهش فأول ما رأى صوت الاطيط ( الرِحْلَ والقُتْبَ ) ذلك ما يدلل على توحد الحواس واشتراكها في الرؤيا فلم يقل أسمع الأطيط وأرى الملائكة.


وهذا التراسل مما يساهم في تكثيف المشهد وتزاحم الصورة وتراكمها وإبعادها عن الميوعة والترهل.


ثم لا تلبث أن تدخل إلى المشهد المترامي الذي لا تحده حدود إلا وهو محصور في مخيلتك ليتحول إلى حقيقة ( ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى ).


فإذا كان الأطيط صوت رِحْلٍ على دابة في الأرض وهي آية من آيات الله فإن أطيط السماء قد تحول إلى ملك استوعب الملائكة كلهم وهم يضعون جباههم ساجدين لله تعالى.


ويمكن للمخيلة أن ترى من خلال ( المفرد ) (الملك ) أعداداً لا تحصى من الملائكة الساجدين لله.


ولو تساءلنا عما أطّرَ هذا المشهد وحصره بهذا الشكل لوجدنا إن القصر وهو توكيد بنفس الوقت ( ما و إلاّ ) فقد قصر (صلى الله عليه وسلم ) المكان (السماء) على الملائكة الساجدين .


ولو تتبعنا الصورة من وجه آخر وتعمقنا فيها وكيف ترامت بهذا الشكل سنجد الألف وهو حرف مد يفضي إلى امتدادها إيقاعاً وتصوراً ( فيها ، أصابع ، واضع ، ساجدا ، تعالى ) ثم إن تكرار العين في المشهد ( وهي لم تدخل في كلام إلا وَحسنته ) لأنها أبعد مخرج فكأنها جاء ت لتساهم من طرف خفي في عمق الصورة (موضع، أربع، أصابع، واضع ).


في المشهد الثاني المقابل للصورة الفنية الأولى تقدم عدم علم البشر على علمه (صلى الله عليه وسلم) في حين إنه (صلى الله عليه وسلم) قدم في المشهد الأول رؤياه على عدم رؤيتهم ( إني أرى مالا ترون) ( والله لو تعلمون ما أعلم ).
فمن خلال المشهد الأول تبين علمه ( صلى الله عليه وسلم) ولابد أن يكون المشهد الثاني مركزاً على عدم علمهم ولكن نفي العلم عنهم كان بواسطة الشرط المتضمن معنى النفي لأن عدم علمهم لم يعد غامضاً ولهذا كان النفي تلميحاً دقيقا فكان ( لو تعلمون ) يقابل ( لا ترون ) وقد سبق ذلك بالتوكيد القسم ( والله ).


إن ذلك القسم المتتالي في لامات التوكيد التي هي أجوبة الشرط المعطوفة أعمق من أرى إلى أعلم وإذا كانت الصورة الأولى مدهشة فإن حذف المفعول به الذي كان خبراً في ( أطّت السماء ) تشير من خلال الرؤيا الأولى إن المفعول به سيكون أفظع هولاً وإن حذفه أبلغ من ذكره فوقْعُ الحذف في النفس سيترك السامع تتداعى لديه أفنان من العلم لا تحده حدود فيكون حذفه أوقع من ذكره .


إن وقعه في الرؤيا التي حدثت في المشهد الأول يمكن أن تكون تمهيداً يبنى عليه علم ما لا يمكن ذكره من شدة رهبته التي ستكون نتيجته ضحك وبكاء وهجر النساء في الفرش على الرغم من أنه غريزة لدى الإنسان.


المشهد الثاني هو التحول من مشهد( الرؤية ) إلى مشهد (العلم) وقد تراكمت أساليب التوكيد لتلتحم بالصورة الأولى القسم (والله) و( لام ) التوكيد تكررت ثلاث مرات وما تراكم التوكيد إلا لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) يعلم أن الاقتناع بمثل هذه الصور المدهشة التي لا يطيقها بنو البشر تحتاج إلى ما يؤكدها لاسيما وإن الدعوة الإسلامية ما زالت في بدايتها ومثلما كان المشهد الأول قد تراكمت فيه الحركة والصوت فإن الصورة الفنية الثانية قد تداعت فيها الأفعال لتصور سرعة التغير في الحركة والانفعال ( تعلم، أعلم، ضحكتم، بكيتم، تلذذتم، خرجتم، تجأرون ).


إنها صورة الأرض كلها تقابل صورة السماء كلها في المشهد الأول السماء ( ما فيها
موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى ) أهـل الأرض حين يبلغهم العلـم ( يضحكون، يبكون، يتركون التلذذ بالنساء، يخرجون إلى الصعدات، يجأرون ).


وهذه الصورة تتحقق بالمقابلة بين جملة ( لضحكتم قليلاً ) وضدها ( لبكيتم كثيراً ) إن هذا التناقض بين الحالتين يبعث على القلق والتوتر.


لعل انفعاله وقلقه على حال أمته (صلى الله عليه وسلم) كان له أثره في إيصاله الصورة الحية الداعية إلى عبادة الواحد الأحد.


إن اسم الموصول (ما) لم يبق مجهولا في المشهد الأول فقد اتضح في الخبر ( أطت السماء وحق لها أن تئط ) ولكنه في المشهد الثاني المقابل (ما أعلم) للأول ظل مجهولا ولكن الخبر وصف لنا ( أثره في حال أهل الأرض ) والحذف الذي حصل له أثر كبير إذ يدع المتلقي يتفكر ويتملى صوراً متعددة يرتفع أثرها إلى مستوى يكون الحال فيه الضحك والبكاء وهجر النساء والخروج إلى الطرقات واستغاثة البشر بصوت مرتفع إلى الله.


إن وضوح الصورة وتناغمها الإيقاعي في التوازي الصرفي (ضحكتم، بكيتم، خرجتم ) ( قليلا، كثيرا ) وتكرار (ما) أربع مرات كان يمثل انسجاما رائعا يمد الصور المتلاحقة وقعا نفسيا معبرا وتنتهي الصورة بالصوت ( تجأرون ).


فإذا كان صوت صورة السماء يبتدأ بالأط فإن صورة الأرض ستنتهي بصوت عالٍ يستغيث.


ولا بد لنا من أن نذكر البناء الذي اعتمد عليه ( صلى الله عليه وسلم) فارتفع بالصورة كلياً إلى هذا المستوى ببيانه النافد














الرؤية
السماء الأرض
إني أرى ما لا ترون والله لو تعلمون ما أعلم






توكيد بالحروف قدم رؤيته نفى الرؤية عن البشر توكيد بالقسم قدم عدم علمهم المفعول به
على البشر على علمه المصدر المأول





الصوت
أطّت السماء
بداية الصورة
الخبر أوله صوت السماء كصوت الرحل
المفتتح للصورة المتحركة تجأرون إلى الله تعالى
نهاية الصورة
أثر الخبر صون عالي يستغيث وهو نتيجة
لأثر الخبر في الصورة المتحركة
النفي
ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى ما تلذذتم بالنساء على الفرش


ذكر الخبر المفعول به
حذف الخبر المفعول به والاكتفاء بأثره