الفصل الثالث
من ملاعب أحياء زمان , كان لنا أبطال
التراث الرياضي الشعبي , جزء هام من تاريخ رياضتنا الوطنية . لكنه لم يحظ بالدراسة والبحث , وبقي عبارة عن صفحات عزيزة في ذكريات يعز على الرياضيين وجمهور المتفرجين نسيانها , باعتبار ما عرفته من إبداعات , سواء أكانت ناتجة عن المؤهلات الفطرية أو بالاحتكاك , وأحيانا بتجاوز العديد من المعيقات التي تتعلق بالتكوين الأساسي للمجتمع
أصبحت عدة أسماء في عداد التاريخ الرياضي المغمور رغم ما أعطته للرياضة من مهارات وتقنيات ومواقف مأثورة دافئة , كما أصبحت الساحات " الملاعب " أطلالا أو مآثر أو تراثا شفاهيا يرويه من عاشوا لحظات به بتعلق يتصل بالحياة الأصيلة الحقيقية للممارسين ومأثوراتهم في السلوك الرياضي وملاحمهم وقيمهم التي نرى أنها تحمل إلينا رائحة الماضي تحفيزا للحاضر واستلهاما يقربنا من اليقين في معرفة معالم المستقبل الرياضي
وأجزم كمتتبع صغير السن شاهد وحاضر في هذه الفترة في بعض الفضاءات . أنها برياضييها أنتجت أفضالا على الألعاب الرياضية المغربية بلا شك لأنها كانت وسيلة تربوية طبيعية ترويحية أصيلة . ولم يكن في بلادنا في هذه الفترة وقبل الستينيات تلفزيون يوثق للمرحلة ويحقق في عطاءاتها التي كانت أكثر عفوية وأبسط تجهيزا وأقل تعقيدا , ولكنها كانت مهيئة للقفز إلى القمم الرياضية . لم يكن تاريخا قديما . ولكنه حمل ملامح ضرورية لفهم ظاهرة الرياضيين الفقراء في ملاعب الأحياء الشعبية التي لكل منها طعمه وتاريخه ومزيج رواده . فما يمكن استخلاصه أن ملاعب الأحياء ظلت عبر التاريخ مراكز للتكوين الرياضي ولو في شكل غير منظم – على غرار ما يصطلح عليه اليوم في مجال التربية : التربية غير النظامية – مع الإبقاء على الفارق طبعا – وبدل أن نستحضرها كمن يبكي على أطلالها ويتذكر تراثها الرياضي – رغم أنه مهم لذاكرتنا الرياضية – فقد ظلت هذه الملاعب في حاجة ماسة لإستراتيجية تنموية إن في مخططات الحكومة كمدبرة للشأن العام لتجعلها مرتبطة بالتنمية . أو على مستوى الجماعات المحلية لتهتم بإحداث ملاعب في كل مجموعاتها السكنية والقيام بصيانة وترميم ما هو متوفر لديها ولا تهدمها تحث ذريعة التوسع العمراني وإعادة هيكلة الأحياء , وأمام هذا التقصير نبقى كمن يصرخ عبثا لإصلاح رياضتنا ما دام بيننا من يهملها وينسى الفقراء المستفيدين من مزاياها , فهو كمن يردم تراثنا ويدمر أسس رياضتنا حتى قبل أن يهيئ البديل
ومن هذا التراث – وما هو إلا نموذج لما تختزنه مدننا وقرانا – مما يستحق منا الوفاء والإحياء أقدم هذه الحالات / الشهادات : من ملاعب أحياء زمان .. كان لنا أبطال
1 – ذاكرة فاس الرياضية
ننشر خلال سلسلة قصيرة من مقالات من ذاكرة فاس الرياضية . عساها توقظ النفوس وتحيي الحنين إلى الممارسة الرياضية الحقة . الخالية من كل زيف بعد أن طغى ما هو مادي وغاب ما هو أساسي لروح المزاولة الرياضية التي كانت وراء عدة نتائج حسنة وتطورات طموحة على المستوى المحلي والوطني والدولي

أ – ملعب مجمع الدولة
مع فجر الاستقلال , وفتح بعض الطرق خارج أحياء المدينة العتيقة واستتباب الأمن , أخذت العائلات تتيح لأبنائها الانتقال إلى إحدى الساحات القريبة من الحي والتي تتحول إلى ملعب لممارسة إحدى الرياضتين . كرة القدم أو الجمباز وأحيانا رياضة "المشاوشة " المصارعة الحرة اليوم استعدادا للمبارزة في ساحة ضريح المولى إدريس كلما حل الموسم السنوي
ومن الملاعب التي اشتهرت ساعتها ملعب " مجمع الدولة " الذي كان عبارة عن طريق " عقبة ومنحدر " ما أن فتحت لتربط بين أحياء المدينة العتيقة كعقبة الفيران والزيات ورأس الجنان وزنقة الشدة والقلقليين وبوعجارة وبورجوع , حتى ظلت خالية من المارة إلا ما ندر , فكان للأطفال والشبان منها ملعبا يتحدون صعوبة انحداره وارتفاعه , وفرض التنظيم العفوي نفسه – حتى لا أقول الامتياز لفرق الأحياء القوية , ولو أن القوة هنا بالعدد – ليحتضن فرقا في الصباح وفرقا في المساء , ويعين حكما واحدا فقط من إحدى الفرق المنتظرة والتي تشكل جمهورا غفيرا , قبل أن يتطور التنظيم إلى دوري يومي أول الأمر وعلى امتداد الأسبوع فيما بعد
ومن تلاحق كثرة الأسماء التي تعاقبت على التباري بهذا الملعب واكتسبت قوتها ولياقتها البدنية من طبيعته حتى أنه يصعب ذكر بعضها , وكان الأطفال الذين لا يعرفون أسماء وألقاب الفرق يميزونها بشكل الكرة التي يحملها كل فريق . فهي إما كرة " اللاسي " حبل صغير يسد أفقيا مدخل المنفاخ في جلدة الكرة . أو كرة " الفالف " أو كرة سيد الغوتي – رحمه الله – أو الكرة المشحمة خيوطها حتى لا تتمزق غرزاتها عند ارتطامها بالأرجل أو بالحائط الطويل الذي يشكل خطا من خطوط الشرط
وبين فترات لعب الكبار تعج العقبة الملعب بأطفال الأحياء المجاورة أو الخارجين من المدرسة , وتتكون الفرق المتبارية بالاقتسام بالمفارقة بمعيار القدمين بين اثنين يتجه كل واحد نحو الآخر في خط مستقيم , ويكون الامتياز لصاحب القدم العلوية في البداية ليختار أعضاء فريقه وتتكرر العملية بين الباقين إلى أن تتشكل الفرق حسب عدد اللاعبين المتواجدين , وإذا ظل فريق غير مستوف لعدده ترقب من سيفد على الملعب . وحيث أنه لم يكن للمقابلة وقت إلا بفوز الفريق الذي يسجل إصابتين , فإن موعد التباري يكون قريبا لغزارة الإصابات ويمكن للفريق الذي لم يكمل عدد لاعبيه أن يستعير لاعبا من الفرق السابقة , كما أنه لم تكن كرة لعب الصغار من نفس حجم كرة الكبار . فهي كرة " تنيسة ' من الجلد الرطب غالبا ما لا تصمد أكثر من مقابلتين في أحسن أنواعها وهي ليست كرة لعبة التنس الحالية أو كرة الرئة ربما سميت كذلك لأن لونها يشبه لون الرئة . وهي سهلة التحليق والسرعة ويصعب اللعب بها ومع ذلك يتمرسون عليها بخفة في الارتفاع والتعامل معها للتحكم فيها . وكلما حدثت جروح في الأقدام الحافية والأصابع بخاصة , كان التداوي دائما بالعنكبوت أو الفلفل الأحمر , وقليلا ما تكون الجروح داعية لمغادرة الملعب . وما أن يأتي دور لعب الكبار حتى يفسد على الصغار متعتهم لإخلاء الساحة ولكنهم لا يتفرقون , بل ينزلون إلى سفح العقبة لجعل ملعبهم في مؤخرة الملعب الذي يحتله الكبار , حتى إذا اشتد وطيس مقابلة الكبار , تحولوا إلى جمهور مشجع , يتشربون الكرة وفنون اللعب بالتتبع والملاحظة والتشجيع , ولم يكن لمقابلة الصغار حكم بل أحيانا يكون أكبرهم جسما , لاعبا وحكما وفي الغالب يجرون مباراتهم بدون حكم , حتى إذا حدث اختلاف في مشروعية إصابة أو لمسة أو سقطة أو حركة , احتكموا لجمهورهم أو التجأوا لكبير إذا كان يتابع تباريهم ويبرعون في وصف وسرد مجريات ووقائع حدث الاختلاف . ويقبلون بالقرار النهائي إذا كان جماعيا أو من راشد كبير
فاس : محمد التهامي بنيس
المقال منشور بجريدة الاتحاد الاشتراكي . عدد 5632 بتاريخ الإتنين 11 يناير 1999 م
.................................................. ..................................................