بسم الله الرحمن الرحيم
مأساة الجامعات العربية في زمن الرأسمالية الرثة!
حسام ابراهيم

19/06/2009



لم يبق وقت!..ترتجف العبارة من جرف الحقيقة المؤلمة!..لا توجد اي جامعة عربية في قائمة افضل 500 جامعة على مستوى العالم لعام 2008 في حين تضمنت هذه القائمة التي نشرت مؤخرا ست جامعات ومراكز بحثية اسرائيلية!!..وسط الظلال المحتدمة لصليل الفاجعة قد يكون من المفيد اللجوء للنظرة المقارنة والعبور الخاطف للشاطئ الآخر بحثا عن اجابات لأسئلة مثقلة بالوجود الجريح في زمن الرأسمالية العربية الرثة والتي لا تتعلم ابدا ما هو مفيد من سيدتها في المركز او الرأسمالية الأمريكية!..ماذا عن الجامعات في الولايات المتحدة التي تصدرت هذه القائمة وكيف ينظر المجتمع الأمريكي لقضايا التعليم وخاصة قضية التمويل؟.
من المثير للتأمل هذا الاهتمام غير العادي حقا بقضايا التعليم والجامعات وكل هذا الزخم من الكتابات وفي الاونة الاخيرة صدرت'عدة كتب تتناول اوضاع الجامعات في الولايات المتحدة منها كتاب : 'حطموا البوابات..مواجهة التقسيم الطبقي في التعليم الأمريكي' بقلم بيتر ساكس وكتاب 'ادارة رائدة للحافظة المالية..توجه غير تقليدي للاستثمار المؤسسي' وهو من تأليف دافيد سوينسن ويتناول في طبعة جديدة ومزيدة ومنقحة ادارة الوقفيات لصالح الجامعات الأمريكية، مركزا على نموذج جامعة ييل في مواجهة الازمة المالية..انها الوقفيات التي لها مكانتها العزيزة في الابداع الاقتصادي الاسلامي واصوله!.

من أين تأتي الأموال

فالاقتصاد الوقفي الذي يشكل احد أهم مرتكزات التمويل للجامعات الامريكية حتى ان جامعة هارفارد تغطي ما يربو على ثلث الاعتمادات المالية للموازنة السنوية والمقدرة بنحو ثلاثة مليارات ونصف المليار دولار من عائدات وقفيتها التي تعد الاكبر على مستوى الجامعات في الولايات المتحدة وبعدها تأتي وقفية جامعة ييل ثم وقفية جامعة ستانفورد.
وفي سياق الاهتمام المستمر بقضايا الجامعات كشأن مجتمعي امريكي- صدر لميتشيل ستيفنز كتاب مؤخرا بعنوان: 'صنع طبقة..الالتحاق بالجامعات وتعليم النخب' فيما اشترك مايكل ماكفيرسون وساندي باوم مع آخرين في وضع كتاب بعنوان: 'الوفاء بالألتزام..توصيات مختصرة لاصلاح دعم التعليم الفيدرالي' وها هو كتاب اخر لجين ويلمان بالاشتراك مع مؤلفين آخرين وعنوانه: 'انماط الانفاق على التعليم العالي««من اين تأتي الأموال واين تذهب؟'.
ويبدو المنظور النقدي حاضرا دائما في هذه الكتب والكتابات عن التعليم وهناك كاتب مثل اندرو ديلبانكو يرى ان الجامعات تعاني من مشاكل ومتاعب في ظل الأزمة المالية التي تحولت لأزمة اقتصادية ذات تداعيات اجتماعية رغم الوقفيات الهائلة للجامعات في الغرب حتى ان وقفية جامعة هارفارد الأمريكية كانت تصل قبل هذه الأزمة الى 40 مليار دولار. والمثير للاهتمام ان خريجي هذه الجامعة الشهيرة تلقوا رسائل عبر البريد الالكتروني تحثهم على مساندة جامعتهم حتى تعبر بأمان الامواج العاتية للأزمة الاقتصادية والتي سببت عجزا لجامعة هارفارد يقدر بمئات الملايين من الدولارات..ولم لا؟!..فقراءة واقع الجامعات الأمريكية تفيد بأن خريجي هذه الجامعات يشكلون احد مصادر تمويلها عبر تبرعاتهم السنوية للجامعات التي تخرجوا منها وفي تجسيد رائع لقيمة الوفاء والولاء.
ولعل ما يثير الاعجاب ان المجتمع الأمريكي سعى بمرونة وجدية لتقليص الاثار السلبية للأزمة المالية-الاقتصادية على الجامعات..انها الازمة التي تفيد تقديرات معلنة انها كبدت وقفيات الجامعات الكبرى في الولايات المتحدة خسائر تتراوح ما بين العشرين والخمسين في المائة من اصول هذه الوقفيات، غير ان المجتمع الأمريكي مضى عبر جدلية المثقف ورجل الشارع ومن خلال كتابات متعددة في الاجابة عن السؤال الكبير والمركب والمؤرق'لهذا المجتمع:'ما الذي تعنيه الازمة المالية بالنسبة للجامعات الأمريكية وكيف ننقذ هذه الجامعات باعتبارها ثروة للمجتمع كله بقدر ما هي عنوان رأس المال الرمزي لأمريكا ولا نسمح بتهديد المعايير الأكاديمية او التراجع عن المركز الأول الذي تحتله جامعاتنا على مستوى العالم'؟
وحتى فيما يسمى بالجامعات الخاصة في امريكا ستجد بعد العدالة الاجتماعية حاضرا، فالطلاب الذين ينتمون للشرائح الميسورة يدفعون رسوما اكبر من زملائهم المنتمين للشرائح المحدودة الدخل. وفي كل الأحوال فان المسألة ليست تجارة لأن الرسوم السنوية التي يدفعها الطالب المنتمي للشرائح الثرية لا تغطي بالكاد سوى ثلثي تكاليف تعليمه الجامعي ومن ثم فهذه الجامعات مدعومة بصورة او اخرى من الدولة والمجتمع الذي بلغ من الوعي حدا لا يسمح بتحويل التعليم الى 'سداح مداح'!.
ويحذر بيتر ساكس في كتابه الجديد 'حطموا البوابات' وهو كتاب غني بالمعلومات بقدر ما ينطلق من نظرة نقدية من ظاهرة انخفاض التمويل على مستوى الولاية في امريكا للجامعات العامة في الولايات مثلما يحدث في جامعة ويسكونسين التي تعاني ـ رغم ما يسمى بالتقاليد التقدمية الطويلة الأمد في هذه الولاية ـ من انخفاض تدريجي في الدعم المالي، وهو ما تتعرض له ايضا جامعة فيرجينيا رغم ان الازمة المالية الراهنة تزيد من عدد الطلاب الراغبين في الالتحاق بهذه الجامعات بدلا من الجامعات الخاصة .
واللافت للنظر هذا الاقبال الكبير في سياق الازمة المالية الراهنة على كليات المجتمع في الولايات المتحدة والتي من المفترض ان معاهد اعداد الفنيين في مصر تشبهها او تقوم على نفس فكرتها وفلسفتها وان كانت هذه المعاهد المصرية تبدو في ازمة مستعصية تحول دون ان تأتي بالثمار التي كانت مرجوة منها، مع انه حتى الكبار في المجتمع الأمريكي ممن تجاوزوا سن التعليم النظامي يلتحقون ببرامج مسائية في تلك الكليات بغرض 'اعادة التدريب واكتساب المزيد من المهارات اللازمة للفوز بوظائف مطلوبة في سوق العمل'..فهل كانت معاهد اعداد الفنيين ضحية اخرى من ضحايا 'ثقافة الفشخرة' في بلد مثل مصر؟!.
ومن المثير للاهتمام ان الازمة المالية الحالية في الولايات المتحدة لم تؤثر على التمويل الفيدرالي للمشاريع البحثية المرتبطة بأغراض الدفاع في الجامعات، وهي مشاريع متعددة تشمل حتى دراسات المناطق مثل المنطقة العربية ودراسات اللغات الاجنبية..والمتأمل للتجربة الأمريكية المتفوقة في التعليم يخرج بانطباع فحواه ان هذا التفوق وليد فلسفة تمزج ما بين المال العام والمال الخاص ببراعة في تمويل الجامعات ومقننة بحكم تاريخي للقضاء الأمريكي في بدايات تكوين الدولة الفيدرالية قضى بامكانية اسهام المال العام في تمويل الجامعات وكان الحكم يتعلق بجامعة هارفارد لكنه بات يشكل سابقة'استفادت منها جامعات امريكية اخرى في مجتمع قيل الكثير عن تقديسه للمبادرة الخاصة وارتكازه على القطاع الخاص ورجال الأعمال.
ولقد قالها الرئيس الأمريكي جون آدامز منذ نحو 225 عاما :'على الشعب بأكمله ان يتعلم بأكمله وان يكون مستعدا للنهوض بتكاليف هذا التعليم'..وحتى في ذروة حكم المحافظين الجدد للولايات المتحدة وفي ظل ادارة الرئيس جورج بوش الصغير تدخلت السلطة الفيدرالية لضمان العدالة التعليمية وتكافؤ الفرص بعد ان اصدرت لجنة استشارية فيدرالية تقريرا في عام 2002 بعنوان 'وعود فارغة' رصدت فيه جملة حقائق من اهمها ان الحواجز المالية تحول دون التحاق نحو 400 الف طالب امريكي بالجامعات التي يرغبون في دخولها وتؤهلهم قدراتهم لذلك لولا انتمائهم لشرائح محدودة الدخل.

ثقافة الفشخرة

ومن ثم فقد نادى بعض الاكاديميين الأمريكيين البارزين مثل ويليام براون الرئيس السابق لجامعة برينستون بضرورة اقرار مبدأ التمييز الايجابي لصالح محدودي الدخل عند الالتحاق بالجامعات تماما مثلما يطبق هذا المبدأ على المنتمين لبعض الأقليات والموهوبين في الألعاب الرياضية والهدف في الحقيقة هو الحد من التشرذم الطبقي في التعليم والحيلولة دون حرمان الموهوبين من فرص التعليم العالي بسبب ظروفهم الاقتصادية غير المواتية ..انهم هناك يدركون بالفعل وبعيدا عن الشعارات ان التعليم قضية امن قومي !..ويبدو جليا ان الرئيس الأمريكي الحالي باراك اوباما هو نتاج اصيل لنظام تعليمي لم يهدر ابدا العدالة وتكافؤ الفرص في دولة تقود الرأسمالية في العالم لكنها تعي ان التعليم هو الذي يمنحها صك الامتياز لقيادة الرأسمالية العالمية.
فهل ترتقي استجابتنا لمستوى التحدي ويشهد العالم العربي شراكة حقة ومخلصة بين المال العام والمال الخاص او بين الدولة ورجال الأعمال بعيدا عن 'ثقافة الفشخرة' وعقد النقص الجلية في سلوكيات الرأسمالية العربية الرثة والتابعة لتمويل نهضة نشتاق لها حقا وتكون من تجلياتها المباركة اعلاء قيم عزيزة مثل العدل والحرية و الجدارة ولتدخل جامعاتنا ضمن قائمة افضل 500 جامعة على مستوى العالم مثلما دخلت ست جامعات ومراكز بحثية اسرائيلية هذا التصنيف العالمي لعام 2008 والذي جاء خلوا من اي جامعة عربية؟!..ماذا نحن فاعلون ؟!..لم يبق وقت!.
نائب مدير تحرير وكالة انباء الشرق الأوسط - مصر