يوثق الموقع الرسمي للرئيس جمال عبدالناصر ، جميع مقالات محمد حسنين هيكل التي كانت تظهر كل يوم جمعة تحت عنوان "بصــراحة" ...



وحيث أن هذه المقالات ، تعتبر توثيق لأحداث هامة مرت بها منطقتنا ... ، سأنشر عدد من تلك المقالات ، حيث يظهر منهم حقائق كثيرة ... أهمهم ... حقيقة واضحة ... أننا لم نتغير ....



ويبقي السؤال الهام ... لمـــاذا ... تطورت جميع دول العالم أجمع ... فتطورت دول من "منطقة دول "العالم الثالث" ... إلي قوة "نووية" ... "الهند ... وباكستان ... وإسرائيل ... و ... إيـــران" ... بينما تتخلف مصر ... بشكل واضح أدي إلي هامشيتها "عالميا" و "عـربيا" .. و "إقتصاديا" ... وسياسيا .... وبالتالي أيضا فقدانها لقيمتها ووزنها





الفقرة التالية ، يبدأ بها موقع جمال عبدالناصر هذا الباب المخص لمقالات "بصراحة"




العقد النفسية التى تحكم الشرق الأوسط مقالات بصراحة

- الأهرام- بتاريخ ١١/٠١/١٩٥٨







اقتباس:

على مدى العقود الخمسة من الخمسينات إلى التسعينات اختلفت على الأمة العربية تطورات هامة وأحداث جسام أثرت في تاريخ العرب الحديث وعلى مدى هذه العقود تابع العالم العربي بشغف شاهداً من شهود هذه الأحداث أتاحت له الأقدار أن يكون على مقربة من كثير من تلك الوقائع، وهو الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل ، وقد أتاح له الحس الصحفي والرؤية المتعمقة إمكانية استقراءها وتفنيدها وعرضها على القارئ العربي بلغة سهلة وأسلوب مشوق وتداع للأفكار قل أن يجود العمل الصحفي بمثله. بدأ هيكل يكتب مقاله "بصراحة" منذ عام ١٩٥٧م وانتظم ظهور المقال كل أسبوع من عام ١٩٦٠ إلى ١٩٩٦م في جريدة الأهرام وأخبار اليوم وآخر ساعة وبعض الصحف العربية الأخرى. ونحن نقدم لكم هذه المقالات مصحوبة بإمكانية البحث المفصل في عنوان ومحتوى هذه المقالات.





فيما يلي مقال ... من مقالات بصراحة - آخر ساعة- بتاريخ ١١ /٠١/١٩٥٨

د. يحي الشاعر

(1) العقد النفسية التى تحكم الشرق الأوسط
"شيء ما" بين مصر ولبنان...ما هو أصله وما هى طبيعته؟

متى وكيف قال شارل مالك: ان السياسة الأمريكية قررت شطب جمال عبد الناصر؟

مفرقعات مصرية في لبنان...سرها الحقيقي الذي يعرفه حكام لبنان

صاحب الفكرة فى هذه المقالات هو جورج براون، وزير الحربية البريطانية المقبل، عندما يؤلف الوزارة حزب العمال، ووزير الحربية البريطانى الحالى فى "وزارة الظل" Shadow Cabinet ذلك أن الحزب المعارض فى بريطانيا يؤلف وزارة غير رسمية، يتولى كل وزير فيها دراسة مشاكل وزارته، ومتابعتها، وملاحقتها، حتى إذا تغيرت الظروف يوماً، وانتقلت المعارضة من الظل إلى مقاعد الحكم، تمضى الأمور فى تلاحقها وتتابعها كأن لم يحدث شىء بلا فجوة ولا وقفة ولا ارتباك!

قال لى جورج براون، وكان فى القاهرة منذ أيام، يدرس ويتأمل ويستقصى.. قال لى والسيارة تصعد بنا فى ظلام الليل على الطريق الملتوى كأنه ثعبان على الجبل، وكنا نتجه إلى ملهى صغير على قمة المقطم، قصدناه بعد أن انتهى عمل الليل، وبدأت المطابع تدور لتخرج للناس صحف الصبح، كنا نبحث عن مكان هادئ نأكل فيه لقمة، ونقول بعدها كلمات لا عد لها ولا حصر، وقال لى جورج براون:

- كيف يمكن أن يخف هذا التوتر السائد الآن فى الشرق الأوسط؟

وقلت لجورج براون، بمزيج من نصف ابتسامة، ونصف تنهيدة:

- سؤال سهل، وليت الإجابة عليه كانت فى مثل سهولته؟!

إن الموقف فى الشرق الأوسط اليوم، موقف غريب، غامض ومثير.

لو شئنا أن نبحث عن المشاكل الظاهرة لما وجدناها تتكافأ مع التوتر الذى يسوده، وإلا فما هى المشاكل الظاهرة فى الشرق الأوسط اليوم... باستثناء مشكلة إسرائيل بالطبع؟

ما هى؟

حلف بغداد مثلاً؟ وأين هو الآن حلف بغداد؟

إن معركة حلف بغداد، انتهت تماماً، وانتهى معها حلف بغداد.

وغداً أو بعد غد ينعقد فى أنقرة اجتماع لحلف بغداد، وألح ساسة أنقرة على جون فوستر دالاس، وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، أن يحضر اجتماع هذا الحلف بنفسه، وفى اعتقاد ساسة أنقرة أن حضور دالاس قد يبعث الحياة فى العدم، ويشيع الدفء فى برودة الموت، والخطأ الجديد الذى يضيفه ساسة أنقره إلى سلسلة أخطاء قديمة، أن حضور دالاس، هو تأكيد للعدم، وضمان للموت، هذا إذا كان العدم والموت فى حاجة إلى تأكيد وضمان.

أى مشاكل أخرى بعد حلف بغداد؟

مشروع أيزنهاور؟ وأين هو الآن مشروع أيزنهاور؟

لقد انتهى المشروع الأمريكى لسد الفراغ فى الشرق الأوسط، كما انتهى المشروع الأمريكى لملء الفراغ فى فضاء الكون.

ضجة صاخبة، ولكنها ساذجة، ثم خيبة أمل لها أول وليس لها آخر!

وكما سقط القمر الصناعى الأمريكى الأول، على الأرض، كتلة محترقة من الرماد بعد دقيقة من تجربته، سقط مشروع أيزنهاور - الصناعى! - كتلة محترقة من الرماد أيضاً، وبعد التجربة الأولى كذلك... تلك التجربة التى جرت فى الأردن عندما تحرك الأسطول الأمريكى السادس ليسقط وزارة فى عمان، ويعين بدلها وزارة أخرى يرضى عنها بحارة الأسطول!

وأصبح مشروع أيزنهاور نكتة، وبقايا ضجة، مثل نكتة القمر الصناعى، وبقايا ضجته.

ماذا بقى إذن فى الشرق الأوسط، بعد حلف بغداد، وبعد مشروع أيزنهاور.

مشاكل كثيرة... ربما؟

ولكنها جميعاً من نفس النوع، فى ظاهرها على الأقل.

ما هى الناحية الأخرى؟ الناحية غير الظاهرة

هنا صميم المسألة!

إن المشاكل التى وقعت، والأحلاف والمشروعات والمناورات والمؤامرات، تركت وراءها آثاراً ورواسب تراكمت بعضها فوق بعض، وتفاعلت مع العوامل البشرية فى أعماق نفوس الرجال، الذين يصنعون الحوادث فى الشرق الأوسط، أو يصنعونها للشرق الأوسط، وكانت نتيجة هذا التفاعل، ذلك الذى نراه ونشعر به فى المنطقة اليوم.

أو بعبارة أكثر تحديداً.

إن الشرق الأوسط الآن لا تحكمه المشاكل نفسها، وإنما تحكمه العقد التى خلفتها المشاكل.

أو أكثر مضياً مع التحديد:

إن الشرق الأوسط الآن لا يحكمه حلف بغداد وإنما تحكمه عقدة الفشل التى بقيت فى نفوس الذين أرادوا أن ينجح حلف بغداد.

والشرق الأوسط الآن لا يحكمه مشروع أيزنهاور، وإنما تحكمه المرارة التى بقيت فى نفوس أصحاب المشروع، مرارة من نوع عصبى قلق، قريب الشبه إلى حد كبير من ذلك النوع من العصبية القلقة. الذى طفح على تصرفات بعض المسئولين فى واشنطن بعد فشل القمر الصناعى الأمريكى، فى أعقاب نجاح قمرين صناعيين أطلقتهما روسيا.

صميم المشاكل فى الشرق الأوسط، هو العقد النفسية.

وقلت لجورج براون:

- التوتر فى الشرق الأوسط ليس فى حاجة إلى ساسة يحلون تعقيداته، وإنما هو فى حاجة إلى أطباء نفسانيين يحللون عقده.

ليست تلك مجرد صورة كلامية.

إنما هى صورة فوتوغرافية للواقع من غير رتوش!!

هل نريد مثالاً من الواقع؟

لبنان!

ولبنان الذى أعنيه هنا، هو لبنان الحاكم وليس لبنان المحكوم.

إن هناك بين لبنان الحاكم وبين مصر "شىء ما".

وأقول "شىء ما" لأننى من ناحية لا أستطيع أن أضع يدى على مشكلة ظاهرة أعزو إليها أسبابه، ومن ناحية أخرى فأنا لا أريد أن أقرر - الآن - ما أعتقد أنه السبب الحقيقى... على الأقل ليس فى هذا السطر بالذات.

فالمسألة فى ظاهرها أنه ليست هناك بين مصر ولبنان مشاكل.

لا خلاف على حدود، لا صراع على غنيمة، لا منافسة من أى شكل أو فى أى ميدان.

كذلك ليس بين مصر وبين لبنان - ما يحلو لبعض كتاب الغرب أن يقولوه فى بعض الأحيان عن مصر والعراق - منافسة على زعامة الدول العربية، أو على زعامة الدول الإسلامية...

هذا مع أن مصر تركت من زمان طويل ألقاب الزعامة فى نفس الوقت الذى تركت فيه ألقاب الجلالة... والسمو... والسعادة إلى آخر هذه الألقاب.

كذلك - ليس بين مصر ولبنان خلافات تقليدية، بل أن الصداقة كانت دائماً هى التقليد، وكان لبنان يعتبر صداقته لمصر من عناصر قوته فى وسط المجموعة العربية.

كذلك أيضاً - وأنا أقول ذلك كعربى قبل أن أقوله كمصرى - لم يحدث أن أساءت مصر يوماً إلى لبنان، سواء فى هذا لبنان الحاكم، أو لبنان المحكوم، وربما حدث مرة أن نشرت الصحف بعض المقالات فى الهجوم على بعض حكام لبنان، ولكن هذه المقالات كانت لا تكاد تنشر حتى تحاول الحكومة المصرية بكل الوسائل أن توقف الهجوم أو على الأقل تخفف من حدته، هذا مع أن الهجوم على مصر أصبح السياسة الرسمية لبعض صحف لبنان، ومن حسن الحظ أن هذا البعض من الصحف أقلية، ولكن العجيب أنها الأقلية التى تعبر عن رأى لبنان الحاكم.

ولم يحدث فى تاريخ علاقات مصر بلبنان أن طلبت مصر من لبنان ما لا يطيق، بل أنها لم تطلب منه شيئاً على الإطلاق، وحتى يوم وقع العدوان على مصر، واستدعى السيد كميل شمعون إلى مقابلته سفير مصر فى لبنان وسأله:

- ما الذى تريد منى مصر أن أفعله...

أننى على استعداد لأن أفعل كل شىء.

كان رد سفير مصر هو:

- سيدى، إن تعليمات حكومتى أن نترك لكم الخيار فيما ترون عمله، فأنتم وحدكم أولى الناس بتقدير ظروفكم.

وحين قال السيد كميل شمعون أن من رأيه أن تقطع جميع الدول العربية علاقاتها ببريطانيا وفرنسا كان رد سفير مصر هو أن مصر لا رأى لها فى الموضوع وأن أى خطوة يخطوها لبنان هى أولاً وأخيراً مسألة لبنانية.

وحين عقد بعد ذلك مؤتمر الملوك والرؤساء العرب فى بيروت فى أوائل شهر نوفمبر 1956 وكان السيد كميل شمعون بنفسه رأس المعارضة ضد قطع العلاقات بين الدول العربية جميعها وبين بريطانيا وفرنسا، لم توجه مصر إليه كلمة عتاب.. ذلك أنها منذ الدقيقة الأولى اعتبرته وحده صاحب الحق فى القرار.

إلى هذا الحد لم تكن هناك مشاكل.




وإلى هذا الحد لم تكن هناك أسباب للمشاكل أى... إلى هذا الحد كان حرص مصر على أن لا تكون المشاكل ولا تكون أسبابها.

ومع ذلك فهناك اليوم هذا "الشىء ما" وهو "شىء ما" من طرف واحد يشعر به لبنان الحاكم ولا تشعر به مصر.

واليوم فى لبنان حملة شديدة تطالب بتحسين العلاقات مع مصر، وانتهاج سياسة أكثر وداً وتقرباً نحوها!

ولكن ما الذى أساء العلاقات حتى تكون الدعوة اليوم إلى تحسينها؟

وما الذى سبب الجفاء والبعد حتى تكون الدعوة اليوم إلى الود والقرب؟

ليست هناك أسباب ظاهرة... وهناك فقط هذا "الشىء ما"!

ما هو؟

ما طبيعته؟

ما أصله؟

رأيى أنا: عقدة الذنب!

لست خبيراً فى علم النفس، ومعلوماتى عنه معلومات عامة، وليس فيها تخصص أو تعمق.

و"عقدة الذنب" فيما أعرفه أن أشعر أنى أخطأت فى حق أحد، ثم لا تواتينى الشجاعة، أو لا تواتينى الظروف على أن أواجهه بما فعلت وأستغفر عنه.

النتيجة داخل نفسى أن أتمادى مع الأخطاء.. أن أعاند.. أن أتمنى فى أعماقى أن يخطئ الرجل الآخر فى حقى، حتى يتساوى الخطآن فإذا لم يخطئ فى الواقع أنه أخطأ فى الوهم... ورحت أنسب إليه فى وهمى ما لم يفعله، ولكن ذلك الوهم هو التبرير الوحيد فى نظرى لإحساسى بالخطأ.

تلك عقدة الذنب بفهمى البسيط لها... فأين هى فى تصرفات لبنان الحاكم؟

الرد بصراحة: فى كل تصرفات لبنان الحاكم!

لقد اندفع لبنان الحاكم فى تأييد السياسة الأمريكية.. وإلى هنا وهذا حقه المطلق لا يجادله فيه أحد.

ثم اندفع لبنان بعد مرحلة التأييد إلى مرحلة المساهمة فى التنفيذ.

قبل مشروع أيزنهاور قبل أن يقبله الكونجرس الأمريكى... وإلى هنا وهذا - أيضاً - حقه المطلق لا يجادله فيه أحد.

وهاجمت مصر مشروع أيزنهاور وإذا لبنان الحاكم لا يدافع عن مشروع أيزنهاور وإنما يهاجم الذين يهاجمونه... يهاجم مصر وغير مصر، ويتهم آراءهم على حد تعبير وزير خارجيته الفيلسوف شارل مالك بأنها غوغائية.

وإلى هنا - حتى إلى هنا - والخلاف فى الرأى إلى درجة الهجوم حق لبنان المطلق لا يجادله فيه أحد.

ولكن السياسة الأمريكية بعد مشروع أيزنهاور وفى بداية عام 1957، كانت متجهة فى الأصل إلى سياسة عزل مصر وتركها وحدها داخل حدودها تلعق جراحها بعد العدوان، والتعبير ليس من عندى، وإنما التعبير استعارة من لبنان... وإذا لبنان الحاكم على رأس سياسة العزل.

أصبحت بيروت قاعدة للمؤامرات ضد مصر ومركزاً للمتآمرين عليها.

ولم تقل مصر كلمة واحدة.

وشنت على مصر حرب الأعصاب.. وحرب الاقتصاد.. ومحاولات خفض قيمة الجنيه المصرى.. كل ذلك من بيروت.

ولم تقل مصر كلمة واحدة.

وتجمعت المخابرات البريطانية، والمخابرات الأمريكية، والمخابرات الفرنسية، تجمعت كلها ضد مصر وكان تجمعها فى بيروت.

ولم تقل مصر كلمة واحدة.

بل وخرج لبنان الحاكم يحاول - تنفيذاً لخطة العزل - أن يفتت المعسكر الذى تقف فيه مصر، ويقوم بما يشبه أعمال السمسرة والوكالة بالعمولة لعمليات العزل.

ولم تقل مصر كلمة واحدة.

بل وجهت التهم ضد مصر - ربما إحساساً بعقدة الذنب - وقيل إن مفرقعات مصرية وجدت فى بيروت، وإن الهدف منها حكام لبنان، هذا بينما حكام لبنان يعرفون أن هذه المفرقعات المصرية دخلت لبنان بعلم حكامه، ولغرض وطنى عربى يعرفه هؤلاء الحكام ويقرونه.. لقد دخلت هذه المفرقعات قبل العدوان على مصر وكان المفروض أن تستعمل ضد إسرائيل.. إذا حدث أن هاجمت بريطانيا وفرنسا مصر بسبب تأميم قناة السويس، وأرادت إسرائيل أن تستغل الفرصة لحسابها، هذا هو السر وهذه هى الحقيقة التى يستطيع أن يشهد على صحتها الجنرال شهاب قائد جيش لبنان ولكن الذنوب كان يجب أن تنسب إلى مصر فى الوهم، ما دامت لم تتحقق فى العلم..

ولم تقل مصر كلمة واحدة كذلك.

وقال الدكتور شارل مالك فى بيروت، قالها أكثر من مرة، وكان يقولها كل يوم فى النصف الأول من عام 1957:

- إن الولايات المتحدة قد قررت عزل مصر، وبالتالى ليست هناك فائدة ترجى من محاولة إشراك مصر فى أى سياسة فى المنطقة.

وقال أيضاً فى تلك الأيام:

- إن الولايات المتحدة قد شطبت اسم عبد الناصر من الشرق الأوسط بنص العبارة التى استعملها شارل مالك باللغة الإنجليزية:




والغريب، أنه حتى فى هذا كان رأى مصر أن الدكتور شارل مالك معذور...

لقد قالوا له هذا فى واشنطن، وهو يصدق دائماً ما يقال له فى واشنطن.

ثم لقد قالوه له وبدءوا بالفعل ينفذونه على مرأى منه ومسمع.

فهل كان فى تصوره أن تستطيع مصر أو أن يستطيع جمال عبد الناصر أن يتحدى إرادة القدر، التى هى إرادة أمريكا فى إيمان الدكتور شارل مالك.

لقد صدق أن مصر ستعزل... وأن جمال عبد الناصر قد شطب من اللوح المحفوظ الأمريكى!

صدق... ورتب سياسته على أنه صدق.. وحاول أن يقنع غيره أن يصدقه!

وأكثر من التصديق السلبى، حاول الرجل كسياسى داهية أن يشارك فى تحقيق التصديق إيجابياً.. وإذا كان العزل والشطب مقررين فلماذا لا يساهم هو فى تحقيقهما.. خصوصاً إذا كان من وراء ذلك ثمن.. عشرة ملايين من الدولارات معونة أمريكية للبنان!

هكذا وهكذا اندفع لبنان الحاكم طوال شهور سنة 1957 فى تنفيذ سياسة عزل مصر.

وفى الأسابيع الأخيرة من سنة 1957، كان واضحاً أن مصر لم تعزل، وإنما عزل الذين تصوروا أن فى استطاعتهم عزلها!

حتى شارل مالك اكتشف بنفسه - ومن غير أن يقولها له أحد - أن لعبة العزل قد انتهت.

ومضت الشهور بعد الشهور، ومصر صامدة، واقفة، والدلائل كلها تقول أنها تزداد كل يوم قوة.

وبدأت أصوات جديدة ترتفع فى لبنان.

أصوات تقول أن الدكتور شارل مالك وزير خارجية لبنان طلب بنفسه أن يزور مصر لكى يصفى الجو بينه وبينها وأن مصر رفضت.

ولم يكن ذلك صحيحاً.

فلا هو طلب أن يجىء، ولا مصر رفضت.

والأمر فى حقيقته استمرار جديد للشعور بالذنب.. لعل ذنب مصر فى الوهم، بأنها رفضت، أن يبرر فى شعور وزير خارجية لبنان إحساسه بعقدة الذنب!

ومع ذلك فما هو الجو الذى يريد الدكتور شارل مالك أن يصفيه فى مصر؟ ثم فلنفرض أن أعظم عباقرة السياسة فى العالم شاء أن يتدخل بين مصر ولبنان لكى يصفى الجو بينهما.. فما هى المشاكل التى يتعين عليه أن يضعها على مائدة البحث.

كما قلت - فعلاً - ليست هناك مشاكل.

إنما هناك هذا "الشىء ما" فكيف يمكن أن يحل؟

قلت إن المشاكل فى الشرق الأوسط لا تحتاج إلى ساسة يحلونها، وإنما هى فى حاجة إلى أطباء نفسانيين يحللونها.

وكيف يمكن أن يشفى لبنان الحاكم من عقدة الذنب، فيصفو الجو بينهم وبين مصر، وفى مصر كثيرون يتمنون للجو أن يصفو وللريح أن تصبح رخاء.

كيف الطريق إلى الشفاء، وما هو العلاج، وما هى وسائل تعاطيه؟ وفى العلاج النفسى يستلقى المريض على مقعد مريح، وتنزل الستائر ليسود غرفة العلاج هدوء وظلام، ثم يبدأ المريض يتكلم ويتكلم حتى تطفو العقد الدفينة وتظهر الرواسب الكامنة.

فهل نجىء بلبنان الحاكم إلى غرفة، وستائر وظلام، ونتركه يستلقى على مقعد مريح ويتكلم ويتكلم حتى تطفو العقد وتظهر الرواسب أم ماذا؟

مشكلة محيرة!!

وطوى دالاس صحيفته، وأدار دفة قاربه عائداً من عرض البحر إلى جزيرة البط، وكان ذلك آخر يوم فى إجازته، فركب الطائرة عائداً إلى واشنطن!

وصل دالاس إلى واشنطن وأول شىء فى رأسه ذلك الدرس الذى قرر تلقينه للمحايدين وسأل دالاس عن آخر الأخبار فور وصوله فعلم أن عبد الناصر قد توجه إلى القاهرة ومعه نهرو.

وقرر دالاس أن يتحرك بأقصى سرعة، ليكون قراره ساخناً فى أعقاب المؤتمر، وليصل قراره إلى القاهرة ونهرو فى ضيافتها، ليكون معنى الدرس واضحاً للمحايد الهندى.. هو الآخر!

وأمسك دالاس سماعة التليفون يتصل بأيزنهاور فى أوجستا وكان أيزنهاور فى نادى الجولف.. وكان الذى كان.

بهذه البساطة؟

نعم بهذه البساطة!

يقول بيل عن لسان دالاس، أو دالاس بقلم بيل فى كتابه ما نصه:

" وكان قرار سحب عرض المساهمة فى تمويل السد العالى حركة محسوبة، وكانت أهدافها ما يلى:

1 - أن تكون درساً للمحايدين.

2 - أن تكون صفعة مدوية وعلنية - والعلنية هنا مقصودة بإصرار- على وجه نظام الحكم القائم فى مصر حتى تضيع هيبته ويتلاشى اعتباره من المنطقة.

3 - أن تكون ضربة اقتصادية توجه إلى هذا النظام، وتقرر مصيره المحتوم الذى لا مهرب منه ولا فكاك!".

كذلك حسب دالاس، وليس المهم أن النتائج لم توافق حسابه، وإنما المهم هنا هو كيف حسب الرجل حسبته، ورتب على أساسها قراره؟ هنا موضوع اليوم..

أو هنا مكمن العقدة النفسية التى نحن اليوم بصددها!!

ولكن من هو الرجل؟

إن معرفتنا بماضى أى رجل، هى نصف معرفتنا بمستقبله!

كان جده وزيراً لخارجية أمريكا، وكان أبوه قسيساً مبشراً، وفى جو أسرة القسيس المبشر، فى هذا الجو المتزمت، كانت الأسرة تريد أن تجعل من الحفيد تكراراً للجد..

كانت تريده وزيراً لخارجية أمريكا، وتقرر له منذ الرضاعة ما ينبغى أن يفعله وما لا ينبغى على هذا الأساس.

وكبر الطفل، وصار شاباً، وبدأ يتطلع إلى حلم أسرته، حلم أن يصبح، كما كان جده وزيراً لخارجية أمريكا.

وصارت المحاماة حرفته، ولكن السياسة الدولية صارت هوايته، ثم مع مضى الأيام انقلبت الأحوال، وصارت الحرفة هواية والهواية حرفة، أى صارت المحاماة مجرد وسيلة لكسب المال، وصارت السياسة الدولية هى أمل الغد ومناه!

هذه هى القصة باختصار.

ولكن -وهنا تبدأ العقد العنيفة فى القصة- كيف يمكن لدالاس أن يمارس "سياسته الدولية" وهو بعيد عن السلطة وإمكانياتها؟ وهنا ينبغى أن نقرر أن دالاس لم يكن يريد أن يصبح أستاذاً فى العلاقات الدولية، وإنما كان يريد أن يكون سياسياً، بمعنى أنه لم يكن يريد أن يكون صاحب "نظريات".

وإنما كان يريد أن يكون صاحب "تحركات" ولكن كيف السبيل..

الطريق الوحيد المفتوح هو طريق "الورق":

أى أن يكتفى دالاس مما يريد بأن يكتبه على الورق يطبعه فى مذكرات إن أحب، أو ينشره فى كتب إذا أراد وفى هذه الفترة كتب دالاس كتابه "حرب أو سلام" وفى هذه الفترة كتب دالاس أيضاً مجموعة أخرى من الرسائل عن المشاكل الدولية.

وفى هذا الكتاب وهذه الرسائل تعرض دالاس لجميع المشاكل الدولية، ورسم حلولاً لها، وكان ذلك كله على الورق.

أى أنه عمل ما يجب أن يعمله وزير الخارجية، من غير أن تتاح له فرص وزير الخارجية.. وأولها الاتصالات الشخصية والتقارير الدقيقة الكاملة. وفى اعتقادى - اعتقادى الشخصى - أنه فى هذه الفترة تكونت عند دالاس عقدة من أخطر العقد.

عقدة أن يتصرف على "الورق" دون اعتبار "للطبيعة".

عقدة أن يقرر وهو على مكتبه ما يتصور أنه "لازم" ثم يتعين على الدنيا كلها من بعده أن تلتزم به!

لقد عاش سنوات طويلة فى الخيال من غير تطبيق، فلما واتته الفرصة للتطبيق، كان الخيال أغلب على الواقع فى معظم تقديراته.

وهكذا بدت فى تصرفاته عقدة الجنوح إلى ما يجب فى تقديره أن يكون، بصرف النظر عما هو كائن بالفعل!

سياسته تجاه الصين مثلاً:

هل يخطر على بال أحد أن تظل سياسة وزارة الخارجية الأمريكية حتى اليوم تعتبر أن الماريشال شيانج كاى شيك أسير فورموزا العجوز، هو الصين، وأن ماوتسى تونج وشعب تعداده 600 مليون نسمة، ليسوا الصين بحال من الأحوال، وإنما هم حفنة من الخوارج الثوار؟

شىء غير عملى، ولا معقول، ومع ذلك فتلك هى السياسة الرسمية لوزارة الخارجية الأمريكية، وحين ارتفعت فى أمريكا أصوات تنتقد هذه السياسة لم يتورع دالاس عن أن يتهم أصحابها -أصحاب الأصوات الناقدة- بأنهم "خونة" للمصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية!

وهكذا فإن الصين الحقيقية الآن، بالنسبة لدالاس، شىء غير موجود، وغير قائم..

وربما كان ذلك صحيحاً على الورق، على مذكرات الخارجية الأمريكية، لكنه بالقطع، فى آسيا نفسها أول الحقائق، وأضخم الحقائق.

وغير الصين، سياسة دالاس تجاه مصر مثلاً:

رأى دالاس أن يعزل مصر عن باقى الشرق الأوسط، وأن يمارس فى هذا الشرق، وفى الجزء العربى منه على وجه التخصيص، سياسة ليس لمصر فيها وزن أو اعتبار.

ورأى دالاس أن هذا ممكن على الورق.. وكل شىء على الورق يجوز.

ولكن الطبيعة لا تأتمر بأمر الورق.

ومجرد الحديث عن عزل مصر عن المنطقة العربية.. مجرد الحديث عن ذلك حتى على الورق ومن غير اعتبار للطبيعة، بلاهة منقطعة النظير.

إنه ليس خطأ فى التقدير، بل هو خطأ فى كل البديهيات التى يتعلمها التلاميذ فى أول لقاء لهم مع العلم..

إنه خطأ فى الحساب، خطأ فى التاريخ، خطأ فى الجغرافيا.

خطأ فى الحساب: لأن تعداد المنطقة العربية هو 40 مليون نسمة، ومن هؤلاء الأربعين، 23 مليوناً فى مصر وحدها.

فكيف يجوز حساباً أن تضع سياسة لمنطقة فيها 40 مليوناً، ثم تقوم هذه السياسة - حتى إذا تصورنا أن كل من فى خارج مصر يقبلونها- على أساس استبعاد أكثر من نصف المنطقة؟!

هذا خطأ الحساب.

ثم خطأ التاريخ: فإنه حين كانت أمريكا قارة لا تسكنها إلا الوحوش! ربما حتى قبل أن تفد إليها قبائل الهنود الحمر من جزر الباسيفيك، كانت مصر جزءاً من المنطقة المحيطة بها، تتفاعل معها وتتفاعل فيها، فى تاريخ واحد، ممتد، متصل.

كان الفراعنة يحكمون هناك، أو يجىء من هناك من يحكم هنا.

الأديان كلها تنبثق هناك، ثم تمتد أمواجها فتغمر هنا.

الملوك والخلفاء والأمراء ضاعت بينهم الحدود وتاهت المعالم.

نفس الإقطاعيين المماليك هناك وهنا، نفس الغزاة الأتراك هنا وهناك، ثم فى خاتمة المطاف فى نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، نفس دول الاستعمار بأساليبها المختلفة من أول الجنرال نابليون بونابرت الذى اعتنق الإسلام أو هكذا قال (!) إلى أنتونى إيدن الذى اخترع حلف بغداد ليؤمن سلامة العرب ويصون استقلالهم، أو هكذا يقول، ويقول من بعده الجنرال نورى السعيد!

ثم بدأت فى المنطقة حركات الاستقلال، وكانت فى الحقيقة حركة واحدة، لم تنعزل ولم تنفصل.

هذا خطأ التاريخ.