أعترف أن الحديث عن " إقبال " شأن فوق شأني ، وأمر يفوق علمي وظني ، ولا يستطيعه لساني وقولي ، رغم أن صنعة الكلام مما احترفناه ، والحديث في كل أمر مما ألفناه ، ولكنه " إقبال " ، وما أدراك ما " إقبال " ، إذ يكفيك اسمه لكي تحذر وتحتاط ، وأنى لمثلي أن يتحدث عن مثله ، ويدلي في مجلس عنه بدلوه ، إنما هي كلمات حب تخرج من القلب كيفما اتفق ، نهديها إلى روحه الطاهرة ، مع دعاء بأن يجزيه الله برحمته خير الجزاء .
يا ربّ آملون منك رحمة تخص بها " إقبالنا " كما تشاء
واجعل له من الفردوس منزلاً فيه الجليس خاتم الأنبياء
***** ***** *****
لماذا " إقبال " ؟ .
قد يثور هذا السؤال في الأذهان كلما عقدت ندوة تتدارس أعماله ، أو أقيم حفل يذكر بأفضاله ... لماذا " إقبال " على وجه التحديد ؟.
واسمحـوا لي في هذه الدقائق القليلة أن أذكر جانباً من إجابة هذا السؤال :
أولاً : على المستـوى الإنساني كان " إقبال " متميزاً بثقافته وعلمه وخلقه ، متميزاً بحبه لدينه وإخلاصه لأمته ، متميزاً بصدقه في تعامله وبساطة فطرته ، فيشعر من يقرأ له بأنه أمام إنسان تملأ الحرقة قلبه ، وتهيم بحب الرسول " صلى الله عليه وسلم " نفسه ، فكان من الطبيعي أن يجد ما يقوله " إقبال " طريقه إلى قلب من يسمعه :
حديث الروح للأرواح يسري وتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح وشق أنينه صدر الفضاء
ومعدنه ترابي ولكن سرت في لفظه لغة السماء
لقد كان " إقبال " قوياً ، فلم تصبه تلك الانهزامية التي تصيب النفوس عندما يبهرها البريق الزائف للبـاطل ، وإنما كان يتعلم من التجربة ، فتصقل نفسه ، وتزيدها صلابة .
ثانياً : على مستـوى الإبداع الشعري كان " إقبال " شاعراً مبدعاً موهوباً ، يدرك جيداً أن الشعر أن الشعر وديعة إلهية ذات خطر عظيم ، ويقدر ذلك حق قدره ، فالشعر كلمة قد ترفع أقواماً وقد تخفض أقواماً ، وقد تدخل الجنة وقد تقود إلى النار ، ولهذا فإنه يقود ملكته ولا تقوده ، ويحكم قبضته على ما تجود به قريحته ، فلا تجود إلا بما يفيد ، يفيد بني جلدته ، وبني أمته ، وهذا هو الفارق بين إقبال " الشاعر " وآخرين غيره .
يا خير من صاغ الحروف أشعاراً ملأت قلوب العاشقين أنواراً
تضيء طريق المؤمنين بومضة وأخرى تحرق ملحدين كفاراً
فإذا البيان للإنسان رسالة يحيل بسحره العبيد أحراراً
فتسألهم قبل النزول أقدار وبالإيمان يصنعون أقداراً
***** ***** *****
ثالثاً : على المستوى الفلسفي كان " إقبال " فيلسوفاً مستقيماً ، يشير إلى القضية من أقرب الطرق إليها ، ويضع الإنسان نصب عينيه ، يحايله بالتذكير تارة ، وبالنصح تارة أخرى ، لكي يضع قدمه على الطريق الصحيح ، وعندئذ يسير مدفوعاً بلذة هذا الطريق ، وبقوة جاذبيته ، إنه طريق الدعوة المحمدية ، أن تزرع حب الله ورسوله في القلوب ، فتتخذ منه حاد ، وتستقيم القافلة على الطريق جادة في سيرها .
رابعاً : على المستوى الإسلامي كان " إقبال " يدرك قدر المسلم وقيمته ، فقدم له من الزاد ما يعينه ، ومن الفكر ما يرفعه ، ومن الحكمة ما يزينه ، وزرع بداخله حب دينه وثقافته وحضارته ، ودعاه إلى الاعتزاز بذاته ، والحفاظ على كرامته ، وألاّ يخشى إلاّ خالقه ، وأن يجعل من حبّ الرسول " صلى الله عليه وسلم " دليله ومرشده ، وأن يحرص على أن يكون وفياً لحضرته ، فما الفلاح إلاّ في الوفاء لمحمد " صلى الله عليه وسلم " :
ورفع الذكر للمختار رفع لقدرك نحو غايات الكمال
نداؤك في العناصر مستجاب إذا دوّى بصوت من بلال
***** ***** *****
سترفع قدرك الأقدار حتى تشاهد أن ساعدك القضاء
وقيل لك احتكم دنيا وأخرى وشأنك والخلود كما تشاء
***** ***** *****
خامساً : على مستوى العصر الحاضر استطاع " إقبال " أن يضع أمامنا صورتنا التي نحن عليها ، والصورة التي يحب الله أن نكون عليها ، ودعانا إلى التمعن في الوضع الذي نحن فيه ، والعمل على تحقيق الوضع الذي يجب أن نكون فيه ، إنه يواجهنا بأنفسنا ، ويشخص أمراضنا ، ويقنعنا بالإقبال على العلاج ، ويحفزنا على التغلب على ما يقف في طريق الحق من عقبات :
أفق من سكرة الأحلام واجعل يقينك بانتصارك خير هادي
ولا تيأس فقدرك في البرايا يفوق مراتب " السبع الشداد "
***** ***** *****
فإن عصفت بنا الدنيا فإنا على درب المسيرة دون يأس
فناء الأنجم الغراء بشرى بمولد كوكب وشروق شمس
***** ***** *****
سادساً : على المستوى السياسي استطاع " إقبال " أن يقدم الحل الأمثل لمسلمي شبه القارة الهندية في زمانه كي يخلصهم من استعباد الإنجليز ، واضطهاد غلاة الهندوس ، فكانت البذرة التي أنبتت " باكستان " ، والتي رعاها حتى أينعت القائد العظيم " محمد علي جناح " ، وسيظل كل مسلم على أرض " باكستان " مديناً لهذين الرجلين ما دام حياً .
لهذا كله ، ولغيره ، استحق " إقبال " أن يشغل أذهان العلماء والمفكرين ، ويحوز تقدير وحب العامة والخاصة على السواء في حياته ، وبعد مماته :
مفكرنا ، وشاعرنا ، وحادينا ذكراك للعشاق زاد وماء
ما زال شعرك هادياً لأمتي نوراً يضيء لهم سبيل الرجاء
ما غبت يا إقبالنا وإن حرمت أنظارنا إلى حين من اللقاء
هذي دواوين تركتها لنا تحوي خلاصة من وحي السماء
نكاد نرى ملامح وجهك الندي بين السطور يطل مشرقاً وضاء
***** ***** *****
رحم الله " إقبال " ، وحفظ " مصر " و " باكستان " والعالم الإسلامي كله .