[3]
ترانيم فوق شجرة السنجاب...
لم يكن صوت كرمة -–وهو يصدح كعادته—بساطاً سحرياً ينقل خالد من البوار إلى الخصوبة فحسب؛ بل كان عنوان النمو لزهور عصفور الجنة التي تملأ بها ردهة المعيشة الضيقة في نسق بديع, وأوتار تتمايل على نغماتها جدرانها المرصعة بنماذج من لآلئ الفن التشكيلي لكبار الفنانين وصغارهم في الداخل والخارج, والتي هي تحويشة العمر منذ نعومة أظافر الموهبة, وهدايا كرمة وحياء والأصدقاء في أعياد الحب والزواج والصداقة أو ظهور تفنن جديد له, وتتوسطها إبداعاته؛ فقد علقتها جميعها بيد ذوقها الرقيق في توافق بدا كسينفونية تعزف أنشودة الجمال في رحاب قدس الأقداس, ومرقصاً ناعماً للألوان والريشات؛ فيصير عشهما الجميل -–كما سمياه—- مرجاً فسيحاً يتهادى في طفلها المحزون الجميل [عود... الفجر لسه بيبتسم بين دمعتين... عود... الفرح ممكن ينقسم على شفتين... عود... الوهم مات... والذكريات... قالت لي حبك بالوجود... يا ريت تعود]..
تلك هي الترنيمة التي كانت تهدهد بها طفلها في مثل حال هذا المساء, والتي كانت تترنم بها أثناء تجهيزها لطعام العشاء. وخالد يتحرك على أطراف أصابعه مخرجاً أنفاسه بحساب ليمنع أي عائق بين سمعه وتغريد بلبله بترنيمة النماء كما كان يسميها؛ حتى دخل عليها مطبخها متسحباً منتهزاً سهوها وضمها من الخلف, ثم أدارها ليتنسم عطرها ويشرب ريقها؛ حتى ابتلت عروقه, فمسح شفتيه في شعرها طالباً الصفح عما بدر منه..
جلس الاثنان إلى الطعام بصحبة السنجاب, تسألها عيناه:
- لماذا هذا بالذات؟.
قرّبت منه السنجاب أكثر لتجيبه قاطعة حيرته:
- قرأت عنه أنه أنت, وفيُّ لا يترك وليفته, عنيد, متقلب, حاد المزاج, ومتمرد يسكن أعالي الشجر؛ إلا أن عشه يكون في شجرة واحدة, أما أنت فتسكن كرمة بأكملها, ثم لا تنسى أن اسمك خالد محمود حسين السنجابي, والمختصر إلى خالد السنجابي, وكثيراً السنجابي فقط. إذن فهذا هو قرينك الذي يتبعك في كل مكان. وتبسمت..
قبَّل يدها وعينيها مردداً:
- أما روعتك فليس لها قرين..
هفهفت بشعرها على كتفيه وصوتها يغوص في أعماق بحور الدلال:
- لا يا أستاذ, قرنائي لا يحصون ولا يعدون, واسأل فنك وكل رسم رسمته وسترسمه..
قرصها في ذراعها قرصةً مفاجئة؛ فندت عنها آهة ناعمة, مؤكداً لها أنه أشد من الفريك لا يطيق ولو نفساً واحداً لشريك..
مالت على خده تقبله, يسبقها انسياب صوتها وكأنه ماء ورد ينحدر من ربوة خضراء, ماراً في جداول تشرب منها الملائكة:
- وأنا أعبد أنانيتك, يا سنجابي, يا فناني, يا قريني الوحيد..
انقضت اللحظات ولملم خالد الطعام وأدخلها مكانها, ثم اتجه إلى مرسمه ومعه هديته. وكرمة كعادتها تُعِد حجر النرجيلة المعتق, وفنجان القهوة المضبوط والآخر الزيادة التي تشربه معه, استعداداً لمجالسة فنه مترنمة:
[أنا لحبيبي وحبيبي إلّي].
اتجهت إلى المعبد فألفت صاحبها يراقص أنغامها؛ فوضعت صنيتها وأجلسته على كرسيه, وأهدته مبسم الشيشة وفنجانه, ووضعت موسيقى [متتالية شهر زاد[ ل[كورساكوف] وأدارتها وأخفتت الأضواء, وجلست أمامه ليستقبل طائر التأمل خارجاً من عيونها؛ ليرفرف في حديقة الصمت ويشرب من عذوبة الأحان, ويبدع من خيوط الدخان رسولاً يبعثه ليبشر بخلقٍ جديد يؤذن بفراغ الفنجان, وترمد الحجر؛ فتقوم كرمة وتضيئ جانبي المرسم وضوء حامل اللوحات, وتطفئ مصباح السقف, وترقص له رقصة خاطفة لفراشة طائرة, وتقبله, ولوحته [قبلة الحياة] –كما يسميها—وتلملم أشياءها وتوصد الباب وراءها؛ لتذهب إلى الحلم بإكمال العمل الجديد, متمنية تحقيقه في الصباح..
كانت ساعات الليل تمضي مختلفة ألوانها, وريشة السنجابي تشرب عرق أصابعه وأظافره؛ قاطعة المسافات على وجه اللوحة, سرعة وبطءاً, تارة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار وثالثة إلى أعلى؛ لتكمل ما بدأ من خطوط, وتضيف إليها ما ولج إحساسه, ناظراً السنجاب يحوم حوله, مراقصاً اندهاشه, فرحةً بسحر حبيبته وهي تلملم هواء مرسمه حبيبات تغتسل بعطر رقتها, ثم تبذرها على رأسه لتجفف عرق الجهد المتساقط على وجنتيه..
طَلَّ الصبح من نافذة المرسم بعد انسحاب آخر ساعة من الليل, متجسساً ومنتظراً فرصة انشغال السنجابي بإنهاء رتوشه, ليسرع بإبلاغ كرمة في مخدعها, فتنتفض ضاغطة أنفاسها في حلقها, وهي تدخل كنسيم من فتحة صغيرة بالباب, كان قد نسيها بعد عودته بآخر حجر معسل, وتقف وراءه تراقبه وهو يلقي بريشته, متنفساً الفرحة بفزعةٍ معتادة إثر تصفيقة وتهليلة منها معتادتين لم يتعلمهما بعد, ثم ضمته إليها ضمة معجبة ولهة بفن فنان, وقد تعود هذه الضمة إذ ما حاز العمل قبولها, كما تعود مسحة شعره لتزيل سوء توفيق..
انكفأت على كتف حبيبها تنسكب رقة وفرحة بهديتها من عينيها دمعاً حزيناً على حال النيل..
رفع خالد وجهها مهدهداً ليفاجأ بلوحته مرتسمة على هدبيها المغرورقين, وقاع عينيها المغسول؛ فصمت متأملاً كرمة في يمين اللوحة بفستانها الأزرق المُحلى بأزهار البنفسج, تمسك بيمناها شجرة تتجه إلى أعلى يتسلقها واحد لحيوان السنجاب, ويدها الأخرى ممدودة إلى اليسار ودمها منبجس من قلبها مُشَكَّلاً على هيئة حبيبها. ثم متأملاً نفسه في يسار اللوحة بسترة من الورق المقوى تدور عليها ريشة رسام بلا توقف, يخرج من عينيه نور مُشَكَّلاً على هيئة حبيبته متجهة بانحناءة اليمين لتعانق ابن قلبها, ويده ممدودة بدورها يميناً لتصافح يد حبيبته. ثم متأملاً خلفية اللوحة وقد قبع فيها النيل مجرىً جافاً يطلب الماء منهما, والسنجاب في أعلى اللوحة يحاول لفت انتباههما لمطلب النهر, والسماء من فوقهم تلملم أطياف الأوان لتصنع منها قوساً...
أحاط خالد كتفيها العاريين بذراعيه وضمها ضمةً دافئة مقبلاً شفتيها ومجففاً آثار دمعها وماسحاً هدبيها قائلاً:
- أسميتها [شجرة السنجاب]..
ثم جذب اللوحة من فوق حاملها ولَفَّ بها جسد حبيبته ثم ركع متوسلاً:
- أظن يا مليكتي أن هذا, [الروب] لائق تماماً على قميصك الليموني البديع هذا, فهل تقبلينه يا مولاتي من عبدك الفقير بهديته, الغني بمحبتك؟.
مسحت على شعره وأوقفته وهي تخلع عنها اللوحة, وتقبلها وتقول بصوت خفيض هامس رقراق:
- قَبِلتُه يا عبدي الجميل الرائع, وأقسم بيدك التي نسجته بأني سأدثر به قلبي وروحي, فإن كانت محبتك لي قد أغنتك, فإن هديتك لي قد سترتني..
ثم قبلت يده ورفعت اللوحة على مشجبها مرددةً:
- رائعة... رائعة... رائعة.
خرجا معاً يجهزان الفطور والشاي وحجر الشيشة, وهو يسترجعها رأيها مرات ومرات, مفتشاً في رأسه عن أسئلة جديدة تجيبه عليها سعيدة غير مالّة ن توتره الذي ألفته عليه قبل وأثناء وبعد كل تجربة فنية يخوضها. استمر الحال هكذا قرابة ثلاث ساعات, دخل بعدها يرتدي ملابس النزول, وهي تخبره بعدم اصطحابه هذه الجمعة إلى حياء, متعللة برغبتها في استكمال النوم وترتيب الشقة, وطلبت منه أن يخبره بهذا بالذات أو أن ليس لها نِفْساً لرؤيته هذه المرة..
فحياء هذا صديقهما الصادق الذي لا اعتذار بينهم يكبل حرية حبهم, وهو أيضاً محامٍ أديب, جمع الفن ثلاثتهم في بداية سني الجامعة, على مقهى في باب اللوق, يروده شباب الفن والبائسون ممن أنفقوا شعر رؤوسهم في سبيله بلا طائل, والمدَّعون ساربو أحذية النساء والراغبات الاتي يتسابقن لرفع أسهمهن في بنوك الشبق, ومضاجعة مدرائها في شوارع التمرد الخلفية..
وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي تجرأ فيها حياء على نفسه وطلب منهما المشاركة في رؤية لوحة كان الشاب يُريها لحبيبته وزميلته في [الفنون الجميلة], وذلك بعد أن رآهما من قبل واشتم فيهما رائحة المواأمة مع روحه, مما قوّى عزمه على اتخاذ مثل هذه الخطوة. ومما أثار دهشته آن ذاك معرفته برغبتهما في التعرف عليه لولا عزلته التي كانت تقف حائلاً دون ذلك. ومنذ تلك اللحظة ورباط ثلاثتهم مضرب أمثال لكل مَن يعرفهم, وقوة يتباهون بها على أشقاء البطن الواحدة.
خرج خالد في طريقه إلى صاحبه متعجباً من تعليل كرمة –لا تقيه ملابسه الخفيفة من سخونة الشوارع التي ارتدت أصوافها—يطوي المسافات تارة بالأوتوبيس, وأخرى على القدمين وهو يفكر في الخطوط الرئيسة للوحته الجديدة, التي قفزت مساء أمس على رأسه؛ حتى وصل إلى حياء وأخبره رسالة [أخته الاختيارية], كما كان حياء يصفها.
ضحك حياء متوعداً لها, ثم ركبا قطار الوقت يتجولان في عرباته. وكانت العربة الأولى لوحة السنجابي التي اصطحبها إليه, وأقصوصتَي حياء الجديدتين, والتين كانتا مفاجأتين عزيزتين لكل منهما. تبادلا فيهما آراء الإعجاب والاعتراض ومحاولات التوضيح والإقناع واستمرار الرفض والمشاجرة والمصالحة والتوتر والهدوء, كلٌ حسب رؤيته وما يتفق معها بما توحيه. ومما يثير العجب أنه لم يكن كلٌ منهما يدافع عن عمله في مواجهة الآخر فقط, بل كانا أحياناً يتبادلان موقعي الانتماء فيصير حياء تشكيلياً والسنجابي أديباً..
ثم كانت العربة الثانية, والتي كانت حديثهما فيه تارة بالتحسر وأخرى بالإصرار على سكك المعارض والنشر, التي لا يعرفان لها طريقاً حتى الآن..
ثم كانت عربة القضايا عامتها وخاصتها وهمومهما, والأصدقاء الساقطين والمستمرين..
ثم عربة السمر والحب والضحك والغذاء والتدخين والقهوة والشاي..
ثم عربة الخروج ومصاحبة الطريق, وفيها كانت أطراف حديثهما تتجمع من مختلف عربات القطار؛.
حتى دخلت عربة المساء وفيها ودَّع حياء صاحبه محملاً إياه شوقه وسلامه إلى كرمة, ووعداً بأنها ستعود غداً من عملها لتجده في انتظاره لأنه يتمنى رؤيتها..
كانت مفاجأة كرمة لخالد عندما أدخلته مرسمه جهاز تسجيل ومجموعة للموسيقى مما يفضلان, وثلاث لوحات وطاقم ألوان, وطاقم أقلام ورزمتي ورق لحياء, كلها جديدة. كانت قد انتهزت فرصة خروجه؛ فتسوقتها بكل ما حصلت عليه صباح أمس من أرباح مقر عملها السنوية, والتي لم تخبره بها لتبييتها النية على ذلك..
تسمر السنجابي مكانه, ينظر إليها مرة وإلى دفئ هداياها مرة, تيّاهاً سعيداً بحلمه الذي تحقق بوجودها, وما كان يظن تحقيقه دونها أبداً ثم قال:
- كنت متأكداً من شكي في سببك المصطنع بعدم مصاحبتي إلى حياء..
ربتت على كتفه, وقبلته, وهيأته لفنه, وخرجت..
نفَّذ خالد طلب باكورة الصباح منه بالاستراحة من عنا النزف وتأجيله, لإيقاظ كرمة والفطور معها ومطالعتها ما أنجز من اللوحة الجديدة وتوديعها على بابها إلى عملها..
ثم دخل ليقضي على الإرهاق بصب النوم في كأسه؛ ولكن الأرق كان يدافع عن أخيه بكل ضراوة؛ إلا أن السنجابي استطاع قهرهما في الجولة الأولى؛ فانتظراه حتى أسدل جفنيه, ثم سحر نفسيهما ثعبانين كبيرين, وأحضرا لوحة شجرة السنجاب أمام عينيه, وأخذا يفترسان كل ما هو كرمة؛ حتى سقطت الشجرة مسنجابها فكان لهما رطباً طرياً, ثم أجبراه فأعاد الرسم ليعودا للافتراس, وظل هذا السيناريو على تكراره؛ حتى دق جرس الباب لتكون لهما الغلبة في الجولة الثانية بفزعه على الرنين, وبصق بقعة دم كانت تلتصق بحلقه, فاندفع يبحث في الغرفة عن شيئ فلم يجد, ثم جرى إلى مرسمه فرأى شجرة السنجاب على مشجبها. وقف يلتقط أنفاسه, ثم اتجه نحو الباب ليسكت إلحاحه؛ فكان حياء, الذي قطعت رؤيته لصفرة وجه فريده, وبقعة الدم على صدره, قلق لوم تأخره على الباب..
أسرع حياء إلى المطبخ ليعد كوباً من الليمون ويحضر قطعة قماش مبللة ليزيل بها آثار الكابوس وهو يردد: الإرهاق يا أستاذ..
يشرب خالد ليمونه, عائداً إلى طبيعته, مضاحكاً توأمه:
- أليس غريباً أن يطلب فنان من فنان الكف عن الإرهاق؟!.
يمسح حياء صدر بيجامته ويقول:
- بالطبع غريب. لكنها أمنية المحب لحبيبه, بالضبط كأمنية الفنان على ورقه, وفي خطوطه وألوانه..
قام خالد وقبله قائلاً:
- رقتك تكفي للقضاء على ملايين الكوابيس..
دخل الاثنان يجهزان الشاي والنرجيلة, وحياء يبلغه بأن طبيباً يريده لتصميم [ديكورات] عيادته, إن لم يكن مرتبطاً بعمل آخر. فأجاب السنجابي بالموافقة, لأن ما كان يقوم به من عمل كان قد فرغ منه منذ أربعة أيام, كما أبلغه بالأمس..
اقتربت الساعة من الثانية إلا الربع؛ فقام خالد إلى الشرفة ينتظر كرمة كعادته, عندما يكون بالمنزل في مثل هذا الوقت, وحياء جالس يداعب عصفور الجنة, حتى دخل عليه السنجابي وهو يرقص ويطقطق بإصبعيه, فعلم حياء أن كرمة قد وصلت؛ ففتح السنجابي الباب قبل أن يصل إصبعها إلى ذر الجرس..
فاستقبلها الاثنان هاشين باشين, وقبل حياء يدها وحشة وشوقاً..
ثم نظرت إلى السنجابي تسأله, فقاطع نظرات تساؤلها مقسماً بأنه لم يخبره بشيئ قط..
تحير حياء؛ فجذبته من يده, موصلةً إياه مكان هديتها له وقصت عليه ما جرى. فتبسم وقبل يدها مرة أخرى, ونظر إليهما متمنياً أن يبقى هذا العش جميلاً هكذا..
قضى ثلاثتهم يوماً جميلاً كعادتهم غير شاعرين بتسحب الوقت حتى أزفت ساعة مكتب المحامي الذي يعمل به حياء...