المرحلة الاولى

المرحلة الاولى

المرحلة الاولى







المرحلة الاولى

من

المحاور المقامية

2008


المرحلة الاولى
من
المحاور المقامية

وهذا هو المحور
رقم (1)
في جزئه الثاني


Hussain_alaadhamy@yahoo.com

00962795820112






محاور في المقام العراقي

دراسة بحثية متسلسلة لمحاور تخص شأن
غناء وموسقى المقام العراقي

يـكـتبها في حلقات

مطرب المقام العراقي
حسين اسماعيل الاعظمي
















الاردن / عمـَّان
2008 نيسان April

اليكم أعزتي القراء في الصفحات التالية
المحاور التي تم البحث فيها ، مذكــِّراً ، في حال فقدان أية حلقة من الحلقات أن تكتبوا إليَّ لأرسلها إليكم


وهذا هو المحور رقم 1
في جزئه الثاني



Hussain_alaadhamy@yahoo.com

00962795820112








المحور رقم
(1)

الجزء الثاني

******

لكن لابد من الاشارة ايضا الى ان هذه الحقبة من بداية تطور اجهزة الحفظ والنشر والتسجيل .. تعتبر في نفس الوقت حقبة بداية تزعزع العلائق التي تربط الناس مباشرة بالمأثور الشعبي الاصيل .. ومنذ ذلك الوقت بدأت حواجز الذوق في سماع الموسيقى والغناء تزعزع ثوابت التقاليد الادائية التراثية خضوعا لمتغيرات وتحولات العصر في تلحين وكتابة واداء الالحان الجديدة المستقاة اصلا من التراث الغناسيقي .. مما جعل التذوق التقليدي في سماع الغناء والموسيقى التراثية ينحسر ليتكون بعدئذ نمط جديد من التذوق لدى جمهور شاعت تسميته بجمهور ( النخبة ) ورغم ان هذا الجمهور تشكل من كل فئات الشعب الاجتماعية ، الا اننا لا نطمح على الاطلاق ان يبقى الاداء المقامي اسير هذه النخبة من المتذوقين في المجتمع ، فلابد اذن ان نعمل بكل جهد ومثابرة الى جعل الاداء المقامي ملكا لاذواق كل فئات الشعب الجمالية وليس الى نخبة ذوقية منه ، وعليه فان هذا الوضع يفرض علينا اللحاق سريعا سريعا بركب الحضارة وتطوراتها ومواكبة التغيرات والتحولات العظيمة التي نعيشها في عصرنا الراهن والتعامل بشكل منسجم مع روح العصر لكي نستطيع ان نصل بمستوى تعابير الاداء الغنائي التراثي الى محاكاة المتلقي الحالي … وطبيعي ان هذا الموضوع يتطلب الكثير من المستلزمات الثقافية والذوقية لتضييق الفجوة التي اصبحت عميقة بمرور السنين بين التعابير الادائية التراثية وبين تعابير الاداء المطلوبة في عصرنا الراهن في عنصرها الجمالي والذوقي وقد استثني من كل المسيرة الادائية المقامية خلال هذا القرن المطرب الحضاري ناظم الغزالي الذي تمتع بفن راق في الاداء اوصل به المقام الى اسماع كل العراقيين بل كل العرب في وطننا العربي فكان سفيرا للغناء العراقي بحق ، حيث عبر عن مرحلته وما تلاها اصدق تعبير ..
ومن ناحية اخرى لم يكن الحكم على جودة الاعمال الغنائية والموسيقية في تلك الحقبة الزمنية ، من زاوية تطور الناحية الفنية وقيمها العلمية في اداء هذه الاعمال ، بل كانت النظرة سائدة بالاهتمام الزائد بقواعد التقليدية الغناسيقية المحلية التي يؤدى بها المقام العراقي ، حيث وصل الامر الى حد ان المؤدي الذي يطبق الاصول التقليدية بشكل جيد يحسب في خانة المؤدين الجيدين حتى لو وصل الامر الى تواضع موهبته الصوتية ، بل حتى لو لم يكن ثمة مستمع اليه …!!!
وفي النصف الاول من القرن العشرين بدأت هذه النظرة التقويمية الى الاعمال الفنية تضمحل شيئا فشيئا بسبب تطور المستوى الثقافي والامكانيات المتاحة لهذا التطور حتى اصبحت النظرة الى جودة الاعمال الفنية عموما والغناسيقية خصوصا تجنح نحو الاهتمام بالنواحي الفنية والعلمية والذوقية للاعمال الفنية بوجه عام .. ذلك ان التغيرات الاجتماعية والاقتصادية العميقة كان لها الاثر الفعال في ذلك .. وكان المنعطف الكبير تأسيس معهد الفنون الجميلة في ثلاثينيات هذا القرن ، حيث شمل عدة فنون اخرى مع فنون الموسيقى ، اذ كان المسرح والتمثيل والسينما والرسم والخط ..الخ ولم يمض وقت طويل حتى ظهر فنانون كبار ، بعضهم اكمل دراسته في الخارج ، وبدأ المستوى الثقافي للفنون يتطور بفضل المعهد وتخريجه طلبة موهوبين .. ولا شك ان هؤلاء هم في الحقيقة بداية النهضة الحديثة للثقافة الاكاديمية للفن الغناسيقي والفنون الاخرى .. وسوف نرى ان هذا التطور مع تقدم الزمن قد اظهر لنا فنانين كبارا استطاعوا بامكانياتهم ومواهبهم وجهدهم تجاوز المحلية والانطلاق الى الآفاق العالمية في الفن الغناسيقي وباقي الفنون الاخرى .. ولعل اعظم انجاز للموسيقى العراقية هو عودة التاريخ من جديد في ظهور المدرسة العراقية والعربية الحديثة في العزف المنفرد على آلة العود وكان ذلك على يد العازف الشهير الشريف محي الدين حيدر(16) ، هذه المدرسة العزفية التي سادت الوطن العربي ولا تزال في ذروتها كأول ثمرة كبيرة ومفيدة من ثمرات النهضة الموسيقية الحديثة في عراقنا العظيم .
فكان معهد الفنون الجميلة الذي خرج الجيل الاول من رواد العزف على آلة العود وهو الجيل الذي ارسى دعائم هذه المدرسة الجديدة في اساليب عزفها وتعبيراتها والمستوى التكنيكي الذي وصل اليه العزف على آلة العود … هذا الجيل المؤسس كان قد استوعب كل الخزين التراثي لموسيقى البلد ومن ثم استقى الحانه وعزفه واسلوبه منه ، وانطلق الى الآفاق الخارجية متأثرا بموسيقات الشعوب الاخرى وتجاربها وثقافاتها المختلفة معبرا عن روح العصر الذي يعيشه متجاوزا بذلك المحلية الصارمة . ويمكننا ان نشير الى فضل بعض الاسماء اللامعة في هذا المجال للجيل الاول فكان الشريف محي الدين حيدر الأب الروحي لتلاميذه ومنهم جميل بشير(17) وشقيقه منير بشير(18) وسلمان شكر(19) وغانم حداد(20) ثم تلاميذهم علي الامام(21) ومعتز محمد صالح(22) …الخ وهكذا استمرت هذه المدرسة تزخر بالتلاميذ الجيدين الذين اخذوا مكانهم اللائق في مسيرة العزف المنفرد على آلة العود من امثال سالم عبد الكريم(23) وصفوة محمد علي(24) وخالد محمد علي(25) ونصير شمة(26) وآخرين تكثر وتطول بنا قائمة اسمائهم .
ولاشك ان قضية البعث الثقافي الموسيقي هذه ، في العراق من جديد ، لا يمكن ان نلخصها هنا بسهولة ، ذلك لعمقها وتأثيرها التاريخي في مسيرة الغناء والموسيقى في بلدنا الغالي … بيد انه من المهم ان نتطرق الى تأسيس معهد الفنون الجميلة عام 1936 لكونه البداية الحقيقية لدراسة الموسيقى بصورة اكاديمية رصينة ، ورغم اننا تحدثنا عنه بعض الشيء لكننا سوف نحتاج الى تذكّره دائما ، لأن هذا التطور متى حدد ، امكن اعتباره مرجعا مستمرا لثقافتنا الغناسيقية ، وكذلك ايضا لأن هذا المنعطف التاريخي هو ايضا بداية تطور الحركة الجمالية الحديثة المستمرة النمو ، خاصة وان الاذاعة العراقية تزامن تأسيسها مع تأسيس المعهد ، فكان المذياع فيصلا حاسما في ايصال الغناء والموسيقى لكل الشعب .. وبالتأكيد فان هذه التحولات الثقافية سوف تؤشر بما سيتحقق من تطور في الغناء والموسيقى .. ومعلوم لدينا جميعا ان هناك دائما طرفان في التأثير والمؤثرات يتعرض له الغناء والموسيقى ، فالاول هو التأثير الخارجي أي خارج المحلية والثاني هو التأثير الداخلي أي تفاعل الثقافة الغناسيقية فيما بينها خارجيا وداخليا بحيوية وسعة افق لتحفظ لنا غناءنا وموسيقانا ومشروعا للتجديد مستقى من التراث.
هذه الميول التي ظهرت في العقود الاولى من القرن العشرين التي بدأت تزعزع وتحرر الهيكل الادائي الصارم في اصول المقامات العراقية ومن ثم تقارب الفنون فيما بينها وتلاقحها ، كان اعلانا واضحا بالاهتمام بالعمليات الاستاتيكية(27) للاداء التي اصبحت اكثر ظهورا واتساعاً مع توغل الزمن في القرن العشرين . ان هذا التاريخ كان سجلا للانفتاح على العالم الخارجي لنتأثر ونؤثر بالآخرين .
ان معهد الفنون الجميلة كان هو المدرسة الاولى التي تمرن فيها فنانون عديدون ، فقد تعلم فيها شباب من بغداد العاصمة وشباب من المحافظات حتى وصل الامر بعد مرور الزمن الى فتح فروع اخرى للمعهد في بعض المحافظات ، ثم انطلق اولئك الشباب يرفدون موسيقانا بالعلم والمعرفة والانجازات والنتاجات الادائية الجمالية ، وظل المعهد كمركز علمي للموسيقى والفنون الاخرى وحيدا في بغداد ، الى ان اسست مرافق علمي اخرى زخرت بالنشاطات .. منها الفرقة السمفونية الوطنية العراقية التي تعتبر اكبر انفتاح واطلاع على معالم الموسيقى العالمية وكان ذلك اواخر الاربعينيات ومع مرور الزمن أُسست اكاديمية الفنون الجميلة عام 1969 ثم أُسست مدرسة الموسيقى والباليه في نفس العام التي تعتبر هي الاخرى انفتاحا راقيا على موسيقى وباليه العالم .. وتبع ذلك تأسيس معهد الدراسات النغمية العراقي عام 1970 الذي اخذ على عاتقه الاهتمام بتدريس المقام العراقي بشكل علمي فني واخيرا فتح قسم الموسيقى في اكاديمية الفنون الجميلة 1987 ، اضافة الى ان استمرار انتشار المعاهد الاهلية لتعليم الموسيقى التي كانت موجودة قبل فترة تأسيس المعاهد والمؤسسات الرسمية حيث كانت الرافد المباشر للثقافة الموسيقية زمنذاك ..
على كل حال استطاع المقام العراقي ان يعدد اشكاله ، وان يكون حاضراً في كل مكان من حياتنا اليومية ، سواء كانت هذه المرونة نتيجة لمكانته الدائمة ام احد اسبابها . انها تاتي للقاء السامع ، وقد كان الاغنياء خلال العهود الماضية هم وحدهم الذين يستطيعون سماع الغناء بالحالة التي يريدون ، وكان جمهور المغنيين محدودا بسبب سوء الحالة الاقتصادية التي لا تتيح الا بعض مستلزمات المعيشة الضرورية ، عندها برزت مسارح المقاهي الشعبية ، لعدم توفر الضياء اثناء الليل واستحالة السماع في بيوت مكتضة بالسكان وبسبب قلة المسارح الرسمية التي يغنى من خلالها المقام فقد كانت معظم الحفلات المقامية تقام في وقت العصر وعند غروب الشمس ، من الذي كان يسمع أذن؟ ومن كان يريد السماع ..!؟






















المحور رقم
(1)

الجزء الثالث

*********

فكرة مختصرة عن الغناسيقى
العراقية في القرن العشرين
-----------------
في القرن العشرين ، إتسع جمهور المقام العراقي ، وفي الوقت نفسه نفذ التعليم المقامي والموسيقي الى أوساط إجتماعية بقيت حتى هذا الحين بعيدة عن الثقافة الادائية للمقام العراقي ، وقد أتاح إختراع أجهزة الحفظ والتسجيل إستنساخ عدد كبير من النسخ الغناسيقية الصوتية وأدى ذلك الى خفض ثمنها ، كما أدى إنتشار الصحف الى نشوء الحديث عن كل ما يتعلق بالغناء العراقي والعربي ، وعلى الأخص المقام العراقي بشكل واسع جداً حتى أيامنا هذه ، وصار كبار الموزعين للشريط الصوتي أصحاب شركات كبيرة يوزعون ويروجون للغناء لإيصاله بالسرعة الفائقة الى أسماع الناس جميعاً ، وفي العقود الأخيرة من القرن العشرين ، إنتشر شريط الكاسيت بشكل واسع ومذهل بميزته العملية عن شريط التيب (البكرة) .. ثم بدأ استعمال الليزر واستعمال اسطوانات الـ CD وهذا يعني .. كنتيجة حتمية انه اذا كانت مجموعة قليلة من الناس تستمع الى المقام العراقي ، أصبحوا الآن جماهير غفيرة بفضل هذا الانتشار السريع للأجهزة الصوتية ..
من المغنين العراقيين الذين إنتشرت لهم تسجيلات صوتية وعبرت شهرتهم الآفاق حتى خارج الحدود كان الرائد محمد القبانجي منذ العقود الاولى للقرن العشرين ثم تبعه آخرون في الشهرة مثل ناظم الغزالي الذي أمسى أشهر مغنٍ عراقي على الاطلاق في الوطن العربي وكذلك إشتهر يوسف عمر الذي حافظ على الطرق الإدائية التقليدية ، ونتيجه أو إستمراراً للتطور الذي يحصل لأجهزة الانتشار ، ظهر شباب جدد على الساحة الغنائية المقامية ، منهم من عاصرتهم من الجيل الذي سبقني ومن الجيل الحالي ، في غناء المقامات ، وكذلك ظهر المغنون الأحدث وأكثرهم من طلابي في معهد الدراسات الموسيقية منذ بداية العقد الثمانيني . فكان في الخمسينات عبد الرحمن خضر وحمزة السعداوي وفي الستينات عبد الرحمن العزاوي وعبد القادر النجار وعبد المجيد العاني وعلي ارزوقي وفي السبعينات كنت مع زملائي عبد الرحيم الاعظمي 1972 وأنا عام 1973 وسعد الاعظمي عام 1977 وفاروق الاعظمي عام 1978 ، أربعة أعظميين فقط في هذا العقد .. وفي الثمانينات طلبتنا في المعهد الذين تبلورت قدراتهم وأصبحوا مغنين جيدين ، ولعل المغنية فريدة تقف في المقدمة وكذلك عوني قدوري ومحمود حسين وصباح هاشم وموفق البياتي وآخرون غيرهم .

تطورات فنية وتقنية
------------
قبل أن تتبلور كنوز أداء المقام العراقي في حبكتها وتقاليدها الفنية ، تراكمت كنوز اخرى تفوق التقدير ، من ألوان غنائية شفوية وعفوية ، التي قد لا يخلو منها أي بلد في العالم ، الغناء البدوي ، الغناء الريفي ، غناء الصحراء ، غناء الجبال ، غناء السهول ، وغيرها من البيئات والتضاريس المناخية والجغرافية … وقصص تروي مآثر الغناء العفوي الصادق من خلال أبطاله المؤدين الباهرين ، واذا توغلنا زمنياً فإننا لا نجد أمامنا سوى بعض المصادر والكتب التي تؤرخ هذه القصص دون سماعنا للغناء طبعاً ، إلا ما سجل في مطلع القرن العشرين بالاسطوانة (كرامافون) والاشرطة الصوتية ومن بعدها المرئية وذلك لظهور وتطور عصر التكنولوجيا وأجهزة الحفظ والنشر بشكلها الواسع المعروف ، وفي أيامنا هذه هنالك من يحاول القيام بجرد لهذه الثروة عن طريق تسجيل الحكايات الشعبية وتسجيل التراث بشكله العام بواسطة البحث العلمي المنهجي … تحت لواء علم الفلكلور ..
ومن خلال تتبعنا لهذه المحاولات البحثية في أعماق التراث بشكله العام والموسيقي بشكله الخاص ، فقد تبين أن هذا الفن المتوارث شفهياً في أشكاله السردية التي تهمنا ، يمتزج في أصله بالدين ويتضح هذا المفهوم بشكل أكيد في علاقة غناء المقام العراقي بالاداء الديني في المناقب النبوية و التهاليل و الحسينيات والأذكار وغيرها من الشعائر الدينية الاخرى ، وحينما نقارن بين فصل من فصول المولد النبوي الشريف ومقاماته التي تؤدى فيه وبين المقامات الدنيوية المناظرة له ، لا نجد فرقاً سوى أن الكلام إختلف وبقي المسار اللحني لأصـول ذلك المقام نفسه دون تغيير يذكر ، وقد نعثر على بعض الألفاظ الممتزجة بمسار أو جملة لحنية بها في الغناء الدنيوي ومعدومة في المناقب النبوية لعدم جواز أو موائمة ذكرها في الإلقاء الديني كونه لا يركز على التطريب بل على الخشوع والابتهال الى الله سبحانه وتعالى.
إن التراث الشفاهي السردي يزوِّد الإنسان بذاكرة هائلة الاتساع فهو يجمع وينقل التقاليد ، أو بالأحرى الثقافة التقليدية المعتمدة على ثقافة الذاكرة عموماً ، وكذلك الاساليب الغنائية ويضمن وصولها الى الاجيال الاخرى بعد أن يحورها ويبلورها بصورة عميقة ويثبت ما هو حقيقي ويضع ما هو جميل وخلاب نزولاً عند تطور المجتمع وتبلوره وإنتشار المعرفة والإبداع فهو نتاج مشاعر وعواطف وأحاسيس لا حصر لها تتساءل وترغب في تفسير الاساليب الجمالية من خلال عملية الابداع والتطور ..
مكانة الفنان
-------
أما مكانة الفنان في تلك الحقبة فقد كان الفنان الموسيقي على وجه الخصوص حتى الملتزم خلقياً ، يـُعتبر إنساناً غير مرغوب فيه إجتماعياً وعلى كافة الاصعدة والمستويات !!!؟..
نتيجة النظرة الضيقة الأفق من قبل الناس الى الفن بشكل عام ، ولنا أن نتصور كم كان فنانونا يتحملون الشيء الكثير من التضحية أمام قساوة المجتمع !! هؤلاء الفنانون الذين منحوا مشاعرهم وأحاسيسهم لمتعة هذا المجتمع … لذا فقد كانت هذه الحالة توشك أن تهوي وتهدم حصون الفن الموسيقي خاصة ، من الرأس الى الاسفل .. لولا وجود بعضٍ من الفئات الاجتماعية المتمدنة ذات الافكار الحضارية التي ساهمت في تشجيع الفنانين واحترامهم ودعمهم معنوياً …
إن حقبة العقود الثلاثة الاولى من القرن العشرين تعتبر بحق حقبة تحولات في شتى المجالات ، وفيها إختلف الوضع الموسيقي اختلافاً كلياً عما سبقه في القرن الماضي ، وقد أسفرت هذه الحقبة عن بعث حياة جديدة لتاريخ غنائنا وموسيقانا بعد أن كان وضع الفن الموسيقي يكاد أن يكون منعزلاً عن التأثيرات الخارجية التي كانت حصيلتها ضيق الافق الثقافي المتأخر . حتى أن الناس كانوا لا يرسلون أولادهم الى أي مركز تعليمي لفنون الموسيقى ، ذلك ان المنظور في هذا الموضـوع يعتبر عيباً وعاراً ، أما العامل الديني فكان دوره مؤثراً سلباً أو إيجاباً ، فنظرة الأديان عامة الى الموسيقى والغناء تتباين صعوداً أو هبوطاً ، لذا فالعوامل عامة أفرزت رواسب إصطبغت بها النظرة الاجتماعية بشكل كبير ، ويحلو للبعض أن يقول أنها زعزعت الثقة في نفوس بعض الفنانين ، أما البعض الآخر فأكثر حدة عندما يتجرأ فيقول ( تعتبر هذه العوامل أسباباً مباشرة في التأثر الثقافي والموسيقي).
أما بالنسبة الى حال الاداء في القرون الاخيرة ، فقد ولد المقام العراقي في القرن العشرين مجدداً ، في أداء المطرب الكبير محمد القبانجي ومن جاء بعده من المبدعين ، إعتماداً على التجارب الاولى التي سبقت هذه المرحلة في القرون الاخيرة وعلى أنقاض الثقافات الادائية البسيطة للمؤدين في تلك القرون ، حيث إحتل الاداء المتوارث موقعاً مهماً في تفكير مؤدي تلك الحقبة الزمنية ..
لقد كان الشكل المؤدى للمقام العراقي منذ القرن الثامن عشر تقريباً يعتبر المثل الاعلى للافكار السائدة في ذلك الوقت ، أو طيلة القرون الماضية ، ولكن ما أن حلَّ القرن العشرين حتى غدا الشكل الادائي للمقامات عموماً يتحرك بديناميكية جديدة كان مثلها الاعلى تلك البواعث الابداعية الجديدة في الاداء المقامي التي أنجزها محمد القبانجي ، مما أضفى على شكل ومضمون الاداء المقامي نكهة جديدة وإطاراً جمالياً ومعنىً حضارياً جديداً إختلف كثيراً عن ما كان عليه في القرون الماضية ، حيث قطع المؤدون منذ القبانجي شوطاً كبيراً في عملية تطوير الاداء المقامي .
وفي القرن العشرين إنحصرت أهمية الدقة في الاداء المقامي على النظرة العلمية والفنية والجمالية ، منذ بداية العمل الادائي حتى نهايته ، في انها تعبير عن القيمة الفنية للعمل ككل .. فالمؤدي يتملكه شعور يسيطر على كيانه ، فهو يبغي التفنن في كل ما هو جميل ، فنرى أن أداءه ينطوي على جوهر هذا الشعور .. فالقبانجي يمنحنا متعة كبيرة في هذا الشأن بأداءه الدقيق للمقامات العراقية خاصة التي أداها في عشرينات وثلاثينات هذا القرن ، وكذلك الشأن في مقامات رشيد القندرجي وحسن خيوكة وناظم الغزالي ويوسف عمر ونجم الشيخلي واحمد موسى وعبد الرحمن العزاوي وغيرهم ، فالاداء عندهم ليس مجرداً أو جافاً بل أداءاً فنياً إستاتيكياً مناسباً لذوق المتلقي .. لذلك فقد أصبح أداء هؤلاء المؤدين تفسيراً شعورياً لما يكتنف أحاسيس ومشاعر الناس وجمالياتهم في التذوق الغناسيقي …
القبانجي وطريقته
----------
ثمة وشائج كثيرة بين أداء القبانجي صاحب الابداعات الزاخرة في أدائه للمقامات منذ العشرينات ، وبين الذين أدوا المقامات من بعده … ومن هذه الوشائج يمكننا التحديد بأن القبانجي بطريقته الادائية الجديدة قاد الاداء المقامي بشكل عام الى منحىً جديد في التعبير عن الديناميكية الادائية ، فكان ظهوره إنعطافة كبيرة في تطور هذه الناحية ، التي بها إستطاع أن يجبر المؤدين اللاحقين له أن يمتثلوا لطريقته الفذة ، مبتعدين بذلك عن تعبيراتهم الذاتية في الابداع وظلوا أسرى طريقته ..
إن الثبات الادائي في طريقة القبانجي هذه لفترة لا تزال قائمة منذ ظهورها أوائل هذا القرن التي إنطوت على تقليد الكثير من مؤدي المقامات لها .. تعني إضافة الى ذلك ، إقرار جماعي من قبل الجماهير المتلقية بنجاح وقوة هذه الطريقة فنياً وتعبيرياً ، وهذا هو شأن الاعلان عن الاستاتيك الجديد والقيم الفنية الجديدة التي تعتمد على العقل والشعور اللذين يمسيان عند جمعهما عضوياً ، الفكرة الرئيسة التي تسود الاداء المقامي … فماذا يريد المتلقي إذن وما هي المزايا التي يبحث عنها عند سماعه للمقامات العراقية بشكل عام ..؟ ولماذا لا يزال يسمعها ؟
أعتقد أن من واجب المغني ، أو المغنين أن يفهموا عصرهم وأن يعبروا عنه بصورة دقيقة ، لأن المستمع إبن عصره وقد نشأ ضمن بيئة ومحيط يريدان تعبيراً فنياً يلائمهما ، فليس من المعقول أن يتفاعل المستمع مع اسلوب وتعبير يعودان الى فترة زمنية سابقة كحاجة ضرورة تعبر عما يريده في عصره ، لذا فعلى الفنانين المؤدين أن يعالجوا بوضوح قضايا المجتمع ، وبطبيعة الحال ان المستمع لا يولي إهتماماً ملحوظاً بالتجارب الفنية المعاصرة ، فهو يعتقد أن من الضرورة أن يتخذ المقام أو الغناء عموماً صفة إجتماعية ، لأن المقام العراقي الذي يصفونه بأنه ينتمي من حيث الشكل والمضمون الى قرون ماضية ، أي الى فترات إعتقد فيها المستمـعون ، أن من الممكن للمقام أن يكون لوحة أمينة للواقع .. لكن هذا الامر يتعلق ببلوغ هذا الواقع أو بالتعرف على أنفسنا فيه أو الهروب منه .

تجارة الفن وظهور ألوان غناسيقية اخرى
------------------------
على كل حال أصبح الغناء والموسيقى يصلان الى أسماع كل أفراد المجتمع ، نتيجة التطور السريع الذي حصل في وسائل الانتشار .. ونتيجة لذلك أيضاً أصبح الفن نوعاً من البضاعة تنتج وتروج حسب الوسائل التجارية .. عندها إختلف الوضع في عصرنا الراهن عن العصور الماضية ، فقد كانت الاعمال الفنية ، هي التي توفق بين التأمل والاحساس والعاطفة وبين إمكانية المستمع على التفهم والاستيعاب ليظهره على نحو محسوس .. أما في عصر التكنلوجيا والانجازات السريعة المذهلة ، فقد أصبح الأمر عكس ذلك تماماً ، فقد أمسى النتاج الفني يتملق الكثرة من المستمعين ليخلق منهم مجموعة كبيرة لا راد لقضائها تسمى ( الجماهير ) ..
من ناحية أخرى ظهر بشكل جلي ، التنوع في ألوان الغناء نتيجة تعدد البيئات ، إقليمية أو تركيبات إجتماعية مختلفة … إذ كانت الحاجة ماسة للتعبير عن وجود هذه الألوان الأدائية بعد أن ساعدت على ظهورها على المستوى الاعلامي شركات التسجيل الاجنبية التي تجولت حول العالم لتسجيل موسيقى الشعوب ، فبعد أن كان المقام العراقي وحيداً في الساحة ، شاركه الغناء الريفي والغناء البدوي الأصيلان إضافة الى غناء وموسيقى إخواننا من الاقليات والقوميات الاخرى ، لذا فقد توجب على الجميع أن يكتشفوا الطريق الى الحقيقة العاطفية والفكرية والجمالية في تعابير أداء هذه الالوان .. الى حقيقة لا يعكرها تفكير عقائدي أو تحيز مشوه .. لأن كل من هذه الالوان الادائية جزءاً لا يتجزأ من المحيط الجغرافي والاجتماعي للعراق الحضاري … فلابد إذن أن نتسلح بكثير من الجرأة الفنية والجمالية لكي نكون على إستعداد تام لمحاربة تجارة الفن ومحاربة الجنوح المادي البحت الموقظ للطباع السيئة ، الذي يحجب المثل الانسانية والسمو الروحي في التعبير الادائي للفنون الموسيقية ، وكذلك محاربة القصور والضيق في أفق التفكير والشعور البيئي .. وندعم أفق الخيال وجماليات التعبير عن السمو الروحي للاداء الغنائي لتأكيد القيم الانسانية من خلال صدقنا وحبنا لموسيقانا … خاصة ونحن نجابه مع تقدم الزمن موجات من الكم الهائل في الانتاج الموسيقي البائس التعبير والتجاري الهدف ..






















المحور رقم
(1)

الجزء الرابع

*********

تأثير التكنولوجيا
-------------
نتيجة للتطور التكنولوجي ووسائل الاتصال والنشر ، اصبحت طرق الاداء الغناسيقية عوالم يندمج فيها عصر كامل بالتواريخ والامكانيات الفردية والجماعية من الفنانين ، مع تكثيف للتجارب الحياتية ومن ثم تحويلها الى فلسفة للحياة . وبظهور الطرق الادائية الغنائية الانفرادية لدى بعض المؤدين المقاميين خلال القرون القليلة الماضية على وجه الخصوص منهم مثلاً ، رحمة الله شلتاغ(28) واحمد الزيدان(29) ورشيد القندرجي(30) ومحمد القبانجي وغيرهم … تغيَّر معنى المقام العراقي ، بل تغيـَّرت حتى طبيعته من خلال التبادل التاريخي في عملية التأثر والتأثير بمختلف الاتجاهات الكلاسيكية والرومانسية وغيرهما .. اذ جعل كل مغن من أمثال هؤلاء المشروع الادائي الفني ، الوسيلة الوحيدة للوصول بالمقام الى برِّ الأمان ، الأمان الذي إنتهى أمر بإكتشافه وتوضيحه ..
ولذلك فقد تطور الأداء المقامي من حيث شكله ومضمونه ، إبتداءاً من شلتاغ في مقاماته الى احمد الزيدان حتى رشيد القندرجي .. بتيـَّار مضاف تزدوج فيـــه طريقة الاداء المقامية العراقية بالعربية من خلال المبدع محمد القبانجي ..! فالمغنى المجتهد يكشف عن طرقه وفنـِّه ، وتراه ربما يضطر الى هدم ما بناه وشيـَّد ما كان يراه إبداعا في وقت ما ، وفي أداء محمد القبانجي يرافق التأمل لطريقة أدائه عملية الخلق المقامي ، فطرق الاداء المقامي تؤسِّس في نظر الجمهور ، الاسلوب الامثل لمعرفة اللغة الادائية الغنائية وأحيانا عذرا لتكوين طريقة فردية جديدة .
إن هذا النوع الغنائي الذي يستثيره بإلحاح ، الواقع المحيط والواقع الذي نحمله داخل أنفسنا والذي يتنازعه خلق الخيال وإستقصاء الواقع الذي لا يكف عن إنتاج طرق أدائية وإبتكار طرق اخرى ممكنة ، وهذا النوع متقلب وفي توسع دائم .
شركات التسجيل الاجنبية
---------------
من الاحداث المهمة التي نالت الكثير من الشهرة والصيت في هذه المرحلة مجيء شركات التسجيل الالمانية والاجنبية الاخرى الى بغداد في العقود الاولى من القرن العشرين ، ضمن بحثها عن الاصوات والامكانيات الفنية الموجودة لدى الشعوب ، فكان من حصيلة ذلك تسجيل عدة اسطوانات للمقامات العراقية أداها الكثير من مغني المقام العراقي ، فضلاً عن النجاح الساحق للمغني الكبير محمد القبانجي ، مع تسجيلات اخرى من الغناء الريفي والبدوي لداخل حسن(31) وحضيري ابو عزيز(32) وناصر حكيم(33) وآخرين ..
لقد كانت المقامات التي أداها القبانجي غاية في الروعة في عنصرها الجمالي ، وخطوة الى الامام في التعبير الادائي المقامي الذي إختلف عن مراحله السابقة ، لقد كانت واضحة النطق مفهومة الكلام مع جملة من الملاحظات الفنية ، هذا وقد توَّج ذلك ذهاب القبانجي على رأس وفد موسيقي الى ألمانيا أواخر العشرينيات وتسجيله لعدة إسطوانات أخرى ستخلده على مدى التاريخ ، ثم سفره مع فرقته الموسيقية الى القاهرة للمشاركة في المؤتمر الاول للموسيقى العربية عام 1932 .
إن هذه الاحداث والتجارب ، كانت بلا شك هي العامل الفعَّال الكامن وراء الحركة الجديدة في الإبداعات الادائية المقامية والريفية والبدوية والالوان الاخرى ، وسرعان ما أخذ الغناء عموماً يسمع في كل مكان وعلى الدوام …
إن الاهتمام بالنتاجات والانجازات التي ظهرت في القرن العشرين أو بالتحديد في النصف الاول منه ، بإعتباره كان بداية حقيقية لمعظم المعطيات الثقافية الابداعية ، وهذه المآثر من التطورات الفنية والانجازات بطبيعة الحال يجب أن ترتبط بتطور الفنون الاخرى وتطور الثقافة عموماً في العراق ، وان وضوح هذه الاحوال ، من شأنه ان يمكّن الدارس أو المطـَّلع ، تقييم هذه الروابط والخروج منها بحصيلة مثمرة ومفيدة .. إن النصر الحقيقي في تطوير الفنون هو عندما يتدخل العقل والفكر ويمتزج بالفطرة ليبلورها ويطورها الى أساليب جديدة مهذبة تلائم روح العصر للمحافظة على شخصية الأمة ، ومن ثم إستنباط الافكار الجديدة للخروج بأعمال جديدة مبتكرة .. بعد أن تفك قيودها من قدسية المحلية الصارمة الى الآفاق الثقافية الاخرى خارج الحدود لنصل بهذه الطموحات الى العالمية ..
إن ثقافة الذاكرة العفوية(34) ظلـَّتْ ترافقنا قروناً عديدة ، وعليه ، يتوجب علينا الاهتمام بالجانب الفكري وتعميق الفهم ليصبح طريقاً تطورياً مستنيراً أميناً .. خاصة ونحن في عصر السرعة ، وستبقى الريادة للفنانين الذين قادوا المسيرة الابداعية الجديدة لموسيقانا في القرن العشرين ، الذين حرَّروا أنفسهم من سلطة القيود التقليدية للتراث واستوعبوا هذا التراث وانطلقوا منه بكل قوة ..
هكذا كان الفنانون الرواد الذين أخذوا على عاتقهم أعباء إحتاجت في إنجازها للنهوض بالمستوى الموسيقي ، الى جميع القوى التي يمتلكها المجتمع رغم ضعفها ، إلا أن التحولات كانت كبيرة ومذهلة خاصة وقد خاض العالم أجمع حربين كونيتين غيّرت مجرى التاريخ .. مما حدا بهؤلاء الفنانين الرواد الى أن يدفعوا بتجاربهم وإكتشافاتهم ومبتكراتهم الى الامام بالرغم من معارضة وسخرية المجتمع في بعض الاحيان .
وسيبقى تاريخ هذه المرحلة بداية لمرحلة إنفجارية تاريخية بشتى ميادين الحياة ، وسوف نرى في المستقبل إندماجاً أكثر وعلاقات أمتن وإبداعات أنضج لأنها فتحت الطريق أمام آفاق فكرية جديدة مستقبلية ، فقد تزعزعت الكثير من عروش مجاميع كثيرة من الآراء المتحكمة البالية والقاسية ، وبدا الفنانون يجدون منطلقات جديدة لإمكاناتهم ونشاطاتهم الغزيرة في حركة دافعة نحو تبنِّي وجهة نظر أكثر تحضُّراً وأقل بدائية وتخلفاً .

الدراسة الموسيقية
------------
إن معظم فنانينا الشباب الملتزمين ، يدركون حقيقة أن دراسة وبحث الفن الغناسيقي القديم والحديث أكثر تعقيداً وأكثر جهداً من دراسة الفنون الاخرى ، حيث يجب أن يكون النظر الى واقعنا الموسيقي مقارنة بالتطور الحاصل في بلدان العالم الاخرى نموذجاً ملهماً ومحفزاً للكتابة والدراسة والبحث في شؤون غنائنا وموسيقانا وتطويرهما نحو الأحسن .
إن واقع غنائنا وموسيقانا التراثية بشكل خاص والمقام العراقي بشكل أخص في بغداد والعراق بأجمعه ، قد حصل فيه تقدم ملموس من خلال تطور الدراسات الموسيقية في المعاهد وغيرها ، إلا أننا نحتاج الى وقت كثير كما يبدو لبلورة هذا التقدم والتطور المنشود .
لقد وفـَّرتْ العقود الاخيرة ما يمكن أن نطلق عليه إزدهار الفن الغناسيقي العراقي بشكل عام وشامل كما مرَّ بنا ، كان آخرها إفتتاح قسم الفنون الموسيقية في كلية الفنون الجميلة ليرتفع مستوى الشهادة الاكاديمية الموسيقية الى البكالوريوس حتى وصلت الشهادة في السنوات الاخيرة الى الماجستير آملين أن تصل الى الدكتوراه .
وقد بيـَّن لنا فنانون غناسيقيون أمثال الشريف محي الدين حيدر وتلامذته جميل بشير ومنير بشير وسلمان شكر وغانم حداد وشعوبي ابراهيم(35) وهاشم الرجب(36) وعباس جميل(37) وغيرهم ، انه على الرغم من كوننا بلداً نامياً ، إلا أننا نتقدم ثقافياً بشكل ملحوظ ، ومع أن البعض في مجتمعنا لا زال يرى هذا الامر مشيناً ، إذا أخذنا الأمر بنظرة إجتماعية جدية ، إلا أن هناك آمالاً كبيرة تقع على عاتق الشباب الحالي الواعي والاجيال القادمة في تطوير وتثقيف وتغيير النظرة الاجتماعية الضيقة حول الفن الموسيقي لدى البعض من المجتمع .
أعتقد ، كما يعتقد الكثير من الشباب الفنانين ، اننا بحاجة ملحـَّة الى التغيير والتطوير في فنوننا الموسيقية ، وليس من الضروري الحصول على غناء وموسيقى يعكسان الواقع فحسب ، بل نريد النظر الى المستقبل برؤية واعية . ويبدو لي أن التعاون بين الفنانين الدارسين منهم خاصة والنقاد والصحفيين ووسائل الاعلام السمعية والمرئية ، هو الطريق الوحيد بل هو أنجح الطرق والسبل للوصول الى الهدف العلمي والتطور في موسيقانا وغنائنا .. والشيء المهم هو بذل الجهد لمعرفة الاسس والطرق الصحيحة التي يعتمد عليها التطور والتغيير في كيفية تعاملنا مع المادة التراثية الغناسيقية ، الذي نجعل منه تراثاً حضارياً تاريخياً وعلمياً مدروساً لنصل به الى مستويات راقية ، دون تشويه أو مبالغة .


















المحور رقم
(1)

الجزء الخامس
********

مساهمة المرأة في تلك الحقبة
------------------
من الجلي ، ان فناني الطليعة في قطرنا العزيز ، مطالع القرن العشرين ، قد ساهموا مساهمة فعـَّالة في إعادة الزهو والشعور المريح الى الحركة الفنية الموسيقية خاصة ، ولابد من ذكر حقيقة طيبة ، هي أن هذا البعث الجديد لنهضة الثقافة الموسيقية عندنا ، قد ساهمت به نساء فنانات رائدات بشكل مؤثر ، برهنَّ على أنهنَّ قويـَّات في المجتمع .
ولعل من الغريب والمثير جداً بنفس الوقت ، إن النتاجات الاولى في الغناء والموسيقى للفنانين الملحنين في قطرنا ، كانت قد أديت منذ البداية من قبل نساء مطربات في الاعم الاغلب ..! فكانت الطليعة من هؤلاء الفنانات المغنيات مثلاً .. بدرية أنور ومنيرة الهوزوز وسلطانة يوسف وصدِّيقة الملاية وبهية العراقية وماري الجميلة وأمينة العراقية وعليـَّة فوزي وطيرة حكيم وزنوبا وعزيزة العراقية وروتي …و…الخ وستبقى تلك الاغاني خالدة على مرِّ الزمن لإمتلاكها كثيراً من مقوِّمات النجاح ، خاصة في عنصرها الجمالي الذي كان يعبر عن روح البيئة المحلية والتي كانت ملائمة لذوق المتلقي زمنذاك … وقد كان الملحنون الاوائل قد بذروا البذرة الاولى التي أثمرت عنها هذه المرحلة الثقافية التي تمخـَّضت عنها حركة جديدة بالاستقاء من التراث والاستفادة منه فائدة مباشرة ، سواء في المقامات العراقية أو في الالوان الغنائية الاخرى ، الغناء الريفي والغناء البدوي وغيرهمـا . حيث تكشـَّف لنا ذلك خلال الاطلاع والاستماع الى تلك الابداعات التي ظهرت في هذه الحقبة … وهذه الحقائق تبرهن لنا أن نجاح هذه الطليعة من النساء المطربات قد خلفت نساء مطربات اخريات كجيل ثان وثالث …الخ فكانت سليمة مراد وعفيفة اسكندر وصبيحة ابراهيم ولميعة توفيق وزهور حسين ومائدة نزهت وهيفاء حسين واحلام وهبي و…و.. الخ ورغم أن هذا الخط المستمر من ظهور النساء المطربات كان يبهت تارة ويظهر تارة اخرى ، وذلك بسبب القيود الاجتماعية ونظرة المجتمع الى الفنانين ، مما جعل المرأة خاصة تحتاج الى كثير من الجرأة لتقدم نفسها فنانة للشعب ، لذا فقد كانت المرأة عموماً أقل إحتمالا للنجاح وأكثر تعرضاً للخيبة واليأس .. ومن الحق أن أولئك النساء المطربات الاوائل اللاتي ظهرن في العقود الاولى من القرن العشرين قد أسهمن الى حد كبير في ظهور الاغاني الجديدة الملحنة والمكتوبة كلماتها حديثاً ، وجعل هذه البداية الجديدة النواة الاولى للحركة العقلية في الموسيقى والاستمرار بها ومجيء الاجيال الاخرى التي نهجت نفس الخط التطوري وأصبح للجيل الاول منهنَّ خليفات وأتباع .. وكانت هذه البداية هي المحرك الفعلي الاول للجمود الثقافي في مسيرة الفن الغنائي والموسيقي الذي إستمر على مدى الاجيال التالية لجيل الفنانات الرائدات ، اللائي أصبحن أخف عبئاً وأكثر ثقة من سالفاتهن ، وأصبحت معالجة بعض القيود الاجتماعية الصارمة قبلاً ، أمراً أكثر مرونة ، حيث بدأ عدد النساء المطربات يزداد بمرور الزمن .
دور الصحافة الفنية *
------------
كانت الصحافة الفنية في العراق ، مطلع القرن العشرين لها مساهمات جادة في النهضة الفنية الحديثة وتنشيط حركة احياء التراث الفني العراقي ، وكان لها دور فعـَّال في ذلك .. وعليك عزيزي القاريء أن تتصور الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كان يمرُّ بها بلدنا العزيز ، خاصة ونحن ننتهي من إستعمار قديم ليسيطر علينا إستعمار جديد ، فقد كانت الدولة العثمانية أواخر القـرن الماضي قد هرمت وأفل سلطانها ، وعاصر ذلك بداية الزحف الاوربي المباشر لاحتلال البلدان النامية فكان أن أُشعلت حرباً عالمية مرعبة أطلق عليها الحرب العالمية الاولى ..!! 1914 – 1918 التي كانت إحدى نتائجها أن سيطر على بلدنا الاستعمار البريطاني ، وبعد مضي أكثر من عقدين من السنين بقليل كانت الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945 .. وغير ذلك من الاحداث التي نتجت من جرَّاء هذه الحروب العالمية ، وهكذا وضعٌ بطبيعة الحال لا يشجع على نمو وسط ثقافي سريع يوازي سرعة النمو الذي قد يحدث في بلدان اخرى تتمتع بظروف أفضل ، ورغم كل هذه الظروف فقد كان يوم 18 / 2 / 1934 موعداً بشيراً لصدور أول مجلة عراقية فنية متخصصة بالفنون عامة والموسيقى خاصة في بلدنا العزيز .. وقد قدِّر للشاعر الغنائي عبد الكريم العلاف أن يكون له قصب السبق في ذلك حيث أصدر العدد الاول في ذلك التاريخ من المجلة التـي أسماها ( الفنون ) وكان العلاف معروفاً بمؤلفاته العديدة التي تخص الادب الغنائي والتاريخ الموسيقي لحضارتنا العربية وقلـّما نجد مطرباً أو مطربة عراقية لم تغن من كلماته . فقد كتب تحت إسم المجلة ( الترويسة )(28) - مجلة فنية موسيقية فكاهية اسبوعية - ويذكر أن العلاف كان قد أصدر 26 عدداً فقط من هذه المجلة إذ توقفت بعد ذلك . وسوف نرى تكرار مثل هذه الحالة خلال هذا الاستعراض التاريخي لصحافتنا الفنية في العراق الغالي ، وإن الكثير من الصحف والمجلات التي ما أن تؤسس وتصدر حتى نراها تتوقف عن الصدور بعد فترة من الزمن غالباً ما تكون قصيرة . وذلك كله يعود لظروف التخلف والتأخر التي كرسها وشجع عليها الاستعمار شأنه في كل البلدان التي يستعمرها …
ومن جانب آخر ، إن أول فنان عراقي أصدر أول مجلة تعنى بالفن الموسيقي هو الموسيقار العظيم الملا عثمان الموصلي(29) الذي أصدر العدد الاول من مجلة المعارف في القاهرة العاصمة المصرية - وذلك في 19 / 5 / 1897 – ويمكننا أن نلاحظ قـِدَم هذا التاريخ البعيد نسبياً ، فهو إنجاز فني وأدبي وثقافي كبير ، بل كبير جداً على صعيد الفن والصحافة .. ومن ناحية أخرى ، نأسف شديد الاسف ، ذلك أن المطبوعات والكشوفات العراقية لم تذكر هذا الانجاز وهو بلا شك ناحية سلبية تسجل على باحثينا في الوقت الذي توجد مراجع وكشوفات عربية كثيرة كانت قد ذكرت هذه المعلومة ، ما خلا باحث عراقي واحد ذكر تاريخ إصدار الملا عثمان الموصلي لمجلة المعارف في القاهرة ، هو الدكتور عادل البكري الذي ألف أكثر من كتاب عن حياة وإنجازات الملا عثمان الموصلي … ومن المراجع العربية التي تطرقت لهذا الموضوع ما ذكره الكونت فيليب يطغازي في كتابه الموسوم ( تاريخ الصحافة العربية ) وهو مرجع جيد لصحافتنا العربية وكان ذلك ضمن الجداول التي تضمنها الجزء الثالث من كتابه . ومرجع آخر ما نشره الاديب اللبناني ابراهيم اليازجي في مجلته البيان حيث جاء في النص ( ورد علينا العدد الاول من مجلة المعارف لصاحبها ومحررها الفاضل ملا عثمان أفندي الموصلي وهي علمية سياسية تاريخية أدبية أخبارية فنية وفيما نعهده من حضرة محررها المشار اليه من غزارة الادب والبراعة في صناعة الانشاء ما يضمن لها التقدم بين الصحف العربية ) .. ونجد أيضا مرجعاً عربياً آخر في الجزء الرابع من كتاب ( الاعلام ) لخير الدين الزركلي .. مع مراجع اخرى كثيرة …
هذه هي البداية الحقيقية للصحافة الفنية ومساهمتها الفعـَّالة في إنماء وتطوير مسيرة الحركة الفنية الموسيقية في بلدنا العزيز .. بدأت على أكتاف أشخاص من صلب الفن الموسيقي ، وبعد أن توقفت مجلة الفنون لعبد الكريم العلاف صدرت مجلة اخرى في العقد الثلاثيني نفسه وبنفس الاسم ولكن لا علاقة لها بالاولى ، فقد أصدرها الصحفي الهاوي للفن والتمثيل محمود شوكت الذي كان يشارك مع بعض الفرق الفنية في أماكن عديدة لتقديم بعض النتاجات التمثيلية والمسرحية التي كانت أشهرها مسرحية يوليوس قيصر .. وكان هذا الفنان الهاوي قد إهتم كثيراً بمجلته ، حتى بعد توقفها ، إذ نراه قد أصدر مجلة أخرى ترعى الفن أسماها ( الزهراء ) وذلك عام 1941 التي إستمرت في الصدور حتى الخمسينيات ليصدر بعدها جريدة سياسية تعنى بمجالات كثيرة ليس فيها الفن أسماها الثبات ناصر فيها الاتجاهات اليسارية ..
وعودة أخرى الى العقد الثلاثيني فقد صدرت مجلة اسمها ( العدالة ) ذلك عام 1930 ورغم أن إسمها لا يوحي بأي مضمون فني ، بيد أن معظم صفحاتها كانت فنية ، حتى أن صور الغلاف كانت لفنانة عراقية أو عربية وكان مؤسسها الصحفي كمال عبد الستار .
ما أن بدأ الاهتمام يزداد بالفن وبأخباره ، حتى إزداد معه صدور مجلات جديدة ومطبوعات أو جرائد تتحدث عن الفن والفنانين ، ففي عام 1942 أصدر القاص الاديب والمحامي عبد الرحمن نايف مجلة أسماها ( البيادر ) تتضمن المواضيع الفنية والثقافية الجادة .. وفي منتصف الاربعينيات كان هناك فريق من الشباب المثقف الواعي الذين أسسوا مجلة راقية في أساليب طرح موضوعاتها الثقافية والفنية الهادفة أسموها ( المجالي ) وذلك عام 1945 وفي نفس هذا العام كان الفنان المعروف جميل حمودي قد أصدر مجلة فنية أسماها ( الفكر الحديث ) تعنى بالفن والثقافة الحرة وتوقفت بعد فترة لعزمه على السفر الى باريس لغرض الدراسة وبعد عودته الى الوطن بعد الدراسة حاول أن يعيد إصدار المجلة لكنه لم يتمكن لارتفاع تكاليفها المادية وعجزه عن ذلك .. واستعاض عن ذلك بإصدار مجموعة شعرية واعتبرها من إصدارات المجلة .
وفي عام 1947 أصدر الفنان الممثل والصحفي عبد المنعم الجادر الذي شارك في فلم علية وعصام الذي انتج عام 1947 مجلة فنية جامعة للفن أسماها ( السينما والمسرح ) تعنى بالفن عموماً وكانت مواضيعها في كل عدد تشمل المسرح والسينما والموسيقى والتشكيل …الخ وكانت من المجلات الفنية الناجحة ، وقد إستمرت عدة سنوات .. وبعد توقفها أعاد صدورها في العقد الخمسيني بإسم جديد ( الشباب ) الى أن ترك الصحافة الفنية وترك الفن وإتجه الى الصحافة السياسية حتى وافاه الاجل أواخر عقد السبعينيات .
وفي عام 1948 أصدر الصحفي ناصر جرجيس مجلة على شكل جريدة بحجم تابلويت(40) أدارها له الصحفي الاذاعي حافظ القباني الذي يهوى الفن والموسيقى ، وتشهد له مساهماته الاذاعية الكثيرة بذلك ، وكان اسم هذه المجلة ( النديم ) التي إستمرت بالصدور عدة سنوات ، وقد شارك مع الفنان القباني في تحرير الصفحات الفنية لهذه المجلة الناقد الموسيقي والصحفي عبد الوهاب الشيخلي الذي كان ينشر باسم ( الناقد الصغير ) تارة و( عبد الوهاب فوزي ) تارة اخرى ، وقد ظل الشيخلي يمارس الكتابة الفنية في الموسيقى حتى وفاته العام الفائت 2007 ، ولم يكن الشيخلي فناناً هاوياً فقط ، بل انه بدأ حياته الفنية عازفاً محترفاً لآلتي العود والماندولين ، ومدرساً في معهد الفنون الجميلة وعميداً لمعهد الدراسات النغمية العراقي مطلع السبعينيات ، ثم ركـَّز إهتمامه بالكتابة الصحفية والفنية والاذاعية وتقديم بعض البرامج فيها ، وظل مستمراً بها طيلة حياته .. وسبق له أن حرَّر الصفحة الفنية للملحق الاسبوعي لمجلة المصور في الخمسينيات وكذلك شغل رئيس تحرير جريدة الشعب للاعوام 56 و 57 و 1958 إذ كان يشارك معه في هذه الجريدة حافظ القباني والشاعر بدر شاكر السياب واستمر كذلك مشاركاً في كل الجرائد والمجلات الفنية .
وعودة الى الاربعينيات ، ففي عام 1948 اصدرت الاديبة الصحفية الطموحة دورين بربوزا التي إختارت لها إسماً ثابتاً إعلامياً هو ( درَّة عبد الوهاب ) أصدرت مجلة ( بنت الرشيد ) بعدد واحد فقط ، وتوقفت بسبب التكاليف المالية ، وكانت ترويسة هذه المجلة – أدبية فنية إجتماعية – ولهذه الكاتبة الصحفية أخ إسمه عادل ، هو نفسه ( عادل عبد الوهاب ) الذي قام ببطولة فلم ابن الشرق الذي أنتجه بالقاهرة محمد صالح بحر العلوم وهو ليس الشاعر المعروف بهذا الاسم .. وأخ آخر إسمه نديم الذي تزوج من المغنية المصرية التي عاشت في العراق راوية ثم إنتهى بطلاقها .. وقد كانت الصحفية الاديبة درة عبد الوهاب متأثرة بجبران خليل جبران ، وتزوجت من عبد الحميد بلال الذي كان استاذاً في دار المعلمين العالية فرع الاقتصاد ، ثم عمل في مديرية الكمارك العامة وأنجبت منه بعض الابناء(41) .
وعن المؤسسة العامة للصحافة صدرت جريدة يومية إسمها ( المواطن ) كان ذلك مطلع الخمسينيات ، وكان الصحفي الفنان جمال سري حريصاً على الاشتراك فيها ، إذ أعطي له باب يومي ينشر فيه أخبار الفن والفنانين وقد شغل الصحفي المعروف سجاد الغازي نائباً لرئيس التحرير .
في هذه المرحلة التي قطعتها الصحافة الفنية في العراق أخذت المواهب الجديدة في الفن والصحافة من خلال توسع مجالات النشر والاتصالات والاطلاع وفي كل الميادين ، تتأثر وتتوسع آفاقها في التواصل التاريخي بين الاجيال ، فلم يكن هناك صراع أجيال ، بل تواصل حضاري خلقي بين هذه الاجيال ، لذا فإن هذه الحلقات التاريخية في المسيرة الثقافية الفنية المتواصلة الابداع كانت أصيلة الطابع ، أخذت تتزايد يوماً بعد آخر وتنطوي على الكثير من الحب للصحـــافة والفن ملتزمة بمبدأ الهواية ، آخذة يوماً بعد آخر في زيادة بالنضوج والتفتح الفكري والحضاري خاصة في معالجة المشاكل الاجتماعية تجاه الفن والفنانين .. فلم يكن الفنان الصحفي كامران حسني فناناً هاوياً فقط ، فقد إختلف عن زملائه في أفكاره العملية في الفن مستفيداً من تجاربه الدراسية والعملية في أمريكا ، وكان من الشباب المتحمس للفن ، إذ كان والده ضابطاً في الجيش العراقي ، لكنه لم ينشأ محباً للانضمام الى الجيش ، إنما كافح من أجل طموحاته الفنية ، وكان لهذا الامر أن أصدر مجلة أسماها ( السينما ) وشارك معه في تحرير صفحاتها الفنية بعض الاسماء منها الاديب طه العبيدي والفنان المسرحي بدري حسون فريد .. ثم تحول إسمها من السينما الى إسم جديد ( الفنون ) لانها كانت تعنى بالفن بشكل عام ومنها الموسيقى حتى توقفت عن الصدور ..
وبعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958 أصدر الصحفي الفنان سجاد الغازي مجلة ( كل شيء ) سياسية جامعة ، ومن الملفت للنظر أن عددها الاول كان عدداً فنياً بحتاً ، وكانت لهذه المفارقة حكاية ، إذ بعد موافقة إصدار وتأسيس المجلة ( كل شيء ) كان الامتياز في قانون المطبوعات يتضمن أن تكون أقصى فترة تأخير لصدور العدد الاول للمجلة بعد صدور الموافقة على إصدارها ستة أشهر ، ولما أوشكت هذه الفترة أن تنتهي بسبب المشاكل السياسية والبلد يعج بالفوضى والاضطرابات التي عاشها أواخر الخمسينات وأوائل الستينات ، حيث احرقت واغلقت الصحف القومية مثل مجلة الحرية واليقظة والفجر الجديد وغيرها ، فكان لابد للصحفي سجاد الغازي من إصدار المجلة قبل إنقضاء فترة الستة أشهر وضياع فرصة الموافقة .. فإن أصدرها سياسية قومية فإن مصيرها معلوم كمصير الصحف التي احرقت واغلقت ، لذا إرتأى إصدار العدد الاول عدداً فنياً بحتاً من الغلاف الى الغلاف .. الى أن هدأت المشاكل وإستقر الوضع ، أخذت المجلة طابعها الاصلي الذي أسست من أجله ..
إن هناك صفحات فنية عديدة تحرر في صحف ومجلات يطول بنا الحديث عنها والخوض في مضامينها وفي خضم هذا الاستعراض الذي أشرنا فيه الى دور الصحافة الفنية في دعم وتطوير الحركة الفنية الموسيقية في العراق الحبيب ، كان أيضاً الكثير من صحافيينا يراسلون الصحف العربية ونشر أخبار الفن ..

الحركة النقدية
بسبب ما آلت اليه الحركة الموسيقية العراقية في بدايات القرن العشرين وما تلاها من سنوات التطور والنهضة متزامنة مع التحولات والتغيرات الثقافية ، تستحق التقدير والاهتمام .. فقد ظهرت حاجات كان لابد لوجودها ، أهمها حاجة الفنون الموسيقية في الاداء والتعبير والدراسات الى أن تحرر نفسها من كثير من الرواسب السيئة خاصة منها التعصب الاعمى للاطوار الموسيقية والغنائية لمختلف البيئات والخصوصيات الموجودة في عراقنا الحبيب … إن التحرر من هذه القوى المتخلفة لا يمكن له أن يكون إلا عن طريق الثقافة والاطلاع والاحتكاك لإكتساب المفاهيم الحضارية ولتوسيع المدارك الفنية وإشاعة المحبة بين الجميع .
أما الحاجة الثانية فهي ضرورة من ضرورات الابداع والابتكار لترافق هذا التطور الحاصل للفنون الموسيقية ، وأعني بها مسألة النقد الموسيقي(42) ، وهذا النقد ينبغي أن يكون نقداً متزناً يستند الى معرفة واسعة في مفهوم العملية النقدية ومعرفة واسعة في العلوم الموسيقية وإدراك جيد للمفاهيم الجمالية ، وفطرت في دقة الملاحظة .. ولعل من الممكن أن نذكر ، أن تأخر المستوى النقدي للموسيقى قد ساعد على إبطاء مسيرة التطور الموسيقي التي كان يمكن له أن يقطع أشواطاً أوسع في تقدمه علمياً .. وإن من المؤسف فعلاً أننا لا نزال لانمتلك إلا النزر اليسير واليسير فعلاً من نقاد للموسيقى ، حيث غلبت على الأكثرية ممن يكتب وينشر في النقد الموسيقي الانطباعات الشخصية بقوة .. أو بمسايرة الفنون المطلوبة البراقة .. كما وإن بعضاً من النقاد تحركهم وجهات نظر إجتماعية بحتة .. ورغم أن هذا المنحى الاجتماعي في التفكير النقدي للموسيقى كان مناسباً في فترة ما ، إلا أنه في الحقيقة يعبـِّر عن موقف ضيق الافق ، لذا فإنه لم يكن صالحاً أن تبنى عليه مفاهيم نقدية حضارية ، ولا يمكن أن يبنى عليه إتجاه جمالي سمح وعميق أيضاً … فعلى هذا الاساس فإننا لا نطمح الى إقتران التفكير الاجتماعي إقتراناً وثيقاً بدوافع الفن عموماً .. ولابد أن نشيد ببعض النقاد الذين كتبوا عن قوى التجديد ودعموها بأفكارهم النيرة وأقلامهم الجادة .. أمثال الاساتذة عبد الوهاب بلال وعبد الوهاب الشيخلي وحمودي الوردي ووحيد الشاهري وحميد ياسين وحامد العبيدي واسعد محمد علي ويحيى ادريس ود.شهرزاد قاسم حسن وسعدي حميد وفائز الحداد ود. هيثم وصباح جار الله واخيراً الاستاذ عادل الهاشمي الذي ماأنفك مستمراً بشكلٍ منتظم يؤشر ملاحظاته النقدية الجادة من خلال زاويته الاسبوعية في جريدة الجمهورية ( المرفأ الموسيقي ) وكانت هذه الكتابات على قلتها أمراً فائقاً نسبة الى فوضى التخلف التي عاشتها الموسيقى في المراحل السابقة ، ويرجع الفضل في هذا إضافة الى هؤلاء القلة من النقاد ، الى نخبة واعية من الفنانين الموسيقيين الذين يمتلكون إمكانيات ثقافية مدركة ومواهب كبيرة في التعبير .. وهي مرحلة مستمرة ، قوَّتـْـها ولا تزال المزايا الفكرية المتزنة .. لأن تقبـُّل وجهات النظر النقدية والفكرية والجمالية من شأنها أن توسع أفق الثقافة والمعرفة لتقويم المسيرة الفنية ، وبدون مثل هذا التفاعل الذي يستمد قوته وجذوره من التحرر المخلص من التخلفات الفكرية القديمة والتسامح الروحي ، حيث يتحتم على أي وضع ثقافي أن يصبح في إتجاه محدود .. وقد رافق هذا التفاعل عند بعض النقاد وبين بعض الفنانين الجادين غربلة عامة للقيم السائدة والمتوارثة للعلوم الموسيقية بشكل عام وبدا في الافق ترتيب جديد لها .
تبقى هناك حقائق لا تتغير على مدى العصور فهناك التجديديون ، والابداعيون وهناك التقليديون ، وهناك المدَّعون ، والمتحذلقون والمستفيدون دوماً في سبيل وضع الخلق الفني في قوانين ضيقة وتحديده ، وسوف يبقى هناك دائماً جمهور للموسيقى الزائفة والرديئة ، إنه جمهور ضعيف لحسن الحظ ، ولكن من داخله تنطلق صرخات الكراهية والمقت والاتهامات التي لا تستند الى حقيقة واقعة للفنان وسوء النية نحوه .. فعلى الفنان الجاد كي يسير في خطىً حثيثة أن يصغي للصوت النقدي الايجابي الذي تطلقه الاقلام التقويمية الجادة ..