المرحلة الاولى


المرحلة الاولى


المرحلة الاولى


المرحلة الاولى

من
المحاور المقامية

2008






محاور في المقام العراقي

دراسة بحثية متسلسلة لمحاور تخص شأن
غناء وموسقى المقام العراقي

يـكـتبها في حلقات

مطرب المقام العراقي
حسين اسماعيل الاعظمي
















الاردن / عمـَّان
2008 نيسان April







اليكم أعزتي القراء في الصفحات التالية
المحور رقم (7) بجزء واحد ، من المرحلة الاولى ، مذكــِّراً ، في حال فقدان أية حلقة من حلقات المحور رقم (1) بأجزائه الخمسة والمحاور الاخرى التي تم نشرها في الايام القليلة الماضية ، أن تكتبوا إليَّ لأرسلها إليكم

وهذا هو المحور
رقم (7)

Hussain_alaadhamy@yahoo.com

00962795820112







المحور رقم

(7)

1 - الاغنية البغدادية
2 – الشكل والمضمون
3 – الاداء بين الاسهاب وفن الايجاز

(1)
الاغنية البغدادية
أمست الاغنية البغدادية خاصة والعراقية عامة المستقاة من التراث الغناسيقي العراقي على وجه العموم ، النوع الفني الأكثر إستجابة لمهمات الواقع ، ولهذه الاسباب التي يتمتع فنان القرن العشرين ناظم الغزالي بمعظم مزاياها ، إذ يعتبر أنجح مؤدٍ فنيّ عراقي ظهر في القرن العشرين ، ليس في العراق فحسب ، وإنما في كل الوطن العربي ، وقد عبرت شعبيته وشهرته الآفاق العربية ..
إن دور المؤدي الكبير ناظم الغزالي في مجال الاغنية البغدادية (المقامية) وكذلك دوره في أدائه للمقامات العراقية جلي ، ولا سيما الميدان الجمالي الذي يبلغ فيه مراميه ، ومن خلال هذه السمات والمزايا ، إحتل الغزالي مكانة مهمة في الميدان الغنائي في العراق والدول العربية وخارجها ، ولا زال يحتفظ بهذه الاهمية رغم عمره القصير ووفاته في العام 1963…
لقد إستقى الغزالي مميزات أسلوبه الادائي للمقامات العراقية من سلفه محمد القبانجي الذي كان مسيطراً سيطرة مطلقة على الساحة الغنائية في العراق طيلة النصف الاول من القرن العشرين ، واطلع بإمعان على الطريقة القبانجية في الاداء ، واستمع الى مقاماته التي أداها إبان سفره الى المانيا لصالح الشركات الفنية الاجنبية أواخر العشرينات ، ومشاركته في أوائل الثلاثينات في المؤتمر الاول للموسيقى العربية بالقاهرة 1932 .. وهي بلا شك مقامات سجلها القبانجي بصوته غاية في الروعة والدقة في الاداء .
لقد رافق ظهور الغزالي على الساحة الغنائية بعض من المؤدين المبدعين في أدائهم للمقامات ، وكلهم كانوا قد إستقوا أدائهم المقامي عن الطريقة القبانجية ، أولهم كان حسن خيوكة ، الذي سلك أسلوباً أدائياً مغايراً للاسلوب الذي نهجه الغزالي ، وكذلك كان الأمر مع يوسف عمر ، رغم أنهم كلهم غرفوا من ينبوع واحد . إلا أن كلاً منهم إختلف عن الآخر في أسلوبه الادائي ، فالغزالي مؤدٍ إبداعي تجديدي ذو عقل فني نيّر… أما خيوكة فقد كان أداؤه ، أهدأ أداء متأمل عرفه المقام العراقي على مدى تاريخ مؤديه ..! يصحبه صوت رخيم وتعابير رومانسية(38) خلابة ، إضافة الى ذلك فقد لحن العديد من الاغاني التي أداها بعد مقاماته مع بعض التحليات ، أما المؤدي يوسف عمر فانه تقليدي في أدائه حافظ على المنحى القديم ، ونقل هذا التراث من السابقين الى اللاحقين بكل أمانة دون زيادة او نقصان ..! مستفيداً من استاذه القبانجي دون إضافة تذكر ، غير أن تعبيراته الادائية العاطفية المعبرة عن روح البيئة المقامية البغدادية التي كانت أهم مميزاته الادائية ، التي بها إستقام واشتهر ودعم وجوده في الساحة الغنائية العراقية والعربية .
عليه.. ينبغي علينا مقارنة هذا التقييم بالاحكام الادائية التي ذكرت سابقاً ، حيث المقومات وتقنيات الاداء ، وبهذا يمكن لنا تقييم اللغة الادائية التي يستخدمها يوسف عمر في أدائه للمقامات وإضافتها الى الطرق التجديدية ذات التعبير الرخيم والمغايرة لطريقة كل من ناظم الغزالي وحسن خيوكة رغم انه ينظم إليهما كون أسلوبه الادائي مستقى أيضاً من الطريقة القبانجية ، وانه بذلك ينظم الى المنحى الابداعي في الاداء المقامي ، فقد إنطوت لغته الادائية على ذلك النحو من الابداع التعبيري.

(2)
الشكل والمضمون
كما عبـَّرتُ سابقاً ، إن المؤدي المقامي مهتم في الحقيقة بأداء المقام بأصوله التقليدية ، وهي أصول عريقة مخضرمة بلا ريب ، حتى الجماهير كانت ولا يزال كثيراً منها لا يهمها إن كان صوت المؤدي جيداً أم لا ..! بقدر ما يهمها أن يؤدي الاصول التقليدية الصارمة كاملة … لذلك يأتي اسلوب المؤدي غير فني غالباً ، بل تقليدياً اصولياً فقط … لأن مفهوم الاسلوب الحقيقي الناجح يحتوي في ثناياه على وحدة الشكل والمضمون … وحدة الكلمة واللحن .. وحدة الاداء وجمالية الصوت .. وحدة الاداء والتعبير .. وعليه فقد أصبحت هناك فجوة جمالية وفنية بين ما كان عليه الاداء ، وبين ما عليه الآن وفي المستقبل.. ذلك ان المفاهيم كانت تدعو الى الالتزام بشكل ومضمون الاداء المقامي من حيث اصوله المتعارف عليها تقليدياً كمسارات لحنية وتعابير كلاسيكية دون الانتباه الى المتطلبات الفنية الاخرى ، لذلك يمكننا القول ، أن دراسة وتحليل الاساليب الادائية لغناء المقامات العراقية تكاد أن تكون مستحيلة ، دون الادراك والفهم الفلسفي لجمالية الرباط الذي يجمع بين الشكل والمحتوى ووحدته ، مع ضرورة إنتباهنا الى البحث عن العلاقات التي يقترب بها المقام من الالوان الغنائية الاخرى خصوصاً والفنون الاخرى عموماً . وزيادة في التأكيد على العنصر الجمالي وتعبيراته المرحلية في كل زمن ، مع وجوب وجود التتابع والروابط المتبادلة بين الاساليب فيما بينها…
يبدو لي أن الدراسة التحليلية والبحث العلمي عندما يتعلق أمرها بالمؤدي المقامي أو نتاجاته الغنائية كلها ، أحادي الجانب فقيراً اذا لم نضع أو نؤكد علاقة الاسلوب بالقضايا الاخرى مثل الفكر والثقافة والاحساس ، واذا لم نجعلها تحتل مكاناً في غاية الاهمية … لأن الفكر والثقافة والاحساس الدقيق الذي يمتلكه المؤدي هو الذي يخلق الديناميكية في بناء الاداء الغنائي المطلوب.
إنني عندما أتكلم عن اسلوب المؤدي الغنائي ، لا أقصد من ورائه الإقلال من شأني أنا باعتباري زميلاً لهم في غناء هذا التراث الغناسيقي ، أومن شأن مؤد ما أو ذاك ، وهذا كما يبدو لي مبدأ نقدي بالفعل .. لأن النقد تنحصر مهمته في توضيح مكامن القوة والضعف في الاداء بكل مقوماته ليتسنى بالتالي الأخذ بالمبدأ الصحيح لمعرفة أسباب الاخطاء معتمدين أيضاً على معرفة طابع تفكير ذلك المؤدي وثقافته دون الإقلال من الشأن أو تعرية الاخطاء وبالتالي إشعار المؤدي بالخجل…!!
لابد للناقد عموماً أن يأخذ بعين الاعتبار موضوع الادراك العميق للرابطة التي تربط بين المسار اللحني للمقام العراقي والفكره المعول عليها في الاداء وتعبيراته وانعكاسات المؤدي الناتجة من ظروف نشأته في المجتمع وتجربته الحياتية ونظرته لها ، التي تنعكس تماماً في النهاية على موضوع أدائه وتعبيره واستخداماته لكل المقومات المطلوبة والتفاعل الذي يحصل مع المجالات الاخرى…
ومن ناحية اخرى فإن الشكل الادائي(39) للمقام العراقي الحالي عند كثير من المؤدين ، لا يلبي حاجة ملحة لمضمون الغناء المقامي في بغداد ، حيث أمست هناك فجوة واسعة بين شكل ومضمون المقام العراقي ، ورغم هذه الفجوة في التعبير الادائي لشكل المقام ومضمونه ، إلا أن كليهما أيضاً لا يزالان متأخريـْن عن مواكبة شكل ومضمون روح العصر الذي نحن فيه ، والتي لا تزال وسائل الاعلام السمعية والمرئية تعرض غناء هؤلاء المؤدين المعتمدين على طرق أدائية سابقة بشكل ببغاوي ..
لابد إذن من نهضة علمية وفكرية وذوقية متحضرة لتطوير اسلوب عرض طرق أداء المقامات في حاضرنا وغدنا ، معتمدين على دعامة الملاحظة والتحليل والنقد ، التي ترمي الى تصوير وتقديم المقام بلا مبالغة أو تقصير ، كذلك معتمدين ومستفيدين من تجارب تطور الفنون الاخرى وتجارب الشعوب في تطوير تراثها التي بثت فيه الدلالات بموازنة رصينة بين الشكل والمضمون ، لأن الشكل الجديد لابد أن يبرر وجوده بمضمون جديد .. إن المضمون هو ما يؤديه ويعرضه الشكل وما يحمله الى النفس من أحاسيس ومشاعر .. لذلك نرى أن كل إبداع وخلق جديد في الفنون أو غير الفنون لابد أن تصحبه معارضة ، بل معركة ، وهذا الابداع أو التجديد لا يثبت ولا يستمر إلا بعـد أن يخرج من المعركة ظافراً ..!
لقد كانت محاولات المؤدين المقاميين القدامى ، عملية فنية هدفت الى تنظيم المقام التقليدي ، وقد ظلت تلك المحاولات محلية الابداع داخل إطار فورم(40) المقام ، وقد بقيت محلية تماماً ، فكانت خطوات اولى أفادت مسيرة التجديد والابتكار في المقام العراقي شكلاً ومضموناً على مرّ الزمن ، حتى قُدّر لهذه المحاولات أن تنضج عند مطربنا الكبير محمد القبانجي في النصف الاول من القرن العشرين الذي إستعان لأول مرة بمحتوى شكلي غير محلي ..! حيث أبدع في تعريق بعض المسارات اللحنية الجديدة غير المحلية التي أدخلها في أدائه للمقامات ، كما هو واضح في مقام الاورفة حين يغني من شعر عبد الغفار الاخرس هذه الابيات ، وعلى الاخص عندما يتصرف في البيتين الثالث والرابع :

كف الملام فما يفيد مــلامي الداء دائي والسقام سقامي
جسد تعوده الضنى وحشاشة ملئت بلاعج صبوة وغرامي
حتى اذا حار الطبيب بــعلتي وقف القياس بها على الايهام
ما يدر ما مـرض الـــفؤاد وما الذي اخفيته عنه من الآلام
فاذا اخذت الكاس قلت لصاحبي العيش في دنياك كاس مدام

نعم أبدع في تعريق هذه الجمل الادائية وقدمها ضمناً على شكل مقامات عراقية جديدة لها كيان جديد ..
كان المقام العراقي في أدائه الكلاسيكي يخضع لقوانين فنية معينة يفرضها العقل والاتزان والاستقرار ، ثم بدأ هذا الثبات يتزعزع ويضطرب من خلال النزعات التجديدية التي تمتع بها بعض المؤدين المقاميين الكبار .. إذ عمّ الاداء المقامي شيء من التنويع والتغيير داخل المضمون الادائي للمقام العراقي .
إن المقام العراقي بشكله ومضمونه التقليدي قد استهلك ..! ونفذت قواه ، وأصبح متأخراً ولا يستوعب متطلبات التعبير العصرية ، على الرغم من أن جهابذة المؤدين الكلاسيكيين ظلت إمكاناتهم وقابلياتهم وتأريخهم لا يطالها سوى الاحترام ، يقابلهم رثاء إجماعي للذين واصلوا عملهم الادائي وقلدوهم دون الاتيان بعمل جديد يسجل لهم .

(3)
الاداء بين الاسهاب وفن الايجاز
إن فن التركيز في حبكة البناء اللحني في غناء المقامات العراقية ينبغي أن يكون من المقومات الاساسية للاداء ، غير أن البعض يفضل الاسهاب في أدائه ، وخطورة هذا الاسهاب أو إضافة أي تفاصيل لحنية غير ضرورية ، لا يؤدي دوماً الى نجاح الاداء ، لذا فعندما نستمع الى كثير من المقامات التي أداها المؤدون ذوو النزعة الاسهابية في الاداء ، نراها شديدة الضعف في تماسكها وصياغتها(41) وربط العلاقات اللحنية وجمعها في وحدة متكاملة ، في حين أن الاداء الفني الناجح يجب أن يكون ذا قوة أصيلة تتلاقى فيه جميع العناصر والمكونات المقامية لتتوحد في وحدة وبناء متماسك(42) متكامل ..
على أية حال ، كانت هذه الاسهابات الادائية موجودة وكانت موضع احترام في بعض الاوساط ، وعلى وجه العموم ، فإن الضرورة الجمالية العصرية توجب الإقلال من هذه الإسهابات أو عدمها اذا إقتضى الأمر الجمالي ..
من جانب آخر ، فإن مبدأ التركيز والاختصار في تسجيلات المقامات التي أديت في مطلع هذا القرن ، وخاصة تسجيلات الرائد محمد القبانجي بواسطة اسطوانات الكرامافون ، صيغة مبالغٌ فيها من حيث الاختصار والتركيز وايصال فكرة واضحة للمضمون المقامي وتطبيق المقومات المطلوبة للاداء رغم ان حديثنا عن التركيز والاختصار.
لكن يبدو ، ان بعض هذه التسجيلات تضررت بسبب المبالغة في حبكة هذا الاختصار مما أثر على عوامل كثيرة في بعض هذه المقامات التي حُدّدتْ بوقت قصير. ويبدو لنا أن العنصر الأكثر تضرراً في البعض من هذه التسجيلات ، هو عنصر التعبير ..! ويـُعتقد أن الأمر مفروض ، على أساس أن تلك الفترة الزمنية من تطور التكنولوجيا لا تسمح بالإطالة ، ربما بسبب الكلفة التجارية أو أسباب تقنية اخرى ، مما اضطر الى تسجيل أكثر هذه المقامات كنماذج أدائية تراثية توثيقية ، ثـُبـّتتْ فيها الاصول الادائية التقليدية ، مع الضغط على حرية المؤدي وتقويضه تعبيرياً بشكل عام ..
إنني أدعو الى تجنب الاسهاب والإسراف في الاداء ، وعدم تكرار المقاطع الادائية التي يمكننا عدم تكرارها ، والتركيز على أهم عناصر النجاح في الاداء بكل مقوماته ومتطلباته ، وكذلك أدعو الى مبدأ التركيز والاختصار ، ولكن مع المحافظة على حاجة المتلقي وإشباع رغباته العاطفية ، من خلال موازنة دقيقة بين التركيز والاختصار و التعابير الادائية ، وبين التكرار والاسهاب غير الضروري ، وبين المتلقي الذي هو حصيلة العمل الفني بأجمعه ، حيث لا قيمة لأي عمل فني دون وجود المتلقي ، لذا فإن التركيز أو الاختصار فنٌ دقيق يحتاج الى دراية حسيـّة وتجريبية وعقلية..! فلا بد من الانتباه الى المبادئ الجمالية التي يمتلكها الناس المتلقون على وجه العموم ، لكي تصل وبشكل نسبي الى عمل يحمل كل صفات النجاح الادائي …
من ناحية اخرى ، فإن إختيارنا لمقامات محمد القبانجي التي سجلها في العشرينات من هذا القرن ، تعتبر شبه أستثناء من القاعدة ، للامكانية الفريدة التي تمتع بها القبانجي ، فقد نجح بشكل كبير في أغلبها وانتشلها جميعاً من الفشل ، سواء في معظمها أو في بعضها التي أجبر كما مر بنا على المبالغة بالايجاز ، لأننا اذا أخذنا القبانجي كمثال للموضوع فاننا قد نلغي كل تحذيراتنا هذه ، بسبب الامكانيات الفريدة التي تمتع بها القبانجي ، فقد نجح في كلتا الحالتين تقريباً ، في الاختصار وفي الاسهاب ..!!
من ناحية أخرى يقترن الايجاز البالغ في الاداء الذي نشعر به عند سماعنا أداء المقامات العراقية في مطلع هذا القرن بأصوات المؤدين ، بالتعبير الادائي المتكلف الذي نحسُّه واضحاً ، لأن المؤدي يحمّل نفسه ضيقاً ومشقة خلال تركيزه ودقته الادائية بسبب الوقت المحدود لزمن الاسطوانة التي يسجل فيها المادة الغنائية ، ومع ذلك فإن الاقتضاب الادائي والايجاز لا يكون على الدوام عائقاً في طريق التصوير المحسوس والتعبير الادائي المطلوب أو لا يكون على الدوام العامل الرئيسي والحاسم في عدم نجاح العمل ، فقد إقترب بعض المؤدين في بعض مقاماتهم الموجزة من النجاح ، حيث أوكل أمر نجاحهم الى إمكانياتهم بصورة عامة …