المشروع الإبداعي
في نظرية
" الدّاروينية المُجزّأة "

د. شاكر مطلق

الإبداع هو عملية في غاية التعقيد والتشابك البسيط أو المركب النابع من الإنسان _ ليس كما يطلق على نفسه بكثير من الغرور اسم " الكائن الأسمى " أو ، ويا للسخرية ، " قاهر الطبيعة " وسيد الكون _ من حيث كونه كائناً عاقلاً ، يمتاز من غيره من الكائنات _ وهم شركاؤه في الوجود على الكوكب _ بكتلة دماغية ضخمة جداً ، بالمقارنة مع غيره من الكائنات ، وذلك كماً ونوعاً ووزناً أيضاً ، حيث يصل إلى حوالي الكيلو غرام ونصف عند الذكر وأقل قليلاً عند المرأة ، دون أن يعني هذا الواقع التشريحي والفيزيولوجي أي حكمٍ مسبق أو تصنيف قيَميّ ، وبخاصة فيما يتعلق بالموضوع الذي نتحدث عنه وفيه الآن .
نحن _ إذن _ أمام ظاهرة فكرية يمتاز بها الإنسان ، في حدود الإبداع بمفهومه " الإسـتيتيكيّ _ Esthetik "_ أي الجمالي - على الأقل وهذا يعني في الأصل الإغريقي " علم المشاعر " وبخاصة الجمال والقوانين الفنية والذوقية التابعة أو المرتبطة بعلم الجمال ، لأن ثمة ما يشبه الخلق لشيء غير موجود مسبقاً في عالم الحيوان أيضاً ، وأذكّر هنا فقط بأعشاش الطيور المعقدة البناء والبالغة الجمال أحياناً ، وأتحدث عن الإبداع في مجال الأدب بعامة والشعر بخاصة والفنون بأنواعها والموسيقى ... ، كونها ناتج إنساني مميّز ومتميّز لنشاط العقل البشري الخلاّق .
وهنا يطرح نفسه التساؤل عن ماهية الإبداع وهل هو حقاً ناتج عن نشاط فكري واعٍ فحسب ، أم أن ثمّة عناصر أخرى عديدة ومتعددة الظواهر والمظاهر تعمل فيه أيضاً ليصل إلى المستوى اللاّئق بكلمة ( الإبداع ) ؟ .
وإذا كان هذا التساؤل مشروع فكرياً ومنطقياً ، وكأننا نتحرّى ماهية " آلهة التمر " فلا ضير في أن نتابع منهجياً السؤال عن المنطقة أو المناطق وعن " المراكز " التي يمكن أن ينبع منها هذا العمل الفريد أو أن نتحكم في كينونته ومظاهره أيضاً ، لاسيما وأننا نشهد ، في الأعوام الأخيرة ، تطوراً هائلاً في دراسة مثل هذه الأمور على " أرض الواقع " وبخاصة في مجال الدراسات الفيزيولوجية الوظائفية لعمل المخ العجيب الذي يحتوي على أكثر من مئة مليار خلية عصبية مرتبطة بعضها مع بعض بعدد هائل من ( الأسلاك ) العصبية الناقلة ، بسرعة البرق ، وربما أسرع ، للتحريضات والشحنات الكهربية المرسلة منه أو الواصلة إليه ، ناهيك عن إمكانية مراقبة عمل هذه الخلايا اليوم في حالة ما يسمى " إن سيتو " أي تحت ظروف حية وهي تعمل عملها على أرض الواقع ، وليس في ظروف مخبرية تتعامل مع المادة بعد موتها وحفظها وتنظيفها ، ما يسمى ( إن فيترو ) أي في إناء الاختبار .
حتى الفحص بالمجهر الإلكتروني العملاق ، الذي يكشف لنا تفاصيل على مستوى ملايين الصغر من الملمتر الواحد ، أصبح ، بطرق وبتحضيرات معقدة ، قادراً اليوم على التعامل مع المادة الحية ضمن شروط ( إن فيتو ) الحية .
قد يبدو هذا الشرح غريباً ومستغرباً في سياق الحديث عن العمل أو النشاط الإبداعي ، وهو أقرب إلى البحث العلمي منه إلى البحث الأدبي ، ولكن علينا أن نتذكر أن الفكر في المحصلة _ كما أرى _ هو أنقى أشكال المادة ، وإن كان هذا يبدو غريباً بعض الشيء أن نربط بين الفكر من حيث يحسبه البعض أمراً أقرب إلى الميتافيزيك والأثير والروحاني ، منه إلى الملموس الحسي ، وبين المادة التي نخالها خارجة عن هذا النطاق وموجودة في الأشياء الأخرى من جماد وحيوان ونبات ... ونستبعد وجودها في الفكر الذي هو ، مرة أخرى كما أرى ، أنقى أشكالها المادة وأعقد تجلياتها بامتياز .
------------------------------------------------------------

حمص- سورية 6-2009
E-Mail:mutlak@scs-net.org