الظن والشك في ضوء الشريعة والقانون
الدكتور عادل عامر
تواجهنا مواقف عديدة نشعر فيها بأن ما لدينا من انطباعات تبلغ حد اليقين؛ فينقلب الشك في صدورنا يقينًا، وتصدر أحكامنا غيابيًّا أو حضوريًّا بما يوافق هذا الظن، ثم لا تلبث الأيام أن تبدد هذا الظن، فإذا الأحكام تتبدل، ونندم على ما سبقنا إليه سوء الظن، والله سبحانه وتعالى حذرنا كثيرًا من الظن. فإذا كان هذا الظان حاكمًا أو قاضيًا أو حتى ناقدًا أو مؤرخًا؛ فإن تبعات هذه الظنون تؤثر أسوأ تأثير، وقد جاءت سورة يوسف على سبيل المثال مليئة بالدروس في فن تقصِّي الحقيقة، والتمسك بها والإقرار بمقتضاها، ومن خلال أحداثها نستبين الكثير من دروسها، سواء فيما بين يوسف وإخوته، أو بين يوسف وامرأة العزيز. ونرى فيها تمسك يوسف من ناحية بإعادة التحقيق فيما اتهمته به امرأة العزيز، وقد طلب الملك أن يجعله من رجاله وخاصته، لكنه رغم مرور السنين يصر على كشف الحقيقة: {فلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50]. ونرى فيها في موضع آخر ترفق الصديق بإخوته بعدما تحقق وعد الله له وأنبأهم بمكيدتهم، ثم ما كان من ظهوره عليهم وإقرارهم بفضله، فحينما نتفاضل بالإحسان على إخواننا نتلمس أسباب العفو: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، وحين نكون في موضع التعامل بالعدل؛ نجد أن للعدالة اعتبارات تفرضها محدودية علم الإنسان، وتعاليم الشرع تتحرى ذلك، ومن هذه الاعتبارات:
1- ألا توجه اتهامك إلا ببينة أو قرينة:
بعدما يعلمنا القرآن أن نجتنب كثيرًا من الظن، يسوق في قصصه ما يدعم هذا الخلق ويؤكده، فلا اتهام إلا ببينة أو قرينة، فيحكي لنا القرآن من نبأ يوسف عليه السلام وإخوته، وأبيهم عليه السلام أن يعقوب ـ لما جاءوا بقميصه ملطخًا بدم غير دم يوسف; ليشهد على صدقهم، فكان دليلًا على كذبهم; لأن القميص لم يُمَزَّقْ ـ قال لهم: ما الأمر كما تقولون، بل زيَّنت لكم أنفسكم الأمَّارة بالسوء أمرًا قبيحًا في يوسف، فرأيتموه حسنًا وفعلتموه، فصبري صبر جميل، لا شكوى معه لأحد من الخلق، وأستعين بالله على احتمال ما تصفون من الكذب، لا على حولي وقوتي، فقد تبين ليعقوب عليه السلام قرينة على كذبهم وبها ساق اتهامه، فحينئذٍ قال لهم: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
2- أن تسوق التهمة واضحة وتشفعها بما لديك من قرائن:
جاء من نبأ يوسف مع العزيز وامرأته أنهم لما اتهموه بالفاحشة، ودفع عن نفسه بأنها هي التي راودته عن نفسه، قيض الله له شاهدًا من أهلها، فقال مبينًا: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26-27]؛ هاهنا تبين للجميع من الكاذب بمقتضى البينة التي أتت على لسان الشاهد.
3- ألا تحكم بعلمك فقد يكون ما علمته هو نصف الحقيقة:
وقد قيل قديمًا إذا رأيت الشاكي مفقوء العين فلا تقضي له حتى ترى الآخر، فربما وجدت عينيه مفقوءتين كلتيهما، والشريعة تحرم أن يقضي القاضي بعلمه؛ كأن يشاهد لصًّا أو زانيًا بنفسه؛ فيقضي في جنايته معتمدًا على كونه رآه دون توافر الشاهد الآخر، وتعتبر ذلك الحكم باطلًا.
4- أن تعطي لمن تتهمه أو تظن به فرصة لإبداء دفاعه:
حين توجِّه اتهامك لمن تتدافع إليه ظنونك ينبغي أن تتريث في التجاوب مع هذه الظنون، وتعطي صاحبك الفرصة للدفاع عن نفسه، وحينما تسوق ما عندك من ظنون اجتهد أن تكون موضوعيًّا في قبول الأعذار، فقد قيل: "التمس لأخيك ولو سبعين عذرًا"، ويقول عمر رضي الله عنه في وصيته الشهيرة: (ومن ادعى حقًّا غائبًا أو بينة فأضرب له أمدًا ينتهي إليه؛ فإن بينه أعطيته بحقه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعمى) [تاريخ دمشق، ابن عساكر، (32/71)].
ولقد أرسل الله عيسى بن مريم رسولًا كريمًا لبني إسرائيل، وجعله لهم وللناس مثلًا، ثم آمن به كثيرون، وبعد فترة زعموا أنه ابن الله، ثم يصور لنا القرآن المشهد يوم القيامة حين يسأله وهو بكل شيءٍ عليم: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116].
ومع أنه سبحانه يعلم السر وأخفى، وهو كما قال له المسيح {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]، إلا أن هذا الحوار يعلمنا أمورًا نرى أن بني آدم بأمسِّ الحاجة إليها، فهو يبرز قيمة أن يواجه المرء اتهامه واضحًا، وأن يرد الاتهام عن نفسه بنفس الوضوح والصراحة، لا أن يكون الاتهام مرادًا لغيره، وموجه الاتهام أشد اطلاعًا بفعله كما يقول يوسف لأخوته في نفسه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77]، وها هو المسيح يرد التهمة عن نفسه بنفس الوضوح، فيقول: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 77]، إذًا فهو يبرر بأنه ليس بأهل لأن يُعبَد، وأن الله تعالى يعلم كل ما جرى، فنحن إذًا بصدد تهمة واضحة وجواب واضح.
5- أن تقر بالحكم العادل وإن لم يكن في صالحك:
يقول الله تعالى على لسان إخوة يوسف بعدما تبين لهم فضل يوسف عليهم: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف: 91]، وما جدوى المماراة هنا وقد بان الفضل؟! وما قيمة الحقيقة إن لم تبرز أهلها؟! ومثلهم أقرت امرأة العزيز وصاحباتها: {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].
إن حرص يوسف عليه السلام على إعادة فتح التحقيق أمام الملك يعطينا الدرس في قيمة العدالة عند الإنسان، وقد كان مرشحًا لمنصب خطير يكفيه أن يشغله دون الإشارة إلى صحيفة سوابقه ـ إن صح التعبير ـ لتتغير الدنيا بين يديه، لكنه عليه السلام آثر أن يتأخر عن طلب الملك لتثبت براءته أولًا، وهكذا نرى أن العدالة ـ وهي القيمة الأسمى في الحضارة الإسلامية ـ تحتم علينا أن نتحقق قبل إرسال التهم جزافًا، وأن نتقبل دفاع الآخرين بشيء من الموضوعية، وألا نستجيب لنوازع الظلم ولا لشوارد الظن في نفوسنا.