آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: تشوهات المرحلة وخيباتها في ثلاث عشرة قصة عربية.

  1. #1
    أديب وناقد| في ذمة الله الصورة الرمزية زكي العيلة
    تاريخ التسجيل
    05/01/2007
    المشاركات
    166
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي تشوهات المرحلة وخيباتها في ثلاث عشرة قصة عربية.

    تشوهات المرحلة وخيباتها في ثلاث عشرة قصة عربية.

    بقلم: زكي العيلة


    تعتمد هذه المراجعات قصصاً عربية نُشرت ورقياً، أو رقمياً، ويمكن للمتتبع أن يعثر فيها على جملة من القضايا التي تثري أشياء ما في داخلنا.
    هذه المتابعات تقشير لتلك النصوص في محاولة لاستخراج ثمارها والكشف عن مكنوناتها، مسجلاً أن الدافع الأساسي الكامن خلف اختيار هذه النصوص راجعٌ إلى تعدد تقنياتها السردية وتباين مضامينها، مع التوكيد أن الهم الإنساني كان المآل الأساسي لمحاور تلك القصص دون الالتفات إلى معايير أخرى.
    والقصص المستهدفة بالدراسة هي:

    1.(لقاء) نجلاء محرم (مصر).
    2.(مأمورية)، سمير الفيل (مصر).
    3.(الأرامل لا تتشابه) عبد الله المتقي (المغرب).
    4.(ما رأته الفراشة) تيسير نظمي (الأردن).
    5.(أوراق من دفتر عاشق مجهول) عبد الحميد الغرباوي (المغرب).
    6.(نون) الدكتور أحمد فنديس (مصر).
    7.(اللصوص) خالد السروجي(مصر).
    8.(فرسان الليل) نزار الزين (سوريا).
    9.(انطلاقة) الشربيني المهندس (مصر).
    10.(سجادة الصلاة) كلاديس مطر(سوريا).
    11.(غداً)، نجلاء محرم (مصر).
    12.(ج ي م) جبير المليحان (السعودية)
    13. (هذا العري) سمير الفيل. (مصر).
    *

    تعتمد قصة (لقـــاء) لنجلاء محرم(1) لغة شفافة تتكئ إلى تقنية السارد الموضوعي العليم، وهي ترصد التناقض بين عالمين متجاورين تفصل بينهما حواف وحواجز شائكة (ثراء وفقر، بذخ وانسحاق، رفعة وقهر).
    تضيء الكاتبة مجموعة من المتناقضات من خلال وقوف سيارة سوداء فارهة معطرة للحظات في شارع ضيق متعرج، ينز بركاً موحلة، وروائح عطنة وقمامة، تشف عن واقع اجتماعي قاسٍ يطوق ساكنيه.
    عبر زجاج السيارة التي غادرها السائق ذي الملابس الرسمية للحظات ممتلئاً بالرجاء والتوسل، وصلت إلى الطفل المرفه القابع في السيارة صورةُ طفل آخر في مثل سنه، بوجه قذر، وأكف متسخة، تمتد براءة الطفولة إشارات تستوعب للحظات الطفلين اللذين يحملان الاسم ذاته:
    محمد بشفتيه الحمراوين، ويديه البضتين الناعمتين وسيارته الفارهة المترفة ومحمد الآخر ذي الشعر الأغبر المشعث واليدين القذرتين والشارع المنسي المنسحق، حيث ينخرطان في ألعاب طفولية تجمع بين النقيضين القادمين من بيئتين لا تلتقيان، ليكتشف الطفل الأول أن هناك ألعاباً أخرى (غير فخمة أو وثيرة) تجلب البهجة، كحجارة السيجة المتسخة والعصا الطويلة المربوطة بها مُزق من القماش، يقفز بها مع الآخر حصاناً يخوض وحل الشارع.
    تقتص الطفولة لبراءتها، وهي تحاول أن تستر التناقض القائم بين عالمين مختلفين، غير أن الحضور السريع للسائق يلوث آفاق تلك اللحظات حين ترتفع كفه القاسية لتهوي على خد الطفل-المنسي- ناعتاً إياه (بالشوارعي المتشرد) الذي ينسحب كتلةً مثقلة بالدمع، في اللحظة التي يدلف فيها محمد (الطبقة الثرية) إلى محبسه الفخم المتحرك.
    وكأن الكاتبة تريد أن تقول إن هاتين البيئتين لن يتلاقيا مادام هناك مستغِل ومستغَل، ميزان العدل الاجتماعي لن يستقيم بإجراءات ترقيعية تجميلية، بل إن السائق الذي يُفترض فيه أن يكون من الطبقة الكادحة، نجده يتنكر لطبقته دون أي إحساس حفاظاً على فتات يتصيده.
    النص صيحة تحذير، فالبراءة الطفولية التي جمعت بين واقعين متباينين صدفة ستتحول إلى أنياب تعزز الانفصال والتنافر بينهما مادام الخلل الاجتماعي هو السائد.
    * * *
    يرتكز نص (مأمـورية) للقاص سمير الفيل(2) على شخصية محورية مُنتزعة من واقع البيئة المصرية التي تتصالح داخلها المعتقدات، وتتباين الهموم والأوجاع، فهذا الأنموذج الإنساني (جرجس أفندي) الموظف البسيط الموغل في طيبته-الصعيدي المنشأ، السكندري الإقامة- يحلم بسفرية، يُتوجُها باستلام دروع تفوقه في التوجيه على مستوى القُطر من الوزارة، حيث تملؤه وصايا زوجته إيفون بالذهاب إلى سوق المنيرة حالما ينتهي من مأموريته "ففيها الكوسة مجرودة، ومحفورة القلب، وحبات الباذنجان الرومي نفس الشيء، والفلفلة الخضراء التي هي فاكهة المحشي دون غيرها".
    وعبر بعض التفاصيل الصغيرة التي يختلط فيها الراوي الموضوعي العليم بتقنية تيار الوعي، نتعرف على فجيعة ذلك الأنموذج المتفوق، المنسي الذي أجبرته اللوائح الوظيفية على الانحناء، والتمزق وطأطأة الرأس بحثاً عن إمضاء وكيل الوزارة، ذلك الإمضاء الذي يعني المنح أو المنع :"مد يده بالورقة، وبصعوبة نطق، كأنه يخرج جملا من سم خياط : سيادتك، ذاهب مأمورية.
    دار وكيل الوزارة بالكرسي الهزاز، دورة ونصف ثم واجهه وهو يدعك عينيه المحمرتين: فين؟
    فتح الله عليه بالكلام، بعد أن بعثت فيه إيفون الحماس، ثم ما لبثت أن تبخرت في الهواء، لكنه كان قد تعافى من وعكته، وانطلق لسانه كالفرقلة: الوزارة يا أفندم .ربنا يعلي مراتبكم...
    مهر الورقة قرفاً بتوقيع أقرب إلى البصقة، لكن جرجس الحريص على السفرية سحب الورقة بود بالغ، وهز رأسه امتنانا: شكراً يا افندم. ما نتحرم أبداً من توقيعكم الكريم.
    فعاجله وكيل الوزارة بلطمة أقوى من الأولى: لا تنس أن تغلق الباب خلفك يا تيس".
    وفي محاولة منه لإقناع نفسه بالخنوع والرضا بالهزيمة بدلاً من مواجهة عبثية لن تؤدي إلا إلى مزيدٍ من إذلاله، نجده يستعين بتبريرات شتى، لعلها تمنحه لحظة هدوء غائبة في مواجهة الإحباط، فشتيمة (التيس) لم يسمعها غيره، وبالتالي لا ضرورة لإشاعتها "والكلمة العيب لما تطلع من أهل العيب تبقى مش عيب!"
    وبدا سعيداً وهو يحاول إجبار نفسه على الاقتناع بأن وكيل الوزارة رجل خباص، وينطق الغلط بحكم منصبه لا أكثر وعليك أن تمشّي أحوالك ، وتكون مثل الجميع . إن شُــتموا صمتوا، وإن أُغلق المصعد في وجوههم صعدوا. هل على رأسك ريشة يا أخي؟
    وحتى لو جأر بالشكوى للإدارة القانونية كما نصحه زميله العوضي - المغبون مثله- فإن مصير الشكوى كما أعلمه صديقه محمد أفندي سيكون سلة المهملات (مع زرع الجواسيس حوله تصيُّداً لخطأ طفيف يتم به نحره. وهنا استقر الرأي على أن من شَتم فقد شتم نفسه، وأن أي رجل أصله يمد لسابع جد، وهذا جده بلا شك دون خسيس، ثم أنك لن تدخل له كل مرة بورقة طلبا لمأمورية!).
    ورغم جنوحه لابتلاع تلك التبريرات إلا أن شعوراً حاداً بالانفصام يتعمق في داخله، ويضيف إلى قهره الاجتماعي قهراً نفسياً ولَّد فيه شعوراً حادًا بالضياع والانكسار والهزيمة أمام زوجته حين لم يستطع أن يكون رجلها في ليلة صعبة لم يبرق فيها نجم واحد:
    "كان الحر قد لفح الجدران ومس الأجساد فاكتفت بغطاء خفيف، وفي الظلمة الداكنة اشتجر الجسدان وسمعت أنين روحه، وسرى في جسده نحيبه الخافت رغم الدلجة. مدت يدها نحو وجهه فلامست دمعاً رقيقا كان ينحدر على الوجنتين بلا صوت، فعانقته حتى الصباح، وغفا بين ساعديها كطفل فيه براءة النرجس".
    ويتضح البعد الإنساني لذلك الأنموذج الذي يعيش آلام الناس المهمَّشين المنسيين في إشفاقه حتى على الهياكل الدقيقة البائسة للقطار التي يتعامل معها ككائنات لها روح. وتبدو أحاسيسه الإنسانية جلية، عميقة حين يُحضّر، وهو قابع في عربات الدرجة الثالثة البالية في القطار بعفوية وتلقائية نصف الجنيه ليعطيه للمرأة المسحوقة، المقطوعة الذراع التي رمت على ركبتيه دفتر آية الكرسي قبل أن تختفي.
    كما تتضح إنسانيته المشعة أيضاً في سعادته بالطفل الذي حمَّلته إياه المرأة التي أرادت أن تسوي فستانها "الملس" الأسود، وتحكم إيشاربها. فكان الطفل الرضيع وهو يحتضنه ويقبله ويناغيه بمثابة ولده هاني:
    "كان القطار على وشك الدخول إلى محطة مصر، فهزت المرأة رأسها وحيّته، وصمم هو أن يضع بين يدي الطفل الدقيقتين جنيهاً كاملا، وضعه، فأفلته، فطواه ودسه في لفة التيل تحت غطاء القطن شاهق البياض المشغول بوردة، وغادر المكان دون أن ينتظر تمنعها".
    وتكتسي الخاتمة في النهاية بالطابع الرمزي حين يعمد ذلك الأنموذج المختنق بأوجاع الإهانة التي تطارده حتى وهو يتفحص تمثال رمسيس الذي بدا له يحمل وجه تيس إلى التمرد على كل القناعات المتصلة (الهشة) التي حاول استدعاءها في معرض تبرير خنوعه، مؤثراً التحدي الذي يحفظ صلابته كرجل مستقيم أجهضه قهرُ المرحلة، وأذلَّته انتكاساتها:
    "حين بلغ الدور الرابع كان يلهث وعرقه يتفصد من وجهه، لكنه عاد في العشرين من عمره، فرفس الباب الثقيل بقدمه، وتقدم من المكتب الدوار، وجذب وكيل الوزارة من رابطة عنقه، وقبل أن يلكمه، شخط فيه: قل أنك مـَرَة، والرجل من حسرته عملها على نفسه، وبان البلل واضحاً في نفس المكان بالضبط، في مثلث مقلوب بين الفخذين، وقد كانت اللطمة على صدغه الأيمن كافية جداً كي يدير له وكيل الوزارة بجسده الرجراج المربع الصدغ الأيسر، وهو لم ينصت لتعاليم السيد المسيح ولطمه، ولم يتركه قبل أن ينطق بوضوح والناس في الخارج يدقون بقبضاتهم الأبواب: أنا تيس. والله سيادتك يا جرجس أفندي رجل محترم. أنا وكيل وزارة تيس!".
    ورغم أن الرد جاء فردياً، يحتاج إلى حِراك اجتماعي أكثر شمولية ليسنده، لأن مسببات القهر والتهميش لن تنتهي بصفع وكيل الوزارة، بل إنها ستزداد شراسة، إلا أن القصة تحمل قدراً كبيراً من الصدق بعيداً عن أي تفاؤل زائف، مصطنع، فغياب العدل الاجتماعي، وطغيان الخلل والمعايير الفوقية الشوهاء، يحيل الواقع إلى أكوام من الخيبات، والتأزمات والإهانات التي تنهرس تحت وطأتها التكوينات الاجتماعية كافة، بما في ذلك الوكيل نفسه المنخور بإهانات فوقية أصلاً، وتلك هي مأساة الإنسان العربي الحالم بواقع تُحترَم فيه إنسانية الإنسان.
    * * *
    (الأرامل لا تتشابه) للقاص عبد الله المتقي(3) نص قصصي يرصد دون زعيق، أو التواء أو تعقيد الأحاسيس الإنسانية المتلاطمة داخل وجدان امرأة رحل زوجها مبدع القصائد المحمَّلة بالحياة.
    عبر تداخل الأصوات السردية، وانتقالها من السارد الموضوعي العليم إلى السارد الذاتي مستعينة بتيار وعي تلك المرأة الموجوعة حين ترتد إلى عالمها الداخلي، نتبين حجم العلاقة التي وصلت حد الانصهار بين الزوجين العاشقين، بحيث أصبح لحياتهما مذاق مخاضات القصائد ذات الطعم المختلف الذي ليس كمثله شيء.
    وعندما يسقط الشاعر صريعاً وهو ينحت قصيدة أحرقه أتونها تتحول المرأة إلى روح معذَّبة، تعصف بكيانها العزلة والوِحدة القاسية، تتشمم أشياءه، تستجير بها في زمن الشدة، تتحسس بعينيها رفوف مكتبته التي ما زالت مكتظة بالكتب التي أكلت عينيه، تتجمد أمام صورته المعلقة على الجدران، مشحونة بالذكريات الهادرة:
    في مساء قديم، كان هنا يمسح الغبار العالق بزجاج هذه الصور وحين سألته عن السر في تلميعها كل يوم، ابتسم بحزن كبير وقال: الشهداء لا يسقطون من الذاكرة.
    ـ شهداء؟
    ـ شهداء القصيدة .."
    تنقضي ساعاتها وهي تستنشق رائحة مقتنياته الباقية، لفافات تبغه، قهوته السوداء، قلمه، أرقه، ذوبانه تحت سنابك قصيدته "قال لها : أكثر من قصيدة سحقتني، وأكثر من قصيدة ما زالت عالقة بذاكرتي، قد تأتي وقد تتمدد جانبي في النعش لتؤنسني في منامي الأبدي".
    إحساسها بدورة الزمن توقف منذ خرج محمولاً على نعشه من رحم تلك الغرفة التي لم تعد تدخلها الشمس، تحس كأنما الزمن قد صُلب على حيطان تلك اللحظة، لتأتي الخاتمة تكلل الحدث بتلقائية وانسيابية سلسة تحس معها وكأن الكائنات قد توقفت عن الحراك حينما راحت المرأة تفتح ببطء مسودة قصيدة أسالت دموعها حين قرأها على مسامعها ذات ليل قديم:
    "أخطأ الموت
    فعلقني في حبل
    ا
    ل
    م
    ش
    ن
    ق
    ة
    بدل أن يدليني من سقف القصيدة".
    ولعل المتأمل للحروف المتعامدة لكلمة (المشنقة) يمكنه أن يتبصر أنشوطة تعلوها في انتشاء باحثة عن روح تعتصرها نتفاً مخنوقة.
    وإذا كانت الزوجة قد غلّقت الباب خلفها فإن بوابات جرحها لن تندمل أو تنغلق في عالم أضحى خراباً بعد فجيعتها برحيل أنيس روحها الذي لا يتشابه مع شيء، كما لا تتشابه هي في فجيعتها مع باقي الأرامل في أي شيء.
    * * *
    نص(ما رأته الفراشـة) للقاص تيسير نظمي(4) نموذج القصة اللحظة التي تعتمد التكثيف، واللغة الموحية، والإيقاع المتدفق رموزاً مشحونة بالإسقاطات والدلالات التي تعري الواقع، كاشفة كثيراً من إخفاقاته من خلال اللجوء إلى أنسنة مظاهر الطبيعة توكيداً على القهر الذي ينهش فضاءات الإنسانية وآفاقها.
    الشخصية التي تشكل مركز الاستقطاب في النص ليست بشرية، وإنما هي فراشة طائرة ملونة الجناحين، مزدانة الألوان، تحنُّ للنور والهواء والماء، تمكن الكاتب عبر تتبع كيفية دخولها باب البيت المستأجر المهجور المنخفض من شق صغير في شبك النافذة أن يتغلغل في تلافيف الحدث، متنقلاً من حالة إلى حالة أخرى فجائية بحركة تضادية، راصداً العديد من الأمور والمفارقات التي تشكل عالماً ممتداً بالوحشة والخيبات والأوجاع "إنذارات المحاكم وتباليغها، لوائح الدعاوى، فواتير الماء والكهرباء، الهاتف الصامت، الغبار الذي يملأ غرفة النوم، انسحاب مظاهر الحياة من المقاعد والمكتب و قنينة العطر الفارغة والوسادة، المروحة المعطوبة، روزنامة الزمن الميتة، الهاتف البارخ بصمته الثقيل، الأباجورة المطفأة.."
    هذه الحالات من الخيبات والإحباطات التي ترتسم بقعاً قبيحة ينوء إنسان العصر تحت وطأتها، تتجمع تمهيداً للخاتمة التي تقطر إدهاشاً حيث انتقلت حالة الوحشة إلى عالم تلك الفراشة، وكأن العالم كله أضحى قطعة من الغربة والاغتراب والمواجع:
    "هنالك حطت الفراشة بعد أن رأت كل شيء تقريباً بعينيها الصغيرتين. ما من ضوء كان يشدها نحو البيت. ما من زهور أو حدائق. وما من غبار أو عواصف تطردها من البيت. ما من حرائق. الفراشة العطشى للنور والهواء والماء على الوسادة المطوية حطت لهنيهة وقد ركنت للصمت الوقور. الفراشة التي دخلت المأجور ما كان بإمكانها أن ترى الألوان على أجنحتها . فقد رأت كل شيء ثم سكنت عن الحركة على وسادة كانت لا تزال رطبة غارقة بالدموع".
    * * *
    في نص (أوراق من دفتر عاشق مجهول)(5) التي يعثر عليها عابر سبيل أسفل شجرة في غابة تجاور المدينة، يوغل عبد الحميد الغرباوي في تلافيف وجدان بطله، مستقطراً أبعاداً إنسانية يختلط فيها التواصل بالعزلة، الراهن بالدائم، الصلابة بالانكسار، الحلم بالوهم، عبر لغة خاطفة إيمائية موحية، وهي تكشف المعاناة الداخلية لعاشقين تحول حبهما الكبير إلى سطور متباعدة باهتة، ورغم دفق الندى الذي كاد يتلف ما خُط من كلمات نتحسس عبر السطور الباقية حجم اللهفة التي تنتاب العاشق وهو مقبل على لقاء معشوقته، مسكوناً بالخوف، محاصَراً بعوالم من القبح والملوثات التي تبرز نتوءات وندوباً تشوه ملامح واقعنا المعاصر "المتفجرات، سماسرة الجنس، عصابات الغبار الأبيض، أجهزة الالتقاط الرقمية، قنوات العري وأكاديمي ستار".
    ومع الوقت يكتشف السارد أن الحب قد بدأ يفقد الكثير من ألقه حين عجز عن ابتكار مفردات جديدة، ليتحول إلى عزف رتيب ممل، ولغو ثقيل لا يملك إمكانية مجابهة لغة الواقع بكل مراراتها التي تهزم أحلام العاشقين:
    "اللحظة، اكتشف أن عدوا آخر يتربص بنا يلتصق بنا كظل، لا يشبه ظل أي منا، ظل حقود، يعد أنفاسنا، نبضاتنا، و يقيس مدى الانفراج الذي يحدثه الفرح على ثغرينا،... وأتخيله شخصاً نحيفا، بشعاً، حقيراً ، تملأ صفحة وجهه خدوش وندوب طرية، كأنه خارج للتو من عراك دموي عنيف... أتخيله شخصاً مسموماً يقطر سماً، حسودا، قاسي القلب، لا يرحم، لا يبالي بأوجاعنا وتأوهاتنا ولهفنا... إنه الوقت".
    شيئاً فشيئاً تبدأ أحاسيس الحب في التراجع، تصبح الاعتذارات المتتالية، والابتسامات الشاحبة هي البديل عن التواصل، بحيث يأتي قرار المعشوقة بالرحيل والانفصال نتيجة طبيعية لواقع لا تأبه أسواقه بمفردات الحب فقط، لترتفع في داخله أكوام الوحشة في عالم غدا محطات مقفرة وهزائم، بحيث نكاد نتلمس آهاته الطالعة حركة داخلية تتساوق مع الحركة الخارجية التي يجسدها صوت آلات الجاز التي تنبثق خلفيةً تتوغل في أعماقه تاريخاً من قوافل بشرية أُرغمت علي الرحيل قسراً وقهراً، لتحط الرحال على شواطئ عالم جديد مفعم بالوجع والأنين، وجع يعبره محملاً بأحاسيس من الوحشة والاغتراب والعزلة، لتأتي الخاتمة تحقق ثنائية المفارقة، وكأنها الوجه الآخر لحالات العزلة والقوقعة والانسحاب حين يتناول الراوي ورقة وقلماً يكمل بها سطور الأوراق في لفتة تؤكد على التواصل الإنساني وصلابة الحلم في مواجهة أسواق الخوف والزيف.
    * * *
    تطرح قصة (نــون) للقاص الدكتور أحمد فنديس(6) إشكالية واجهت أسئلتها الإنسانَ منذ بدايات وعيه، وتتمثل في اختيار ثنائية الاصطفاف. مع الناس أو النظام القامع، ذلك النظام الذي قد يُصادر كل شيء سعياً للحفاظ على مكاسبه.
    وهنا تتشابك الأسئلة، وتتداخل. أين يقف القلم؟ وأين تقف الفئة المثقفة؟
    هل تمارس دورها الريادي المتمثل في توعية وتعبئة القاعدة الشعبية، والتمسك برأيها ومن ثم فضح النظام السلطوي المعادي لأماني الجماعة، وبالتالي تتحمل تبعات موقفها ونتائجه (نفياً أو تشريداً أو تصفية) أم تؤثر السلامة، وتختار المهادنة و(الشعبطة) والتطبيل، ومن ثم السقوط التدريجي في مستنقع الحربائية والتلون وصوغ القصائد المسبحة بنعم الحاكم، وأفضال النظام العالمي الجديد، وبالتالي الانسلاخ عن الطبقات الشعبية.
    في النص يتكشف ذلك التضاد عبر حوار تكشف جُمَلَه حالة التأزم السائدة بين شخصيتين، أولاهما بشرية (الكاتب) وأخرى غير بشرية، لكنها تشكل جزءاً من تكوينات البشر، وأفكارهم المبثوثة (القلم) ذلك القلم الذي لم يعتد إلا أن يكون صوت ضمير فئاته الاجتماعية، ووجدانهم، رافضاً التذبذب والابتذال والتبدل وكأنني أطير فرحاً مسروراً وأنا أعبّر عن أفكارك وضميرك" ورغم مبررات صاحب القلم المستندة إلى حجة لقمة العيش تارة، وحجة التحولات التي فرضتها أجندة الغزاة والحكام تارات، إلا أن القلم الذي عاش خمسين عاماً يحلم بالآتي، ويكتب عن الأرض العربية العصية على التركيع، يظل على رفضه تبني كتابة أفكار الزيف والادعاءات الخارجة من كواليس الأنظمة التي استبدلت بأزمنة الفخار والصلابة أزمنة الخنوع والقهر والخط المائل.
    "ـ مذ عرفتني طفلاً وأمسكت بي كاتباً وأنت أدرى الناس بأنني أحب الخط المستقيم ولا أحيد عنه.أنت غيّرت خطك.
    ـ لم أغيره برغبتي.هم أرادوا ذلك لأن مقالاتي لم تعد توافق خطهم العام.
    ـ هم الذين انحرفوا عن خطهم العربي.
    ـ العالم كله الآن يتجه غربًا.
    ـ العالم كله يعرف أن أجمل الخطوط هو الخط العربي".
    وعندما يُجبر القلم ـ حارس الشموخ والإباء ـ الرافض لإحباطات اللحظة الراهنة، واستلاباتها المناقضة لكل الأفكار والأحلام التي عاش من أجلها، نجده يصطف إلى جانب الحقيقة الكامنة في أعماقه، رافضاً أن يكبح الأشياء الجميلة التي عاش من أجلها، لتأتي كتابته جزءاً من قناعاته واستشعاراته وهي تتحدث عن أزمنة الانتصار والاندثار، في اللحظة التي تتدلى فيها جثة الكاتب الذي مات قبلاً عندما ارتضى أن يكون بوقاً في بلاط باعة الوطن.
    * * *
    ترصد قصة (اللصـوص) لخالد السروجي(7) حالة أحد أبطال حرب أكتوبر 1973، الذي خرج منها بساق مبتورة، ورغبة في مواصلة القتال لم يخفت أوارها رغم واقعه الاجتماعي البائس.
    وعبر السارد العليم الذي يستعين أحياناً بتقنية تيار الوعي، نتحسس حجم تمزقات ذلك البطل الذي يعيش في خرابة معزولة تشاركه صدمة التنكر والإهمال والنسيان من أولئك الذين استثمروا ساقه المبتورة وتضحياته، بحيث غدا حصوله على سيارة معاقين تريحه من عذاب المهانة في المواصلات والزحام أمراً يدخل في دائرة المستحيل.
    وعندما يبلغه أحدهم بشأن اختياره ليشارك في برنامج تلفزيوني يخصص للحديث عن بطولات تلك الحرب، تتغير أشياء كثيرة في داخل ذلك الأنموذج، تسكن الآمال والأحلام وجدانه، يحس أن السخونة قد بدأت تدب في ساقه المبتورة التي غدت عصية على الانكسار والهدم:
    "سيظهر في التليفزيون، ويحكي عن بطولات في حرب النصر، سيقول في البرنامج أن ألف ساق ليست خسارة من أجل وطنه، وسيحكى لهم عن زملائه الذين استشهدوا، وكيف تعيش أسرهم في ضنك، سيطالب المسئولين بمساعدتهم. ولكن قبل أي شيء لابد من ملابس جديدة لائقة للظهور في التليفزيون. سيذهب إليهم بعد الغد، والأسمال التي يرتديها ربما جعلتهم يطردونه من على باب مبنى التليفزيون، ولكن الظروف لا تسمح الآن بشرا الجديد، والمرأة سليطة اللسان لن تسكت ولن يرحم لسانها الحاد".
    وفي قمة تأزمه يضطر بطلنا إلى الاقتراض من شقيقه الأكبر بحثاً عن ملابس تليق ببرنامج التلفزيون، حيث تنهمر الذاكرة الحبيسة في استدعاء البطولات والمعارك والشهداء والساق المبتورة، وكيف بكى عندما منعوه من مواصلة الدفاع عن الوطن، وفي زحمة نشوته وبهجته بالماضي البهي بانتصاراته لا ينسى أن يطلب من معارفه متابعة مواقيت إذاعة البرنامج، شاعراً بالحرقة لعدم امتلاكه تلفزيون ملوناً يمكن أن يرى من خلاله صورته الطبيعية.
    لتأتي الخاتمة صدمة حادة كاوية تنوء مفارقة واستفزازاً حين يكتشف أن حديثه قد بُتر كما بترت ساقه قبلاً لصالح الأصباغ والرداءة : "أسهبت إحدى المطربات في الحديث عن دورها في المعركة بالأغاني الحماسية التي رددها الشعب والجنود . وتحدث ممثل شهير عن فيلمه الذي مجد فيه الانتصار، وعن ضرورة قيام الدولة بتمويل فيلم عن الملحمة العظيمة يليق بحجم الانتصار. وتحدث أحد الضيوف العرب عن تأثير الانتصار على أسعار البترول، وعن معركة البترول التي شارك فيها كل العرب" لتتبخر السخونة من ساقه المبتورة المكلومة التي عادت تعاني لوعة الوجع والقلق، والانسحاق بعد أن تسربت منها آخر رموز العافية و الفخار والخلاص، في الوقت الذي طمرته فيه أحاسيس الهزيمة والإخفاق في عالم يضج بلصوص الدم.
    * * *
    نتتبع في قصة (فرسـان الليل) للأديب نزار الزين(8) ملامح أخرى لأولئك المهمَّشين الذين يعيشون في قعر المجتمع مفتقدين الآمان والغد.
    صِبية من جميع الأعمار والمقاسات يتناسخون دون أن يهتم لأوضاعهم الاجتماعية المهدورة أحد. المدينة وأناسها لاهون عنهم، لا يأبه أحد بوجيعتهم، وهم ينقبون حاويات القمامة بحثاً عن أكياس وعلب فارغة، ينتزعون من فضلاتها أكسير حياتهم "لا يهم إن كانت من البلاستيك أو من الألمنيوم، ولا يهم إن كانت الحاوية مليئة بالحشرات أو بالديدان أو بملايين الفيروسات والمكروبات والطفيليات، ولا يهم إن كانت رائحة القمامة تزكم الأنوف أم تخترق الخياشيم إلى أعماق الدماغ، المهم أنه كلما عثر على واحدة ناولها للآخر".
    تطالعنا في المقابل شخصية (رياض) الذي تدفعه أحاسيسه الإنسانية ـ وهو يتمشى مع زوجته ـ إلى إبداء التعاطف مع قضية أولئك الصبية، رغم تدخلات زوجته التي تحاول أن تئد فيه تلك المشاعر إيثاراً للسلامة.
    وتحت طائلة إحساسه بالتمزق يحاول أن يقيم خيط ود مع الصبي الصغير الذي يسرح مع إخوته فجر كل يوم لجمع العلب من الحاويات، كي تُحوِّل أمه أثمانها البسيطة إلى طعام، كما يجاهد من أجل إخراج صبيين صغيرين علقا في حاوية دون أن يأبه بتلوث ملابسه، ما يجعله عرضة لتقريع زوجته.
    وعندما يقع بصره على صبي آخر يقضم ثمرة تين فاسدة ملوثة اصطادها من حاوية أخرى، يلاحقه بنصائحه وتوسلاته، فيما راحت دموعه تنهمر في صمت ناجم عن إحساسه بالعجز أمام هذا الواقع غير الإنساني، فهؤلاء الصبية من فرسان الليل أبناء مرحلتهم، مرحلة التفاوت الاجتماعي والطبقي، حيث أضحت الحاويات المثقلة بالأصابع الطفولية الباحثة عن بقايا طعام، أي طعام في قمامة المترفين عنوان المرحلة، لتظل المعاناة من مكنونات المستقبل مفتوحة، ممتدة، إلى أن يتحول فرسان الحاويات المقهورين إلى فرسان حقيقيين أصحاء، وهذا لا يتحقق إلا في مجتمع يحترم إنسانية أفراده.
    * * *
    تعتمد قصة (انطلاقة) للقاص الشربيني المهندس(9) التكثيف واللغة الخاطفة، وهي تقتنص لحظة إنسانية خاطفة تضج بالحياة والأسئلة من خلال التعرف على ما يعتمل في وعي ذلك الرجل الخارج من السجن مرتعشأً، ذابلاً، كليل النظرات، وهو يفتش عبثاً عن أنيس ينتظر خروجه.
    وعبر الاستعانة بالسارد الموضوعي العليم، يختلط الواقع بالكوابيس في داخل ذلك الأنموذج الذي أنهكه الشوق لابنته، ولأحفاده الغائبين عن المشهد، ذلك المشهد الصادم المثقل بخيبات إضافية تسحقه حتى وهو قابع هناك خارج البوابة.
    ففي الوقت الذي تتأجج فيه الحاجة إلى التواصل الإنساني مع الآخرين، نجده يُحاصَر بأنماط أخرى من عزلةٍ تصعق روحَه المثقلة باليأس أصلاً.
    ليكتمل المشهد بتكشيرة الحراس ونظراتهم التي تملأه بالمزيد من الكآبة التي تُعمّق أزمته، وتؤكد أنه أصبح طريداً منسياً، لينتقل النص من حالة إلى حالة أخرى تمهد للخاتمة التي تفوح مفارقة وإدهاشاً:
    "من خلف نظرات الحراس الفاحصة كان العصفور هناك يرفرف بجناحيه فوق البوابة.. حاول إخراج الدهشة. أرخي يديه فسقطت أشياء كثيرة من بينها.. كتم صفيراً يراوده.. حرك شفتيه ولم يسمع همساً..تجاهل نظرات الحراس، وطرقع أصابعهً وأصاخ السمع عبر الفضاء الرحب.. التقط أنفاسه بسرعة مع حركة الحارس، أدار ظهره وخفقات القلب تهتف.. يكفي أن تنطلق وراء العصفور.."
    ولعل تلك الانطلاقة ـ الخاتمة ـ المُفضية إلى عوالم أكثر براءة وصدقاً هي المعادل الموضوعي الذي يمنح روحه القلقة المأزومة بعض التوازن في عالم يضج بالخواء والجحود، والتشوهات.
    * * *
    في قصة (سجـادة الصلاة) للكاتبة كلاديس مطر(10) وعبر تداخل أكثر من مستوى سردي في القصة (ضمير المتكلم، ضمير الغائب، تيار الوعي) نتتبع بطلها- أحمد- الذي يمثل قطاعاً لا يُستهان به لأولئك الذين تركوا مواطنهم العربية الأصلية إلى بلاد ارتسمت في خيالهم بجرار السمن، والعسل، وفضاءات حقوق الإنسان.
    فذلك الأنموذج الذي أنهى ثلاثين سنة من التأقلم مع موطنه الجديد، مفترضاً تمتعه وأسرته بكامل الحقوق المدنية والقانونية التي تبيح له حد الترشح لمنصب رئاسة الدولة كأي مواطن من الدرجة الأولى، غير أن اقتياد البوليس الفدرالي له من البيت بحجة وجود مستندات ووثائق مكتوبة ومسجلة تدينه بالعلاقة مع منظمات إرهابية، يمتد علامة فارقة تنتزعه من تلابيب أوهامه إلى واقع كان يحاول القفز عليه أو إزاحته.
    لتضاف إلى سجله تُهم شخصية، كاهتمام أحد أبنائه بحضور خطبة الجمعة في مدينة أناهيم وارتدائه الأقمصة من غير ربطة عنق.
    ليكتشف ذلك الرجل في سجنه حجم الزيف الذي طوّق حياته في تلك البلاد، فالعربي ولو بعد ثلاثين عاماً من جنسيته الجديدة يظل محل شك في بلاد لا تأبه بالمشاعر الإنسانية، وهي تئد الأحلام "اليوم يكتمل وجع الغربة ويصل إلى مداه متمطياًً، رصيد ضحل من الوهم عمره ثلاثون عاما، مواطنة خياليه وديمقراطية مزيفه خارجها القانون المدني وباطنها الترهيب باسم هذا القانون بالذات "لاعناً الساعة التي قدِم فيها إلى تلك البلاد" ولا ينسى أن يلوم وطنه الذي فرّط فيه، ليدهمه وطنه الذي ظنه بديلاً بفجيعة انفجرت شظاياها في وجهه: "لو اعتقل في بلده لظل معلقا فيه، لبقي في قلبه ولناضل من أجل حريته، أما هنا فقد تحولت الدنيا حوله إلى غربة مكثفة مجسدة".
    القهر الذي تعرض له في فترة سجنه، دون السماح له بطلب محامٍ أو الالتقاء بأسرته، أو حتى مواجهته بأي مستند ضده، يدفعه إلى عقد مقارنة بين ديمقراطية العالمَينِ الثالث والأول، خاصة عندما اقتادوه بعد شهرين، ليخبره جنرال عسكري بأنه قد حصل سوء فهم والتباس نتيجة تشابه في الأسماء، مع تذكيره بضرورة التعاون في ضرب الإرهاب"، ولا تنسَ ميزة وجودك في بلد الحريات وحقوق الإنسان" وحالما يغادر سجنه تصدمه قشور الحضارة (المباني المرتفعة والطرق السريعة والجسور الضخمة المعلقة) يحس بانسلاخه عنها وكأنه يراها للمرة الأولى، حيث تداهمه صور الوطن الأم وكأنها المعادل الطبيعي الموضوعي الذي يمنحه القدرة على الثبات، فبعد ثلاثين عاماً من ترك الوطن والرحيل عنه يكتشف أن الوطن لم يغادره، لذا نجد ذاكرته ترتحل نحو الجذور، بدايات الأشياء التي تعيد إلى روحه المقيدة لحظات الهدوء، لتأتيه صورة بيت أهله في آخر الزقاق حيث الشوارع الضيقة والأبواب التي تقابل بعضها والشبابيك التي تسمح أن تتغلغل منها نظرات الحب، وروائح القهوة الهاربة من المطابخ دون استئذان، متمنياً لو عاد إلى عتبة البيت القديمة مقَبِّلاً يد أمه، ملقياً جسده المتعب على أريكة العائلة المغلفة بالحب، والنور والطهر في مواجهة أزمنة القهر والقتامة التي تحولت إلى أقبية وزنازين تمتهن آدمية الإنسان:
    "اليوم بل الآن فقط يتساوى لدي الصالح بالطالح في هذا البلد، اليوم بالذات قام بلدي من بين الأموات في داخلي، ليس فقط بقفار الوجد والحب اللذين ألفتهما فيه وإنما بمعتقلاته وقناصي منتصف الليل وحتى بفساده" مكتشفاً حجم الوهم الذي عاشه في بلاد أل (أف بي أي) والأمن القومي المقدس، والبورصة، والدعاية والسينما ومعامل البوب كورن، والمشاعر الصماء التي لم تمكنه من تحقيق التوازن في عالم شحّت فيه المبادئ الأخلاقية؛ ليتحول الإنسان فيه إلى سلعة، أزرار صماء غابت عنها الأحاسيس والعواطف.
    * * *
    ترصد قصة (غــداً) للكاتبة نجلاء محرم(11) الشعور المفزع الذي ينتاب الإنسانية المطمورة بوطأة لا حد لها من ركامات القهر والاستلاب والانسحاق.
    الرموز الشفافة التي تشي بالقسوة تتبدى من خلال شخصية ذلك الكائن الإنساني الذي يتعطف بقذف قمامته "عظام، بقايا خبز ولحم" صوب صندوق مرصوص على جانب الطريق، حيث تتدافع نحوه أسرة من الكلاب التي تعيش في فضاء من الهناءة التي تسهر على حراستها أمٌ مفعمة بالحذر والتنبه في عالم يتسرب الأمان من مساماته، لذا نجد فجيعتها تزداد أكواماً حينما تستشعر الخطر الداهم المتمثل في نزول الكائن – صاحب الصندوق الكبير – بنفسه حاملاً الطعام (الطُعم) الذي ينز زيفاً لأبنائها.
    تبدأ الأم في تبصر الخطر المقبل دون الاغترار بالمظاهر الخادعة التي يتوارى خلفها ذلك الكائن، لتطلق أمام أبنائها صرخات التحذير، فالغزاة قادمون بشراكهم وطاعونهم. وكأنها في هذا المقام زرقاء اليمامة تنكشف أمام بصيرتها الأستار والخبايا، تدق الأبواب الموصدة، ولا من مجيب، غير أن مكائد الكائن البشري المغتصِب تنجح في استمالة الصغار، عبر إظهار التحبب لهم، مبيناً حرصه على قضيتهم، لتأتي اللحظ الفاجعة حينما يحاصَر عنق الصغير بطوق الكائن الغريب وسياطه، بكل ما يمثله ذلك من معاني العبودية والمرارة، والاستلاب، ليتبخر الأمان، يسود التمزق، تصدق نبوءة الأم (رمز الماضي الممتلئ شموخاً) غير أن الصغير (رمز المستقبل البهي) لا يفقد ثقته بالغد رغم التشتت والشتات، منتظراً لحظة متشحة بجراحات لا تعرف الخنوع، لحظة يكبر فيها وتشتد أنيابه المحملة بوصايا التحدي والمواجهة (غداً)، غداً جلية لا تتأخر.
    * * *
    ترصد قصة (جيــم) للقاص جبير المليحان(12) ساعات من حياة مواطن عربي عائد من عمله في البحرين، حيث يلاحقه التنقيب والتفتيش في جمارك الملك فهد، وفي حاجز الدمام قرب بيته.
    وفي المقابل تبرز الصورة النقيض التي تكتمل بها معالم الصورة، حينما تلفت زوجته نظره إلى العنوان العريض البارز الذي يتمدد أمراً طبيعياً في أعلى الصفحة الأولى في جريدة الرياض: "جريدة الرياض ترصد ثمانية ملايين ريال لجوائز المسابقة الشهرية"
    لتنهال الصور والرؤى عبر ذاكرته من خلال اعتماد العناوين الجانبية، والتقطيع القائم على استحضار تقنيات السينما، حيث تتداخل في تلقائية المستويات الزمنية، وزوايا الرؤية المتعددة عبر الرجوع والارتداد والاستباق الذي لا يخضع للترتيب النمطي، وهو يكشف أبعاد ذلك الأنموذج الملفع بالمرارة في واقع لا يعطيه غير الشقاء المتمثل في انتظاره ثلاث عشرة سنة حتى يأتيه القرض الحكومي لبناء بيت لأولاده في حي الحمراء بالدمام، على شكل دفعتين، وعندما يطلب الدفعة الثالثة، يقومون في البنك بخصم أقساط منه تعادل نصف قرضه بحجة النظام، وتنفيذ التعليمات، رغم أن البيت مازال هياكل لم تكتمل، مما يجعل عملية إكمال بنائه أمراً مستحيلاً، خاصة في ضوء مطالبة المقاول بحقوق أجرته المتراكمة.
    في ظل هذا الواقع، يلوِّن التقطيع والمونتاج المادة بأخيلة متوترة، تجعل ترابط الأحداث أكثر منطقية وانضباطاً.
    فالزوجة التي ما تزال تُلح على قراءة خبر مسابقة جريدة الرياض والملايين الثمانية، تبدو مشاركة في الفعل عبر الدق على خزان الراهن بكل مافيه من تناقضات، ومحاولات إلهاء وتخدير من خلال الربط بين خبر الجائزة الملهاة، وخبر ذلك الرجل (جيم) المطلوب توقيعه على أوراق تؤكد حقوقه في وراثة عمه الميلياردير المتوفى في البرازيل، لتنفتح عوالم أخرى من العجائبية والمسخ.
    فجيم هذا الكائن المشبوه،غير المرئي أضحى مطلوباً بعد مذكرة القضاء البرازيلي، تلاحقه وزارة الخارجية والشرطة والاستخبارات والقضاء بحثاً عن أية معلومات عنه في قوائم المجرمين، أو الممنوعين، والمساجين والفارين والمشكوك في أمرهم، أو الموضوعين تحت المراقبة، وليمتد السؤال عنه ليطال أقارب المتوفين وجيرانهم وزملاء العمل وسكان الأحياء والزائرين المؤقتين، وصولاً إلى خطاب عاجل وسري من الخارجية، يرجح بشكل كبير أن (المطلوب) ليس مواطناً، مما يثير الهواجس والتخوفات التي تستدعي انعقاد مجلس الأمن القومي المصغر، مع تعليمات بالتنسيق التام والسري مع سفارات الدولة في الدول للبحث عنه بين ملايين مواطنيها، فربما كان ذلك الجيم قائداً إرهابياً كبيراً ينظم كل هذه الفوضى في الكرة الأرضية، مع تكليف مندوب الدولة في الأمم المتحدة الطلب من مندوبي الدول الأعضاء البحث عن المذكور. وهذه الحمية أدت إلى تقارب دول كانت متعادية، فحصلت صداقات، ونسقت خطط، واستراتيجيات عالمية، ومنافع خاصة عبر مفردات (المصلحة العامة) و(الأمن الوطني أو القومي) والاستقرار، ولتنفتح التأويلات على أقصى اتساعاتها في التنقيب عن خيط يختفي خلفه ذلك الجيم العربي الذي أضحى مُداناً مطلوباً في ظل سياسة القطب الواحد. في الوقت الذي يُجبر فيه الإنسان العربي على تبني أطروحات ونقاشات هامشية رغوية مفرغة لا علاقة لها بجوهر القضية، وكُنه الحقيقة من نوع الاختلاف حول الجيم وكيفية نطقها من لهجة لأخرى، وهل الجيم جني أم تقي؟ هل هو بدعة أم أنه من علامات الساعة؟ هل الجيم من الحروف المهجورة، أم المحقورة، أم أنه حرف هجاء؟
    وعندما تسأله الزوجة عن علاقة الإرهاب الذي يتحدثون عنه بالحرية يأتي جوابه جلياً موجوعاً، محمّلاً بيقين لا يعرف الخلط رافضاً تزييف الحقيقة وهو يردد في قناعة:
    "لا ينبت الإرهاب في مزارع تشرب من مياه الحرية.... من لا يملك بيتاً فليس له وطن"
    في اللحظة التي تطوقه فيها أكوام المرارة والخيبات التي يحاول ألا يظهرها. فمحاصرة جيم، ومطاردته لا تختلف عن حصاره هو المواطن المسحوق الذي يدفع نصف دخله إيجاراً، في الوقت الذي لم يتمكن فيه من إكمال بناء بيته العاري منذ تسع سنوات. لتنعقد حروف لوحة سيارته (ج ي م) التي استوقفت موظف الجمارك أنشوطة تخنقه وهو يعبر بوابة الخروج إلى البحرين، في إشارة إلى استلاب الإنسان العربي، وتعميق ضياعه، وزيادة إحساسه بالغربة، فالأجهزة التي تتوجس من الكِتاب، تبدو نخوتها وفراستها جلية في تتبع المواطن (جيم) وغيره من الناس الذين "تعرفهم من روائحهم"، هي ذاتها الأجهزة التي لا تعرف روائح وجع أفرادها المنسيين الذين يئنون تحت وطأة القهر.
    *****
    نص (هـذا العري) للقاص (سمير الفيل)(13) تجربة تجديدية محملة بتساؤلات وجودية تضيء العديد من زوايا الواقع اليومي المعيش، وهي تعتمد منطقة الحلم وغرائبياتها في خروجها عن المألوف والمعايير الفنية السائدة، ولعل تتبع المؤشر الإحصائي لألفاظ بعينها في النص يمنح المتلقي مادة خصبة بالرموز تعين في إضاءة الوظيفة الدلالية التي نهضت بها تلك الألفاظ التي لم تأتِ اعتباطاً، كما في دال السواد الذي تحمله ألفاظ (الأسود، السواد، القار) التي تتكرر عشر مرات في النص، في حين تكررت لفظة (الثقب) التي يمكن تصنيف دلالاتها ضمن حقل ( العتمة والخفاء والسواد) سبع مرات، أما لفظة (العري، عاري) فقد تكررت سبع مرات أيضاً.
    ولعل هذا الحضور -المتعمد- لتلك الألفاظ بدلالاتها الموحية، تؤكد واقع التخاذل والتمزق والانتكاس والخواء الذي يكاد يعصف بالمجتمع الباحث عن خرقة تستر عريه وعجزه في زمن تكاد تنسحب فيه الرموز المتوهجة، المتصلة، الضاربة في ثنايا التاريخ والذاكرة الحاضرة دائماً (رمسيس، البارودي، عرابي، محمد عبده، محمد علي مشرفة، عبد الناصر، محمد الزيات) لصالح باعة الحلم وركامات الظلمة وخيبات التّبدلات التي دهمت الجميع، وفي ذلك إدانة كاوية للمجتمع الذي يكاد ينصلب عارياً مهلهلاً وتائهاً، بعد أن تنازل عن غده وأحلامه ومُثله وتضحياته.
    ملاحظة: كنت أتمنى على أديبنا (سمير الفيل) لو حذف الفقرة قبل الأخيرة بدءاً من قوله "ولفت نظري أن علي باشا مشرفة فوق قاعدته الصخرية .... حتى نهاية قوله: معاودة نحت تمثال رمسيس الثاني ستقربنا من هذا الهدف؟"، حيث وددت لو تُرك المتلقي، ليصل من خلال تتبعه إلى مفاتيحه الخاصة ورؤيته الذاتية لأسئلة هذا النص، دون أن نشير عليه بمفاتيحنا.
    *****
    * أمين العلاقات العامة والنشر في الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين.
    * موقع http://zakiaila.net/
    *بريد zakiaila@gmail.com


    الهوامـش :
    1. قصة لقاء: نجلاء محرم، من المجموعة القصصية: استيقظ ، مؤسسة أخبار اليوم ، القاهرة 1997.
    2. قصة مأمورية: سمير الفيل، ملتقى فضاءات، 8/1/2005. وموقع القصة العربية 27/7/2005.
    3. قصة الأرامل لا تتشابه: موقع محمد أسليم، المغرب، 29/12/2004.
    4. قصة ما رأته الفراشة: من المجموعة القصصية :وليمة وحرير وعش عصافير، دار الكرمل للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن 2004.
    5. قصة أوراق من دفتر عاشق مجهول: عبد الحميد الغرباوي، من المجموعة القصصية: عطر.. معطف..ودم. سعد الورزازي للنشر، الرباط، المغرب،2005.ونُشرت في منتدى ميدوزا.
    6. قصة نون: د.أحمد فنديس ، من المجموعة القصصية نون، دار أبو المجد للطباعة والنشر، القاهرة، 2000.
    7. قصة اللصوص: خالد السروجي، من المجموعة القصصية: ابتسامة الوجه الشاحب (فازت بجائزة الدولة للقصة)، الهيئة العامة للكتاب، سلسلة إشراقات ادبية، ط1، القاهرة 2002.
    8. قصة فرسان الليل: نزار الزين، موقع الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب- منتديات واتا الحضارية، كتابات إبداعية، 31/10/2006.
    9. قصة انطلاقة: موقع القصة العربية، الاثنين 8 سبتمبر 2003.
    10. قصة سجادة الصلاة: موقع العربي الحر، وموقع دنيا الوطن، غزة 23/10/2004 .
    11. قصة غداً: نجلاء محرم، من المجموعة القصصية (غداً) التي ستصدر للكاتبة قريباً.
    12. قصة جيم: جبير المليحان، موقع القصة العربية ، 22/10/2005.
    13- قصة: هذا العري، سمير الفيل، مُــلـتـقـى أدبـيـات، ظلال الحكايات. ومنتديات اتحاد كتاب الإنترنت العرب، 17أكتوبر 2006.


  2. #2
    أستاذ بارز الصورة الرمزية سمير الفيل
    تاريخ التسجيل
    27/09/2006
    المشاركات
    107
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    شكرا للناقد الجاد
    الأستاذ زكي العيلة
    تحية تقدير وامتنان


  3. #3
    أديب وناقد| في ذمة الله الصورة الرمزية زكي العيلة
    تاريخ التسجيل
    05/01/2007
    المشاركات
    166
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الأديب الكبير الأستاذ: سمير الفيل.
    أجمل تحية.

    أعتز بحضورك أخاً ومبدعاً مميزاً.
    في انتظار جديدك.
    احترامي وتقديري

    زكي


  4. #4
    عـضــو الصورة الرمزية يحيي هاشم
    تاريخ التسجيل
    05/12/2006
    المشاركات
    273
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    أستاذنا الفاضل / زكى العيلة
    تحية إحترام لك
    هذا هو ما نهدف اليه
    نقد هادف نرى فيه كافة الجوانب السلبية والايجابية
    تحية لك
    يحيى هاشم

    يا قاتلى فلتنتظر وامنح قتيلك بضع ثوانى
    واخفض السيف قليلا إننى ماعدت أبصرك
    من اللمعان

  5. #5
    أديب وناقد| في ذمة الله الصورة الرمزية زكي العيلة
    تاريخ التسجيل
    05/01/2007
    المشاركات
    166
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    الأديب الأستاذ: يحيي هاشم
    أجمل تحية
    شكراً على حضورك الذي أفخر به.
    دمت ودام إبداعك.

    احترامي وتقديري


  6. #6
    أستاذ بارز الصورة الرمزية سمير الفيل
    تاريخ التسجيل
    27/09/2006
    المشاركات
    107
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي رد: تشوهات المرحلة وخيباتها في ثلاث عشرة قصة عربية.

    رحم الله صديقنا الدكتور زكي العيلة الذي عبر حياتنا كشهاب مضيء ..
    مازلت اتذكر لقائي الأول به في القاهرة..
    كاخ صديق ورفيق قلم مبدع..

    سمير الفيل
    كاتب مصري
    Samir_feel@yahoo.com
    مدونتي :
    http://samir-feel.maktoobblog.com/

+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •