إن المتتبع الحصيف لمسارات التفاوض التي تدور في الخفاء والعلن يدرك قبل غيره حاجتنا الماسة لمراكز بحث تخصصية في موضوع الحوار والتفاوض الذي أصبح أولوية من أولويات الولوج إلى الألفية الثالثة، فقد كفى هذه الأمة ما عانته، وما زالت تعانيه، من الآثار المدمرة لنتائج (أوسلو) ومعاهدة (كامب ديفيد) بسبب افتقار المحاورين والمفاوضين العرب - على افتراض صدق نواياهم- لأهليّة التفاوض والحوار مع العدو الإسرائيلي.

لقد غدا التفاوض علماً يُدرّس في الغرب، في حين أنه، للأسف، لا يزال في بلادنا مجرّدَ مفردةٍ لغوية. وفي سبيل الإضاءة الخاطفة لهذا العلم نقتبس ما أوجزه (وليام يوري- William Ury) - أحد أبرز مؤسسي علم التفاوض- في ولادة هذا العلم وأسبابه، حيث يقول: "لقد افتقدَ موضوع "التفاوض"- بوصفه حقلاً للدراسة والتدريب- إلى التعريف به في حقبة السبعينيات؛ ولم تعرف الجامعات- لذلك- أية مقررات خاصة بتدريسه. إلا أنه- وبعد عقدين من الزمن فقط - غدت مقرراتُ التفاوض منتشرة في كل مكان، وهي تـُدرَّس الآن في كثرةٍ كثيرةٍ من مدارس الأعمال، والإدارات الحكومية، والقانونية، وفي معظم المؤسسات الكبيرة ووكالات الدولة، حتى أنها أصبحت تـُدرَّس في المدارس الإعدادية. لقد أصبح النهم المعرفيُّ لاكتساب هذا العلم أمراً لا يقاوم. وهذا - بالقياس إلى الباحث المتأمل واقعٌ مثيرٌ محتاجٌ إلى تفسير: لماذا؟ يبدو أن الجواب كامنٌ في ثورة المعرفة وفي تأثيراتها على أشكال تنظيماتنا، وعلى منطق النزاع بحد ذاته."

نحن بحاجة ماسَّة إلى الإطلاع الدقيق على أدبيات مراكز البحث والهيئات التي تـُعنى بقضايا السلام العالمي، والسلم الأهلي، وحوار الأديان، وحقوق المرأة، وحقوق الأقليات، ودراسة البؤر المتفجرة أو المحتقنة عالمياً، والتي تـُعزى أسبابُها إلى صراعات دينية أو عرقية، لمعرفة آليات التفكير لدى الكتاب والمفكرين الغربيين الذين يقفون وراء تلك المراكز والمنظمات، التي ما فتئت تنتج - وفق منظـورهم المعرفي- ما يُسمّونه حلولاً للأزمـات المتفجرة في العالم.
ولابدّ - بداهة- أن يتوجب على الأشخاص، أو الهيئات المدنية، أو المجموعات الدينية التي تـُنتدب للقاء ممثلي هذه المراكز الغربية حيازة الكفاءات اللازمة من حيث الثقافة وامتلاك ناصية اللغة الأجنبية المناسبة، والاطلاع الدقيق على سير الأعضاء المؤسسين لهذه المراكز، وخلفياتهم الثقافية، وأعمالهم ومناهجهم الفكرية، والجهات المموِّلة لهم والداعمة لمسارهم، وآليات عملهم ونشاطاتهم في مناطق أخرى، لأن عدم امتلاك هذه الكفاءات لا يقدح في أهلية المُحاور فحسب، بل ينتقص من هيبة البلد وهيبة مفكريه ومصداقية حقوقنا.

إن مؤسسي هذه المراكز ليسوا أناساً عاديين، فهم غالباً ما يكونون من العلماء المتخصصين ذوي الكفاءات العالية والخبرات الميدانية، وجلـُّهم ممن أغنى أهم الجامعات والمعاهد في العالم بدراساته ومؤلفاته ونظرياته. وإن من غير المقبول بالكليّة ألا يُبالى في أعمالهم، وألا تـُدرس الدرس العلمي الجاد الذي تستحقه. وأبلغ من هذا خطراً أن يُسارع أناس إلى الرد عليها بعاطفة لا يحكمها منطق ولا منهج علم، مكتفين بالتباكي على مجد آفل، وبالتغنـّي بريادة للأجداد كانت حقيقة ذات يوم، وهذا كله مدعاة لمزيد من الفشل في إمكانية تفنيد آرائهم، أو تصويب مبادراتهم بهدف الحصول على حقوقنا المهضومة.

ومن خلال اطلاعي المتواضع على أدبيات بعض هذه المراكز، وجدت، ومن باب الأمانة العلمية، أن إطلاق الأحكام السابقة على مثل هذه المراكز، والقفز المباشر إلى تقويمها انطلاقاً مما تستدعيه نظرية المؤامرة من إقصاء مبرَّر لكل أشكال التعاون معها هو ضرب من الجهل، وإمعانٌ في حجب الذات عن المعلوم النافع بدعوى الدفاع المشروع عنها.

وحتى لا أغدو محامياً للشيطان، فإنه لا بد لي من أن أنوِّه بأن ما عانته الأمة العربية والإسلامية من مطارق الاستعمار القديم وما خلـَّفه من فقر وفاقة فكرية واقتصادية من ناحية، وما تعانيه اليوم من هجمة شرسة للسيطرة على مقدراتها، وفرض أنموذج ثقافي يغاير معايير إرثها الثقافي، وفقدان النزاهة والحيدة لدى الإدارة الأمريكية حين التعاطي مع قضاياها من ناحية أخرى، كل أولئك قد يكون المسوِّغ المنطقي لحالة الريبة والشك التي تكتنف كثيراً من تحليلات كتابنا ودراساتهم التي تتناول الأعمال الفكرية والنشاطات والمبادرات التي تقوم بها المراكز الغربية المعنية بتناول أشكال الصراع والنزاع في العالم.

بيد أن هذا الجو المشحون بعدم الثقة والفزع من التواصل يؤسس لقطيعة بيننا وبين الغرب، ويجعل الأمور تراوح في مكانها، ويحرم الأمة العربية والإسلامية فرصة الاستفادة من القوة الضاغطة التي تمتلكها هذه المنظمات الأهلية على مراكز القرار في بلدانها، وبذا يصبح اللقاء مع هذه المراكز والمنظمات ضرورة تمليها الحاجة إلى صوت داعم لقضايانا داخل المعسكر الغربي.

لابد لهذه الأمة أن تصحو من كبوتها، وتمعن النظر فيما يجري حولها، فلا فائدة ترجى من استمرار لعننا للظلام، فقد أزفت ساعة إشعالنا لشموع المعرفة.

مع كل الحب
عدنان أبوشعرنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي