الشــوارعـيزم... والـواجــو!
بقلم : د. عمرو عبد السميع صحيفة الأهرام المصرية
علي امتداد ثلاثة عقود ونصف من عملي المهني, وطنت قلمي ألا يمتنع أو يتواري, أو يحتجب, أو يتردد حين يجب عليه البوح والقول, والإيضاح والإفصاح.
ولكنني لا أخفيكم أن بعض تردد اعتراني قبل أن أخط سطرا في مقالي اليوم, ليس لأن نصالا تكسرت فينا علي النصال, ولكن لأن نوع الكتابة الذي أنا بصدده ـ اللحظة الراهنة ـ يوصف ـ دوما ـ من جوقة انشاد مجتمع الشوارعيزم, والطبقة المهيمنة الباركة علي قلوبنا أجمعين ـ وأعمدتها نجوم الحكومة المتنفذون ورموز البيزنيس المأجورون ـ بوصفه انعكاسا لمشاعر حقد ومرارة وإحن وسوداوية ـ تمكنوا من أولئك الذين يعذبهم كثيرا كون الله أفاء علي نفر من الناس, نجحوا بعلمهم ومجهودهم, وشطارتهم, ومواهبهم, وملكاتهم أن يتحصلوا ما صاروا إليه من مكانة, ومن مراكمات مال أو نفوذ.
ولن أحاجي قوي الاستقواء والشوارعيزم في ادعائها علينا, فقد صار الناس أضعف من الاشتباك معها أو ملابطتها, لا بل باتوا أمامها مورا أو ترابا تذروه الرياح.
ولكنني ـ فقط ـ سأحكي لكم ما تعثرت فيه ـ كالعادة ـ بمحاسن الصدف, ورأيت أن نقله إليكم يعد من أوجب الوجوبيات.
إذ تناهي الي مسامعي ـ غير مرة ـ في بعض المجتمعات الجديدة ماجعلني أسعي ـ أولا ـ الي التحقق والاستيثاق وجمع المعلومات, ثم ما يدفعني ـ الآن ـ ويحرضني ويوزني للكتابة في الموضوع عبورا فوق ترددي الذي استولده استهوالي نوع الاتهامات التي سوف تستدلق فوق رأسي, واصفتني بالغل, والصفراوية, والاستكثار, والانتماء الي زمن الستينيات المجرم الذي وزع الفقر علي الناس.
ولكيلا أطيل منساقا وراء غواية المقدمات البلاغية, ونداهاتها المغرية بالإسهاب, فإن الحكاية تتعلق باكتشافي محلا في مصر يقوم ببيع لحوم مبردة( غير مجمدة) يصل سعر الكيلو من أهم وأغلي قطعها المسماة واجو((Wago الي950 جنيها( أكرر بالحروف حتي لا يلتبس عليكم الرقم.. تسعمائة وخمسون جنيها للكيلو جرام).
ثم دفعني الفضول والدهشة نحو الإيغال في البحث والتقليب والتفعيص ومشارفة ساحة معلومات مذهلة حول الموضوع.
إذ تستورد الذبائح المبردة اللباني, والضأن من جنوب إفريقيا, والكندوز من استراليا.
وتربي الخراف والعجول علي نحو خاص( كما هو مذكور في كتيب أنيق ملون يصفها بتفصيل ويحكي حكايتها بتوسع), إذ تأكل حبوبا طبيعية أورجانيك((Organic, وتحرص الجهات المربية, علي منعها الحركة إلا في مساحات محدودة حتي لا تقوي عضلاتها, ومن ثم يصعب شدها بالأسنان المرفهة الدلوعة لمشتريها, أو تفقد خاصية ذوبانها في الأفواه من فرط طراوتها ولينها.
ثم ضمن المعلومات المذكورة أقف أمام حقيقة كون البهائم والخراف تربي في عنابر مكيفة, ومزودة بسماعات تنساب منها نغمات الموسيقي, بما يحافظ علي أعصاب المواشي قبل ذبحها, وبما يؤثر علي جمال طعم لحومها, وهي حقيقة علمية مثبتة تم تضمينها الكتيب ونسبتها الي مصادرها ومراجعها.
وفي الدليل الملون المطبوع( الكتالوج) الذي يصف تلك اللحوم, تجد إشارات الي أجزاء الذبائح المختلفة, لكي يختار الزبون ما يناسبه وصولا الي مستوي القطع المسماة( واجو) وهو قمة المستويات, والذي يبلغ سعر الكيلو منه تسعمائة وخمسين جنيها مصريا.
.....
يامثبت العقل والدين, أعني يامولاي يارب العالمين علي إكمال هذا المقال.
......
وعرفت أن البيع نشط جدا, والإقبال كبير علي شراء تلك اللحمة, وقطع( الواجو) بالذات, وأن أحد فنادق القاهرة الكبري يقوم بتقديمها بسعر يقارب ثلاثمائة جنيه مصري للشريحة الواحدة( وبالطبع ولعدم الإخلال بأمانة العرض ـ فإن معها بعض الكوسي والبازلاء والجزر السوتيه).
وأفهم ـ بالقطع ـ المنطق الإداري والسياسي الذي سيخاطبنا بأن من حق أي إنسان استيراد ما يشاء طالما يدفع ضرائب علي ذلك الذي يستورد, ليستهلكه بعض الناس.
أي حق؟؟!
ألا تبا لذلك الحق الذي يسمح باستيراد وبيع لحوم الواجو بتسعمائة وخمسين جنيها للكيلو جرام في بلد يأكل بعض شعبه سليق أرجل الفراخ, وأخفاف الجمال.
هذه ليست فشخرة ولكنها تجاوزت اللفظة الي آماد لايمكن رصدها أو الاحاطة بها.
هذا عمل إرهابي.. تخريبي, يهدف الي تقويض النظام الاجتماعي العام في بلدنا السعيد.
واذا كنا تعودنا ـ أخيرا ـ أن نوميء الي بعض الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية الاستراتيجية, مثل المياه والخبز والسيادة والحدود والسودان وإفريقيا والخليج والطاقة, باعتبارها موضوعات( أمن قومي) فإن الحفاظ علي تماسك واستقرار النظام الاجتماعي في البلد هو ـ أيضا ـ موضوع أمن قومي.
لم أقصد أن أثير النفوس والخواطر, أو أوجد بيئة نفسية ومزاجية صديقة للحزازات والاحتكاكات.
ولكنني وجدت في الموضوع دليل ثبوت اضافيا علي خرق الطبقة الجديدة في مصر لأعراف التراضي, واستقوائها علي الناس, واطاحتها أبسط قواعد الأمان الاجتماعي.
وبالطبع سأجد في رموز طبقة الشوارعيزم من الخطباء المفوهين, وأصحاب الألسنة الزربة( الذين عودونا السفسطة والمحاجاة اللانهائيتين, مستعينين بالنفس الطويل, وخلو البال, ومجموعة لا بأس بها من المراوح ثبتوها علي قلوبهم), من يخاطبني قائلا: أنتم لا تفهمون الدنيا كيف تسير.. نحن جزء من سوق عالمية, ويجب أن نكون مثل بلاد بره.
ولكنكم لستم( بره), وليس من حقكم أن تكونوا مثل الذين( بره) فتلك مجتمعات تعبت وجاهدت وجاعت طيلة قرون لتبني نفسها علي نحو معين, وليس من حق السادة الأفاضل أصحاب التوكيلات, المتربصين علي الحشايا الطرية في مصر, مدخني السيجار الكوبي آكلي لحوم( الواجو) أن يتصوروا تساويا في الرءوس بينهم ونظرائهم( بره),
إذ أن أولئك الذين يعيشون بره يؤدون واجبهم الاجتماعي برضاهم, وغصبا عن أمهات عيونهم( ضريبيا) إزاء الطبقات الفقيرة في المجتمع ولا يتعمدون استفزاز الناس, أو البلطجة الاقتصادية الاجتماعية عليهم بالشكل الذي نراه في مجتمعنا, وإن فعلوا ما استشعروا منه خجلا, فإن لديهم من الحياء الاجتماعي والسياسي ـ اذا جاز التعبير ـ ما يمنعهم المجاهرة والماكيدة والإغاظة علي ذلك النحو المعيب.
.......
نحن نطرح ـ أجمعين ـ فكرة المواطنة والمساواة علي مستويات الجنس والدين والعرق, ولكنني ـ وارتباطا بما توصلت إليه من معلومات في موضوع الواجو ـ أطرح عليكم ـ غير هازل أو ضاحك ـ ما يمكن تسميته( المواطنة البروتينية) التي يفترض أن تعصم أحد أطفال هذا البلد من أن تتسرب أيام حياته صريمة من بين أصابعه من دون أن يحظي بتذوق لحم( الواجو)
علي حين يجاوره في ذات البلد طفل آخر يكبر ويشب معانقا تلك الصرعة البروتينية متلمظا, ضاربا بلسانه سقف حلقه من فرط الالتذاذ.
قولا واحدا..
إما الإقلاع عن الاستفزاز, وإما التزام من الدولة بتوفير الواجو للناس مدعوما, معيدة اليهم شعورا بالآدمية ضربته قوي الشوارعيزم بقسوة وغلاظة.
يازمن الواجو..
يازمن الشوارعيزم..
إنجل.. فلم يعد في طاقاتنا تحمل المزيد!!
المفضلات