قراءة في "كتاب النهايات" و"مواقف مصلح النجار" لمصلح النجار
أماني العاقل

صدرعن الأهلية للطباعة والنشر ديوانان شعريّان للشاعر الأردني الدكتور مصلح النجار عنواناهما "كتاب النهايات " و"مواقف مصلح النجار". وتأتي التجربة الشعرية متكاملة بين المنجزين، بحيث تظهر الأنا الرومانتيكية التي تسبر أغوار العالم باحثةً عن نقطة من نور لتفكك الكون في مواقف وجودية تعيش تفاصيل الشعور بالكون والإنسان والأنا، فيتوهّج الحرف في "كتاب النهايات" باحثاً عن بداية وحالة وجوديّة ونهاية ليومنا وحبّنا وموتنا وحزننا، وتبدأ الأنا بالظهور من الإهداء، حيث يقول:
"إليّ
في كلّ بداية
وإليّ
في كل نهاية
قبل خط النهاية"
ونتتهي عند الأنا الرومانتيكية في تجليات "المعذّب وَجداً" كقيمة فنيّة عندما يقول:
"كُلُّ شيءٍ إذا
ابتدا لانتهاءٍ
غير حزنيْ
إذا ابتدا يُنهيني"
ويحمل الحضور المكثّف للزمان وشبه اختفاء المكان في في "كتاب النهايات"، وفي "مواقف مصلح النجار " إشارة استفهام تحيل إلى ثنائية الزمان التي تعادل الوجود الذي لا يمكن الإحاطة بصيرورته التي لا تنقضي ولا ترجع للوراء، والمكان الذي يمكن وصفه والإحاطة به وتكراره، حيث تأتي الإجابة عن المكان بـ"كيف"، والسؤال عن الزمان بـ"متى"، فيتجسّد المادي بالمكان، وتأتي مساءلة التجريدي في صيرورة الزمان.
ويتكثّف الحضور الزماني في " كتاب النهايات " حيث لكل حزن وفرح وحب وشوق ووَجد بداية وحكاية ومنتهى النهاية، وأُورِدُ (الحزن) نموذجا للتداخلات الزمانية مع الأنا الرومنتيكية المتأملة:
أوّلُ الحزنِ
أن تكونَ حزيناً
ظنّهُ أنه لا فكاكا

آخرُ الحزنِ
أنْ تعيشَ لِقَاسٍ
لو شققْتَ الروحَ
لا ما بَكَاكَا

منتهى الحزنِ
أن تَضيقَ بحُزنٍ
غيرِ حزنٍ إذا فَرِحتَ استَبَاكا
فالبحث عن الـ "متى" الزمانية هو بحث عن المجرّد في مثاله الأعلى، ولعلّ الموسيقا هي المثال الأعلى في التجريد الفلسفي، فكما يقول شوبنهاور" ليست الفلسفة أرقى درجات الموسيقا، بل الموسيقا أرقى درجات الفلسفة"، فالبدايات والنهايات في الحزن والحب و الروح والأنا، بحث عن موسيقا الكون الفلسفية ونزوع نحو تجريد موسيقي يتكامل مع الإيقاع الصوتي في الحرف، وكذلك مواقف مصلح وكتاب نهاياته، بحث عن الموسيقا بوصفها ممارسة فلسفية عالية التجريد:
أولُ النورِ
كاد يُعمي عيونيْ
يحجِبُ العقلَ
مثل شُربيْ الشرابا

آخِرُ النورِ
راحَ دونَ رجوعٍ
غابَ عنّي
عظَّمتُهُ حينَ غَابا

آخرُ النورِ
لو بِعُمْيِ عيونيْ
قلْتُ رأيَ السَّدادِ
قيلَ أَصابا.
تلك التساؤلات والإجابات هي بحث عن امتلاك سرّ من أسرار الزماني، أو امتلاك سرمدي مستمرّ للحظة، لكن النهاية هي الرؤيا الأولى التي تبحث عنها شعرية النص، ويشي العنوان بشيء من هذا "كتاب النهايات"، فعندما قال أفلاطون"إنك لا تستحمّ بماء النهر مرتين"، جاء كتاب النهايات يسأل" ماذا لو نضب النهر"، ماذا بعد انتهاء الحزن، وبعد آخر النور وآخر الحب؟

تأتي "المواقف " مشروع بحث عن المعرفي المفقود وتقدّم الرؤيا الشعرية في النص"الذاتي" مفتاحاً للعبور نحو ذلك المعرفي، فتشعر بداية بالقلق المتداخل مع الفانتازيّ ، وتعبر فوضى الروح القلقة والمغتربة إلى المتلقي، إلى أن يبدأ الهدوء يستقر شيئاً فشيئاً، ليظهر"السامي"، الذي يبحث عن النقاء والتطهير والعودة إلى الصفاء الأول:
ففهمتُ، فأدخَلني في مغسلةِ
الأرواحِ غُسلت،
فقالَ طَهُرْتَ، فطرتُ
وفاضت روحي، فتفاءلتُ،
فغرّد طائرها، فطربتُ، فقال: تواضعْ
لا تَطْرَبْ بعد اللحظة، فخضَعتُ.
ويتداخل الفلسفي بالصوفي الروحي في البنية الثقافية الشعرية للخطاب، من خلال إشارات فلسفية معرفية نتبّئ باتخاذ طريق القلب، والهرب من المادّة والعلائق الطينية، يقول:
أوقفَني عن هربي في موقفِ إيمانٍ
قال: لا موجودٌ..
لا معدومٌ..
والظاهرُ، والباطنُ،
قلتُ: وما لا بدّ، فقالَ: أَتُؤمِنُ؟
قلتُ: أُصدّقُ،..أُوقِنُ،..أَصْدُقُ
هذا حقٌّ ومفارِقْ،
فأعادَ سؤالَ الإيمانِ، وقال:
هي ذي فلسفةُ الأحوالِ، أتؤمنُ...
تأتي التجربة الحداثية في النصوص من الاستمرار في اختراق البنية التقليدية للشعر والبحث عن صور مختلفة ومتضادة، ونزوع نحو الحرية والتجريب، وقتل التشابه والتكرار، لكن التجربة الشعرية في "مواقف مصلح النجار، وكتاب النهايات" تنفتح أيضاً على وعي ما بعد الحداثة، من حيث" إعادة الاعتبار لما هو عرفانيّ وما هو قدسي ولما هو خصوصي وما هو لا عقلاني"(1)، بل إن "المواقف والنهايات"، نقلة إلى عوالم سحرية ووجدانية يتوهّج فيها الولع الروحي، ويخفت فيها الشهوي والفارس الدون جوان، حدَّ الانطفاء، فتحضر مفردات كالقلب والروح والوجد والإيمان والنفس، إلى أن يتمّ الكشف عن المفتاح السحري في "أنت"، يقول:
كُنْ نفسَكَ، قلتُ: وما أنا؟ قالْ:
كن بشَراً، مخلوقاً، كنْ ما أنتَ، ولا
تكُ ما لا أنتَ، ولا تصبحْ ما لستَ لهُ
**********
ورأيتُ سنا برْقٍ
فنطقتُ، تخطَّفَ ذاك النورُ البصرَ
ركضْتُ عَمِيّاً
فمدَدتُ يديْ،
لمْ أَرَ إلا نفسي ممدودَ اليد،
وبصُرتُ بنفسي مقطوعَ الأرجلِ...
ويأتي السؤال الأول في الفن "من أنا"، لغزاً يحاول مصلح النجار إدراك كنهه، ومع هذا السؤال يبدأ الفنان بوعي ذاته، ووعي العالم ومن خلال تلك الذات، تبدأ رحلة الاغتراب والبحث عن سر الوجود .
قدّم كتاب النهايات والمواقف هذا السؤال رؤيا شعرية تتخذ من السامي والمعذب الرومانتيكي نموذجاً أساسيّاً في التجربة الجمالية الشعرية.

***************************
المصادر والمراجع:
1) النجار، مصلح، مواقف مصلح النجار، الدار الأهلية للنشر والتوزيع – عمّان، 2009.
2) النجار، مصلح، كتاب النهايات، الدار الأهلية للنشر والتوزيع – عمّان، 2009.
3) الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي، المركز الثقافي العربي، بيروت،ط 3، 2005، ص 39