" الخراب والشدة والدم" في الأسواق
" الخراب والشدة والدم" في الأسواق
عن شركة مطابع الأنوار المغاربية بوجدة ، و في طبعة أنيقة وجذابة ، صدرت للشاعر محمد علي الرباوي ، ثلاثة دواوين شعرية ، خلال شهر فبراير 2009.
1 – دم كذب : تربو صفحاته على 116.
2 – كتاب الخراب: حوالي 89 صفحة.
3-كتاب الشدة: 106 صفحة.
والجدير بالذكر فإن هذه التجربة الشعرية لها ما يميزها من خصوصيات ، لما تضفيه على ملامح القصيدة المغربية والعربية من آلاق وأفضال لا بد للنقد من استجلائها.و على سبيل الاستئناس ، لنقرأ معا بصوت مسموع كتاب الشدة :
هذا الديوان قسمه الشاعر إلى ثلاثة أقسام: - كتاب الشدة – هدير الأمواج – أوراق مكية.
كتاب الشدة يتكون من ثلاثة عناوين:
الفصل الأول من كتاب الشدة.
الفصل الثاني من كتاب الشدة.
الفصل الثالث من كتاب الشدة.
وفصول الكتاب كتبت على امتداد فضاءي وجدة/مكناس ، وعامي 2004 و 2005 ، بين الشتاء والصيف والخريف.. وهنا يكمن سر تسميتها بالفصول .. فصول معاناة عاشها الشاعر إثر حادثة سير مروعة كادت أن تودي بحياته لولا الألطاف الإلهية. وقد أزهرت هذه التجربة المرة في ذات الشاعر الرقيقة ألما . لكن إيمانه القوي بالقضاء خيره وشره، وصموده القوى في تحدي البلاء، حول هذه التجربة أشعارا شكلت تجربة تنضاف إلى تجارب الرباوي المتنوعة لتشكل بدورها هذه القامة الشعرية السامقة الفذة.
ولنتأمل هذا البوح من الفصل الثاني " ص 19 " قوله:
عجلى...
الأيام تمر على جسدي المنهك عجلى.
لكن الساعة في الحائط
لم تتجاوز منتصف الليل.
والأحد البارد منها ما زال يطل.
أتمر الأيام كما أتوهم
أم أن الزمن الموقوف
ليقاسمني هذا السقم المر سريري
فأحس أنا بمرارته أكثر.
حقا كانت فصولا حارة وباردة وصفراء مرت على الشاعر، أذاقته من المعاناة ألوانا، وخاصة لزومه للسرير في المشفى والبيت، وقيد حركاته بعد أن كان عصفورا بين الأفنان ، يملأ الأجواء تراتيل تشنف أسماعنا شعرا في شتى المنابر، حتى توحد بالسرير. وعنه يقول من الفصل الثاني" ص 13 "
هذا السرير بي ارتبط .
في جمره الأيام تكتبني
بحبر كاللهب
إذا على جسدي سقط
هذا السرير بي ارتبط .
في جوفه القاسي
أجالس جمرة الأحلام
هذا السرير بي ارتبط
والقلب في حب الحبيب قد انخرط
...
أح..
عذب هذا الألم
وهو بذاتي يرتطم
هذا البلاء علم الشاعر كثيرا ما لم يتعلمه في الفصول ، وحمل إليه تباشير حب إلهي :
هذا البلاء
أمام جمرة طقسه
أدركت أني رغم كل العلم جاهل .
هذا البلاء
أتى إلي مبشرا بالحب قلبي
رائع إذ يذكر القلب الحبيب.
وفي التفاتات جميلة جاء فصل الربيع من داخل القصائد ، وليس برانيا من تواريخ توقيعاتها " ص 18 "
كان ربيع الشجر الملتف
بقلبي المجروح
جميلا كان كلامك
...........
ما أجمل أن يستبدل هذا الطفل ربيع العمر بربيع العمر.
سبحان الله، في قسوة الألم رحمة ، وفي شدة البلاء رخاء و حياة ربيعها زاه،.هذا ديدن النساك ، والزهاد ، والصلحاء العارفين بالله.
أما الفصل الثاني ، هدير الأمواج ، فتلاحظ في تواريخ قصائده نكوصا إلى الماضي وبالضبط بداية التسعينيات :
- الكبرياء – وجدة 1993
- الدمار – وجدة 1993
- المتمرد – فاس 1994
- التراب – وجدة 1994
- الأسماء الحسنى 1997
وتتقدم السنوات إلى حدود 2003.. وهذا القسم تأريخ لتجربة أخرى عاشها الشاعر. ولعل مضامين النصوص تفضحها معنى و مبنى . بقول الشاعر من الدمار " ص 47 ":
دمرت ذاتي مرارا
أججت فيها نارا
لكنها وهبتني
من جرحها أزهارا.
أما في قصيدة الكبرياء فنقتطع هذه المقاطع من " ص 45 – 46 "
يا جسدي المكسور ليس تحمل الكأس
بجوفها سوى السراب
وليس المرأة هذه التي تأججت
ما بين عينيك زمردا سوى أرض بباب.
أوراق مكية، القسم الثالث من الديوان. مكة المكرمة – محرم 1426/2005 - يؤرخ لسفر الشاعر إلى مكة لأداء مناسك الحج. وقد استهل الشاعر "قصيدته أوراق مكية " بالدعاء ، وعرج على رابغ، حيث ميقات أهل المغرب لارتداء الإحرام.. وكله شوق إليها قبل الوصول للتخلص من الأوصاب ، و ما يثقل القلب والجسد من أحجار. قوله " ص 85 "
أيا رابغ..
اقتربي...
حتى أتجرد من صخري
وأحط على جسدي
إكليل العشق .. فأمشي
لا يسندني عكاز ..أمشي
لا يحملني كرسي..أمشي..
حين يلوح البيت
أحط به قلبي
وبمولاي أنا أنفرد
إن رحلة الشاعر للديار المقدسة استجابة للنداء الإبراهيمي كان بلسما لذات أنهكتها الجراح "أكرمني مولاي فناداني" ص87"
ها أنذا آت آت
ما عدت ثقيلا..آت
مازلت عليلا..آت
وتحضر باقي المشاعر المقدسة بدءا من منى ومروة وجبل الرحمة... في هذه الفضاءات يلهج لسان الشاعر بالثناء ، والحمد لله ، والدعاء ، يحرق أطباق جهنم ممتطيا القصواء ... و على غرار القصائد في كتاب الشدة ، يحضر العكاز و زكرياء الذي يغيب عنه الشاعر أول عيد/استجابة لدعوة رب الكعبة. وأوصاه بملازمته في هذا العيد ليأتيه " الفرح على متن حصان ليس كأي فرح " وينصرف الشاعر في نهاية القصيدة إلى التحلل من الإحرام قبل نهاية أيام التشريق لينعم برياحين الجنة مع قافلة العشاق الشهداء.
هذه الرحلة المقتضبة بين عوالم الشاعر المختلفة الربانية، جعلتنا ننعم معه بحلاوة عشق صوفي رقيق ، بالترحال من فضاء نوراني إلى آخر بمكة المكرمة ، مضمخا بالأدعية المناسبة لكل مشعر مقدس بعد أن عشنا رحلة الألم والمعاناة أيام محنة الشاعر/ المنحة الربانية ، الكرم / البلاء .. التي قربتنا من الرباوي الإنسان المكابد، الصابر، الصامد أمام هدير الأمواج العاتية ، والألم القاسي المعربد في الجسد. إن الشاعر بشعوره المرهف ، وصور أشعاره الأخاذة ، ومعانيها السامية ، و الشجى الطروب المبكي،عوالم منحتنا لذة لا مثيل لها..
تحية حارة إلى الشاعر ، تليق بقامته الشعرية السامقة ، وصفاء نفسيته التواقة إلى الحب والجمال والحق.. وشكرا له على الإمتاع و المؤانسة و الوخز اللذيذ للخوامل في الرؤوس..
وحظا سعيدا للقارئ في رحلته بين نصوص " الشدة والخراب و دم الكذب ".
رد مع اقتباس
المفضلات