أفـول اللـيـل
**********
يومـيـات المـعـاريـف واغـبـيـلـة
***************
للطاهر محفوظي
**********
عرض أولي
******
محمد المهدي السقال
************

تندرج كتابة الطاهر محفوظي, ضمن ما صار يصطلح عليه بأدب الاعتقال في المغرب , بحكم انطلاق الكاتب من تجربة ذاتية معيشة ,عانى فيها الاعتقال بين المخافـر السريـة والعلـنـيـة , بسبـب الأفكار التي تشكل من خلالها وعيه بحركة الواقـع من حـولــه, فانـد فـع مـنـذ يـفـاعـتـه إلى التعـبـيـر عـنها , عبر المساحات المـتـاحة في ظرفية عصيبة , أصبحت جزءا من الماضي أو ما يعـرف بسنوات الرصاص.
وإذا كان المضمون العام للكتاب , واقعيا بالمعنى التاريخي , إذ يسرد تفاصيل ظروف محنة الاعتقال , كما عـيشت , فان البناء الذي اخـتـيـر لترتيب ما ظلت تختزنه الذاكرة , لم ينفصل عما يستدعيه الحكي من حاجة إلى تنظيم المادة وفق تدرجها في الواقع, بحيث هيمن الحرص على الوفاء للتعاقب في اتجاه أفقي .
لقد خرج الكتاب إلى الوجود في شكل مطبوع شخصي قابل للا ستـنـاخ , وهو عبارة عن صفحات مزدوجة الجهتين ,ضمت بين دفتين من نفس ورق تلك الصفحات , فبقيت الأخيرة بيضاء , بينما اقـتسمت الأ ولى ,بيان الحكم الصادر في حق الكاتب ,تعلوه صورة المؤلف ونبذة عنه. ليأخذ القسم الأيسر, مساحة العنوان و صاحب التأليف,بالإضافة إلى التذييل باسم المطبعة التي أخرجته , دون تحديد للزمكان .
انطلق التأليف من عرض فهرست المحتويات, فورد في مطلعه الإهداء والمقدمة, رغم أنه لم يتضمن أي إهداء لأي كان , هل سقط سهوا فكان خطأ مطبعيا , أم أنه حذف بعض وضع للطبع ,إما بإرادة المؤلف أو بغيرها ... و توزعت المحتويات على مائة وسبعة عناوين, بين مائتين وسبعة وأربعين صفحة , فيأتي العنوان كلمة مفردة مثل : العمل / الجيستابو / الحلاق / الصونا / , أو يأتي جملة تغلب عليها الاسمية , مع بعض الجمل الفعلية المقطوعة عن التمام المعنوي, على أساس الإيحاء الذي يستحضر مشاركة المتلقي ... مثل : نؤثر في الانتخابات / ما يريد المريد و الأ تـباع / كلما طلع البدر علينا / كيف تعدو و تعدو كجرو / ........ وتـتـصل اللغة المعجمية المؤثثة لتلك المحتويات ,بأطراف الحديث النفسي الذي يتجاذب الكاتب , انطلاقا من ضغط الأحداث التي راكمتها الذاكرة ,على مدى زمن الاعتـقال الذي استغرق سنتين وشهرين , بكل مخلفاته الجسدية والمعنوية.
هل يمكن إعادة صياغة متن حكائي للسيرة الذاتية الجزئية, على أساس سرديتها المتداخلة مع الحكي القصصي ؟ هل يمكن الفصل بين السـيــري الشخصي , ضمن ورقات الكاتب التي دون فيها حقائق متعلقة بمعيشه اليومي أثناء الاعتقال , وبين الظروف التي حايــثــت ,المرحلة الفاصلة بين بداية المحنة الأليمة ونهايتها السعيدة على كل حال ؟ ( يمكن للقارئ أن يلمس زخم العلامات التاريخية المرتبطة بأحداث ووقائع لها مرجعيتها التاريخية , خاصة ما يتصل بالإطار التنظيمي الذي انخرط فيه الكاتب , في سياق قناعاته الإ ديـولـوجـيـة ).
لعل الجوانب الأكثر إلحاحا على القارئ , تلك التي ترتبط بهدفيــة التأليف , أو ما يـتـدا ول في النص الـسردي عامة , تحت مسمى الرهان . ناهيك عن القيمة المتعددة الأبعاد الأدبية والتاريخية ,ضمن نفس نوع الكتابة المنتمية بالقوة , إ لى أدب الاعتقال...... لذلك فإن المعالجة المطروحة , ستـتـجـاوز عرض المؤلف كمحـتـويات منـفـصلة , لـتـتــنـاول مظاهر الرهان المستهدف , و مـا يعـكـسـه من قـيـم تربــويــة وتوثـيـقـيـة تـتـحكـم في مسار الحكي عن محـنـة الاعـتـقـال , ثـيـمـة الرغـبة في المـكاشـفـة , على خلفـيـة الاقـتـناع بـضـرورة التعـري , ليكون افـتـضاح الجـلاد وجبـروتـه أنـكـى , بل يكون عريـه من عــريـه بحـجم الفـضـيـحة .
ورغــم مرارة التجـربــة , كـمـا عـكـسـتـها مذكراتــه الـمقـا لـيـة , فـإن الكاتب حـريـص على صحــة مــرويـاتـه, بـنـسـبـتـها إ لى الصـدق فـي التأريــخ , والـدقــة فـي الروايـة , لـتـكون شـهـادته أبعــد و أعـم فـي دلالتــهــا.....
كيـف عـبـر الـمؤلــف عن تـلـك التــجـربـة ؟ ما هي اللــغــة التي تــوســل بـهـا لتــرجـمـة الـمعـانـاة إلى كـلــمـات ؟
لـمـاذا انـتـظـر الـطاهـر مـحفـوظـي مـرور عـشـر سـنـوات عـلى الاعـتـقـال للـقـبـول بالانخــراط فـي مـسـلسل الـمكـاشـفـة ؟ ( اعتقل سنة 1973 ...حكم سنة 1975 ...و صدر المؤلف سنة 2004)
هـل ثـمـة مـا لـم تـقـدمــه الأحـداث الــلاحـقـة من إضافــات أكـثـر انـضـبـاطا لـلأمـانـة التـاريـخـيـة, بحيـث بـقـيـت الحـقـيـقـة مـعـلـقــة بحاجــة إلـى مـراجـعـة ؟ يـمكـن اعـتـبـار تـلـك التـسـاؤلات مـدخـلا للـســؤال عــن الـبـعـد الـبـيـداغــوجـي الـذي تسـتــهــد فـه الكـتابة عـن تجــربـة الاعـتـقــال ؟ باعـتـبـار وجـود غايـة أبـعـد من الـتـعـبـيــر عـما هـو ذاتــي ضـمـن إطـار الـرغـبـة فـي الـبـوح لاسـتـعـادة الـتـوازن الـنـفـسي والـمـصـالـحــة مـع الـعالـم بـعـد تـحـقــق الـمكـاشـفــة.
إن البـعـد البـيـداغـوجـي مـرتـبـط بالفـضـاء التـربـوي الـذ ي تـحـيـل عـلـيـه الكـتـابـة ,إذ أن ما تـرغـب في إحـداثــه مـن تـغـيـيــرات , سـواء عـلى مـستـوى الرؤى والتـصـورات أو على مـستـوى المــمارسـة الـواقـعـيـة ,إنــما يـرتبــط بالخـلـفـيـة التــربويــة الـتي شـكـلـت شـخـصـيـة الكـاتـب ووعـيـه بـذاتـه , بحـيـث يـسعـى إلـى عـرض تجـربـتـه عـلى سـبيـل الـتـمـثـيـل , لاسـتخـلاص ما يـمـكن من العـبـر والتــوجـهـات ,واسـتـكـنـاه مـا يـمـكـن من الدروس , فـيـما لــه عـلاقــة بـتـنـمـيـة الـوعي والـنـقــد الـذاتــي .
لـقـد مـارس الـطـاهـر مـحـفــوظـي لـعـبـة الـكـتـابـة فـي خـضـم بـحـثـه عـن ذاتــه ,إلا أنـــه لا يـبـد و مـنـحـازا لـمشـاعـره الجـريحــة بـمــرارة الاعـتـقــال وتـبـعـاتـه , كـما عـاشـها فـي الـواقـع , بـل لا يـبـد و متوترا في سـرده السـيـروي ,رغــم هــول الـفـاجـعـة الـتـي صـدم بـها , بـسـبـب أفـكـاره الـتحـرريــة .**وهـذه مـحـاولـة مـتـواضـعـة لـرفـع بـعـض الـغـمـوض عـن الـعـشـرات مـن المـنـاضـلـيـن الـذيـن نـاضـلـوا فـي صـمـت ونـكـران ذات, واعـتـقـلـوا لأنـهـم كـانـوا فـي الـصفـوف الأمـامـيـة للـدفـاع عـن الـشـعـب ومـن أجـل الـتـغـيـيـر*
و يـنـد رج فـي هـذا السـيـاق ,اخـتـيـار الكاتــب للـتـرتـيـب الـزمـنـي الـتـعاقـبـي في عـرض مـادتـه السـيـروية , من زاوية الصد ق مع النـفـس في روايـة ما حــد ث , والمـصادقــة مـع الـتـاريـخ فـيـما لـم يـتـم الإعـلان عـنـه فـي الـتـداول الـرسـمي , بالـشـهـاد ة علـيـه مـما تـحـفـظـه ذاكــرتـه مـن وقـائــع , ويـختــزنـه وجـدانــه مـن آلام . ** لـقـد تـوخـيـت الـصـدق والـد قــة **
عـاش الطـاهـر محفـوظي أكـثـر مـن عـامـيـن رهـن الاعـتـقـال , لـكن الـنـهايـة الـسعـيــدة بالـبـراءة مـن الـتـهـم الـتـي نـسـبـت إلـيـه لم تـكـن لـتـخـفـف عـنـه جـراح المحـنـة ... خاصة وأنــه ظــل عـلى امـتـداد الـمـحاكـمـات يصـرح بهـويـتـه النـقـابيـة فـي إطـار الشـرعيــة .إذ لم يكن خلال مـمارستـه النـضالـيـة في حـدود إدراكــه الـوطـني , أكـثر من مـواطـن يـدافـع عن القـيـم التـي يـؤمـن بها في سـياق القـنـاعـات الاديـولـوجـيـة الـتـحـرريــة آنـذاك ,فـهـو لم يحـمـل سـلاحا وإنــما كـان يـدعـو إلـى أفـكار فـي الـوسط الـتـلـمـذي الـذي يـنـتـسب إلـيـه .
وترتـبـط بالبعــد الـبـيـداغـوجـي لتـجـربـة ** أفـول اللـيـل**, الـقـيـمة التـوثـيـقـيـة لـلأحـداث الـتي عايشها المـؤلـف , خـاصة تـلـك المـرتـبـطـة بالـصف الـتـعـليـمي في المـؤسـسـة الثـانـوية خـلال السـبـعـيـنـات , بـما عـرفـتـه الساحـة التـربـويـة من غـلـيـان , تـحـت تـأثـيـر تحـولات المجـتـمـع الـمغـربـي ومخـاض الصـراع الـذي كـان يـلـوح للشـبـاب عـلى أنـه صراع طـبـقـي , لا يـمـكـن تـجاوزه إلا عـبـر المـنـاداة بالـتـحـرر ورفـع شعـارات الـتـغـيـيـر..
لـعـل مـا يـؤكـد هـذا الـتـوجـه البـيـداغـوجـي الهـاد ف , حـرص الكـاتـب عـلى تـرجـمــة التـجـربـة إلى لـغـة تـعـبـيريـة واضحـة المعـانـي قـريـبـة الــدلالات , بـحـيـث تـسـتـمد مـفـرداتـهـا مـن قـامــوس الأحـداث وتـطـوراتـها , كـما كانت مـتـداولـة في سـياقــها الـتـاريـخـي , د ون مـزايـدة عـلى اللــغـة الـتي يـمـكن أن تـسـتـفـيـد مـن رواج الخـطاب اللـغـوي لأد ب الاعـتـقـال فـي الـمغـرب , والـتي يـمكن وصـفـها بـالـتـوظـيـف السـيـاسـي ضـمـن حـسـابـات ظـرفـيــة أو حـسـاسـيـات ضـيـقـة .

*****

محمد المهدي السقال
" أفـول اللـيـل "
يـومـيـات من سنـوات الرصاص
الطاهر محفوظي،
مطبعة القرويين الطبعة الثانية 2004