الشباب والعولمة
بقلم الأستاذ: نعمان عبد الغني


العولمة موضوع شامل ومعقد، إذا سلمنا بذلك فإن التفكير فيها يعني بالأساس التفكير في عنصري الإنسان والتكنولوجيا. فإذ كان التغيير المتسارع لاقتصاديات العالم والتأثيرات المتزايدة لوسائل الاتصال والمعلومات، أو ما يطلق عليه البعض بالثقافة الرقمية، يوحي باتجاه العالم نحو محاولة تحقيق توحد نمطي، فإن اختلافات عديدة اجتماعية، اقتصادية، تكنولوجية…الخ، تبرز بوضوح وتحتم معالجة مختلف نتائج العولمة ومدى قدرة الشعوب على التأقلم مع أنماطها الجديدة وكيفية ردود فعل الثقافات المحلية ومدى تفاعل مختلف الثقافات مع هذه الظاهرة.

إن العالم اليوم يعيش مخاضا كبيرا ويطفو على سطحه نمطان من الاتجاهات:

- نمط يدعو الى تكريس كل ثقافة محلية ويدعو الى مراجعة سياسات الانفتاح على الآخر الثقافي ويندد بنظام العولمة.

- نمط يدعو الى مزيد تفعيل الانفتاح الخارجي ويحاول احتواء كل ما يمكن أن يعطل مسيرة النظام العالمي الجديد. إن العولمة قد فرضت نفسها بكل ثقلها ولا مناص من الانخراط فيها، لكن القدرة على الاندماج تمثل أهم موضوعات التفكير والإهتمام وهي محل البحث الذي يمكن أن يكون محررا لإدراك مدى تأهل كل منخرط في العولمة وقدرته على البقاء. لذلك فإن الإنسانية في حاجة الى رؤية جديدة للعولمة، تتجاوز المنطق الاقتصادي والصراعات الإقليمية والنظرية الضيقة الداعية الى تكريس بقاء الأصلح حتى تخفض من حدة الصراع بين الثقافات وتقلص فوارق النمو بين الشعوب وتحقق مبدأ تساوي الحقوق وتمهد سبل التثقف عسى الإنسان يحقق التوازن من خلال العولمة. في هذا الزخم المتراكم من المفاهيم والأبعاد والعناصر المحيطة بظاهرة العولمة كمفهوم حضاري شامل، يتنزل طرحنا لعلاقة الشباب بالعولمة كظاهرة سوسيوثقافية تفرض نفسها انطلاقا من دور كل عنصر في تفعيل قيم المجتمع العالمي حاضرا ومستقبلا.

فما هو شكل العلاقة بين الشباب كمفهوم إجتماعي والعولمة كبعد حضاري ؟

أين هي الموضوعات التي كانت تثير الجدل في علاقات الشباب بالظاهر الثقافية الأخرى مثل الحداثة والمجتمع والهوية ؟

هل اندثرت كل المفاهيم الثقافية لتحل محلها مظاهر العولمة ؟

هل من الضروري أن ينخرط الشباب في العولمة ؟

وإذا كان لابد فما هي طرق الإنخراط وأشكاله ووسائله وحدوده ؟

هل أن الإنخراط وحده كاف لتحقيق التوازن الذي يبحث عنه الشباب داخل المنظومة الثقافية والرياضية والاجتماعية ؟ ما مدى حضور ظاهرة الشباب في تفعيل فكر العولمة ؟

هذه بعض التساؤلات التي تطرح في عالم إنساني يعيش حيرة أمام مستجدات الأحداث اليومية المتسارعة والمتراكمة والتي غالبا ما تبطل فاعلية الإجابة عن تساؤلات سابقة.

وسنحاول الاجابة بالتطرق الى نقطتين أساسيتين :

1- ضرورة الإنخراط في العولمة.

2- تحقيق التوازن الشامل من خلال القدرة على الاندماج في مجتمع العولمة.


I ضرورة الانخراط في العولمة

1- البحث العلمي التطور التكنولوجي: لقد تغير مفهوم العلم ووظائفه ونظرياته عبر العصور من التصورات الميتافيزيقية القديمة مع سقراط وأرسطو، الى المرحلة العقلية مع ديكارت، الى المرحلة العلمية أو الوضعية مع كانت ودوركاهيم و وغيرهم.فبعد أن كان العلم يعتمد تعليل الكليات والظواهر الطبيعية التي يعتمد فيها على النظريات الحسية باحثا عن اللاتناهي في الكبر أو ما يعبر عنه العلم بالبحث في الماكروفيزيا، تغير شكل البحث داخل الأجزاء الصغيرة من ذرة وغيرها لتصبح عالما شاسعا داخل جزء مادي متناه في صغره إذا ما تمعنا في مضمونه باعتماد الوسائل التكنولوجية. وبذلك اتجه العلم الحديث الى البحث في الميكروفيزيا، فبعد أن كان الباحث خبيرا في الظواهر الطبيعية بصفة عامة ومنشغلا بدراسة علاقة هذه الظواهر ببعضها البعض أصبح منشغلا بإحداها ليجد نفسه إثر ذلك باحثا في جزء محدود جدا منها مع أنه بقي وفيا لعملية الفهم والتحليل الذاتي. لكن يبدو أن التطور المطرد في مجال التكنولوجيا جعله غير قادر على إستيعاب وتحليل النتائج التراكمية للبحوث فأوكل هذا الدور الى الوسائل التكنولوجية هي التي تحدد النتائج العلمية وأصبحت العمليات المخبرية بمعزل عن الباحث، فيمكن أن يكون الباحث موجودا في تونس وتحليل بحثه يجري بإحدى المخابر الأمريكية أو قد يكون أودع التحرير بالمخبر وانتقل الى بحث آخر في إنتظار الحصول على نتائج البحث السابق، لم يعد الباحث في قطر واحد قادرا على إنجاز التجارب بمفرده بل هو في حاجة أكيدة الى مخابر وباحثين في بلد آخر ومن هنا تبرز فكرة عولمة البحث العلمي.

2- الثورة الإتصالية :أمام هذا التطور العلمي والتكنولوجي أصبح العالم قرية واحدة بفضل الشرايين الإعلامية التي انتشرت في مختلف أصقاع المعمورة، فما يحدث في إحدى دول أقصى الشمال يصبح بعد دقائق محدودة أن لم نقل أقل في متناول قاطني إحدى دول الجنوب والعكس يصح، بل أنه عبر الشبكات المعلوماتية مثل الأنترنات يمكن أن يطلع شخص على حدث في بلد أجنبي ويلم به قبل أغلبية قاطني ذلك البلد وسيطرت ثقافة الإتصال عن بعد وحلت محل الإتصال المباشر ومن ذلك مثلا التراسل والعمليات الجراحية عن بعد والتراسل الإلكتروني. ومن هنا اختزل الإنسان المسافات وغير جغرافيا التواصل وطور إستراتيجية العلاقات تحت ضغط وسائل الإعلام العالمية، فلم يعد الفرد أو المواطن في بلد ما أمام قناة واحدة بل أمام كم هائل من المعلومات، ومن هنا أيضا سارع الجميع الى تطوير وسائل ومصادر المعلومات لوقوف أمام الزحف الخفي والمعلن للإعلام الخارجي.

3- تغير النمط الإقتصادي العالمي: بظهور النظام العالمي الجديد، تحول الاقتصاد من التركيز على الجانب السياسي ومحاولة تكوين تكتلات اقتصادية ذات صبغة إقليمية وقارية وتعتمد بالأساس تدعيم مبدأ تحرير الاقتصاد وخاصة منها تحرير العملات الى معاملات إلكترونية وتحرير الإنتاج والسعي الى إكتساح أكبر عدد ممكن من الأسواق العالمية وتكوين مناطق حرة للتبادل الإقتصادي وهو ما أجبر أغلبية الدول على الإنخراط في عملية العولمة للمحافظة على توازن اقتصادها رغم ما قد يحمله ذلك من مخاطر على الأمد البعيد.

4- ثراء الفكر الإنساني ونماء المفهوم الثقافي للإنسان : إن الإنسان كظاهرة إجتماعية لا يمكن أن يكون محركا أساسيا لهذه التحولات دون التفاعل معها، فنضال الإنسان عبر العصور من أجل إبراز إنسانيته برزت نتائجه في هذه المرحلة، وأصبح بالتالي الهم الإنساني هو تدعيم الحقوق والمكتسبات الحضارية ودعم الحريات لدى مختلف الشعوب، بل أن هذه المبادئ أصبحت تمثل إحدى بنود الاتفاقيات والتكتلات الدولية، ويعتبر ذلك ثراء من حيث المبدأ رغم احتراز العديد على أشكاله وطرقه. كما أن القسط الأوفر في الإعلام العالمي يرتكز على حقوق الإنسان لدى مختلف الشرائح الاجتماعية والعمرية والقطرية، ورغبة في المحافظة على مراحل الإنتاج ومحاولة تدعيمها، تسعى مختلف دول العالم الى تدعيم مرحلة الشباب وذلك بتوفير مختلف الظروف الملائمة التي تساهم في دفع هذه الفئة إلى مزيد البذل والعمل باعتبارها الشريحة الخلاقة لكل مجتمع لمحاولة تجاوز عدة عراقيل متعلقة بوسائل الإنتاج والظروف النفسية والاجتماعية مثل الاغتراب وتدعيم المكاسب والحقوق من خلال تطبيق المعاهدات الدولية.

من هنا يبدو أن الانخراط في العولمة هو إحدى النتائج الحتمية للتحولات الحضارية السابقة بل هو إحدى مراحل النمو الإنساني وهكذا يجد الفرد نفسه في علاقة مباشرة بكل المجتمعات والشعوب بعد أن كان يتجه إلى العائلة فالقبيلة فالأمة … وبذلك تبدو مرحلة الشباب كمرحلة إنتاج هي المرحلة التي يمكن أن يحقق من خلالها المجتمع توازنا لنموه في مختلف المجالات، لكن ما هي وسائل تحقيق هذا التوازن في ظل نظام عالمي جديد يكرس مبدأ الكونية في كل المجالات؟

II تحقيق التوازن الشامل من خلال القدرة على الاندماج في مجتمع العولمة

إن قدرة العولمة والمحافظة على وجوده تحقق له التوازن الذاتي والإجتماعي من خلال عدة طرق نذكر منها :

1. الاتصال الثقافي Le contact culturel

الاتصال الثقافي ليس مجرد نقل لعناصر من ثقافة إلى أخرى وإنما هو عملية تفاعل متصلة بين جماعات من ثقافات مختلفة، ويطلق على هذه العملية في المفهوم الإنكليزي التثقيف من الخارج وبذلك وجب على الشباب المستقبل أن يسعى إلى تحقيق التواصل الثقافي مع الآخر ويتجاوز دور السكون والمتقبل المستهلك ليتحول إلى متقبل باحث عن الاتصال وواع بضرورته ومجالاته وحدوده فيصبح بذلك فاعلا داخل عملية التقبل أي واع بها. والواعي في عملية الاتصال الثقافي تحتم توفر النضج النفسي والاجتماعي المعرفي والإطلاع الشامل على ما يحدث في العالم ومواكبة التغيرات الحضارية لكل مجتمع، ومن هنا يمكن أن نحدد شكل التواصل ومدى القدرة على الإدماج في مجتمع العولمة.

2. الانتشار الثقافيDiffusion culturelle

هو مختلف العمليات المنظمة التي تؤدي إلى تشابه الثقافات في مجتمعات مختلفة على طريق آخر غير الاختراعمن هنا يمكن أن يبرز دور الشباب في تحقيق الانتشار لموروثنا الثقافي وإنتاجياتنا الاقتصادية وذلك على مستويات ثلاث:

أ. على طريق النقل المباشر لهذه العناصر مثل الهجرة والمحافظة على القيم المحلية ومحاولة إبراز عناصرنا الثقافية في بلاد المهجر وإقناع الآخر بجدواها وتكوين نواة للثقافة المحلية في ذهنيته.

ب. على طريق الجودة في الإنتاج والقدرة على تسويقه وجلب المستهلك وإقناع وإشهار المنتوج المحلي في الأسواق العالمية.

ج. عن طريق الصناعة الثقافية ومحاولة استثمار الظواهر الاحتفالية والعادات الاجتماعية في مختلف المجالات مثل السياحة والصناعات الحرفية ومحاولة استثمار الموروث المحلي وإبرازه باعتماد وسائل التكنولوجيا الحديثة مثل الأنترنات وغيرها ونشر الثقافة المحلية للشباب مثلما نتقبل مختلف السلوكيات الشبابية العالمية.فبقدر ما نهتم بالعادات السلوكية بل أحيانا ننبهر بها فإن الآخر ينتظر هو أيضا ماذا يجد من سلوكيات، بل أحيانا يسعى بدوره إلى الإطلاع بعض المعايير والأنماط التي تبدو لنا بسيطة وغير جديرة بالإبراز مثل العادات الشعبية التي يعيشها الشباب في ممارسته الاجتماعية وخاصة منها في الطقوس الاحتفالية.

3. التحكم في ناصية التكنولوجيا: وذلك بمحاولة استثمار وسائل التكنولوجيا المتاحة وتوجيه الاهتمام نحو الابتكار، فوسائل الاتصال اليوم قلصت إلى درجة كبيرة المسافات الفرد ومصدر المعلومات وبالتالي فإن معالجة عديد الموضوعات أصبح يسيرا، ولكن كيف يمكن للشباب أن ينتقي الغث من السمين في بحر يطفح بشبكات الاتصال؟

الإجابة على هذا التساؤل لا يمكن أن تكون إلا من الشاب نفسه لأنه وحده الذي يعيش حيرة الانتقاء، فإجابة أي طرف آخر عوضا عنه تعد إجابة على بمعزل عن ظروفها النفسية والاجتماعية أو ما يعبر عنه بالتفكير عوضا على الآخر، وهي حيرة لا معني لها إذا لم تكن ثرية المضمون حديثة النشأة واضحة الأهداف موغلة في عمق شخصية الفرد.

4. التكيف الاجتماعي الثقافي Adoption socio-culturelle

يقول رالف لنتن بأن التكيف الثقافي يربط بين العناصر الملحقة والعناصر الوافدة إما في كل منسجم تماما أو في منسجم تصحبه بعض الاختلافات التي تذوب أمام المواقف الرسمية، كما أنه يعتبر أيضا التكيف مفهوم أساسي في نظرية التطوروانطلاقا من ذلك فإن شاب اليوم مضطر على الانخراط مع الشاب الآخر في علومه وقيمه ومواقفه واقتصادياته وقوانينه، لكن شكل الانخراط هو الذي يحدد النتائج ومدى القدرة على التكيف والمشاركة في أوجه النشاط داخل الوسط الاجتماعي المحلي أو داخل المنظومة الاجتماعية الكونية ومن هنا يمكن القول بأن أشكال التكيف لدى الشباب هي إحدى العوامل التي ستجد مدى قدرة كل مجتمع على تحقيق التوازن داخل نظام العولمة إذا سلمنا بأن الشباب يمثل مرحلة العمق في المجتمع، لكن ما هي الوسائل لتكريس هذا الفهم في ذهنية الشباب؟

هل هو مستعد لتقبل هذه المفاهيم وهل هذه المفاهيم كفيلة ببلوغ الشاب إلى ضالته أمام التغير المتسارع للأحداث والقيم والمعايير العالمية؟

وهل من تشخيص واضح لظاهرة العولمة حتى نتمكن من إيجاد الحلول الكفيلة لتحقيق التوازن داخلها؟

من خلال تطرقنا إلى هذا الموضوع يبدو أن الفهم لا يحتمل السكون وكل فرضية تتحول إلى نتائج لتصبح بدورها فرضية مركبة والإجابة عنها تزيد في التشعب والغموض وربما هي أهم مميزات عملية الفهم لظاهرة العولمة وعناصرها