المرحلة الثانية


المرحلة الثانية


المرحلة الثانية

المرحلة الثانية من
(محاور في المقام العراقي)



2009



محاور في المقام العراقي
دراسة بحثية متسلسلة لمحاور تخص شأن
غناء وموسقى المقام العراقي
يـكـتبها في حلقات

مطرب المقام العراقي
حسين اسماعـيل الاعـظمي


الاردن / عمـَّان
كانون الثاني January 2009
اليكم أعزتي القراء في الصفحات التالية
المرحلة الثانية من (محاور في المقام العراقي) التي تم نشر تسعة عشر محورا في المرحلة الاولى من العام الماضي 2008 ، وها نحن نستهل عامنا الجديد 2009 بالمحور رقم (1) والمحور رقم (2) والمحور رقم (3) والمحور رقم (4) والمحور رقم (5) والمحور رقم (6) تكملة لمحاور المرحلة الاولى واستهلالاً للمرحلة الثانية .. وهذا المحور رقم (7) مذكــِّراً ، في حال فقدان أية حلقة من حلقات المحاور في مرحلتها الاولى والثانية أن تكتبوا إليَّ لأرسلها إليكم

***

أو الذهاب الى موقع كوكل google والبحث عن (محاور في المقام العراقي) او (محاور في المقام المرحلة الثانية) حيث تجدون كل المحاور منشورة في المواقع والشبكات الالكترونية مع الشكر والتقدير لكل اخوتنا واصدقائنا في هذه المواقع والشبكات


المرحلة الثانية
من المحاور المقامية


المحور رقم
(7)


Hussain_alaadhamy@yahoo.com

00962795820112


المحور رقم
(7)
********
فــــريدة
( 1963- م)
تضمن فن تراثنا الغناسيقي – المقام العراقي – مطلع القرن العشرين ، أفاقا أساسية تبلورت من خلال الظروف التي مر بها الغناء المقامي في القرن التاسع عشر وفي نصفه الثاني على وجه التحديد .... وإذا استثنينا المطرب الكبير محمد القبانجي ( 1901- 1989) فسوف نرى ان فن الغناء المقامي في هذه الحقبة ، لم يكن متفوقا في نواحيه الفنية ، ولكنه كان قد وصل إلى درجة محددة من حيث الشكل يرضى به جمهوره آنئذ ، غير ان اذواق الجمهور وجمالياته ليس لها استقرار وليس لها ثباتاً وهذه طبيعة الحياة ... فكان ان لجأ المبدعون كما اسلفنا في التجويد والتعبير بالاداء والاجتهاد في تلمس منفذا يواكب التطور الحاصل.... ولم تكن هناك قصور من قبل الاتجاهات الجمالية، سواء في الاتجاه الكلاسيكي او الرومانسي او الواقعي او غيرها في الغناء المقامي... فظل اسيراً للتقليد المتوارث بالرغم من ان الايام تسارعت وهي حبلى بالتطورات والتقدم التقني، والأحداث السياسية والاجتماعية... الا ان المقام العراقي مع كل ذلك، بقي موضوع اهتمام كبير من لدن الجماهير... كما ان بوادر التطور السريع قد بانت في الافق، خاصة بعدما وصل الغناء المقامي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الى ذروته في التعبير... لذا تململ المبدعون من المجددين صوب التعبير الجمالي وهيكلة الغناء بطبيعة الامر.. حقا كانت اللغة الادائية للمقام العراقي قد وصلت الى ذروتها في الصدق والتعبير عن الحقبة او الحقب التي مر بها العراق ثقافيا واجتماعيا .. ولكن لم يحاول المؤدون المقاميون بصورة عامة .. تحسس طريقهم للوصول الى مقومات فنية متطورة لغنائهم المقامي الحقيقي .. فن خاص بهم .. فن يحسون انه فنهم وشخصيتهم .. ولم يتمكنوا من الوصول الا الى مستوى بسيط من الفن والعلمية , فاعتمدوا على الفطرة والخبرة التي يمتلكونها .. !
على اية حال .. ان فن هذا الغناء الذي تطور وبرز في القرن العشرين , يدين بالفضل للحقب التي سبقته في القرن التاسع عشر .. لأن اصول هذا الغناء عميقة في احاسيس ومشاعر المغنين والموسيقيين وابناء البلد جميعا .. مما يدلل لنا عن وجود الاصالة الفكرية والاصالة الغناسيقية , المتأصلة الجذور , خاصة بأبناء بلدهم العراق ..

ان هذه الاسطر , مجرد توضيح بسيط يتخلل السكون الذي كان منذرا بتغييرات وتطورات جديدة ظهرت بصورة اوضح مطلع القرن العشرين .. منذرا بكشف الغموض الذي يكتنف الوجود النسائي الهارب من الحياة .. وعليه فان احد الاستحواذات الرئيسة في هذه الاوضاع الفنية , بدا بالظهور عند التطور التكنولوجي الاخذ بالسرعة بصورة مستمرة .. وفي الصراع الذي احتدم بين الطرق الغنائية المقامية وخاصة طريقة رشيد القندرجي (الطريقة القندرجية) وطريقة محمد القبانجي (الطريقة القبانجية) وكذلك ظهور المرأة لاول مرة على مسرح الاحداث كظاهرة جديدة .. اذ يبدو ان تاثير صديقة الملاية وسليمة مراد وسلطانة يوسف وزهور حسين ومائدة نزهت ولميعة توفيق وهناء وانوار عبد الوهاب وانيسة ورند دريد وفريدة محمد علي وسحر طه وغيرهن .. بارز في فن الغناء المقامي كتجربة نسوية رائدة طيلة القرن العشرين .. وكذلك يجب ان نتذكر , ان مواهب هؤلاء النسوة المغنيات .. وامتلاكهن مقاليد التطور المتواصل عبر جيل كل مغنية منهن .. ومن ثم مقاليد وناصية التاثير في الاتجاهات الجمالية عموما .. اصبح امرا مفروغاً منه , بعد ان اقتنع المجتمع بان النسوة من الفنانات المغنيات قادرات على الوقوف بثقة وعلى التقدم والتاثير بعد ان اجتزن مرحلة التاثر .



صورة / فريدة وفرقتها الموسيقية
من اليسار محمد كمر,وسام ايوب , عبد اللطيف سعد , ايهاب وسام

ونحن نتواصل في حديثنا عن ابرز المغنيات المقاميات , يصل بنا المطاف الان الى مطربة من الاجيال المتاخرة .. فريدة محمد علي .. لنتحدث عنها وعن اهم نتاجاتها الغنائية المقامية .
ولدت فريدة في مدينة كربلاء من محافظات وسط العراق عام 1963 .. ونشات في اسرة تشجع ممارسة الفن .. كان والدها يعمل مترجما للغة الفارسية في دار الاذاعة العراقية.
عُرِفتْ فريدة , اول ما عُرفتْ في صغرها , تلميذة منشدة في فرق المدارس الابتدائية والمتوسطة والفرق الجماهيرية التي قادها الفنان الكبير فاروق هلال في السبعينات والثمانينات .. وقبل كل ذلك وهي في فتوتها انضمت إلى فرقة الفنان الكبير الهام المدفعي , الرائد الفنان.. للفنانين الذين مزجوا وقدموا ألاغاني التراثية مع الباند الغربي والموسيقى الغربية .. فكانت هذه اول تجاربها الفنية الاحترافية وهي في وقت مبكر من عمرها .
وفي الوقت الذي كانت فيه فريدة تلبي طموحاتها الفنية وتمارس هوايتها ورغبتها في الغناء وفي هذه الفترة من عمرها التي يمكن اعتبارها بداية مسيرتها الفنية .. نجد الى جانب ذلك, انها كشفت لنا عن موهبة اصيلة وجيدة بصوتها الواعد .. خاصة في الغناء التراثي.. فكانت تجربتها مع الفنان الهام المدفعي وفرقته – الباند الغربي في عقد السبعينات – وغنائها لمجموعة من ألاغاني التراثية ومقاطع صغيرة من المقامات العراقية وخاصة منها مقام الدشت الذي تغنيه باسلوب خاص تماما , مازجة التعابير الفارسية بالتعابير العراقية لنحصل في النهاية على مقام دشت خاص وجميل باعتبار ان والدها من اصل فارسي ووالدتها من اصل اذربيجاني فاختلطت التعابير هذه في البيئة العراقية البغدادية , وعليه فان فريدة تمتلك اسلوبا خاصا بها .. انها تجربة ناجحة بمقاييس نسبية انئذ.. وفي هذه الفترة او بعدها بقليل , جاء بها المرحوم منير بشير الى فرقة التراث الموسيقي كموهبة واعدة اذ طلب مني حينها ان ادربها واعلمها بعض المقامات العراقية .. وبعد فترة ارتاى الفنان منير بشير انه يتوجب على الفنانة الفتية ان تتدرب برفقة الة موسيقية تراثية , وهكذا كان , فاعتنى عازف السنطور في الفرقة الفنان سعد عبد اللطيف صدقي العبيدي بهذه الموهبة فانتظمت تدريباتها . وبذلك أخذت فريدة فرصة أخرى من التعلم لتتمرن هذه المرة مع آلة موسيقية تراثية مع ملاحظات سعد عبد اللطيف الفنية الذي كان قد تخرج من معهد الدراسات النغمية العراقي توا وبالمقابل عدم انتظام تمريناتي لها واكتفت بتمارينها مع آلة السنطور. وبمرور الزمن , اصبحت فريدة زوجة لسعد عبد اللطيف الذي استطاع ان يصنع المناسبة والاهتمام بتوجيه زوجته الفنانة بالتدريبات المقامية مع الآلة الموسيقية .. انطلق من عواطفه الدفاقة . من تصميم عالمه الخيالي .. واستقى خيالا أرحب فسبح في فضائه مستصحبا زوجته الفنانة .. وتفيد مفردات حياة الفنانة فريدة , ان ثمة تقاطع في انسيابية عالم زوجها .. فعالمه الخيالي العاطفي صادق مترع بالاصالة والود .. اما عالمه الواقعي فشتّان بينهما .. وهنا برزت موهبة اخرى لفريدة تمثلت في سعة اداركها وهدوئها فاظهرت رضاها عما يسمى ( بالتقاطع ) بغية ان تستطيع توحيد كل الامتدادات الممكنة للجو الخيالي الجديد بسخرية ضمنية من التقاليد .. وهي تمتلك نبوغا وقوة تأثير .. ولكنك تقف عاجزا امام ظروف قاهرة , قهرتك وشلت إرادتك , وهذا ما حصل لفنانتنا القديرة .. فبعد ما اثمرت العلاقة الزوجية عن ولد جميل أسمياه ( عبد اللطيف ) عام 1979 شاءت الرياح معاكسة السفن , وزوبعة تكفي لان تعود الفنانة كئيبة تعيش لولدها الرضيع .. بعد ان فقدت زوجها في الحرب العراقية الايرانية ولم يعرف مصيره حتى الان .


صورة / فريدة وزوجها محمد كمر

بسبب ظروفها الخاصة , ابتعدت عن فرقة التراث والغناء فترة قاربت الخمس سنوات .. ولكن حنينها الى الفن وموهبتها الكامنة كالضمير المستيقظ , دفعاها الى العودة بعد أن أصابها اليأس من عودة زوجها .. وكانت عودة ميمونة , اذ كانت مدروسة , فقد انضمت الى معهد الدراسات النغمية العراقي كطالبة رسمية فيه.
أحست فريدة – بان الحياة تبتسم لها من جديد .. وتلهيها وتمنعها من اجترار الماضي الموجع .. فقد تعرفت في المعهد على زملاء طيبين خففوا عليها وطأة الذكرى المؤلمة , فكان الطالب كاظم الساهر الذي اصبح علما بارزا محترما يفتخر به العراقيون والعرب , زميلا ودوداً لها , وكذا الفنان محمود انور واحمد نعمة ونصير شمّة ..و..و.. وغيرهم الكثير من طلبتنا في المعهد ممن اصبحوا من الفنانين المشاهير.. تلمست جراحها ففرحت اذ وجدتها قد التئمت وباتت ذكرى لا اكثر, ياخذها الاثير ويذهب بها بعيدا .. الى حيث لا عودة لها .. قالت وهي تناجي ذاتها ( الم اقل لك ان الحياة بدات تبتسم ..!! ) وكانت على حق في تحليلها وفي حدسها اذ تودد اليها الكثيرون ولكن حظها ونصيبها دلتاها على زميلي في الهيئة التدريسية الفنان الكبير محمد حسين كمر , فارست زورقها عنده , فكان هذا الفنان الدؤوب .. شعلة من نشاط وطموح , خير حبيب لها وسند .. وبالتالي زوج هندس وما زال يهندس لها مسيرتها الفنية ويرتب لها شؤونها .. سلمت له مقاليد العقل والروح فمنحها طفلة جميلة – ثريا – واستمر التلاقح الفني عامرا بين الفنانين الزوجين , وبرعت في غنائها للاغاني والمقامات .
* * * *
عندما انضمت فريدة الى معهد الدراسات النغمية العراقي منتصف الثمانينات , كنت حينها لم ازل مدرسا في المعهد لمادة المقام العراقي وعلقت فريدة بقولها موجهة كلامها إلي ( وهكذا رسم القدر على ان تصبح استاذي مرتين وانا ممتنة له بالتاكيد ..) فصمتت لحظة لتواصل بعدها ملتقطة مفردات محدودة تصر على اسنانها عند النطق بها تعبيرا عن صدق لم يغادرها ساعة حتى يلجأ اليها مسرعا فتقول وكانها تستدرك امرا مسرعا به ( وانا ممتنة لك ايضا لانك منحتني هذا الشرف ) وكلامها هذا يعبر عن ادبها من ناحية وعلى وفائها من ناحية اخرى .. ومن خلال المعهد اصبحت دروسها منتظمة بطبيعة الحال .. وهكذا تعلمت فريدة مقامات عديدة وصلت الى الاربعين مقاما طيلة تلمذتها التي امتدت لست سنوات دراسية, وللحقيقة اذكر, بما اني اعرف فريدة سابقا.. عندما جاء بها الفنان منير بشير اواخر السبعينات لأُعلِّمها بعض المقامات في فرقة التراث الموسيقي العراقي , فاني على علم بموهبتها وعلى دراية بما تحتاجه لصقل هذه الموهبة , فلم اكن مدرسها الرسمي في المعهد فحسب.. بل كنت مرشدا ومعينا واخا على معرفة وقناعة بما يفعل .. فاستطاعت والفخر لها .. خلال سنوات دراستها ان تصبح مطربة مقامية يحسب لها حسابا كبيرا .. وبهذا تكون فريدة قد امتلكت الريادة بين قريناتها ممن أدَيْنَ المقام العراقي من النساء, على انها اول مطربة مقامية تحصل على شهادة دراسية اكاديمية في الموسيقى .. عوضا عن ادائها للمقامات باصولها التقليدية.. هكذا اذن استمرت مسيرة فريدة في هذه الفترة بمسار تصاعدي تدريجي ونشاط هادئ حكيم.. وهكذا ايضا تكون فريدة , قد ابرزت سمات حقبتها الزمنية ( حقبة النضوج ) التي تلت حقبة التجربة من تطور فنوننا الموسيقية في العراق .. وأعطت من تجربتها للفن الغنائي قسطا وافيا .. وقد كان لوجود الفنان محمد حسين كمر ايضا الى جانبها , امرا اكد تطورها الفني التصاعدي ممتزجا بتجربتها ورؤيتها الواعية , وهكذا أحيطت فريدة بأساتذة كثيرين تلمذت على ايديهم في الدروس الموسيقية الاخرى .. وكانت فريدة على موعد مع الابتسامة الدائمة .. والموعد قد ازف فقد اعلن عن اقامة حفلة كبيرة لطلبة واساتذة المعهد على مسرح الرشيد ببغداد , وكان ذلك عام 1985 وفريدة لم تزل في الصف الاول او الثاني من دراستها في المعهد , وقد كلفتُ من قبل الادارة ان أهيأ احد المقامات لفريدة كي تغنيه في الحفلة , وكان الاختيار مقام الاورفة .. ولضيق الوقت زمنذاك , فقد سجلتُ لها مقام الاورفة بصوتي وطلبت منها ان تحفظه نصا – كلاما ولحنا – وكان الامر كذلك , عندها قــــلتُ لها ( اختاري قصيدة اخرى غير التي حفظتيها وغني هذا المقام وتصرفي كما تشائين ) .. لاني ادركت انها حفظت فورم هذا المقام من خلال حفظها للمقام المغنى بصوتي والذي حفظته نصا .. وكنت واثقا انها ستضيف من عندياتها اشياء لحنية جميلة .. وفعلا كان الامر كذلك .. فقد اختارت فريدة قصيدة الشاعر الكبير معروف عبد الغني الرصافي ..

رقت بوصف جمالكَ الأقــوال وراتكَ فافتتنت بـكَ العذال
وهب الاله بكَ الجمال تجمــلا حتى كانكَ للجمــال جمال
لو كنت في ايام يوسف لـم تكن بجمال يوسف تضرب الامثال
عجبا لطرفكَ وهو اضعف ما ارى يرنو فترهب فتكه الابطـال
غنت مقام الاورفة هذا وهي تترنم بكلمات الرصافي العذبة , وقد نجحتْ فيه نجاحا كبيرا حتى اعيد من القناة التلفزيونية مرات عديدة , وفيه برزت شخصيتها الفنية وامكانيتها الغنائية , وبهذا المقام تكون فريدة قد اعلنت نفسها مطربة مقامية بارزة ومؤثرة ضمن مسيرة التجربة النسوية في الغناء المقامي .
ان مقام الاورفة هذا يعتبر نصرا للتجربة النسوية في الغناء المقامي .. فقد غنته فريدة بنجاح وبمقاييس عديدة , بمنهجها القائم على الطبيعية في التعبير المقامي التي امتلكتها عفويا من نشأتها وبيئتها ، ولدى تكرار سماع هذا المقام من حنجرة هذه الفنانة الموهوبة , لا يجد السامع لها إلا أن يقف احتراما وتقديرا لها.. على الاقل نسبة لتجربتها زمنذاك ..
ورغم ان فريدة لم تزل في شبابها , الا انها غنت مقامات عديدة , اظهرت فيها امكانيتها المبكرة في غناء عدد كبير من المقامات حتى الرئيسة منها .
ومرة اخرى اتذكر , ان فريدة جاءتني الى الدرس وكانت آلة الجوزة بيدي , وتحدثت معها حول امكانية صوتها ومحاولة غنائها لبعض المقامات الرئيسة والكبيرة , ذات المساحة الصوتية الكبيرة , وجربنا مقام الحجاز ديوان .. فكان في امكانها ذلك .. حجاز على درجة النوى , ولكنها لم تغني هذا المقام الا عام 2000 في الجزائر .
وهناك ريادة اخرى لفريدة عندما اصبحت مدرسة للمقام في المعهد بعد تخرجها , وكنت قد رشحتها لهذه المهمة بموافقة المدير العام للدائرة الفنان الكبير منير بشير مع آخرين من زملائها الخريجين وهم عوني قدوري وموفق عبد الهادي ومحمود حسين , بعد ان كنت قد حصلت على اجازة دراسية داخل العراق اواخر الثمانينات وكان معي في هذه الاجازة زوجها الفنان محمد حسين كمر , وعليه فان فريدة تكون اول امرأة تدرس المقام العراقي ...
على اية حال .. ان زواجها الثاني من الفنان محمد حسين كمر كان حاجة فنية قصوى لضمان استمرار مسيرتها في تصاعد مستمر , فقد اصبح هذا الفنان مدرسا موسيقيا وملحنا مقاميا نادرا اضافة الى الحانه الحديثة , وعازفا لالة الجوزة وعدة الات اخرى وموزعا موسيقيا وقائدا موسيقيا لفرق عديدة وكاتبا للنوتة بصورة ممتازة .. انه فنان متمكن وشامل..

نظرة فنية لنتاجات فريدة
ان النتاجات الفنية المقامية التي انجزتها فريدة عقب ادائها الناجح في مقام الاورفة , كانت تقترب كثيرا في جودتها الفنية والادائية من نجاحها في مقام الاورفة هذا , وعلى العموم يمكننا القول ان فريدة في فترتها هذه – بعد منتصف الثمانينات – كانت قد اكتسبت فيها الكثير من الثقافة الفنية التي حصلت عليها خاصة من تـلمذتها في المعهد , موسيقية وغنائية , وجاءت هذه الثقافة متنوعة غنية في شكلها ومضمونها وقد سارت في اتجاهين .. اتجاه ينطوي على التزامها بالاصول المقامية التقليدية والتاريخية , وهو ما تعلمته فعلا من دراسة المقام لست سنوات دراسية رسمية في المعهد ، واربعين مقاما عدد المقامات لمنهاج هذه السنوات التي قمت بتدريسها وتعليمها كل هذه الفترة .. واتجاه ينطوي على تعابير ادائية معاصرة لحقبتها تتطلع الى الانفتاح وتسعى اليه .. والى جانب هذه المقامات التي اجادت فيها فريدة , فقد تطرقت الى الاغنية الحديثة, خاصة وان زوجها من اهم فناني العراق في التلحين المقامي والغناء الحديث ومن هذه الاغاني – احلى عتاب – وهي اول اغنية لها , كتب كلماتها نزار جواد ولحنها الفنان الكبير محمد حسين كمر, وهي من المضمون التعبيري لمقام الخنبات .. بداتها فريدة ببيتين من الشعر الفصيح .. وكان ذلك عام 1985.
كانت المقامات والاغاني التي سجلتها فريدة بصوتها في عقد الثمانيات اعتبارا من مقام الاورفة وما جاء بعده .. قد صورت الواقع المعاصر في شمول تقريبي وواقعية ، وفي اداء نسوي نادر وجميل . والى جانب ذلك، جسدت هذه المقامات والاغاني في نفس الوقت مشاعر واحاسيس الفنانة فريدة متلائمة مع كتابها وملحنيها، حيث ظهرت هذه النتاجات كنسيج مركب من كل هذه العناصر، فلقد جمعت هذه النتاجات في تناسق وتناسب بين الذاتية والموضوعية في التطوير وبين العاطفة والحياة المعاشة وهي تروي هذه التأملات من بداية النتاج حتى نهايته ، ونحس بكل ذلك في اغنيتها الاولى – احلى عتاب .





بيتين من الشعر مع اغنية احلى عتاب

والى جانب ذلك ، لعب الظرف المحيط الذي عاشته فريدة اعتبارا من منتصف الثمانينات دورا مساعدا في بلورة افكارها وفنها الشخصي ، فقد كان المعهد بطبيعة الحال جوا علميا موسيقيا فنيا ، يتواجد فيه الكثير من الاساتذة ، الكثير من النشاطات الرسمية وغيرها ، وكان ذلك قد اضاف لفريدة الكثير في ترصين تجربتها الفنية مما اضفى على نتاجها قيمة محسوبة وفنا جيدا ... وهو ما نلاحظه في اغنيتها .... عليش تغيب عني .


وهكذا كانت ألاغاني الأخرى مثل أغنية – ما اصبر-

اغنية ما اصبر
كلمات – محمد المحاويلي
الحان وتوزيع – محمد حسين كمر
ما اصبر بعد على الّي جرالي وحدك عايش بفكري وخيالي
يلوموني الميدرون
واذا عني يسالون
حال أمفارگ ومهوم حالي

ياما تحملت منك اذية
ظالم ما عرفت شصار بيه
انت والزمن صرتوا عليّ
اوديلك سلامات
بجناح الحمامات
وانت بعيد عني ولا ابالي
صارحني اذا عندك شجاعة
واذا لهسّة ما عندك قناعة
ردت منك تفرح القلب ساعة
تخلي الرّاح عَلْراح
وتبدل احزاني افراح
تغنيلي مواويل وليالي وغنيلك عتابة بسهر ليلي

واغنية اخرى من الشعر الفصيح كتبها اسعد الغريري ولحنها ووزعها زوجها محمد حسين كمر . انها اغنية – حبيب الأمس-

اغنية حبيب الامس
شعر اسعد الغريري
الحان وتوزيع محمد حسين كمر

لك بعد الان
ان تختار من شئت وتحيا كيف ما انت تشاء
لك ان تبقى بعيدا عن عيوني مثل كل الغرباء
ربما في البعد عني
تلتقي في الناس انسانا .. يعِّلمـــك الوفاء

ياحبيب الامس
لم يبقى من الامس سوى خيط دخــــــان
لا تقل للناس بعد الان كنا فانـــا بنت الاوان
كل ما كان ولى وتوارى اليوم من عمر الزمان

كم تجاهلت فؤادا
كان قد فاض به الشوق اليك
وتناسيت على
جهلك اياما همت سهدا عليك
ربما ابكيك لكن
في عيون دمعهـا في مقلتيك

على الإجمال ، ان هذه الأغاني التي لحن معظمها ووزعها زوجها الفنان محمد حسين كمر، تعتبر خطوة كبيرة في سلم الابداع التلحيني ، خاصة وان هذا الملحن الكبير كان قد استقى الحانه من صميم التعابير المقامية العراقية ، حيث عبر عن روح هذه المقامات بالحانه الجديدة الخلابة التي تجسدت في صوت المطربة الكبيرة فريدة محمد علي ، بأداء فريد، وتعبير متقن.
انه لمن المؤكد ان لايكون من قبيل المصادفة ان تأت نتاجات فريدة المقامية وهي تؤكد اهتمامها بالشكل المقامي وهو ما نقصده اهتمامها بالآصول الادائية التقليدية للمقام العراقي متماسكة في بنائها التقليدي ، وكيف لا يكون ذلك وهي خريجة معهد الدراسات النغمية العراقي المتخصص بدراسة الموسيقى والغناء التقليدي للمقامات العراقية . اضافة الى انها اخذت على عاتقها مهمة تدريس المقام العراقي من بعدي ، ففريدة التي ذاع صيتها في اداء المقام العراقي بعد غنائها لمقام الاورفة 1985 في مسرح الرشيد الذي جاءت تعابيره واداءه بصورة عامة خطوة كبيرة للامام في مسيرة التجربة النسوية في الاداء المقامي ، وهو في نفس الوقت نجاحا كبيرا لفريدة وهي تشق طريقها وسط مؤدين مشاهير كبار.... ورغم ان نتاج فريدة ما يزال مستمرا ولم يتوقف بعد ... لكنها اعطت للاداء المقامي والتجربة النسوية نتاجات غنية ومتنوعة وما زالت مستمرة بهذا العطاء .... وقد اصطبغت نتاجاتها المقامية بصورة عامة بنغمات الحزن والشجن والتطريب التي ليس من العسير فهم دوافعها اذا عرفنا ظروف حياتها التي تتصل بتعابيرها الغنائية.
ان الاغاني الجديدة التي غنتها فريدة مثل اغنية – احلى عتاب- عليش تغيب – ما اصبر- حبيب الامس وغيرها ، تتميز جميعها بهويتها العراقية في منحاها التعبيري وبنائها اللحني وجمال الكلمات المغناة . وهكذا تكامل انتقاء اللحن والكلام والاداء ذو النظرة الثاقبة في عكس واقع الحياة المعاشة في فترتهم جميعا كشاعر وملحن ومؤد.
اما في المقامات العراقية ، فقد انجزت فريدة غناء مجموعة منها لم يسبق لاي مطربة مقام ان ادت بهذا العدد وهذا الالتزام بأصول المقامات التقليدية ... انها خطوة كبيرة في مسيرة التجربة النسوية ... ثم ان فريدة لم تكتف بالعدد الكبير في ادائها للمقامات ، بل انها ادت مقامات صعبة الاداء، او بالاحرى غنت بعض المقامات الرئيسة مثل مقام الحجاز ديوان ومقام العجم عشيران اضافة الى مقامات مهمة اخرى مثل مقام الخنبات ومقام المخالف ومقام النهاوند ومقام الشرقي رست ومقام البنجكاه ومقام الشرقي دوكاه ومقام الدشت ومقام اللامي ومقام الكرد ومقام الحجاز كار ومقام الحويزاوي ومقام الهمايون ومقام المدمي ومقام الاوج ومقام الحكيمي ومقام الاوشار ومقام الجمال وغيرها.... مع ادائها لقالب الشعر مع الابوذية من سلالم موسيقية مختلفة مثل البيات والصبا والحجاز والسيكاه... وهذه المقامات تميزت جميعها بتعابير المرأة المعاصرة .
وفي العقد الاخير من القرن العشرين ، الذي كانت فريدة فيه قد احترفت الغناء وانطلقت الى العالم بعد سعيها الحثيث في تنمية ثقافتها وتجربتها في عقد الثمانينات ، استطاعت فريدة ان تغني في بقاع كثيرة من العالم وبأشهر المهرجانات الدولية رغم فترة الحصار الظالم الذي فرض على بلدنا ... وعلى هذا الاساس تكون فريدة في هذا العقد من اواخر القرن العشرين قد وصلت الى ذروة نضوجها الفني حتى هاجرت وعائلتها وفرقتها الموسيقية الى هولندة واستقر بهم المقام هناك الى الان . ومن هناك بدأت مرحلة جديدة من النشاط الفني واقامة الحفلات الخارجية والمشاركة في المهرجانات الدولية – وفي هذه السنوات التسعينية غنت فريدة مقام الاورفة مرة ثانية ولكن بقصيدة اخرى لشاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري وهو يتغنى بدجلة وبغداد . ثم اتبعت فريدة هذا المقام باغنية مناسبة هي الاخرى تتغنى بنهر دجلة الخالد.

وقد أبدعت فريدة في هذا المقام كما كانت في ادائها في مقام الاورفة الاول في الثمانينات .... وكذلك غنت مقام الحكيمي واتبعته بقالب الركبانية التي اسهبت فيها على غير المعتاد ، حيث تؤدي الركبانية عادة في اخر مقام الحكيمي وبآخر شطرين من شعر الزهيري المغنى ولكن فريدة فعلت كما فعل المطرب الكبير ناظم الغزالي من قبل حين ادى الركبانية بمعزل عن شعر الزهيري المغنى في مقام الحكيمي واتبعه بعتابات اخرى بقالب الركبانية ، وهكذا كان الامر عند فريدة حيث سارت على نفس المنحى هذا فغنت الركبانية ببعض العتابات بعد ادائها الشعر الزهيري الذي خصصته لمقام الحكيمي الذي كتبه نزار جواد.


وفي مقام الخنبات المؤدى اصلا من قبل مطرب الاجيال محمد القبانجي والقصيدة الشهيرة للشاعر خضر الطائي ، غنت فريدة هذا المقام وهذه القصيدة وهي تعبر عن غربتها وبعدها عن الوطن ، فكان اداؤها دواء لداء..


وبشعر الزهيري ، كتب لها الشاعر زاهد محمد زهدي شعرا مناسبا أدته في مقام الكرد....

وفي مقام اللامي المؤدى هو الاخر من قبل مطرب الاجيال محمد القبانجي بالقصيدة ادناه وقد اعادته فريدة لحلاوة هذا المقام ولكن بتعابير امرأة تعبر عن الحنين الى الوطن وهي بعيدة عنه في غربتها....


ولعل إنجاز فريدة الأهم في كل مسيرتها المقامية هو غناؤها لمقام الحجازديوان الذي يعد من المقامات الرئيسية والصعبة في سلسلة المقامات التقليدية الصارمة في اصولها المتبعة ، وهو نفس المقام ونفس القصيدة المؤدى اصلا من قبل استاذها - كاتب هذه المحاور المقامية - بقصيدة الشاعر البهاء زهير.
وبهذا المقام تكون فريدة قد تجاوزت كل سابقاتها من المؤديات المقاميات اللواتي لم يسبق لهن ان غنين مقاما بهذا الحجم وبهذه الامكانية، فكان إضافة كبيرة تضاف الى مسيرة التجربة النسوية في الاداء المقامي، يضاف الى ذلك ان فريدة قد غنت مقامات أكثر عددا وأفضل نوعية ...

نهاكَ عن الغوايـةِ ما نهاكـــا وذقتَ مــن الصـبابةِ مـا كفاكـا
وطالَ سُراكَ في ليلِ التصـــابي وقــد اصبحتَ لم تُحمدْ سُراكـــا
فلا تجزعْ لحادثةِ الليـــــالي وقليّ ان جـَـزِعتَ فمـا عساكــا
اراكَ هجرتني هــجراً طويــلا وما عـودتني من قَبلُ ذاكـــــا
فكيف تغيـرت تـلك السجــايا ومـن هــذا الـذي عـني ثناكـا
فيا من غـاب عني وهو روحي وكيف أ ُطيقُ مـن روحي الفِكاكــا
يعزُّ عليّ حين أ ُديـرًُ عـــيني افـتشُ في مكــانِكَ لا اراكــــا

لقد اجتذبت مثل هذه المقامات الرئيسة والثقيلة اهتمام المطربة الكبيرة فريدة محمد علي ، لا لكونها تمثل تحديا لكل المؤديات اللواتي سبقنها ، بل ايضا لوفرة امكانياتها الصوتية التي تتسع لأداء مثل هذه المقامات ، وعندما التقيتُ بالفنان محمد حسين كمر في مطار ديغول بباريس ونحن نتوجه الى مهرجان سان باولو بالبرازيل في نيسان 2001 وكان قادما من امستردام لينضم الى فرقة الكندي التي ستكون برفقتي في حفلاتي بالمهرجان، اثنيت على هذه الاعمال المقامية ، وطلبت منه نقل تشجيعي هذا الى الفنانة الكبيرة فريدة لمواصلة السير على هذا المنحى واستغلال صوتها المقتدر في اداء مقامات اخرى مثل مقام الرست والنوى وباقي المقامات الرئيسة الاخرى الزاخرة بالاصول التقليدية التاريخية ، وبذلك تثبت فريدة بانها على قدر كبير من الجرأة والمثابرة والقدرة على خوض المغامرة وهي على وعي كامل بامكانياتها كما يبدو.
ان التعابير المقامية في اداء فريدة ، تبرز بكل خصائصها الاقليمية وملامحها المميزة ، ولكن بالرغم من كل ذلك ، انها تكثر في غنائها للمقامات الفرعية خاصة بوصفها مقامات فيها جزء وافر من حرية التصرف الادائي الخاص لبلورة مسارات لحنية ملائمة ومن صلب المقام المغنى ، تكثر فريدة فيها من الصيحات الغنائية العالية ، بمناسبة وبغير مناسبة ، وكأنها تريد ان تقول ان امكانيتي الصوتية قوية وتصل الى طبقات عالية ...
وهذا هو استعجال واضح في اظهار الامكانيات التي هي من حق أي مغني ابرازها ، ولكن الحكمة في البناء اللحني مطلوبة بل ضرورة من ضرورات الاداء الناجح ، فلا بد اذن من وضع هذه الصيحات وحتى القرارات في اماكنها الفنية والذوقية المناسبة. ارجو ان تنتبه لذلك وقد سبق وان قلت لاخي محمد ذلك اكثر من مرة .
ان اسلوبها الغنائي الذي تجسد في غنائها للمقامات والاغاني التراثية والحديثة قد لقي تطوراً بمرور الزمن وزيادة التجربة والخبرة واتساعا في شهرتها لدى جمهور واسع من معظم فئات الشعب ، وسنرى كيف ان البعد او القرب من الجمهور يصبح مقياسا لقيمة الفنان في الكثير من النتاجات الفنية .
تميزت لغة الاداء عند فريدة بتعدد النغمات ، اذ يطبعها تارة الطابع الانفعالي وتارة اخرى الطابع الرومانسي الحالم، وفي احيان اخرى ، النغمة الحزينة . وارتبطت هذه التنوعات في لغة ادائها بتنوع الموضوعات الشعرية وتنوع الظروف النفسية والاجتماعية.. وبذلك تكون فريدة قد فتحت طريقا جديدا امام تطور الاداء المقامي.
لقد جسدت فريدة في لغة وفن ادائها المقامي الخصائص المهمة في المذهب الواقعي, ولكنها اظهرت باعا متميزا وميولا ربما نفسية بحتة نحو هذا المذهب , لذلك تحس وانت تسمعها , الى انها بصدد التركيز على الخصائص المهمة فيه , وتركيزها لا يحدث على حساب الرومانس الحالم اكثر منه في الاتجاهات الذوقية الاخرى .



ملاحظة / كل الاغاني ونوطاتها التي وردت في هذا المحور موجودة في كتابي الموسوم (المقام العراقي باصوات النساء) الصادر في كانون الثاني January 2005 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ..