ربيع تركستان .. الإبادة الصامتة
عبد الباقي خليفة
أيقظت حرب الإبادة التي تعرض لها المسلمون في تركستان الشرقية مشاعر أكثر من مليار مسلم، والكثير من أصحاب الضمائر في العالم . فتركستان الشرقية مسلمة وصل الإسلام إليها في وقتٍ مبكر جدًّا منذ الفتوحات الكبرى على يد قتيبة بن مسلم الباهلي (94-96) هجرية.
وقد أدى كبر حجم الفظائع والجرائم التي ارتكبتها القوات الصينية، وقطعان الهون المدعومة من بيجين والتي فاقت كل التصورات في حق مسلمي تركستان الشرقية أدى إلى انتباه شعوب البلاد الإسلامية إلى آلام الإيغور.
فقد استخدم الجيش والشرطة الصينية الرصاصَ الحي ضد أناس واجهوا النيران بصدور عارية. وذلك في واحدة من أكبر جرائم الإبادة التي تعرض ويتعرض لها المسلمون في تركستان الشرقية .
وقد زاد من فظاعة الجريمة وفداحة الخسائر البشرية في صفوف المسلمين استخدام الصين السلاح الاثني، ليبدو المشهد كما لو كان صراعا عرقيا بين طائفتين (صينيتين) وأن الحكومة كانت مجرد وسيط، وربما (لحماية) المسلمين الإيغور .
وتعتبر الصين وروسيا من أكبر الأعداء الإقليميين للمسلمين في آسيا، حيث احتلتا تركستان عام 1949م، فهي مقسمة حاليا بين تركستان الغربية التي تحتلها روسيا، وتركستان الشرقية والتي تحتلها الصين.
مشهد متكرر من فلسطين إلى تركستان
ولقد أكدت، جمعية التعليم والتربية والتعاون لتركستان الشرقية، والتي مقرها اسطنبول، أن مئات من الصينيين الهون الذين نقلتهم السلطات الصينية إلى تركستان الشرقية كانوا مخلب الذئب في حرب الإبادة الأخيرة، بمساهمتهم في عمليات القتل والاعتداءات .
ووفقا للمصدر نفسه: في ليلة 26 يونيو الماضي فقط قَتَلَ قطعان الهون أكثر من 300 مسلم، وجرحوا المئات في هجوم غادرٍ غاشم على منازلهم وهم نيام، وهو ما فجر -بدوره- المظاهرات التي اندلعت بعد ذلك في 5 يوليو الماضي احتجاجا على تواطؤ السلطات الصينية، بل تحريضها على عمليات القتل والإبادة ضد المسلمين لدفعهم للهجرة، وترك أراضيهم للمستوطنين الصينيين .
وربما كانت السلطات الصينية قد توقعت تلك الاحتجاجات لتحصد أرواح المئات، وتجرح وتعتقل الآلاف، حيث زاد عدد القتلى على الألفي ضحية، وهناك الآلاف من الجرحى الذين سقطوا خلال المواجهات التي لم تكن أبدا متكافئة، بينما لم تعترف الصين سوى بسقوط نحو 200 قتيل وجرح أكثر من الألف .
وقد زاد شناعة المشهد في تركستان الشرقية، قيام الجنود الصينيين بارتكاب جرائم الاغتيال والقتل بالملابس المدنية؛ لتتم الجريمة في صمت مطبق .
وقد أدى غياب الإعلام الدولي عن الساحة والتعتيم الصيني الرسمي عما جرى ويجري في زيادة حدة المعاناة وارتفاع عدد الضحايا، فالسلطات الصينية لا تذكر سوى 10 في المائة من عدد الضحايا الحقيقي كعادة الأنظمة الشمولية في عدوانها على الشعوب الأخرى، أو قمعها لشعبها كما حصل أثناء ربيع بكين سنة 2000 م .
وعلى مختلف الأصعدة قامت السلطات الصينية بحجب المواقع الالكترونية -ولاسيما باللغة التركستانية- كما قطعت الاتصالات والمواصلات بين المدن وبذلك استفردت بالمسلمين .
ولم تكتف بما اقترفته من قتل وتدمير، بل توعدت بالمزيد وبإعدام من كانوا وراء المظاهرات التي اندلعت عقب مجزرة قتل فيها 300 مسلم دون أي ذنب ارتكبوه سوى أنهم من المسلمين التركستانيين الإيغور .
وعندما تتهم السلطات الصينية جهات خارجية وعناصر في الداخل، تريد بذلك التعمية على ما يجري من تمييز عنصري، ومن اضطهاد بحق أصحاب الأرض الحقيقيين.
لقد أكدت زعيمة مسلمي الإيغور في تركستان الشرقية "ربيعة قدير" أن قرابة 10 آلاف شخص اختفوا في ليلة واحدة خلال العدوان الذي شهدته مدينة "أرومتشي" عاصمة تركستان الشرقية، مما يعني أن مذبحة من وزن "سريبرينتسا" قد وقعت في تركستان الشرقية .
الإبادة الصامتة في تركستان الشرقية ما هي إلا فاجعة جديدة تضاف إلى مسلسل الفواجع التي حلت ولا تزال تحل بالأمة الإسلامية دون أن يساهم ذلك في حراك شعبي أو رسمي على مستوى الأمة يعيد التوازن لأشلائها الممزقة.
ولا نعرف ما إذا كنا سنسمع -قريبا نتيجة للصمت العربي والدولي- عن المقابر الجماعية التي قد شاهدناها في البوسنة وكوسوفا، أو المعتقلات الجماعية على غرار "أوشفيتس"، و"أومارسكا"، و"مانياتشا"، وغيرها من المعتقلات التي دخلت التاريخ لحجم فظاعتها وكبر الجرائم التي ارتكبت فيها .
وكل ذلك يعني أن شعب تركستان الشرقية وتحديدا المسلمين الإيغور تعرضوا لحرب إبادة لا ينبغي أن تمر هكذا كما لو كانت حدثا في الأخبار تطويه الأيام، وتعاقب الحدثان .
وليس غريبا على المجتمع الدولي صمته حيال ما جرى في تركستان وغيرها من المناطق التي يتعرض فيها المسلمون لمذابح ومحارق واضطهاد، ولو كان في أي بلد عربي أو مسلم ضد أقلية عرقية أو دينية لهاجت الدنيا وماجت، ولانعقد مجلس الأمن وصدرت تصريحات التنديد والتهديد من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وكل المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية والمعنية بحقوق الإنسان والأمن والسِّلم الدوليين .
ولنا أن نتساءل عن غياب المحكمة الجنائية هذه المرة عن الساحة التركستانية، ولماذا لم تتعامل مع الصين كما تعاملت بصلف مع السودان ورئيسها عمر حسن البشير .
ولماذا لم ترسل الأمم المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي بعثات لتقصي الحقائق في تركستان الشرقية، ولتقف على حقائق الأمور دون الاكتفاء ببيانات الحكومة الصينية .
إن ما حدث في تركستان الشرقية، ليس سوى مرحلة جديدة من مراحل الاضطهاد التي تعرض ويتعرض لها المسلمون هناك على يد الاحتلال الصيني .
"مرحلة جديدة" تهدف إلى جس نبض مدى نجاح خطط ترويض المسلمين، وإخضاعهم لدرجة يجب عليهم فيها القبول بقتلهم، وانتهاك أراضيهم، وممتلكاتهم، وتسليمها للهون وغيرهم من الصينيين، وأن يتقبلوا ذلك بصدر رحب وترحيب ودون إبداء أي تذمر!!! .
وربما كانت عملية قتل 300 مسلم وهم آمنون في بيوتهم ليلا يأتي في هذا الإطار، مما يعني أن الصين مقدمة على أساليب قمع واضطهاد لم يسبق لها مثيل في تركستان الشرقية حتى تحقق الهدف آنف الذكر .
وهو قتل شعور المسلمين بالاضطهاد والعدوان، واستقبال ذلك بالابتسامة وربما شكر المحتل الصيني ورعاعه وقطعانه على ما يرتكبوه من جرائم بحق المسلمين .
ويبدو ذلك من خلال التهديدات الصينية التي عبر عنها سكرتير الحزب الشيوعي الحاكم لي زهي، من أن " المحرضين الرئيسيين يمكن أن يعدموا ".
وللأسف الشديد فإن ردود الأفعال في البلاد الإسلامية، ومن بينها المنطقة العربية لا ترقى لمستوى ما جرى من إبادة بحق مسلمي تركستان!.
فلم تزد منظمة المؤتمر الإسلامي عن التعبير عن قلقها مما يجري، وكان عليها فرض عقوبات على الصين مهما كان نوعها، وإلا فإن الدعوة لحماية المدنيين لن تلقى آذانا صاغية؛ لأن هدف الإمبراطورية الصينية هو المدنيين بالدرجة الأولى، وهم بين ثلاث خيارات، العيش كمواطنين من الدرجة العاشرة والقبول بالتمييز والاضطهاد، أو التهجير أو القتل كما جرى في شهري يونيو ويوليو الماضيين .
كما أن الإشارة إلى أن الإيغور شعب عريق يهدف إلى الحفاظ على خصائصه الثقافية والعرقية وهويته الإسلامية كما جاء في بيان المنظمة، هو هدف استراتيجي للاحتلال الصيني الذي يعمل على إماتة الثقافة الإسلامية والنيل من العرقية الإيغورية، وتمييع الهوية الإسلامية في تركستان الشرقية .
هذا وقد واصلت الصين استخفافها بالمسلمين في العالم عندما أغلقت المساجد في تركستان الشرقية وطلبت من المسلمين الصلاة في منازلهم، رغم أن صلاة الجمعة لا تُؤدى سوى في المساجد بشروطها .
وحسب شهادة المسلمين الإيغور فإن الشرطة كانت قاسية جدًّا معهم رغم أنهم عزل، بل كانت تعامل الهون بلطف يعبر عن اختلال كبير في واقع المواطنة بالصين، مما جعل المسلمين يخشون من الشرطة كخشيتهم من المتعصبين الهون المدججين بالسلاح والعصي والسكاكين .
كما أحبطت الصين مشروعا تركيا في مجلس الأمن لمناقشة العدوان على تركستان وفضح واقع الإبادة على مختلف المستويات.
ويبدو أن الصين لم تستجب للاتصالات التي وعد بها إكمال الدين إحسان أوغلو، كما لم تستجب للوساطة التركية التي أبداها وزير الخارجية التركي في وقت سابق، وتحدث عنها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، وذلك ليس مجرد تحد واضح للمسلمين وحكوماتهم ومؤسساتهم المختلفة فحسب، بل واصلت إهانتها للمسلمين بطلب تقديم معلومات عن إخوانهم الذين ساهموا في الثورة مقابل مكافآت وثناء .
لكن رجب طيب أوردوغان لم يفقد شجاعته المعهودة عندما أعلن صراحة أن ما جرى ويجري في تركستان الشرقية، إبادة جماعية، وأنه " لا يوجد فائدة من وصفها بوصف آخر".
كما سجلت الأمة موقفا رجوليا، ومسئولا، وأمميا بامتياز لوزير الصناعة التركي عندما دعا إلى مقاطعة البضائع الصينية، وكانت المظاهرات التي شاهدتها تركيا من الاحتجاجات اليتيمة في العالم الإسلامي، في حين كانت حكومات أخرى تفاوض الصين وتعقد معها الصفقات للأسف .
وجدير بالذكر أن تركستان ظلََّت موطنًا للأتراك الشرقيين المسلمين، دولة مستقلة لعدة عصور يشهد التاريخ بأنها تم غزوها من قِبل الصين، واستعمرت بواسطة قوات الإمبراطور عام 1759م.
وخلال السنوات التي تلت ذلك قاوم إيغور تركستان الاحتلال، وانتفضوا في عدة مناسبات، ثم أقاموا حكومةً مستقلةً استمرت لعقدين من الزمان، ولكن الإمبراطورية الصينية استطاعت السيطرة مرةً أخرى على تركستان الشرقية في مطلع عام 1880م معلنةً في 18 نوفمبر 1884م أن تركستان الشرقية هي المقاطعة التاسعة عشر للصين، واستمرت مقاومة مواطني تركستان الشرقية.
وفي عام 1933م تواصل جهاد المسلمين لبعث وإحياء دولة التركستان الشرقية وفي عام 1944م نجح نضال المسلمين وحصلوا على الاستقلال.
واستمر ذلك حتى عام 1949م حينما تحالفت جيوش الروس مع الصينيين، واستطاعوا الإطاحة بهذه الحكومة، وشددت الصين بعد ذلك قبضتها على تركستان .
ومنذ ذلك الحين أصبحت تركستان الشرقية سجنًا كبيرًا لأبنائها، وبدأت الصين تنتهك حقوق الإنسان للتركستانيين؛ بالاعتقال وعلميات التعذيب والقتل راح ضحيتها مئات الألوف من الأبرياء الذين تحدوا السلطات الصينية فتم إعدامهم، واستطاع الكثير منهم الفرار إلى الدول المجاورة، ولكن مئات الألوف من الأسر والنساء والصبيان تم إرسالهم إلى معسكرات الأشغال الشاقة.
ولتحقيق السيطرة الصينية التامة على البلاد فقد تم إجبارهم على الالتزام بقوانين ظالمة، وأجبرت العائلات على تنظيم الإنجاب والقوانين الاقتصادية الجائرة، ومن ثَمَّ انتقلت الحكومة الصينية من مرحلة ما بعد الاحتلال إلى مرحلة الاستيعاب الكامل للبلاد؛ ففي السنوات التي تلت ذلك قامت بنقل ملايين من ذوي الأثنية الصينية إلى تركستان الشرقية بهدف تحقيق توازن سكاني.