جورج حداد*
في موضوع الصراع الوجودي بين روسيا من جهة، والرأسمالية اليهودية والصهيونية من جهة ثانية، تدخل حتما موضوعة العلاقة التناحرية بين الصهيونية والشيوعية، وهو ما برز بشكل خاص خلال وبعد الثورة الاشتراكية في روسيا سنة 1917. وتلتقي جميع الاطراف المعادية للشيوعية، من البرجوازية الليبيرالية الى الصهاينة الى اخيرا لا آخر "الاسلاميين!!!" المزيفين، في جوقة تزوير واحدة تنادي بالجمع بين الصهيونية والشيوعية. والهدف من هذا التزوير الرخيص والبشع هو مزدوج وهو: من جهة تبييض صفحة الصهيونية، بقرنها بالشيوعية؛ ومن جهة ثانية تسويد صفحة الشيوعية، بقرنها بالصهيونية. ويتاجر اصحاب هذا التزوير بكون ماركس ولد في عائلة يهودية. وهم يريدوننا ان ننسى ان السيد المسيح ذاته، الذي تآمرت الطغمة الكهنوتية اليهودية مع روما لاجل صلبه، ولد ايضا ـ حسب بعض الروايات ـ في عائلة يهودية. وهذا ما يقتضي ليس من الشيوعيين الحقيقيين وحسب، بل ـ خاصة ـ ومن جميع الوطنيين والقوميين العرب والمسلمين الصادقين تفنيد هذا التزوير، ليس دفاعا عن الشيوعية، بل اولا واساسا دفاعا عن القضية الفلسطينية والقومية العربية والجماهير الاسلامية المناضلة، التي تلتقي موضوعيا في جبهة تاريخية واحدة مع الحركة الاشتراكية والشيوعية ضد الرأسمالية والامبريالية والصهيونية. وهو ما يقتضي النظر بتمعن وعن قرب في الحراك السياسي لليهود في روسيا.
Xxx
كان تعداد اليهود في روسيا القيصرية في القرن 19 يعد بالملايين، واكبر منه في اي بلد آخر. وقبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الدولي الاول، بزعامة تيودور هرتزل في بازل بسويسرا سنة 1897، كانت المنظمات الصهيونية قد بدأت بالنشوء تحديدا في روسيا القيصرية، في منتصف القرن التاسع عشر. وليس معروفا تاريخيا انه حدثت اي هجرة جماعية لليهود العبرانيين (العرب، او من المنطقة العربية) الى روسيا. وينطبق ذلك ايضا على اليهود العبرانيين (السفارديم) الذين طردوا مع العرب والمسلمين من اسبانيا بعد "الريكونكيستا" في 1492. فاذا كان وصل بعض السفارديم الى روسيا، فهم افراد قلائل او مجموعة قليلة ليس غير. وهذا يؤكد ان اليهود الروس هم في الاصل جميعا خزريون، وان علاقتهم بـ"اورشليم" ليست سوى علاقة غيبية دينية، وليست علاقة تاريخ نشأة قومية، اي هي كعلاقة اي مسلم اندونيسي، مثلا، بمكة المكرمة، او علاقة اي مسيحي اوروبي او اميركي ببيت لحم والقدس. ولكن مثلما ان "المسيحية الغربية"، بدواع توسعية ـ استعمارية، سيّست "علاقتها المسيحية" بمهد وقبر المسيح، وابتدعت "الصليبية"، فإن "اليهودية الخزرية" ذات التقاليد السلطوية الاقرب تاريخيا من التقاليد السلطوية لـ"اليهودية العبرانية" (مملكة الخزر اليهودية وجدت بعد منتصف الالفية الاولى واستمرت حتى القرن العاشر، في حين ان مملكة داود وسليمان العبرانية وجدت قبل التاريخ الميلادي بألفي سنة). كما ان التجربة والممارسة الاقتصادية (التجارة والربا الخ) لليهودية الخزرية، هي ايضا احدث واوسع نطاقا من تجربة اليهودية العبرانية، خصوصا بعد طرد اليهود والعرب من اسبانيا في نهاية القرن الخامس عشر. ولذلك كان من "الضروري" ان تعمد اليهودية الخزرية (اي بما في ذلك واساسا: اليهود الروس) الى تسييس "علاقتها اليهودية" بأورشليم، وان تبتدع "الصهيونية"، ايضا وايضا لدواع توسعية ـ استعمارية تتغلف بالغلاف الديني ـ القومي. وقد نشأت المنظمات الصهيونية اول ما نشأت في روسيا. وهذه المنظمات الصهيونية الروسية المبكرة هي (وليس هرتزل) التي اوحت بفكرة التنظيم الصهيوني العالمي التي تبناها تيودوير هرتزل، الذي لم يكن اكثر من "واجهة اوروبية ـ حضارية!!!" للفكرة الصهيونية روسية المنشأ. وبعد تبني هرتزل للفكرة الصهيونية، واخراجها من الدائرة الروسية المحض، سارت من ورائه العناصر اليهودية الاوروبية الغربية المتصهينة (وهذه العناصر هم ايضا بالغالب يهود خزر تسربوا الى اوروبا الغربية في مراحل سابقة)، ومن ثم سار وراءه "اليهود الشرقيون" ايضا، الذين تخلوا عن كل جذورهم الشرقية، وساروا في ركاب الصهيونية ـ الاستعمارية الغربية تماما. وكان الصهاينة الروس يمثلون الكتلة الاكبر، والاكثر تطرفا، في مؤتمر بازل بسويسرا سنة 1897. وحتى اليوم لا يزال اليهود الروس يمثلون الكتلة الاكبر في التشكيلة اليهودية العالمية، بما في ذلك اسرائيل.
Xxx
ونظرا للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية العامة، التي كانت تقود الى الوضع الثوري المتفجر في روسيا القيصرية، كانت الجماهير العمالية والشعبية اليهودية الروسية تتعرض لنوعين من الضغط:
الاول ـ الضغط الذي تتعرض له كافة الجماهير العمالية والشعبية الروسية.
والثاني ـ الاضطهاد والتمييز الاتني الخاص ضد اليهود الذي تمارسه السلطة القيصرية لاجل تستير جرائمها والهاء الجماهير عن طريق تسعير النزاعات الاتنية، وهو الاضطهاد والتمييز الذي كان يجد صدى تفاقميا له في ردود الفعل الشعبية الروسية غير الواعية على ممارسات الطغمة المالية اليهودية، التي كانت نموذجا فظا للرأسمالي والمرابي الجشع ومصاص الدماء.
وبنتيجة هذا الضغط المزدوج على الكتلة الشعبية اليهودية كافة، فإن الحراك السياسي والفكري والاجتماعي لليهود عامة، والجماهير العمالية والشعبية اليهودية خاصة، في روسيا، كان اكثر شدة مما لدى الجماهير الروسية الاخرى. وقد انعكس هذا الحراك اليهودي المتزايد في ظاهرتين:
الاولى ـ ظاهرة "الانعزالية" اليهودية، المتمثلة في التنظيمات اليهودية الصرف، ومن ثم الصهيونية، التي كانت تنظر الى "المسألة اليهودية" كـ..."مسألة دينية ـ قومية" مستقلة عن المسائل القومية والاجتماعية للشعوب التي يعيش في ظهرانيها اليهود، اي مستقلة عن "المسائل الروسية".
والظاهرة الثانية هي: ظاهرة "الاندماجية" "الروسية ـ الاممية ـ الاجتماعية ـ اللادينية"، المتمثلة في مشاركة المثقفين والمناضلين العماليين والشعبيين اليهود، بنسبة عالية جدا، في صفوف الحركات الاصلاحية والثورية الروسية، وخصوصا في صفوف "حزب العمال الاشتراكي ـ الدمقراطي الروسي"، الذي تحول لاحقا الى "الحزب الشيوعي الروسي"، فالسوفياتي. وكان التيار "الاندماجي" اليهودي يدعو الى ربط مصير الجماهير الشعبية اليهودية بمصير الجماهير الشعبية الروسية، والى حل "المسألة اليهودية" على قاعدة النضال ضد الرأسمالية والامبريالية والحكم الاستبدادي الاوتوقراطي والتمييز العنصري والديني والاتني بمجمله، بما في ذلك النضال ضد الطغمة المالية اليهودية.
وانسجاما مع الطبيعة الطبقية لكوادر التنظيمات اليهودية والصهيونية المبكرة، المؤلفة من الانتلجنتسيا الانتهازية والشرائح العليا من البرجوازية الصغيرة، "المنفتحة" على التجار والمرابين اليهود، وانطلاقا من المفاهيم "الشوفينية" المعادية للروس ولجماهير القوميات الاخرى، والمتناغمة مع المفاهيم "الشوفينية" الدينية ـ القومية اليهودية، كمفهومي "شعب الله المختار" و"ارض الميعاد" الاسطوريين، وهي المفاهيم التي بواسطتها تستطيع ان تخفي حقيقتها الطبقية والعنصرية ومطامعها التوسعية ـ الاستعمارية، ـ نظرا لهذه العوامل مجتمعة، فإن هذه التنظيمات اليهودية والصهيونية المبكرة سرعان ما وضعت نفسها في خدمة الطغمة الرأسمالية الاحتكارية اليهودية، ومن ثم في خدمة مشاريع الغزو الاستعماري للشرق العربي ـ الاسلامي. ومن ضمن هذا الخط، ذي الوجه "الشوفيني" الديني ـ القومي، والمحتوى الامبريالي ـ الاستعماري، اخذت تلك التنظيمات تدعو للهجرة الى فلسطين والاستيطان فيها باعتبارها انها "ارض الميعاد" او "الوطن القومي اليهودي".
ان هذا الاتجاه الصهيوني كان يمثل اتجاها دينيا ـ قوميا، شوفينيا يمينيا، مثله مثل غيره من الاتجاهات الشوفينية اليمينية الاخرى، الاسلامية او المسيحية، الالمانية او الايطالية او العربية، الخ. ولكن بحكم طبيعته الخاصة وتطلعاته وارتباطاته الخارجية، فإن الاتجاه الصهيوني في صفوف اليهود سرعان ما تحول الى طابور خامس في روسيا، تحركه المنظمة الصهيونية العالمية والدول الامبريالية الغربية؛ اي طابور خامس معاد للشيوعية والاشتراكية، ومعاد للمصالح القومية لروسيا في الوقت ذاته. ولكن هذا الطابور الخامس الصهيوني، وبالرغم من الدعم المالي من قبل الطغمة المالية الاحتكارية اليهودية والدول الامبريالية الغربية، ظل ذا تأثير وانتشار محدودين في صفوف الجماهير الشعبية اليهودية في روسيا، ولا سيما الجماهير العمالية والفقيرة، التي سارت غالبيتها خلف الخيار الاشتراكي "الاندماجي" وخيار الثورة الدمقراطية والاشتراكية في روسيا.
Xxx
ولدى زيارة هرتسل لروسيا "من اجل الحصول على تأييدها لمشروعه الصهيوني... واجه في نفس الوقت انتقادا حادا من جانب الوزير الروسي فيته، الذي قال له، بأن اليهود لا يتجاوزون الخمسة بالمائة من عدد سكان الدولة، بينما يقدمون اكثر من 50% من المعارضين للسلطة." (الباحث العراقي ميثم الجنابي، في مقالته القيمة "اليهودية – الصهيونية في روسيا").
وكانت نسبة مشاركة اليهود في صفوف الحزب الشيوعي، وخصوصا في ظروف الحرب العالمية الاولى والثورة الدمقراطية ثم الثورة الاشتراكية الروسية سنة 1917، نسبة عالية، اعلى بكثير من نسبة عدد اليهود الى مجموع عدد السكان في روسيا. وهنا يقع الكثير من الباحثين غير المغرضين، وحتى الرصينين، في خطأ فادح مزدوج في الرؤية، حيث ينظرون اولا الى اليهود ككتلة متجانسة، تسيها بالمحصلة الصهيونية، ثم ثانيا يستخلصون من نسبة المشاركة اليهودية الكبيرة في الحركة الشيوعية ان "اليهود" (بالنتيجة: الصهيونية) سيطروا على الشيوعية. ويذهب بعضهم بهذا الاستنتاج الى نهايته "المنطقية" الخاطئة، وهي ان الشيوعية ذاتها هي "بدعة يهودية"، ويساعدهم في ذلك ان ماركس ذاته هو من منشأ يهودي.
ومثل هذا التفسير هو تفسير اتني ـ ديني ـ عنصري يخرج تماما عن السياق التاريخي للمجتمع البشري. واذا كانت غالبية الجماهير الشعبية اليهودية الروسية قد سارت في ظروف الثورة الروسية خلف الشيوعيين، فهي قد فعلت ذلك ليس لاجل "تهويد" روسيا، اي لاجل فرض هيمنة الطغمة المالية اليهودية على روسيا، بل بالعكس تماما: لاجل تجفيف ينابيع الرأسمالية "اليهودية" وغير اليهودية، اي القضاء على النظام الرأسمالي، ومن ثم لاجل "تجاوز" اليهودية ونسفها، لا "تكريسها".
ونظرا للمشاركة الشعبية اليهودية الواسعة في الحركة الثورية، ولا سيما الشيوعية، الروسية، بنسبة اعلى بكثير من نسبة عدد السكان اليهود الى مجموع عدد سكان روسيا، كان من الطبيعي ان يحتل المئات من الكوادر اليهودية مساحة واسعة من المراكز القيادية في الحركة الشيوعية الروسية، والسلطة السوفياتية بعد قيامها، والكومنترن (الاممية الشيوعية او "الاممية الثالثة" كما كانت ايضا تسمى) بعد انشائه.
وكان الشيوعيون والتقدميون والاصلاحيون "الاندماجيون" اليهود يرون ان حل "المسألة اليهودية" هو جزء لا يتجزأ من حل مسألة النظام الاجتماعي السائد، وان "تحرير" اليهود هو جزء لا يتجزأ من "تحرير المجتمع" الذي يعيشون فيه، وهو ما كان يعني ـ بالنسبة للشيوعيين اليهود ـ المشاركة في الثورة الاشتراكية والقضاء على الاستبداد القيصري وعلى النظام الرأسمالي، واقامة النظام الاشتراكي الذي يقضي على الملكية الرأسمالية والاستغلال الطبقي والتمييز الاجتماعي والديني والاتني والقومي، بما في ذلك الدور التقليدي للمرابي اليهودي، من جهة، واستغلال الجماهير الكادحة اليهودية والتمييز ضد الاتنية والدين اليهوديين، من جهة ثانية.
Xxx
ولكن التيارين اليهوديين، "الشوفيني ـ الديني ـ الصهيوني" و"الاندماجي ـ الاجتماعي ـ الاشتراكي"، كانا موجودين في البيئة الاجتماعية اليهودية ذاتها. ومن هنا كان يوجد بينهما "تواصل موضوعي"، مثلما هو الامر بالنسبة للتيارين الرجعي والتقدمي، الوطني و"التعاوني" (مع العدو) في اي وسط شعبي واحد. ولكن في الوقت نفسه، وبحكم هذا التواجد الموضوعي المشترك، فإن المؤشر الرئيسي للعلاقة بين هذين التيارين هو التناقض الحاد، والصراع الحاد فيما بينهما، فكريا وسياسيا وتنظيميا، وهو الصراع الاساسي الذي كان يطبع بطابعه الوسط اليهودي بأسره. وكان كل اتجاه يسعى الى كسب الجماهير اليهودية الى جانبه. وكان محور هذا الصراع يدور حول الخيار بين البديلين ـ النقيضين:
ـ عزل الجماهير اليهودية عن المجتمع الذي تعيش في ظهرانيه، على اساس "الحل الديني ـ القومي" الخاص لليهود، والتوجه نحو الغزو الاستعماري لفلسطين وانشاء اسرائيل كـ"وطن قومي يهودي" .
ـ او: دمج اليهود الروس في المجتمع الروسي، على اساس "الحل الدمقراطي ـ الاشتراكي" للمسألة الاجتماعية عامة، بما فيها "المسألة اليهودية".
وفي هذا الصدد، فإن التيار الصهيوني كان يدعي "الدفاع" عن اليهود ضد ما كانوا يتعرضون له من اضطهاد على يد الحكم القيصري والشوفينية الروسية الكبرى، كرد فعل على الدور السلبي الذي تقوم به فئة المتمولين والمرابين اليهود وهي فئة اقلية. ولكن التيار الصهيوني كان في الوقت نفسه يلتقي عمليا وموضوعيا مع القيصرية في موضوعة "عزل" اليهود. ومثلما كان الصهاينة يستفيدون من عمليات الاضطهاد ضد اليهود، لتعزيز الاتجاه الانعزالي الشوفيني اليهودي، فإن القيصرية كانت تستفيد من الدعوة الصهيونية للهجرة الى فلسطين، من اجل التخلص من "اليهود المعارضين". وكان هذه الفائدة المزدوجة لتعاون العدوين الظاهريين: القيصرية والصهيونية، على درجة من الوضوح، ان هرتسل نفسه قام بزيارة روسيا القيصرية لـ"تنسيق" هذا التعاون. والمشهد نفسه نجده في اللعبة العثمانية ـ الصهيونية، وزيارة هرتسل للسلطان الماسوني عبدالحميد الثاني، وهو ما يحاول بعض "الاسلاميين!!!" و"العروبيين!!!" البلهاء، على الاقل، ان يستنتجوا منه "وطنية" و"حمية دينية" لدى العثمانيين، على طريقة " حلب الثور...".
ونذكر هنا ان ما سمي "بروتوكولات حكماء صهيون"، انما صدرت في روسيا بالذات، وقد استفادت كل من القيصرية والصهيونية من هذه "البروتوكولات" كل من جهته ولمصلحته.
وعلى اساس هذا الالتقاء الموضوعي للمصالح الاساسية، فإن التنظيمات الصهيونية الروسية والحكم القيصري الروسي كانا "يتبادلان الخدمات" في الصراع ضد التيار الاشتراكي والشيوعي، الروسي عامة، واليهودي خاصة. وقد اضطلعت الصهيونية في روسيا بدور "كلب حراسة" او "كلب صيد" لدى القيصرية الروسية، ضد الحركة الشيوعية الروسية. وكان ذلك مقدمة، او "تمرين اولي"، كي تضطلع لاحقا بدور "حليف موضوعي" و"كلب صيد خاص" لدى الفاشية والنازية الهتلرية ضد الحركة الاشتراكية والشيوعية الاوروبية عامة، وفي صفوف اليهود خاصة.
وفيما بين هذين التيارين (الانعزالي ـ الصهيوني، الداعي للهجرة الى فلسطين) و(الاندماجي ـ الاشتراكي، الداعي الى دمج اليهود في مجتمعاتهم والحل الاشتراكي لـ"المسألة اليهودية")، نشأ تيار يهودي وسطي ـ توفيقي، ظاهريا، تمثل في "حزب البوند" العمالي اليهودي، الذي كان يدعو الى التنظيم المستقل للعمال اليهود ويطالب بالاستقلال الذاتي الثقافي لليهود، ضمن الدولة الروسية، وهو ما عارضه بشدة لينين والبلاشفة الروس بمن فيهم البلاشفة اليهود، معتبرين انه يقود الى تمزيق صفوف الطبقة العاملة على اساس شوفيني وديني، وانه في النهاية يقود الى عزل اليهود وتأييد قيام "الوطن القومي اليهودي".
وفيما بعد، في الظروف الناشئة عن الحرب العالمية الاولى والثورة الاشتراكية في روسيا، نشأ حزب "بوعالي صهيون"، وهو حزب صهيوني ـ اشتراكي، دعا الى اقامة "اسرائيل اشتراكية"، واستطاع ان يخدع قسما من المثقفين والعمال اليهود، استنادا الى "اشتراكيته" الزائفة، التي لم تكن شيئا آخر سوى ستار لصهيونيته الحقيقية، على طريقة "الاشتراكية" الهتلرية، التي لم تكن بدورها سوى ستار للنزعة الامبريالية العنصرية الالمانية. وحزب "بوعالي صهيون" قدم الاساس التنظيمي والنظري "التاريخي" الذي قام فوقه حزب (او احزاب) العمل في اسرائيل، الذي كان ينادي بـ"الاشتراكية القومية" اليهودية (النسخة اليهودية على الطريقة الهتلرية تماما) لخداع الجماهير المضللة اليهودية وتحويلها الى كلاب متوحشة لدى الصهيونية، لقتل الفلاحين والمواطنين الفلسطينيين والعرب، والاستيلاء على اراضيهم، باسم "التقدم" و"الاشتراكية" و"الدمقراطية".
ولكن بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا، اضطر حزب "البوند" اليهودي لحل نفسه، وانضم غالبية اعضائه الى الحزب الشيوعي الروسي. واتخذ الصراع اللينيني ضد الصهيونية طابع صراع داخل السلطة السوفياتية والحركة الشيوعية ذاتها. وقد تعرض لينين نفسه للمؤامرة على حياته من قبل الصهاينة وحلفائهم السريين الستالينيين في السلطة السوفياتية. وكان ظهور وسيطرة الدكتاتورية الستالينية (الحليفة السرية للصهيونية) ابشع اشكال الصراع الصهيوني ضد الاشتراكية، وضد المصالح القومية العليا للشعب الروسي. الا ان الديماغوجية التي مارستها الدكتاتوية الستالينية عملت قبل كل شيء على تمويه هذا الصراع واخفاء حقيقته. وفيما بعد فإن نظرية حزب "بوعالي صهيون" حول الصهيونية ـ الاشتراكية ستلعب دورا رئيسيا في الخداع الستاليني حول امكانية قيام "اسرائيل اشتراكية" لتبرير الاعتراف باسرائيل.
وهذه القضايا هي كلها قضايا هامة ومصيرية، على مستوى التحليل النظري والسياسي والممارسة الكفاحية، ينبغي مواجهتها ومناقشتها على اوسع نطاق، لاجل تبرئة الشيوعية الحقيقية من جريمة اعتراف الستالينية باسرائيل، ومن اجل تسليط الضوء على ان حل القضية الفلسطينية، بمواجهة حل "المسألة اليهودية"، لا يمكن ان يكون على الاساس الديني والاتني والعنصري، بل على الاساس الاجتماعي التاريخي، وبالارتباط العضوي مع الثورة الاشتراكية والقضاء التام على الرأسمالية والامبريالية.
الا ان الحركة الشيوعية العربية، التي سيطرت عليها الستالينية في حينه "فشلت" في التصدي لهذه القضايا وطرحها للنقاش والمعالجة. وتم القضاء، بهذا الشكل او ذاك، على كل الكوادر الثورية الشيوعية الحقيقية، وعزل وخنق كل اشكال معارضة الاتجاه الستاليني، اتجاه الاعتراف باسرائيل، داخل الحركة الشيوعية العربية. وليس من العجب الآن ان نجد اقساما كبيرة من الحركة الشيوعية العربية التي تم تطويعها وتدجينها ستالينيا، قد تحولت الان الى دعم وجود اسرائيل والاعتراف بـ"القومية اليهودية" وتأييد "الحل السلمي" مع اسرائيل، وحتى تأييد الاحتلال الاميركي للعراق، ومعارضة المقاومة الشعبية المسلحة ضد اسرائيل والامبريالية، خصوصا اذا كانت مقاومة اسلامية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب لبناني مستقل