مقطع من رواية اليربوع
الإهداء: إلى الشهيد الرئيس ياسر عرفات.
حسين فيلالي.
يرن الهاتف، ويأتي نديا صوتها نسمة باردة كرذاذ المطر.ضربت موعدا للجازية بدار الثقافة.
كانت تبدو قلقة، سألتها في البداية إن كانت قد قررت أن تستقر بالوطن كما أخبرتني في الهاتف أجابت:
- لا أدري،أصبحت كلما حللت بمكان غريب تركت به جزء من ذاتي وكلما عدت إلى الوطن أحسست بتلك الأجزاء تلتئم، لتكون ذاتا غريبة عن ذاتي.
خرجت بها أمشي،ولما جاوزنا ساحة الحرية قالت:
لم يعد الوطن كما كان و أنت لم تتغير، أنت، أنت وكأنك أوقفت الزمن في سن العشرين.
أقول لها وقد أدركت قصدها:
- إن الزمن العربي متوقف منذ قرون.
تقهقه، وتهرب مني كفرس جموح:
- أفكارك لم تتغير أيضا هي، هي، ما تزال تحلم وتتفلسف، وتحمل القنديل في وضح النهار.
طلبت منها أن تحكي لي عن إقامتها في المهجر، فتغير وجهها كأنما نكأت جرحا لم يندمل:
- منذ أن نجوت من الاغتيال، و غادرت الوطن لم تفارقني الكوابيس.
كنت أرى نفسي في كل ليلة أتلفع بكفن، أدخل مقبرة كبيرة، أحمل فأسا، أحفر قبرا، وأدخل فيه، وكان صاحب القبر المجاور يبدأ بالصراخ، وطلب النجدة.
أهرب أجري، أجري، أطير، أطير، يتكسر الجناحان ثم أهوي في مكان سحيق.
أجد نفسي في الجزائر بين جماجم، و أشلاء بشرية، أجمع الأشلاء والجماجم أشكل منها صورا، و لما تلتئم الأجزاء، أدفن نفسي بينهم أشعر بالدفء وأرفع صوتي بالنحيب .
اشتغلت صحفية متخصصة في الشؤون العربية بجريدة الرأي الحر عشر سنوات ثم...
- ثم ماذا؟
- هذا موضوع آخر.
كيف؟
كلفتني الجريدة ذات يوم بإعداد تحقيق عن طقوس الزواج، وختان البنات في المشرق. كان علي أن أخذ الطائرة من باريس إلى القاهرة يوم 29ديسمبر، لكني أخبرت في آخر لحظة أن كل الرحلات الموجهة من باريس إلى القاهرة محجوزة إلى غاية 10جانفي .
سافرت إلى الأردن، نزلت بفندق الهيلتون، سمعت عن انتشار مرض غريب بالشرق الأوسط لم يستطع الأطباء تحديد أسبابه.
يبدأ المرض بارتفاع عدد الكريات الحمراء في الدم ثم يتغير شكلها في مرحلة تالية، ويأخذ صورة دبابيس حادة يهاجم بعضها الكبد والطحال، و يخرج عدد كبير منها مع مسام الجلد حتى يفرغ الجسم، و ييبس، ويتشوه.
ارتفع عدد الضحايا، وتزايدت مخاوف الناس من أن يكون سبب ذلك الأسلحة الكيماوية التي تستخدمها إسرائيل لقتل الفلسطينيين فكتبت مقالا قصيرا أرفقته ببعض الصور، وأرسلته إلى الصحيفة.
في المساء اقترح علي أحد الزملاء الصحفيين دخول غزة، ترددت في بادئ الأمر، لكنه أكد لي أننا لن نتجاوز يوما واحدا.
اتصلت بالجريدة بباريس،فوافقت على سفري ورخصت لي لمدة يومين.
وصلنا إلى أحد المرتفعات القريبة من غزة اقترح دليلنا أن ننتظر حتى الليل ثم نواصل السير.
في الساعة الثالثة صباحا سمعنا سعال محرك سيارة متقطع يقترب من المكان، طمأننا الدليل، و أخبرنا أن صديقه سيتكفل بإتمام السفر وانصرف .
كان السائق في الأربعين من عمره، أو يزيد بقليل قوي البنية، يدخن بشراهة، تقرأ في وجهه إحساس المطعون في الظهر.
انزوينا في مؤخرة السيارة، وانطلقنا عبر مسالك وعرة نتوقف تارة، و نترجل أخرى ثم نركب، و نتابع السير. وكلما توقفت السيارة ابتعد السائق عنا قليلا، يجري بعض الاتصالات الهاتفية ثم يعود، و دون أن يكلمنا يدير المحرك المصدور بعصبية، فتنطلق السيارة تسعل.
صمت السائق، وتصرفاته، أثار فضولي فحاولت استدراجه للحديث:
- كيف حال غزة؟
و انكسرت الجرة مرة واحده :
- الله يلعن العرب، كلاب الأمريكان.
عذرته ،وتفهمت وضعه، وقلت مواسية:
- ربي يفرج.
- صاح كالمستجير:
-الله ينصر الشيخ بن لادن.
وصلنا غزة، فتح السائق الباب الخلفي، أشعل سيجارة جذب نفسا عميقا، بدا كمن يمتص بقايا قربة ماء في صحراء قاحلة، وككبش مذبوح بسكين غير حادة أخرج زفيرا متقطعا، وانسحبت السيارة تسعل، وتخرج من رئتيها دخانا يوحي بدنو الأجل.
في غزة الليل يعقب الليل،والظلام يعانق الظلام والنهار ينتحر في الليل، في كل شبر ينبت ثأر،ومن كل قبر تطل هامة عطشى تصيح ولما يبرعم الثار وينضج، يحتضن الهامة ويسقيها.
سألنا عن بيت الحاج محمود فأخبرنا أحد الشباب أن طائرة إسرائيلية قصفته بصاروخ حوله إلى أنقاض، طلبنا منه أن يدلنا على البيت و في الطريق صادفتنا عجوزا تقرع بعصاها الأرض تتبين الطريق وهي تنادي :صلاح، صلاح.
أخبرنا مرافقنا أنها على هذه الحالة منذ أن اغتالت إسرائيل ابنها الوحيد سنة 1982، تخرج كل صباح تحرث بخطاها المرهقة الشوارع حتى إذا ما جن الليل تعود إلى بيتها.
طرقنا باب الشيخ محمود فتحت زوجته فصاحت إبراهيم ابن أخي احتضنته بقوة وراحت تقبل وجهه ورأسه ويديه والدموع تنسكب على خديها ثم تفطنت إلى وجودي فراحت تمسح دموعها وتستغفر الله ثم عانقتني:
-مرحبا بنيتي.
قال:
- هذه صحفية زميلتي.
دخلنا على الحاج محمود، كان ضريرا، وطاعنا في السن رحب بنا وطلب من زوجته أن تحضر القهوة.
بينما كان زميلي يسأل عن الأهل والأصدقاء كنت أجوب ببصري الغرفة وأتساءل عن سر صور الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المعلقة على الجدران، وكأن زميلي قرأ ما يجري في خاطري فوفر علي طرح السؤال وقال:
- هذه صور الشهداء من العائلة .
- قال الشيخ بصوت فيه إحساس بالعز والافتخار:
- خمسة منهم أبنائي.
- قلت :
- الله يرحمهم.
حاولت اختبار وعي الشيخ فقلت:
- سيعقد الرؤساء العرب اليوم اجتماعا طارئا يدرسون فيه مأساة غزة.
قال:
- اليهود أتعبوا الأنبياء والرسل ثم أردف:
- الوحيد الذي فهم إسرائيل هو ياسر عرفات كان يقول:
- إنهم لا عهد لهم، ولكني سأخضع لرأي الرؤساء العرب وأفاوض إسرائيل على قبض الريح.
علمت في غزة أن أحد العرب الذين لهم علاقة مع إسرائيل قد طلب من الرئيس عرفات التنازل عن القدس وعن حق عودة اللاجئين مقابل تتويجه ملكا على الضفة، والقطاع، لكن الرئيس غضب، وقال للرسول كلاما جارحا.
الرئيس كان يقول لمن يثق فيهم:
- لا أخشى عليكم من الأعداء، وإنما أخشى عليكم من تشرذمكم، ومن تفاهة أحلامكم، ومن ثقتكم في حلفاء إسرائيل، والمحافل الدولية.
لم يصدق البعض ما كان يقوله الرئيس، و كانوا في اجتماعاتهم السرية يضحكون ملء أشداقهم، ويستغربون من كلامه، ويقولون حديث خرافة.
وحتى عندما كان يقول:
- لا تتاجروا بقضية فلسطين، ولا تجعلوا شعر مظفر النواب يصدق عليكم.
لم يسمعوا كلامه، كانوا ينظرون إليه باستهزاء كمن يستراب في عقله، وكان الرئيس يدرك عجزهم عن فهم مرامي كلامه.
ولما يئس منهم ،و من المحافل الدولية، كان يردد:
- رحم الله الشاعر الجزائري مفدي زكريا القائل:
لا نرتجي العدل من قوم سماسرة
خير البرية منهم غير منتظر.
مصيرنا بالدم الغالي نقرره
في محفل الموت لا في عقد مؤتمر
الرئيس وجد مسموما، أو مقتولا، وسلاحه في يده قيل أنه طعن في الظهر.
بنوا للرئيس تمثالا من برونز، ودبجوا في مدحه قصيدة عربية وذبحوا عند نصبه قضية أزلية.
وقيل أن دابة عملاقة لا تزال تخرج كل ليلة عند قبره تردد:
الثأر، الثأر، حتى إذا ما داهمها الصبح، ويئست من الإجابة اختبأت في قبره.
عدت إلى الأردن فوجدت برقية من الجريدة:
- عليك الدخول إلى باريس فور استلام البرقية.
استقبلني رئيس التحرير، سألته عن سبب البرقية المستعجلة، فتشاغل بملف كان موضوعا أمامه.
سألته عن عدم نشر المقالتين اللتين أرسلتهما من الأردن، فتح الملف الموضوع أمامه ثانية، فأخرج لي إشعارا بالعزل من الصحيفة، ولم يعلق.
قبل أن أغلق باب المكتب خلفي ناداني، ولما استدرت أشار بيده وقال:
- شلوم.
أدركت عندها أني كالجسم الغريب الذي يحاول اقتحام جسد محصن، وأن الغرب، غرب ،والشرق شرق ،وأن العرب تجري وراء صدى كاذب، تارة يجرها إلى الشرق وأخرى إلى الغرب، و لما يتعلق الأمر بإسرائيل ويجد الجد يتوحد الاتجاهان فتصبح إسرائيل هي الشرق و الغرب .
عدت من باريس إلى الوطن، فصرت أرى رجلين يدخلان مكتبي بالجريدة كل صباح، ويقفان عند رأسي يكممان فمي بشريط أحمر يفتحان نعشا، يخرجان كفنا ينظر أحدهما إلى الآخر، ويطلب منه أن يقرأ الحكم:
- بأمر من مولانا، إنها ميتة.
أتوسل إليهما، أصرخ، أنا ما أزال حية، لكنهما يقذفان بي في نعش أسود، ويذهبان بي إلى مقبرة حديثة العهد. ينبشان قبرا، ويقول أحدهما:
- هذا تبذير، المكان هنا يكفي لأكثر من واحد، والبلد لم يعد يتحمل كل هذه المخلوقات الفاسدة.
أنصح الجازية بعرض نفسها على طبيب .
ترد بصوت مرهق:
- الطريق أراه يمتد بلا نهاية، و الغربان تظلل السماء و معالم البداية قد اندثرت، أراني أبكي الديار مع ملوك الطوائف كما بكى بن حذام وأرى عبد الله الأحمر في بغداد يبكي ملكه المسلوب.
أخذت الجازية إلى الطبيب، وشرحت له حالتها ،اقترب مني حتى كاد أن يلتصق فمه بأذني، ألتفت يمينا وشمالا كمن يخشى افتضاح سره وقال:
- .........؟
- قلت:
- .... ....
قاطعني قبل أن أكمل حديثي:
- طيب، طيب، وصف لها بعض الأقراص المهدئة، و أعطاها موعدا بعد شهر.
ازدادت حالة الجازية سوء، وظهرت عليها أعراض غريبة ، كانت تنهض في جوف الليل تصرخ، وتلعن:
- احضروا جوادي، وسيفي، أين أبوزيد، التتار، الزناتي،الجزائر غزة، بغداد.
توقفت الجازية عن كتابة العمود الذي عودت القراء عليه بجريدة صوت الأحرار.
و صلت رسائل عديدة من القراء إلى رئيس التحرير تستفسر عن سر اختفاء عمود الكلام غير المباح، و تساءلوا إن كانت الدولة قد أوقفته كما يشاع. اتصل بها رئيس التحرير، و أطلعها على رسائل القراء، و شجعها على العودة إلى كتابة العمود لكنها اعتذرت.
تدهورت صحة الجازية ،وأشرفت على الهلاك، رجعت إلى الطبيب، وأخبرته بالأمر، ربت على كتفي، و أكد أن لا خطر عليها و أن العديد من الحالات المشابهة تعرض عليه كل يوم، وطلب مني العودة بعد شهرين.
رجعت في الموعد المحدد فلم أجد اللافتة المكتوب عليه اسم العيادة وجدت مكانها لافتة تشير إلى ملهى ليلي. ظننت أني أخطأت العنوان سألت الجيران، لكنهم كانوا يتجاهلون أسئلتي، وينصرفون بسرعة. ازدادت حيرتي،وفاض حزني و أنا أرى الجازية تتألم وتسب وتصرخ: احضروا جوادي وسيفي يا جبناء.
عدت إلى البيت، لم اشتر الصحف كما اعتدت أن أفعل يوميا، فتحت التلفزيون، كان المذيع يعلن ببرودة عن العثور على جثة الطبيب النفساني الذي اختطفه مجهولون منذ شهر.
انتشر خبر مرض الجازية، تهاطلت رسائل القراء تدعوا لها بالشفاء و اقترح بعض الميسورين من العرب الزواج منها،و تسفيرها إلى الخارج للعلاج ووعدوا بدفع مهر كبير، غضبت الجازية لعنتهم ووصفتهم بالمخصيين و....