العلاقة بالتراث
القديم والجديد واحد. فجديد الأمس هو قديم اليوم وجديد اليوم هو قديم الغد. والحاضر هو الحيز الزمني الوحيد الذي يجمع بينهما. الحاضر ليس إلا جمعا بين طرفَيْ هذين النقيضين العجيبين. بل إن الزمن في معناه العميق ليس إلا جمعا متجددا بين الجديد والقديم.
والجديد لا ينشأ من عدم، شأنه شأن النبتة. فلا بدّ للنبتة من تربة ومعادن وأملاح، لا بدّ لها من وسط طبيعي مناسب تستمدّ منه طاقة انشطار البذرة ونموّها. فإذا لم يتهيّأْ لها ذلك لم تنشأ، وإذا صادف ونشأت خرجت مشوهة، هزيلة، مهددة بالعلل المزمنة أوالزوال السريع، وكذلك الجديد. والجديد هو دائما ابن القديم. وما يحدث بينهما من صراع إنما هو سنّة الحياة، فلا شيء في الكون يخرج عن نطاق هذا المبدأ، مبدأ الصراع. على أن لهذا المبدأ قواعده وقوانينه، أهمها قبول حق الاختلاف، والصدق والاستماتة في الدفاع عن الموقع ما دمنا مؤمنين به، لكي تكتمل شروط الصراع الفعّال البنّاء.
***
والقديم قديمان، قديم مظلم، مستهلك، ميت، وقديم نيّر، متجدد، حيّ. وكلاهما في رأيي تربة صالحة للجديد، عامل من عوامل نشوئه وعلّة من علله. كلاهما جدير بالتقدير والاحترام، فلولا القديم المعتم الميت ما تطلعنا إلى النور والحياة، ولولا القديم النيّر الحي، ما رفعنا المشاعل ولما ازددنا حياة وثقة بالنفس وشجاعة وإقبالا على المغامرة.
كذلك الجديد جديدان، جديد حقيقي، وجديد مزوّر، بنّاء وهدّام، فعّال إيجابي وسلبي، إضافة وتطفّل. والأوّل هو الابن الشرعي للقديم على اختلاف صوره، والثاني مخلوق لقيط هجين سرعان ما يتحوّل إلى فضلة من فضلات الأمة والتاريخ.
***
وواضح أن العلاقة السليمة بالقديم أو بعبارة أخرى بالتراث، هي علاقة تواصل حميم يرقى إلى درجة الصلة الرحمية، وأن أي محاولة للقطيعة مع التراث إنما هي اجتثاث من الجذور لأيّ عمل إبداع أدبي أو علمي وغيره. وهذا لا يجب أن يعني التعصب للذات والهوية، ولا الانطواء والانغلاق على النفس، كما لا يعني تقديس التراث والتمسك به تمسكا أعمى، نيّرا كان أو معتما، فهذه أيضا اجتثاث للذات من بيتها وراهنها. وإنما يعني إنزال تراثنا المنزلة التي يستحقها من التقدير والإجلال، كما يعني الانفتاح المتبصّر على الغير والتفتح على الحضارات في غير تسيّب أو تعلق بالقشور، والإصغاء إلى الذات وإلى الآخر.
في هذا الإطار يجب في اعتقادي، طرح قضية علاقة المبدع بالتراث. لذلك لا بد من أن نشير إلى بعض التوجهات التي نعتقد أنها في حاجة إلى مراجعة لنفسها وإعادة النظر في أطروحاتها.
***
إن المواقف تتولدّد عنها بالضرورة، ممارسات. ومن المواقف ما قد يذهب من النقيض إلى النقيض. بل قد يخلط بين النقيضين خلطا غريبا بحكم ظرف من الظروف أو بغيره.
لا أظنّ أن التقوقع في موقف ماضوي أو رجعي يفيد وضعنا الحاضر في شيء. ذلك أن الاعتماد على الماضي ولا شيء غير الماضي، أشبه بالموت إن لم يكن كذلك فعلا. فأن تواجه همومك الراهنة بحلول قديمة، قد يبدو لك أحيانا أو دائما، أنها ناجحة. ولكن نتائجها سوف تظل خاصة بك أنت، ولن تتلاءم مع المحيط الذي لا بدّ أنك عائش فيه، بداية من المحيط الصغير إلى الكبير إلى الأكبر فالأكبر... وإذا تلاءمت مع محيط أو آخر فلا بدّ أنها ستتنافر مع غيره كلما اتسعت رقعة المحيط. ولنكون أوضح، ونعني بهذه المحيطات، الأسرة فالمجتمع فالأمة فالمجتمع البشري قاطبة.
أما النقيض فهو رفض التراث رفضا مطلقا؛ فالتراث لدى أصحاب هذا الموقف هو الماضي، والماضي ليس سوى التاريخ الذي لا يعيد نفسه وهو الكتب الصفراء المحنطة، والأفكار التي عفّى عليها الزمن، والرجوع إلى الوراء، والتخلف، والانحطاط. ومن ثمّ لا بدّ من أفكار حديثة لا عهد للماضي بها، وإن جئنا بها من بيئة غير بيئتنا وثقافة غير ثقافتنا، وإنْ تنافرت تماما مع شخصيتنا وهويتنا وقيمنا ومثلنا العليا. المهم ألاّ يكون لها صلة بالماضي، ولا يشتمّ منها أي رائحة من روائحه العطنة. هذه أيضا وصفة مماثلة من وصفات الموت للحاضر والمستقبل.
ثم هناك الخلط بين النقيضين.
كأن تكون على قدر هائل من الفكر الحديث وصفاء الذهن وحب للتراث وغيرة على الوطن والهوية. ولكنك لسبب من الأسباب، الثقافية وربما المذهبية، تدعو إلى الكتابة بالدارجة لأنها لغة الممارسة اليومية، كأنّ الفرنسية أو الانقليزية أو غيرهما من اللغات، ليس لها لغة أدبية، فكرية، تستعمل في الإبداع الأدبي والفكري والبحوث العلمية، ولغة أخرى مشتقة منها تسمى اللغة الدارجة، ويتعامل بها أفراد المجتمع مثقفين ومتعلمين وأميين لقضاء الحاجة اليومية.
وكأنْ تفرض عليك الظروف أو تفعلها من تلقاء نفسك، فتكتب إبداعاتك الأدبية أو الفكرية أو العلمية بلغة أخرى غير اللغة العربية، لغتك الأم. هذه أيضا وصفة أخرى للموت، من طبيعة مختلفة، بل مأساة يعيشها بعض مفكرينا أو أدبائنا المعاصرين، تجعلهم يشعرون صادقين أنهم يخدمون أمتهم ومستقبلها، فيما هم يخدمون في الحقيقة، ثقافة أخرى وأمة أخرى، كثيرا ما تكون معادية.
***
ما الموقف الأسلم من التراث في اعتقادنا؟..
الفرد كل فرد، هو بدون شك، نتاج تاريخ وثقافة. ولا يمكن أن يكون إلا كذلك حتى لو ادّعى أنه قادم من كوكب آخر. وهو في جميع الحالات وليد تراث شخصي بدرجة أولى وإنساني عالمي بدرجة ثانية. والتراث كائن حيّ، يموت ما لم يتغذّ باستمرار وإلا تعفّن وجف وتقشر ومات كما تتعفن الثمرة وتموت. من هنا يبدأ دور صاحب التراث. من هنا يجب على صاحب التراث أن يتحمّل مسؤولية حياة تراثه أو موت تراثه. فإذا كان الفرد، كما أشرنا، نتاج تراث، فليس التراث نفسه سوى نتاج أفراد. وبعبارة أوضح، التراث يخلقنا فيما نحن نخلقه. فاذا توقفنا عن خلقه أي، إذا توقفنا عن الإبداع، واكتفينا بالاستهلاك، تجمّد التراث وتوقّف بالتالي عن خلقنا، لأنه يكون قد مات أو في طريقه إلى الموت، ولن يكون لنا سوى نفس المصير، ما لم نع ذلك، ونجدد دورة الحياة الطبيعية بين الفرد وتراثه ومن ثم، الأمة وتراثها. إن التراث إضافة قبل أن يكون معطى أو تركة.
العلاقة يالتراث / نورالدين عزيزة
رد مع اقتباس
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاظم عبد الحسين عباس
المفضلات