غناء المينِهْ

( تروبادورْ – Troubadour )
( الشعراء الجوالون - حوالي عام 1150)

د. شاكر مطلق


نشأ هذا الضّرب الغنائي الشعري ، في قصور نبلاء الأرياف ، مع ظهور الشاعر " دير فون كورين بيرغ – Der v. Kuerenberg " ، وكان يُنشَد من قبل الفرسان المعروفين باسم " تروبادور – Troubadour " .
دخل هذا اللون الشعري إلى ألمانيا في منتصَف القرن الثاني عشَر ، وذاع انتشاره فيها ،قادماً من شمال فرنسا المجاورة للأندلس وموشحاتها.
في كتابه الموسوم بـ " من الأندلس إلى أمريكا الموشحات الأندلسية وأثرها في الشعر الغنائي الغربي "
، الذي أهداني إياه - مشكوراً - الصديق الباحث والناقد الأستاذ الدكتور عبد النبي اصطيف - تحدث حول علاقة هذا اللون الشعري مع أدب الموشحات الأندلسية .
سوف أعرض منه بعض المعلومات ، و ألخّص أهم النقاط التي وردت فيه ، وهي للأسف غير موثقة تماماً بالتواريخ وبالأسماء الكاملة ، لكنها تقدّم - رغم ذلك - إضافة مفيدة إلى موضوعنا هذا :
يورِدُ الباحث " أ.د.عبد النبي اصطيف " في المرجع أعلاه أنّ أول شعراء " التروبادور" في فرنسا هو الملك " غيوم التاسع " ( 1071 - 1127 ) الذي انتصر والده على المسلمين ، وأحضر العديد من الجواري الأندلسيات معه كغنيمة حرب . بعد وفاة والده في عام 1086 خلفه ابنه هذا ،كونت " أكيتانيا " الفتي" غيوم التاسع " على العرش ، وكان على صلة وثيقة بإسبانيا - بلد الموشحات والزجل الأندلسي - بسبب زواج أختيه هناك ، ومن هنا جاء تأثره بهذا اللون الشعري .
وصلنا من تركةِ هذا الملك - الشاعر ( إحدى عشرة قصيدة تعكس جميعها تأثره بالموشحات الأندلسية في العناصر الأساسية المكونة لشعره وهي : اللغة ، والشكل والمضمون ، وأسلوب التعبير ) - ص 41 من الكتاب .
يرجِع د. اصطيف هذه الخصائص جميعاً إلى الفن التوشيح والزجل في الأندلس ، استناداً إلى ما أورده " د. عبد الإله ميسوم "، في كتابه الموسوم بـ " تأثير الموشحات في التروبادور " - الصادر عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع في الجزائر عام 1981 - ، الذي يشير فيه أيضاً إلى استعمال " غيوم " كلمات عربية في شعره وفي القفل كذلك ، مقلداً به استعمال الخَرجات الأعجمية في موشحات وأزجال عرب الأندلس .
من هنا جاءت هيكلية بناء القصيدة عند هذا الشاعر ، مُـتَماهيةً مع الأنموذجات الشعرية الأندلسية وليس الأوروبية ، من حيث استعماله أنموذج الموشح الأقرع ، الخالي من المطلع ونظام الموشح التام مع بعض التغييرات الطفيفة وطبعاً القفل كذلك .
أما المضمون فيدور عنده حول علاقة الرجل بالمرأة - المثالية طبعاً - والطبيعة .
هنا أود أن أبدي تحفظات على ما ورد أعلاه من حيث بناء هيكلية القصيدة في شعر التروبادور ، الموسومة عند الألمان - بخاصةٍ - بـ " المينه " التي تتبع في هذا أنموذجاً صارماً ومعقداً تماماً ، لا نعرفه
- على حد علمي - خارج هذا الشكل الشعري الغنائي،
ولسوف أتطرق لاحقاً بالتفصيل إلى هذا الموضوع .
أوردَ د. اصطيف أسماء ثلاثة من كبار شعراء
" التروبادور " البروفانسيين ، الذين تأثروا بشعر " غيوم التاسع " وقبسوا عنه ، ويعتبرهم تلامذة له ، وهم:
- " سركامون - Cercamon " وكان أقلهم شأناً ، ولم يصل من شعره إلا القليل .
- " روديل - Rudel " كان أميراً لمنطقة " بلاي- Blaye " قرب مدينة " بوردو" حالياً .
أحبَّ هذا الشاعر عن بُعْدٍ ( الأذن تعشق قبل العين أحياناً ) - كما يزعمون - أميرةً عربية تعيش في طرابلس - لبنان ، مما دفع به - كما يزعمون - إلى الاشتراك في الحملة الصليبية الثانية على بلادنا عام 1147 ، ووصل إلى هناك سقِماً وفي حالة احتضار . ( وعلمت الأميرة بقصة مجنونها، فأشفقت عليه وعادته للتخفيف عنه ؟! ) ومات بين ذراعيها كما يقال .
تركت قصائدُه الغنائية أثراً في الأدب الرّومنتي
( الرومنطيقي ) في فرنسا وإيطاليا وإنكلترا ... الخ .
تعتبر أغنيته الخامسة من أشعار العشق الروحانية المميَّزة في هذا المجال ، ويعتبره " د. عبد النبي اصطيف " : (عميدَ شعراء الغزل الروحي العفيف المعبر عن الحب المثالي للمرأة ).
- " ماركابرو - Marcabru " يعتبره الدكتور اصطيف عميد الغزل المادي ، العُمَري - نسبة إلى عمر بن أبي ربيعة - .
كان طفلاً لقيطاً لا يُعرَ ف الكثير عن حياته . شبّ وترعرعَ وهو يحمل اسم " بانبردوت " - أي الخيزة الضائعة - ، وإن كان ( ادّعى في شعره أنه ابن سيدة تدعي " ماركا السمراء " ) . لازم شاعر التروبادور الجوال" سركامون " وأخذ عنه قواعد الفن ، الذي مارسه في قصر الأمير
" غيوم العاشر " - ابن أول شعراء التروبادور غيوم التاسع - . كان يحضه على محاربة المسلمين في الأندلس ويمدحه ، ثم يرثيه بلوعة عند موته .
هاجر إلى إسبانيا عام 1137 إلى صاحب برشلونة ، ثم انتقل إلى بلاط ملك " قِشتالة "الملقب بالإمبراطور
" ألفونسو السابع " طامحاً في مكاسب أكثر ، وخاب ظنه هناك فعاد إلى البروفانس عام 1144 متنقلاً فيها ، إلى أن قتل بسبب هجائه المرير .
ترك وراءه أربعاً وأربعين قصيدة مختلفة الأشكال والأغراض ، وغلب فيها الهجاء ، وحملت تأثيرات أندلسية .
من أعماله الشعرية المميزة قصيدة " إيسترونيل - الزرزور " ، يحاكي فيها نظام الوشاح الأندلسي .
وكان الاثنان من تلاميذ " غيوم التاسع " المميزين اللذان أظهرا له ولفنه الوفاء .
أصبحت المرأة البروفانسية في القرن الثاني عشر مشابهة للمرأة العربية من حيث إلهامها الشعراء وحتى كتابتها للشعر، ومنهنّ :
- الأميرة " إيلينور - Eleanor " الأكيتانية ، وهي بنت ملك " تولوز " غيوم العاشر وأم الملك " ريشارد قلب الأسد " .
وهي التي كانت وراء قدوم العديد من شعراء التروبادور البروفانسيين إلى إنكلترا ، بعد زواجها ، وانتشاره هناك .
تعلق بها ملك فرنسا " لويس السابع " وتزوجها عام 1137 وكانت في الخامسة عشر من عمرها ، وطُلقت منه (بسبب تزمته الديني الشديد المعادي لحركة الفكر ومجالس الأدب والشعر والغناء ) فعادت إلى وطنها ، وتزوجها دوق النورماندي " هنري الثامن " عام 1152 ، فانتقلت معه إلى هناك ثم إلى إنكلترا بعد عامين عندما أصبح ملكاً عليها .
في هذا السياق يرد اسم أميرة أخرى تدعى الأميرة " كونستانس - Constance " ابنة ملك أراغون
" ألفونسو الثاني " ، وإليها يعود فضل نشر شعر التروبادور في أوروبا الشرقية مروراً بألمانيا ، وبخاصة في المجر بعد زواجها بالملك المجري " أيْميري - Aimerae " عام 1198 ، فاصطحبت معها مجموعة من الشعراء والمغنين ، ومنهم الشاعر " بيير فيدال - Pierre Vidal " الذي أقام هناك فترة ، مدح فيها الملك فأجزل له العطاء ، ثم رافق الملك "ريشارد قلب الأسد " في حروب الفِرنجة .
جمع الفرسان المنشدون في شعرهم المغنّى هذا بين نوعين من الحب :
- الحب على الطراز المسيحي ،الذي كانوا يَروْن فيه قوةً دينيةً ، على الشعر أن يرسّخ قيَمها .
- الحب على طراز تقاليد الأقدمين المنفتحين على الأحاسيس والمشاعر البشرية .
كان المؤلفون والمنشدون له ، لنشيد المينه ،عادة من صغار الكهَنوت و يسمون " فاغانتن – Vaganten " – أصل الكلمة " فاغاري – Vagare " – أي رحّال ، جوال- .
هؤلاء الرهبان الذين درَسوا اللاهوت ، ولم يجدوا لهم منصباً في المؤسسة الكنَسية ، كانوا يجولون من بلاط إلى آخر ، طلباً للعيش .
لعل من أشهر أعمالهم المعروفة - حتى عندنا في العالم العربي- تلك المجموعة من الأناشيد – غير البريئة العابثة – المعروفة باسم " كارمينا بورانا - Carmina Burana " والمعروفة عالمياً، و" كارمينا " هنا ليس اسم علَم وإنما يَعني الأناشيد – أما الاسم الآخر فيه فهو يدل على مكان العثور عليها ، في الدير المسمى باسم" بورِن " .
شاهدتُها - وأنا طالب -على مسرح مدينة
" هامبورغ " ، شمال ألمانيا (غ) - بغناء الباريتون الشهير " هِرمان براي " في ستينيات القرن العشرين.
أنجزت الآن (8-2009 ) ترجمة بعض النصوص منها .

فيها الكثير من الشعر الجريء ، وقام بتلحينها " كارل أورْف ". كانت تكتب لتغنّى أو ترسل إلى البعض لقراءتها - سراً على ما أعتقد – لأن هناك أمراً إمبراطورياً أصدره القيصر " كارل الأكبر " – شارلمان -بتاريخ 23 / 3 /789 يتعلق بهذا اللون الشعري ، حيث يُمنع فيه إنشاده من قِبَل الراهبات ، غير الرّسميات ).
كانت النصوصُ هذه مكتوبةً غالباً باللغة اللاتينية من قِبل رهبان ألمان ، فرنسيون أو إنكليز .
احتوت النصوص على موضوعات تدور حول عواطف الحب الجريئة ، وأحياناً على نقد سياسي ، كما كانت تحتوي على أناشيد النبيذ وشرب الأنخاب التي جاءت بالدرجة الأولى من مصادر ألمانية وشكلت لنفسها موقعاً خاصاً بها - ضمن مجموعة الأناشيد هذه – أطلقوا عليه اسم " أرشي بوئيتيكا - Archipoetica " .
حوّل الألمان هذا اللون الغنائي المتحرر إلى غناء فكري ( ديني ) في بلادهم لاحقاً ، وأسموه
" المينه الرفيعة " ‘ يقابله غناءٌ حسيٌّ أسموه " المينه الوضيعة " .
كانت الأناشيد ، كالعادة ، تنشد بمرافقة آلة وتريّة تسمى " لاوْتِه – Lawte " ، - تشبه العود عندنا - مما تطلّبَ من الشعراء أنْ يكتبوا وفق نظامٍ مقطعيٍّ صارمٍ في الإيقاع ملائمٍ للموسيقى ، وكان الإنشاد يتم بالدخول إلى الموضوع من خلال كتلتين صوتيتين يسمّونها " Stollen " ، وينتهي بخاتمة معينة ( قفلة ) ، حسب خطة إيقاعية محكمة الصنع.
هذا النشيد سُمّي بـ " كانزونه- Kanzone " .
كانت الموضوعات في هذا النشيد متواضعةَ المحتوى، تصِف الحبَّ ( العفيف ) أو الإعجابَ المَقرونَ بالاحترام ، طبعاً ، عند الفارس لزوجة سيده الأمير الإقطاعي عادةً ، أو لسيّدةٍ أخرى من هذا الوسط المُترَف.
حبٌّ بلا أملٍ بالطبع ،كما يَزعمون ، يشبه " العُذريَّ " عندنا ؟
يرِد في أناشيد الـ " المينه " هذه وصفٌ لمحاسنها الداخلية والخارجية ، مرمِّزاً لها ، من دون إفصاح عن اسمها طبعاً ، متأرجحاً بين المفاتن الحسية والروحانية
( !! كذا ) عندها .
كانت " المينه " مهنةٌ ، على الكاتب – الفارس – أن يتعلّمـها ،يُلقيها ، يغنّيها ، وينشِدها بنفسه، أمام الأشراف المحتفلين في قصورهم ، وكان على الجمهور الموجود هناك أن يستَمتع بمحاولة معرفة اسم الحبيبة التي كُتبتْ وأُنشدت لأجلها المينه.
من خلال هذا الضرب الغنائي ، الذي يُمجَّد فيه الحبُّ الوَهميّ هذا ، كانوا يقومون بتربية الفارس على الطاعة وعلى التغلب على مشاعره البشرية الحِسيّة ، خدمةً لسيده النّبيل فقط، على حد زعمهم مرّة أخرى.
أقول على حد زعمهم ، لأن كلمة " المينه – Minne " مشتقةٌ من الكلمة اللاتينية " ميمينه – Mimini " وتعني ( أنا أتذكّر ) ، فهل يتذكّر الإنسانُ اللاشيءَ أم يتذكّر حدثاً معيشاً ، ترك ما ترك من بصمات أو جروح على نفسه وروحه ، وربّما على جسده أيضاً ؟
بخلاف ذلك فإن كلمة الحب " لوبه – Lubh " تعني الرغبةَ – الشّهوةَ ، فكيف يتفق الضّدان في الصدر الآدمي ؟ .
هناك أسماء شهيرة لبعض منشدي المينه وصلتنا ، ولن أتطرق إليها ، لصعوبة فهم لغة نصوصها القديمة وسذاجة محتواها غالباً ، وإن كنت سأورد اسمين لشاعر ين منهم ، أحَدهما نال إعجابي واحترامي ، ليس بسبب عذوبة شعره فحسب ، وإنما لتصرفه كشاعر " مينه " مُجيد وكإنسان من طين ، رأى في المينه ، وبخاصة في شكلها الرفيع ( الألماني ) شعراً جامداً يُمجّد سيداتٍ من شمعٍ أو خزفٍ ، على ما أظن ، فانتقل لهذا بأناشيده إلى الحياة الحقيقية ، حياة المشاعر البشرية في جسد الطين الحسّيِّ، فكتب " أناشيد الفتيات " التي وضعت المشاعر والرّغبات في المقدمة ، وفي مكانها الطّبعيّ ، ولهذا أطلقوا عليها اسم " المينه الهابطة " .
أنه الشاعر الذي يحمل اسماً نبيلاً ( فون ) وجميلاً أيضاً وهو : " فالتَر فون دير فوغِل فايْدِه – Walter.von der Vogelweide " حوالي ( 1168 – 1228 ) ويعني اسم عائلته النبيل اللطيف ( مرج العصافير ) .
من شعر"هاينرش فون دير فوغل فايده – H.v.d.Vogelweide " ، الجميل والعميق ، أقدّم ترجمة له ، عن النص الألماني المنقول عن اللغة الألمانية القديمة يقول فيه :

يا ويْـلَتاهُ !
إلى أينَ تلاشَت كلُّ أعوامِ ( حياتي ) ؟
هلْ ( كانت ) حياتي حلُماً، أم حقيقةً ؟
هلْ كان كلُّ ما حَسِبـتهُ شيئاً
- ممكناً ( له ) أن يكونَ -
كان شيئاً ( حقاً ) ؟
إذن كنتُ ، دون عِلمي ، نائماً .
الآنَ استفَـقْتُ ، ولمْ أعُدْ أتعرّفُ
ما كنتُ سابقاً أعرِفه ، كَـيَدي .
الناسُ ، والبلدُ الذي ترعرَتُ فيه
صاروا ليَ غرباءَ
وكأنَّ ( هذا ) غيرُ حقيقيٍّ :
مَنْ لعِـبتُ معَهم ، صاروا كباراً خاملينَ .
الحقلُ مُخرَّبٌ ، والغابةُ قُـطِعتْ
لوْ لمْ يجْرِ الماءُ ، كما جرى سابقاً
لكان ألمي – على ما أعتقد – كبيراً حقاً .
بعضُ من عرفَني جيداً في الماضي
يُحيّني ، من دون اكتراثٍ ( الآنَ ) .

موحِشٌ العالمُ في كلِّ مكانٍ
أفكّرُ ببعضِ الأيامِ الرائعةِ
التي هرَبتْ مني ، كضربةٍ في البحرِ
( كلُّ هذا ) سيدومُ ( ؟ )
يا ويْـلَتاهُ !.
==========

أقدم الآن أنموذجاً آخر من هذا الصنف الشعر ي
، وهو لشاعر( المينه ) الشهير أيضاً المدعو :
- " هاينرش فون مورونغِن -" H.v.Morongen
ولد حوالي 1170وتوفي ما بين ( 1228 -1230 )
(ترجمة المقطع الأول من قصيدة طويلة ذات مقاطع ثلاثة –مكتوب بالألمانية نصف الفصحى ) :

أنا قيصرٌ من دون تاجٍ وبلادٍ .
منطلِقاً من مزاجي ، ( أقول )
إنه لم يكنْ أكثرَ مرَحاً
مما هو عليه ( الآن ) أبداً .
مجْداً لمن قامت بهذا العملِ الطيبِ
الذي أشكرهُ لسيدةٍ نبيلةٍ
سوفَ أخدمُها إلى الأبدِ
فأنا لمْ أرَ أفضلَ منها .
أنصحُ الفارسَ أنْ يلتفتَ برغبةٍ
إلى النّساءِ النبيلاتِ
وأنْ يهربَ من النساءِ السيّئاتِ
اللواتي يتعلّقُ بهنَّ الحَمقى ( فقط )
لأن العقلَ لنْ يفرحَ ( بهنَّ )
ومع ذلك ، أعرفُ رَجَلاً
يجدُ مثلَ هؤلاء النِّسْوةِ جيداتٍ .
لقد أمسى قلبي ثقيلاً
اُنظر ! هذا أتاني من آلامِ الحبِّ .
لقد أمسَيْتُ غريباً
( حتى بالنسبة ) للرجلِ
الذي كان في خدمتي ، لزمنٍ طويلٍ
يا ويْـلَتاهُ !
لماذا يفعَلُ هذا ( بي ) ؟
إنْ لمْ يتراجَعْ عنه ، فسوفَ أُصبحُ
- بعذرٍ كاملٍ - عدُّواً له .
==================

نتابع الآن دراستنا في الأدب الجرماني لنتحدث عن الشعر في العصور الوسطى المتأخرة ( القرن 13 – 15 ) – نهاية هذه العصور – حيث شهد هذا العصر ، الآيل للزوال – تراجع سطوة نظام الفرسان، وبخاصة بعد فشلهم في حملاتهم على وطننا العربي ( حروب الفِرَنجة ) ، وتزايدِ قوة النظام الشعبي .
أما في الأدب فقد أخذت أشكالٌ جديدة تتشكل وتظهر :
- الكتاب الشعبي – بعد انتشار الطباعة ، بالأحرف المتحرّكة ، حوالي عام 1450 على يد الألماني
" يوهانّسْ غوتينْبرغ –Joh. Gutenberg ".
- النشيد الشعبي المعروف ، والنشيد الشعبي المكتوب على طراز ( البَلادِه ) بعده بقرنين ، وقد تطرقنا أليه أعلاه .
- ظهور الأدب الساخر وأدب ( الصعاليك ) – ولعل أشهر ممثليه وأهمهم هي شخصيةُ المُهرّج " تل أوْيْلِن شبيغِل – Tell Eulen Spiegel " المعروفةُ حتى اليوم- .
-كذلك ظهور شكل غناء الأستاذة( Meiste Saenger ) ، كما نجده حيا حتى الآنَ ، وبخاصة في مدينة " نورنبورغ " – معقل النازية السابق ، ومكان محاكمة رموزها لاحقاً ، بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية - .
انتشرت أناشيد الشّراب هذه في أوساط طلاب الجامعات وبخاصة المنتظمين منهم فيما يشبه الاتحادات الطلابية ، الذين يرتدون أزياءَ خاصة بكل جمعية تشبه الزِّي العسكري ، يرعون التقاليد ويكثرون من الشرب ويضربون بالسيف في مبارزات طقسية خاصة .
غالباً ما نرى حتى اليوم في ألمانيا على وجوه بعض رجالات الحكم والاقتصاد والمال ندوباً على وجوههم ، يفخرون بها لأنّها تدل على انتماءاتهم إلى تلك الجمعيات الطلابية " بورشِن شافْت - Burchenschaft " ، وهذا يُلزمهم أدبياً عندما يحضرون مع الطلاب الاحتفالات الخاصة بهم ، لأن يكونوا كرماءَ في تقديم المشرب والمأكل وغيره أيضاً .
لا تزال هذه الطقوس مرعيّة حتى اليوم في الجامعات القديمة مثل جامعة " فيليبس " – في ماربورغ على نهر اللاّن التي درَست فيها في ستينيات القرن الماضي وتعرفت طقوسهم هناك ، وفي جامعة " هايدِلْبيرغ " وغيرهما من الجامعات العريقة .
من العام 1450 وصلتنا مجموعة أناشيد من هؤلاء الطلاب ، أقْدَمها النشيد المعروف باسم :
" يعيشون ، صبحاً مساءً ، من غير هموم " .
يُطلَق على هذا اللون الغنائي اسم " فاغانتين ديشتونْغ –Dichtung Vaganten " .
قبل أن أختم موضوع " المينه " الشيّق ، أود أن أشير أن هذا اللون الشعري بقي حياً لدى بعض الشعراء الذين كتبوا على نمطه حتى زمن متأخرٍ ، ومنهم الشاعر :

" يوهان مارتن ميلَر " من مدينة " أولْم " ( 1750 -1814 ) ، يقول، مخاطباً نشيد " المينه " ما يلي :

( أيّتها الـ ) مينه ، بأية روعةٍ
تستطيعين عملَ كلِّ شيءٍ ؟
تُعطينَ أحدَهم كثيراً من الحزنِ
والآخرَ ( تعطينه ) الضَّحِكَ .
هذا تجعلين وجنتَـيه حمراوتينِ
( وعند )الآخرِ ( تجعلينهما صفراوتينِ )
شاحبتَين كالموت .
====================

الشّكل والوزن في الشّعر الجرماني القديم

الشّعر الجرماني القديم،وبالتالي الشعر الألماني ، يعرفان الوزنَ والقافيةَ أيضاً حتى اليوم .
لن أتطرّق إلى إيقاعات الشعر الجرماني القديم ووزنه ولا إلى أمور فنية أخرى تتعلق بهذا الموضوع ،ولا إلى خصوصيات اللغة وتطورها ، لأن هذا أمر طويل معقّد ، أخذتُ أعمل عليه منذ زمن ليس بالقصير في كتاب مستقل ،سيكون بالتأكيد كبير المحتوى ، ولاسيما أن الدخول في مثل هذه الموضوعات بالتفصيل معقد وطويل بطبيعة الأمر ولا يمكن – حسب ما أرى – التطرق إليه من بعيد أو بشكل عرضي ، لأنه أكثر جدية من أن يعالج بمثل هذه الطريقة .
وعلى الرّغم من هـذا، فإنني أرغب بتقديم عرض سريع للموضوع ، لكي يأخذ القارئ فكرةً عن مدى تعقيده وعن مدى صعوبته ، وليتفـهّم رغبتي بملامسته فقط.
عرف الشعر الجرماني القديم ما يسمى بـ " السطر الطويل – Vers " ، وهو الأساس في هذا الشعر- و يقابل عندنا البيت الشعري – ويضمّ ثمانية ارتفاعات . يعادل الارتفاع هذا ، في هذا الأنموذج الطويل ، أربعاً من أرباع النقرة الموسيقية .
أما السطر القصير فيحتوي على وحدتين فقط من أربع أرباع النقرة هذه، ولكن يمكن لهذا الشكل القصير عن طريق ما يسمى بـ " التّـقـفية العصوبة – Stabreim " – نسبة إلى العَصاة ، وهو ما أفضل بتسميته بـ ( النظم العمودي ) – أن يتحولَ إلى شكل السطر الطويل .

( هذه التقنية عرفها الشعب الياباني تحت اسم قصيدة السِلْسِلة أي الرِّنغا في شعرهم القديم ، ويمكن العودة إليها مفصلاً في كتابي الصادر عن وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية عام 2007 ضمن سلسلة آفاق ثقافية رقم 51 الموسوم بـ " الزِّن في الشعر الياباني " وهي دراسة وترجمة تتناول مثل هذه الأمور التقنية في خصوصية قصيدة " الهايكو " و " التانكا " عند اليابان ، ووقع الكتاب في نحو مئتي صفحة من القطع الوسط).

في هذا السطر الطويل الجديد ، القادم من الشكل القصير للبيت الشعري ، تلعب إمكانية ما يسمى " ألِّيتيرا تْسيون – Alliteration " الدورَ الأهم ، وهي ظاهرةٌ معقدة تُنْطقُ فيها الكلماتُ المتجاورةُ ( صوتياً ) على وتيرة واحدة . لكن الجرمان كانوا يشدّدون النّبرَ على الكلمة الأم ( الأهم في المقطع الشعري ) .
كان الجرمان إذن يتحدثون عن النظم العمودي عندما كانت الكلماتُ الموجودةُ في ارتفاع اللحن الأساس للبيت الشعري ، تُظهِر وتبدي نفس الوتيرة الصوتية ، أي الارتفاع والحدة .
كلُّ الصّوائت ( الفوكالِه – Vokale ) يمكن لها أن تُنظَمَ ، بعضها إلى بعض ، بهذه الطريقة ، عندما تتشابه وتيرتها الصوتيةُ – كما أشرت أعلاه - ، و تسمى عندئذٍ بـ " القضيبِ " أو " العمودِ " في البيت الشعري .
هذا النمط العمودي من النظم لا يمكن لـ " الصوامت – Konsonanten " أن تكتَب على غراره إلاَّ عندما تكون متشابهة بين بعضها البعض .
في هذا النمط " العمودي " من الشعر الجرماني يوجد عمودان في نصف البيت الأول – عادة – بينما يوجد في النصف الثاني – الشطر إن شئت مقارنته مع شعرنا العربي – قضيب واحد فقط ، وهو الأهم هنا ، ولهذا يطلق عليه اسم " القضيب – العمود الرئيس ".
كانت الوحدة الشعرية في الأساس القديم ، هي الوحدة اللغوية أيضاً ، وكانت الجملة تختَتَم بسطر طويل أطلقوا عليه اسم : شكل أو أنموذج " السّطر القاسي " .
لكن عندما كانت الجملة الشعرية تتجاوز حدودها لتطال السطر التالي ، كانوا يتكلمون عن الطراز أو الشكل أو الأنموذج ( الحر ) للسطر الشعري ( البيت ) ، وهذا يحدث فقط عندما يكون هذا التجاوز أو التقاطع واقعاً في نهاية السطر فقط .
ولكن ، إن وقَع هذا التجاوز في وسط السطر ،كانوا يتحدثون عن طراز ، شكل أو أنموذج ، " السِّنّارة أو القوس " .
كل هذه التعقيدات كانت تقتضيها ضرورةُ الـ " سِنْتاكْسْ – Syntax " عندهم - ، أي علمُ ( فنّ ) بناء الجملة ورصف الكلمات لبنائها – المصطلح إغريقي الأصل - .
تحدثنا - حتى الآن – عن الارتفاعات في البيت الشعري أما الـ " انخفاضات الصوتية – Senkung "في سطر الشعر الجرماني فالتصرُّف فيها كان حراً تماماً ، حيث كان من الممكن لهذه الانخفاضات أن تتناوب مع الارتفاعات ، بحيث يمكن تجاور ارتفاعان معاً في السطر الشعري ، كما كان يمكن لهذه الانخفاضات أن تغيب تماماً عن الإيقاع الشعري .
عدد المقاطع في هذه الانخفاضات لم يكن محددّا، وكان من الممكن لنا أن نجد منها مقطعاً واحداً فقط أو نجد عدةَ مقاطع ، غير مشددةٍ تتلو بعضها البعض، وتعتبَر عندئذٍ انخفاضاً واحداً فقط .
على هذا الطراز كان يُصاغ " النشيد البطولي " الجرماني، وينشَدُ فردياً ، ولكن ونظراً للصعوبات التي رأيناها طرأت لاحقاً تنويعاتٌ على هذا الشكل أدت إلى ظهور ما يسمى بـ " الشكل القوسي– أو شكل الصنّارة "
( للقصيدة ) حيث يمكن لها أن تكون من دون مقاطع بحيث تصطفُّ الأبيات وراء بعضها البعض .
أما في " النشيد الجَوْقي " – الذي تؤديه مجموعة من المرَتّلين – فلا يمكن التعامل فيه مع الانخفاضات
( اللحنية ) بحرية تامة كما هو الحال في " النشيد البطولي " ، ولا نعرف حتى الآن إن كان هذا " النشيد الجَوْقي " مقطّعاً إلى مقاطع أم لا ؟ .
أريد أن أتوقف هنا عن البحث في هذا الموضوع الذي يشبه فيه بناء السطر الشعري الجرماني القديم ، من حيث التعقيد الإيقاعي والبنائي ، تلك الموجودة في قصيدة " شي " و " تسو " الصينيتين ، وكذلك تلك التعقيدات الموجودة في بناء اشعر الياباني القديم .
لعله من الطريف التنويه هنا إلى أن الشعر الجرماني القديم ، فيما يتعلق بالعمود التراكمي نحو الأعلى ، سار بخلاف الأمر الموجود في الشعر الياباني القديم حيث كان المسار من الأعلى نحو الأسفل ، وحيث نجد مثلاً في قصيدة " التّانكا " – 32 حركة صوتية في خمسة أسطر فقط ، تولِّد شكلاً شعرياً مختَزلاً يسمى " الهايْكو " – 17 حركة صوتية في ثلاثة أسطر فقط .
من يرغب في معرفة المزيد حول هذا الأمر الشّيق والمعقّد بإمكانه أن يرجع إلى بعض الدراسات والكتب التي أنشأتها فيه وحوله ، ومنها الكتب التالية :

- فصول السنة اليابانية (شعر) – ترجمة –اتحاد الكتاب العرب –دمشق 1990 .
-لا تبح بسرك للريح (شعر وحكم) من الصين واليابان – ترجمة – دار الذاكرة 1991 .
-على شاطئ الأيام البعيدة (شعر ياباني) – ترجمة – دار الذاكرة 1995 .
-درب الكشف: شعر(زن) من الصين واليابان– ترجمة – دار الذاكرة 1999 - الشاعر الصيني القديم (لي- تاي- باي). – ترجمة – دار الذاكرة 1999 .
- الزِّن في الشعر الياباني - دراسة وترجمة – وزارة الثقافة في دمشق – الكتاب الشهري 51 - 2007 .

طرائق النظم الشعري الجرماني" Der Reim "
استعمل الشعراء الجرمان ثلاثة أشكال من النظم – وما زجوا فيما بينها :
1 – النظم العمودي ( العصاة – Stabreim ) .
2 – النظم ( البينيّ – Binnen )
3 – النظم بطريقة ( إغيل سكال أغريمسون – Egill Skallagrimsson )
وهو طراز نظم إرلندي تأثّر بطريقة نظم " Skall " القادمة من الشمال الأوروبي– واللفظة موجودة في التسمية – .
4 – النظم بطريقة ( البيت الأخير –Endreim )
كان النظامان الأوّلان على تلائمٍ أكبر مع طبيعة اللغة الجرمانية .

المقطع الشعري " Strophe "

لم يكن هذا النظام المقطعي موجوداً منذ البدء في الشعر الجرماني ، كما كان الحال عليه في النشيد المعروف باسم نشيد " هيِلده براند " ، الذي مرَّ معنا أعلاه .
ورد لاحقاً ، في الشعر الطقسيّ ، ربما لتسهيل الحفظ ، في وسط أميٍّ يعتمد النقل الشفهي للشعر .
لكننا نجد هذا الشكل منذ البدء في الشعر الإسكندنافي، مثلما هو الحال عليه في أناشيد الـ " إدّا – Edda " الشهيرة ، من العصور الوسطى ، التي تحتوي على الأشكال الأربعة المعروفة في النظم المقطعي الجرماني ، وتشكل الإطار الشكلي لاحتواء المعنى بدقة ، الذي كان يدور حول الآلهة والنصوص الدينية الفلسفية ، وكذلك كان يضم أناشيد الأبطال أيضاً .
تشبه أناشيد الـ " إدّا " ما هو معروف عندنا من قصص ملحميّ شعبيّ مثل : " تغريبة بني هلال " و " الزير سالم " ... الخ
هناك تفاصيل تتعلق بكيفية استعمال هذا النمط من الكتابة الشعرية وفي أي شكل ولأي موضوع ، ولن أخوض في هذه التفاصيل ، لأنها تقودنا بعيداً في التقنيات المعقدة المتعلقة بصياغة الكلمات والأبيات والمقاطع وتوزيع الأصوات ( اللحن ) فيها ، مصطلح اللحن هذا " Ton " معروف في الموسيقى بالطبع أيضاً .
ولكن ، وبرغم هذا ، سأقدم أنموذجاً من هذه الصعوبات النظمية ، ليطلع القارئ العربي على مدى التعقيد الموجود في بعض أشكال الشعر لدى الشعوب الأخرى، كما هنا في الجرمانية أو في القصيدة الصينية القديمة المكتوبة على طراز " شي " و " تسو " وإلى حد ما في القصيدة اليابانية ، ليس في " الهايكو " أو " التّانكا " – الواكا – وإنما في الشكل المسمى " رينغا " -السِّـلسلة -:
أشكال النظم المعقدة هذه لا تسمح حتى للمختصين الألمان بترجمتها جيداً .
لحسن الحظ كان هذا الشكل يستعمل في صياغة قصائد قصيرة لا تتعدى المقطعين عادة ولمناسبات قليلة ومحدّدة ، وهو يتعدّى ذلك طولاً في حالات خاصةٍ، كما في الشعر الإسْلَنديّ المنظوم على طريقة " سوغور - isländischen Sögur " عندما ترد حِواريّاتٌ فيه.
لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بوجود حِرْفيّة عالية في صياغة هذه الأشكال ، وحتى بعض الملامح التجريبية في صياغة النص ، الأمر الذي نراه أحياناً في بعض القصائد في الشعر المعاصر .
من أشكال النظم الشعري الذي ظل قائماً حتى في مطلع القرن العشرين ، والذي ربما لا يزال يستعمل حتى اليوم ، من قبل بعض الشعراء ، أورد شكلين منه :
الأول هو شكل الـ " سونيت - Sonnets " :
أصله إيطالي . يحتوي هذا الشكل على أربعة عشر سطراً ( بيت ) موزعة على مقطعين " Strophe "يحتوي كلٌّ منهما على أربعة سطور ، بحيث تكون القافية في السطر " البيت " الرابع والخامس والثامن ، متطابقة مع قافية السطر الأول ، كما يحتوي أيضاً على مقطعين آخرين ، يضم كل منهما ثلاثة أسطر ، تكون القوافي فيها حرة ومختلفة عما ورد أعلاه .
الشكل الثاني هو شكل الـ " تيرزينه - Terzine " :
هذا الشكل إيطالي الأصل أيضاً ، وهو طريقة نظم شعرية معقدة ، يحتوي " المقطع - Strophe " فيه على ثلاثة سطور ( أبيات) يضم كل منهم أحد عشر لفظةٍ " زِلْبِه - Silbe " ، بحيث تكون القافية في البيت الأول والثالث على وفاق واتصال مع البيت الثاني مع المقطع السابق ، ويكون البيت الختامي ( القفلة ) أيضاً على توافق واتصال مع البيت الثاني من المقطع الأخير .
===========
E-Mail:mutlak@scs-net.org