رمضـــــــــــان بنيويـــــــــاً..
[align=center]رمضان بنيوياً
د. عبد القادر علي باعيسى
أستاذ الأدب الجاهلي بجامعة حضرموت
رمضان بنية متماسكة ، أو كتلة موحدة العناصر من الصوم والصلاة والصدقة وقراءة القرآن والتراويح والتهجد والمودة في القربى والصلح والتسامح والدعاء .. إلخ وإن شيئا من هذه لا يؤدى بوصفه مستقلا بذاته ، أو منعزلا عن المجموع ، بل متفاعلا معه ، بمعنى أنه لو صام أحد من غير أن يصلي بطل صيامه ، أو صلى من غير أن يحفظ لسانه عن الغيبة بطل صيامه كذلك .. إلخ ، فضلا عن علاقات خفية في هذه البنية الرمضانية تتصل بالشخص نفسه في علاقته الخاصة بربه ، وهذه البنية المتكاملة والمتماسكة هي ما يعطينا قوة الإحساس الإيماني العارم برمضان ، بصورة مؤثرة .
وهذه العناصر من الصوم والصلاة والصدقة متداخل بعضها في بعض ، ومتفاعل بعضها في بعض ، فالصلاة تكون في أثناء الصوم ، والدعاء قد يجري في الصلاة ، والصدقة قد تتم في الصوم ، حتى كأننا لكثافة هذه الأشياء نشعر بها لأول مرة ، بمعنى أنها تبدو لنا مختلفة عما هي عليه في غير رمضان ، بفعل هذه البنية .
إن هذه العناصر ( العبادات ) تتوالى تباعا ، على المستوى الأفقي ، فصوم يتلوه صوم يوم آخر، وصلاة تتلوها صلاة ، وصدقة تتلوها صدقة ، ودعاء يتلوه دعاء ... ولكنها تختلف على المستوى العمودي ( الاستبدالي ) فصلاة قد تكون أعمق أو أكثر حضورا من صلاة ، وصدقة قد تكون أكثر كما ونوعا من صدقة ، أو أكثر إخلاصا في إنفاقها ، وصوم يوم قد يكون أنزه من صوم يوم آخر . . وهكذا .
ويعد العام كله سياقا لهذا الشهر الكريم ( وقد أثر أن السلف كانوا يودعون رمضان ستة أشهر ويستقبلونه ستة أشهر ) فالذي يخلق صورة رمضان الخاصة هو انزياحه الإيماني الخاص والمكثف المختلف عن بقية الأشهر ، وإن بنيته ، كأي بنية أخرى ، لا تقوم على كلية عناصره ( العبادات فيه ) حسب ، بل على تحولها أيضا ضمن آلية معينة من نظام وترتيب إلهي ، فأوله رحمة ، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار ، كما جاء في الحديث الشريف ، كما أن بنية رمضان لا تقوم على المعاني والمرامي الشريفة لهذه العبادات حسب ، وإنما على أدائها وترتيبها أيضا ، أي على كيفية نظامها ، فالصلاة في أول الوقت هي غير الصلاة في آخره ، وتعجيل الفطور خير من تأخيره ، والصلاة جماعة هي غير الصلاة مفردا ، وعشرون ركعة في التراويح هي غير ثمان منها ، والعبادة في ليلة القدر هي غير العبادة في غيرها .
وما يحرك فاعلية الانزياح كذلك في هذا الشهر المبارك هو أن بنيته تقوم على تقابل عنصرين كبيرين ( صيام بالنهار وقيام بالليل ) وما ينتج عن هذا التقابل من جزئيات وتفريعات ، فرمضان يحضر عند غروب الشمس ( الفطور ) وعند اقتراب الفجر ( السحور ) وعند اشتداد ظلمة الليل قياما ، و اشتداد الحر في الظهيرة صياما ، وعند صلاة الضحى بعد طلوع الشمس ، وعند صلاة العصر قبل غروبها .. ومثل هذا كثير .
وعليه فإن رمضان يمثل انزياحا حقيقيا مادام يشكل خرقا لآلية الزمن المعتادة في الحياة اليومية ، وتبرز حقائق هذا الانزياح عبر فعالياته في المكان والزمان ، وإن في تفضيله على بقية الأشهر بإعطائه صفة ( سيد الشهور ) إشارة إلى هذا التميز بغية تعميق الإيمان به في أفئدة المؤمنين ، وتنشيط الحالة الروحية بكيفية خاصة في كل منهم ، كأنهم علامات لكل واحدة منها موقعها ضمن السياق الرمضاني ، ولكن في الوقت نفسه ، المتفق مع المجموع ، المنسجم معه ، مما يزيدهم عمقا إيمانيا وتواصلا تصفو به أنفسهم ، وترقى ضمائرهم ، وتتنزه به جوارحهم ، فرمضان رمز للخلاص من الشرور وتطهير الأنفس .[/align]
رد مع اقتباس
المفضلات