المرحلة الثانية


المرحلة الثانية


المرحلة الثانية

المرحلة الثانية من
(محاور في المقام العراقي)



2009



محاور في المقام العراقي
دراسة بحثية متسلسلة لمحاور تخص شأن
غناء وموسقى المقام العراقي
يـكـتبها في حلقات

مطرب المقام العراقي
حسين اسماعـيل الاعـظمي

الاردن / عمـَّان
كانون الثاني January 2009
اليكم أعزتي القراء في الصفحات التالية
المرحلة الثانية من (محاور في المقام العراقي) التي تم نشر تسعة عشر محورا في المرحلة الاولى من العام الماضي 2008 ، وها نحن نستهل عامنا الجديد 2009 بالمحور رقم (1) والمحور رقم (2) والمحور رقم (3) والمحور رقم (4) والمحور رقم (5) والمحور رقم (6) والمحور رقم (7) والمحور رقم (8) والمحور رقم (9) والمحور رقم (10) والمحور رقم (11) والمحور رقم (12) تكملة لمحاور المرحلة الاولى واستهلالاً للمرحلة الثانية .. وهذا المحور رقم (13) مذكــِّراً ، في حال فقدان أية حلقة من حلقات المحاور في مرحلتها الاولى والثانية أن تكتبوا إليَّ لأرسلها إليكم
***
أو الذهاب الى موقع كوكل google والبحث عن (محاور في المقام العراقي) او (محاور في المقام المرحلة الثانية) حيث تجدون كل المحاور منشورة في المواقع والشبكات الالكترونية مع الشكر والتقدير لكل اخوتنا واصدقائنا في هذه المواقع والشبكات


المرحلة الثانية
من المحاور المقامية


المحور رقم

(13)


Hussain_alaadhamy@yahoo.com


00962795820112


المحور رقم
(13)
********
بعض المغنين المقاميين من اتباع
الطريقة القندرجية

**********
رشيــد الفضــلي
(1904-1969)
- وصف عام لاسلوبه
- قيمة رشيد الفضلي الفنية
- نشأته وتعابيره الحزينة
- مقام المخالف
- مقام المدمي
- مقام الحسيني
************
وصف عام لاسلوبه
عند سماعنا للمقامات العراقية المسجلة بصوت المغني المقامي المقتدر رشيد الفضلي ، والتمعن في أسلوبه الادائي لها , لانستطيع أن نضعه ضمن أتباع الطريقة القندرجية بصورة مباشرة ومطمئنة , ولا الى غيرها من أساليب وطرق غنائية كانت لاتزال موجودة عند نشأته الفنية ومنها (الطريقة الزيدانية) او غيرها , والغريب أننا لانستطيع أيضا , وصفه بأنه يمتلك طريقة خاصة به , فغنائه للمقامات التي سجلها في إذاعة بغداد خليط مهجن غير مرتب من أساليب عدة تأثر بها عند نشأته الفنية , ولكن رشيد الفضلي لم يستطع أن ينضِّمها أو يضع لها منهجا واضحا , أذ يبدو أن التطورات السريعة لحقبة التحول التي عاشها ، كانت سريعة جدا بحيث لم يدركها تماما , فغنى المقامات على هذه الشاكلة المحاطة ببعض الغموض في الاسلوب .. ولكنه مع ذلك , يبدو لنا من خلال بعض الصفات الفنية في ادائه , انه يميل الى الطريقة القندرجية , و اهم هذه الصفات , هي اهتمامه بالشكل المقامي والتزامه به , و كذلك اهتمامه بالمسارات اللحنية المقامية اكثر من اهتمامه في توضيح مفردات الكلام المغنى ... و عليه فإن وضعه في هذا الكتاب ضمن اتباع الطريقة القندرجية , اكثر منطقية نسبيا , وافضلُ من وضعهِ في مجموعة اسلوبية اخرى .. خاصة وانه عاصر الطريقة القندرجية منذ بداية نشوئها .. وربما من الوقت المناسب الآن , ان نفتتح حديثنا عنه وعن تجربته المقامية ونحن نستمع الى قصيدة المتنبي مغناه بصوته في مقام الجهاركاه ..

اليوم عهدكم فـاين الموعــد
هيهات ليس اليوم عهدكم غد
الموت اقرب مخلبا من بينكـم
والعيش ابعد منكم لا تبعدوا
ان التي سفكت دمي بجفونـها
لم تدر ان دمي الذي تتقلد
قالت وقد بان اصــفراري مـن
به , وتنهدت فاجبتها المتنهد
فمضت و قد صبغ الـــــمياء
لوني كمـا صبغ اللجين العسجد
فرأيت قرن الشمس في قمر الدجى
متـأودا غصن بـه يـتأود

قيمة رشيد الفضلي الفنية
يعد المطرب القدير رشيد الفضلي , من المطربين المقاميين الجيدين من الذين ولدوا وظهروا فنيا في حقبة التحول وعاش حتى حقبة التجربة .. ومهارته الادائية تدنو في احسن حالاتها من مهارة معاصريه الجيدين , ولكنه لم يبلغ مستوى المطرب الحاذق نجم الشيخلي في الاداء المقامي مثلا .. إلا أن الكثير من جهده , انصب في غناء المقام العراقي .. وعليه يجب اعتباره من المغنين المقاميين الجيدين المعاصرين لحقبة زمنية كثرت فيها التحولات والتطورات في شتى مجالات الحياة ..
أن رشيد الفضلي يستغل ماضيه وحاضره البيئي بصورة تكاد ان تكون مميزة كصفات موضوعية لغنائه المقامي , إلا أنه في إسلوبه المغلَّف ببعض الغموض , يتَّسم بتعابير شديدة الحزن بحيث تغلب عليها في معظم الأحيان روح الكآبة والمأساة ..

نشأته وتعابيره الحزينة
ولد رشيد الفضلي في بغداد عام 1904 وتوفي فيها عام 1969 , وعاش ممتلئا بهموم الحياة ومشاكلها , وتجسَّد كل ذلك في أدائه لبعض المقامات التي تتصف تعابيرها أصلاً بالحزن والشجن مثل مقام المخالف ومقام المدمي (سلَّمه حجاز) ومقام الحديدي (سلَّمه صبا) , التي قد تكون أكثر مقاماته استحسانا في ألاداء وتبدو فيها كل صفات غنائه الحزينة .. ففي مقام الحديدي (سلَّمه صبا) نجد هذا المنحى في التعابير المغنى بهذا الزهيري ..

يازين الاوصاف أطعنت الحشا بسناك
من حين طر الفجر من مبسمك بسناك
لو عسعس الليل د عنا نهتدي بسـناك

وانكول هذا البدر أشرك علينه وهل
والعرك بمحا سنك كالبدر ينثر وهل
وان جيتنا بالوصل يابن المكارم وهل

بسناك حدر الحـنك لو والمت بسناك

أن رشيد الفضلي , مطرب مقام بحكم بيئته , ومحب للمقام بحكم ميوله التلقائيه , وعلى هذا ألاساس , فقد نجح في فنه ألادائي , إن الصفات التي يراها المؤدون المعاصرون له مثل جميل ألاعظمي ويونس يوسف وصديقة الملاية ومحمد العاشق وغيرهم , هي الصفات الرئيسة لمؤدي المقام العراقي , فاهتمامه بالشكل المقامي يبدو واضحا في مقاماته وفي التعابير البيئية التي تعبر عن حياته التي عاشها بصورة واضحة , وهي في نفس الوقت من أبرز صفاته , ومهارته في وحدة عمله المقامي مقبولة رغم الملاحظات , فهذه ألامور تمثل في زاوية ما , إستجابـة جمهوره له ولفنـِّــه ..

مقام المخالف
نواصل ألآن سماعنا لمقاماته ذات التعابير الحزينة حيث يغني مقام المخالف 4* بهذا الزهيري ..

من عــالم الذر قدرت العــطا واقسمت
وأدعيت ألارزاق كطرة من السما وأقسمت
شمسوي أنه ويـــاك والهم إلي قسـمت

كلها عطايــاك تكول من السعي لابد
وأنت بــوحيك تكول من السعي لابد
السعي شيفيد لو جان السعــــد لابد

الحمد لله على ما قدرت وأقســـــمت

مقام المدمي
ولنستمع أيضا إلى مقام المدمي (سلَّمه حجاز) الذي مر ذكره قبل قليل حيث أشرنا ألى المقامات الثلاثة الملأى بالحزن والشجن في تعابيرها , بهذا الزهيري ..

بعد الهجر لاتســــل ياصاح ملـــوني
وبنار جمر الغضـــــــا ذولاك ملوني
ثابت على حبهم مايوم مــــــــلوني

تـــــــم الكلب مبتلي حيران ويـــاهم
من هجرهن مهجتــي وعضـــــاي وياهم
ذاك الــــتعب والسهر مافاد ويـــــاهم

لمن حجيت الصـــــــدك ذولاك ملوني

مقام الحسيني
ولعل مقام الحديدي الذي إستمعنا وأشرنا إليه فيما سبق من حديــث في البداية , حيث يمتاز بأنه مقام ذو روح حزينة في أدائه أصلا ، ويؤكد ذلك أنه من سلَّم مقام الصبا الذي يتصف هو ألآخر بتعابيره الحزينة , فإن ملائمة الطريقة الادائية في اسلوبها الحزين مجتمعة مع سلَّم لمقام حزين وكلام حزين في غناء مقامي ذو ميول حزينة ..!! فعليك أن تتأمل عزيزي القارئ والمستمع ..! ولكن رغم ذلك نجد له بعض التعابير الاقل حزنا وهو يؤدي مقام الحسيني بهذه القصيدة التي أستطعت أن أفهم منها بيتين فقط من شريط التسجيل الصوتي ولم أفهم مفردات القصيدة الباقية ، ورغم أن التسجيل يكاد أن يكون واضحا وجيدا , إلا أنه يؤكد ميوله هنا إلى سمات الطريقة القندرجية في غموض وادغام الحروف والكلمات والاهــتمام بالمسارات اللحنية اكثر من اي شيئ آخر ..!

مالقلــبي تهزة الاشــــواق
خبــــر ينا أهكذا العشــاق
كل يوم لـــنا فؤاد مـــذاب
ودمـــوع على الخـدود تراق

**************************



احمــد موســى
( 1905- 25/ 8/ 1968 )

- فكرة عن فنه المقامي
- مقام الابراهيمي
- مقام الحسيني
- مقام العريبون عرب

************
فكرة عن فنه المقامي
ما زلنا نجد اسم المطرب القدير احمد موسى يتردد بين الاوساط المقامية بالرغم من هبوط شهرته بعد وفاته عام 1968 فقد بدا احمد موسى سيرته الفنية في نفس الحقبة التي عاصرت ظهور الكثير من المغنين المقاميين الذين كانوا يقيمون الحفلات من دار الاذاعة العراقية على الهواء مباشرة ، والتي لم يوثق معظمها ، وذلك منذ ان تأسست الاذاعة في بغداد مطلع الثلاثينات واستمرت هذه الحفلات دون تسجيل يذكر حتى مطلع الخمسينات من القرن العشرين .. ولكن في السنوات التي تلت ذلك والى حين وفاته كما يبدو لنا ، قد سجل العديد من المقامات العراقية في استوديوهات الاذاعة .. اما اهم هذه المقامات التي تم الاستماع اليها من قبل الجمهور مسجلة بصوته المعبر من الاذاعة فهي مقامي العريبون ( عريبون عجم وعريبون عرب) مجتمعين في مقام واحد .. ومقام الابراهيمي ومقام الحسيني ، وفي هذه المقامات يتميز اداؤه الغنائي بالتعابير البغدادية الاصيلة ، وتمسكه الدقيق بمباديء الطريقة القندرجية الذي تلذَّذَ بتعابيرها كما يبدو عند سماعنا لهذه المقامات مستغلا هذه القيم ليعبر بحزن مهذب جميل تميز بالصدق معلنا عن كونه فنانا ذا خبرة وتجربة اضفت على اسلوبه هذه التعابير ...

مقام الابراهيمي
يتجسد الكثير من هذا الكلام في ادائه لمقام الابراهيمي المؤدى بهذا الزهيري المتداول غناء ه لدى بعض المغنين الاخـرين وبعضهم بنفس هذا المقام ..

فجر النوى لاح ياعاذل تجــــلى أو طار
جنهم جفوني ولا منهم كضـــيت أو طار
جسمي خوه والعــــكل مني تنحة وطار

من شفت حادي الرجــــايب لاح لولاهن
بضمايري جاورن لحــــــشاي لولاهن
المزعجات الليالي الشـــــــوم لولاهن

ما جان عاف الكطة طيب المنام وطـــار

قدم احمد موسى للغناء المقامي والثقافة المقامية عامة ، تراثا فنيا وافرا غنيا ، وجاءت مقاماته المسجلة بصوته المؤثر ، علامة واضحة على طريق تطور الطريقة القندرجية الكلاسيكية ، فقد تأكد ذلك في كل نتاجاته الغنائية الاتجاه الكلاسيكي الذي ميَّز نتاجات المغنين المعاصرين الملتزمين باسسس الطرق القديمة وبالذات من اتباع الطربقة القندرجية ذات الاتجاه الجمالي الكلاسيكي ، كما جاءت نفس هذه النتاجات في غناء المقام العراقي دلالة على قوة الغناء المقامي في اتجاهه الكلاسيكي تجاه المذهب الرومانسي ، علاوة على ذلك فقد اعطى احمد موسى في مقاماته هذه صورة أخرى جديدة على جمالية الطريقة القندرجية في تعابيرها الغنائية ..


صورة / مطرب المقام العراقي احمد موسى

مقام الحسيني
بالاضافة إلى كل ذلك ، فإن احمد موسى يعتبر من اكثر المغنين من اتباع الطريقة القندرجية الذين اعطوا نتاجا غنائيا وطنيا وقوميا اصيلا ، معبق بكل ما هو عراقي حقا ، فالروح العراقية والطابع المميز للشعب العراقي وحياته وطبيعته ، كل ذلك يبرز بجلاء بين ثنايا التعابير الجميلة لمقاماته الغنائية ، ولا ادل على ذلك من مقام الحسيني المؤدى بصوته بهذه القصيدة للشاعر ابن مليك الحموي ..

قسما بحفظ عهودكــــم وودادي
لم اقض منكم في الغرام مـرادي
وعليكم حسد العذول اما كفــــى
حتـى العواذل في الهوى حسادي
ولشقوتي في الحب قد عز الرقــى
لما تناء يتم وعز رقـــــادي
ما ذاك الا ان اميال الجـــــفا
طالت وطــرفي كحلت بسهادي
فمروا جفوني بالكرى لتراكــــم
وتبيت من وصل على ميعــاد
احبابنا عودوا وجودوا باللــــقا
فلقد ضــــنيت وملني عوادي
روحي لكم قد قدت طــوع هواكم
هذا زماني دونكم وقــــيادي
يا عاذلي عني اقتصـــر اني لفي
واد وانت عن الهــوى في واد
كم بين من يبغي الصـلاح وبين من
في عذله مني يروم فـــسادي
انا ان سلوت فما يعاودني الــكرى
كلا ولا زار الخيــــال وسادي
بابي نزولا بالحشا قد خــــيموا
واسـتوطنوا عوض الخيام فؤادي
لسوى هواهم لم امل فــــكانهم
خلقوا على حسب الهوى ومرادي

وبوجهة نظر ثابتة ، اكسبت نتاجات احمد موسى في غنائه للمقامات ، غنىً تفتقر اليه بعض التسجيلات المقامية المسجلة باصوات الآخرين من زملائه .. لقد كانت تعابيره ، حزنا شجيا مؤدبا كما يبدو عند سماعنا لها .. عبر فيها باسلوب بغدادي اختلف فيه عن غيره .. ومن مميزاته انه ارتقى إلى الصدق في التعبير وادى مقاماته التي سجلها بصوته باصولها التقليدية المتبعة ، وبهذه الوسائل احتفظ احمد موسى بشهرته وموقعه الفعَّال بين مؤدي المقامات العراقية في القرن العشرين .. ومع ذلك فان احمد موسى يختلف عن بعض معاصريه مثل محمد العاشق واسماعيل عبادة ومجيد رشيد ورشيد الفضلي وعبد الهادي البياتي وحسن خيوكة في ان مقاماته التي سجلها بصوته ، توصف بأنها تحوي جماليات ادائية بيئية خالصة جميلة ..
لقد كان احمد موسى جزء من تيار الاسلوب والاتجاه الكلاسيكي في الغناء المقامي في النصف الاول من القرن العشرين ، ولكن ليس قوة شديدة الوعي خلف ذلك التيار.. ورغم ان اذاعة مقاماته من خلال الاذاعة العراقية او القنوات التلفزيونية باتت منسية للاسف الشديد ، إلا أن تأثيره لم يزل باقيا لدى اكثر مستمعي الوسط المقامي ..

مقام العريبون عرب
والآن لنستمع إلى مقام العريبون عرب دون مقام العريبون عجم ، رغم ان احمد موسى غناهما معا مرة واحدة ، لكنني لم استطع تتبع مفردات القصيدة المغناة في مقام عريبون العجم .. واستطعت بالمقابل معرفة مفردات الزهيري في مقام العريبون عرب لشهرة هذا الزهيري ولاعتياد الكثير من المغنين اختياره في غناء نفس هذا المقام ..

يا قلب واشطيحك باحبالــهم وشـــراك
ومن الهضم بان سكمك ونحلك وشـــراك
لي صاحب مارهم وشرة على وشـــراك

وببحر جوده تراه اعلا الوصــال ايجـــــود
عنه تنحى بكربه ما علـــــيك ايجـــــود
عاشر اصيل اذا جار الزمـــان ايجـــــود

وان صابتك نايبة باع النفس وشــــراك

كان احمد موسى تلميذا صريحا للطرق الادائية القديمة التي سبقت ظهور المطرب الكبير محمد القبانجي .. فهو احد اتباع الطريقة القندرجية المخلصين .. وقد كان مثل اقرانه المعاصرين الذين ينتمون لنفس الاتجاه .. واعيا وصريحا ومعبرا عن تلك الطرق القديمة التي صهرها وهذبها المطرب الكبير رشيد القندرجي واسميتها بالطريقة القندرجية التي اضمحل وجودها بمرور الزمن في نهايات القرن العشرين ، بسبب التأثير العظيم للطريقة القبانجية الموصوفة بالاتجاه الرومانتيكي ذات التوالد الذاتي للابداعات والتجديدات المستمرة إلى يوم الناس هذا وستبقى على هذا المنوال حتى في المستقبل البعيد ..
لاشك ان الوسط المقامي وممن يهتم بشؤونه ، يسير في مجال النهضة منذ مطلع القرن العشرين .. ان الاساليب القديمة في الغناء قد زال معظمها ولم تبق لها اية سلطة فنية .. فقد انجذب الكثير من مؤدي المقام العراقي خلف الطريقة القبانجية وسار عليها معظم اللاحقين ، رغم ان طبيعة التطور الحاصل في حياتنا المعاصرة اوجد بعض المغنين المبدعين الذين نحوا المنحى التجديدي والابداعي للطريقة القبانجية مثل حسن خيوكة ويوسف عمر وناظم الغزالي وعبدالرحمن العزاوي .. وهم الذين وضعتُ لهم كتابا خاصا بفنهم المقامي اسميته (الاربعة الكبار في المقام العراقي) واثبتوا بذلك بأن الابداع لا ينضب وان الحياة في ديناميكية فعَّالة ، مهما كانت عليه هذه الحياة ومهما كان عليه حال الاداء الغناقامي .. وكتلميذ نشيط ، عرف احمد موسى قيمة الطرق القديمة في الغناقامي فعبَّر عنها بعمق وصراحة ، فضمن بذلك موقعا مرموقا في قائمة مؤدي المقام العراقي منتصف القرن العشرين ..

*************************



عبد القــادر حسـون
( 1910- 1964 )

- اسلوبه الفني
- مقام الجهاركاه
- مقام الاوج
- مقام النوى

************

افي كل يوم غربـــة ونــــزوح
اما للنوى من غــــفلة فتبيــــح
لقد طلع ..............................
فهل............يبـــــين وهو مليح
الا يا حمام النوح الفــــك حاضر
منصــــفك ميال وفيه .............
وذكرني في الحب نوح حــــمامة
ونحت والجرح القـــــــديم ينوح

اسلوبه الفني
هذه الابيات الاربعة من القصيدة المغناة من قبل المطرب المقامي القدير عبد القادر حسون في مقام الاورفة التي نبدأ بها حديثنا عنه ، حيث لم استطع تفهم مفردات ابيات القصيدة بصورة تفي بالغرض ، رغم جهودي الكثيرة في كتابة كل الابيات ، وهذا ما يدلنا من الوهلة الاولى على اهتمام المغني عبد القادر حسون بالمسارات اللحنية التقليدية اكثر من اهتمامه بتوضيح مفردات القصيدة ، وهي ظاهرة ادائية موجودة لدى كل مغني الحقبة ولم تقتصر على اتباع الطريقة القندرجية كما يبدو، واعتقد ان من الاسباب التي لم ارتأي التطرق اليها في هذا الصدد ، وهو سبب مضاف إلى الاسباب التي سبق ان تحدثنا بها ، هو ان ضعف الثقافة الادبية لدى المغنين بصورة عامة امرا كان يؤدي الى خلق حالة من عدم الاهتمام في توضيح مفردات القصيدة يقابله اهتماما واضحا بالمسارات اللحنية والتلذذ بتعابيرها الواقعية عن همومهم ومعاناتهم ومشاكلهم الحياتية .. اذ يبدو ان المطرب عبد القادر حسون المولود عام 1910 في مدينة البصرة والمتوفى عام 1964 في بغداد ، كان يتلذذ فعلاً في الاعلان من خلال ادائه لمقام الاورفة والمقامات الاخرى التي خلَّفها لنا مسجلة بصوته المؤثر، بأنه من اتباع الطريقة القندرجية مع سبق الاصرار، فقد تطرَّف في ذلك وكاد ان يكون مقلدا ببغاويا لاستاذه رشيد القندرجي وليس لفحوى الطريقة القندرجية بالذات . ومع ذلك فان اتخاذه لهذا النهج في غنائه المقامي ، كان اكثر اصالة من آخـرين غيره من المغنين نهجوا نفس هذا الاسلوب ..
ان لجوء عبد القادر حسون إلى هذا المنحى الاسلوبي واتخاذه منهجا له ، والذي اكتشف من خلاله كما يبدو ، انه يستطيع ان يعبر عن الطريقة القندرجية باسلوبه الخاص هذا وحسب وجهة نظره .. أو باسلوب يختلف فيه عن معاصريه من الذين انضموا إلى هذه الطريقة ..

مقام الجهاركاه
الظاهر ان هذه الملاحظات وغيرها تستحق الاهتمام والقاء الضوء على شيء من التاريخ الغنائي الفني لمطرب مثل عبد القادر حسون ، الذي يذكِّرنا غناؤه بتعابيره المؤثرة بقيم فنية جيدة ، يمتلكها مغنون معاصرون له مثل احمد موسى وجميل الاعظمي وعبد الهادي البياتي ويونس يوسف والحاج هاشم الرجب وشهاب الاعظمي وغيرهم .. واليك عزيزي القاريء مقام الجهاركاه بصوت عبد القادر حسون بالقصيدة الشهيرة لشاعر العصور ابو الطيب المتنبي

مالنا كلنا جو يا رســـــول
انا اهوى وقلـــــبك المتبول
كلما عاد من بعثـــــت اليها
غار مني وخان فيمـــا يقول
افسدت بيننا الامانات عينـــاها
وخانت قلوبهن العـــــقول
تشتكي ما اشتبكت من الم الشو
ق والـــــــشوق حيث النحول
واذا خامر الهوى قلب صـــب
فعليه لكل عين دلــــــيل
زودينا من حــسن وجهك ما دام
فحسن الوجوه حال تحـــول
وصلــينا نصلك في هذه الدنيا
فان المــــــقام فيها قليل
من رآها بعينيها شامة القــــطان
فيها كما تــــــــشوق الخمول
ان تريني ادمــــــت بعد بياض
فحميد من الفــــــــتاة الذبول
صحبتني على الفلاة فــــــتاة
عادة اللون عنـــــــدها التبديل
لا اقمنا على مكان وان طــــاب
ولا يمكن المـــــــكان الرحيل
كلما رحبـــــت بنا الروض قلنا
حلب قصــــــدنا وانت السبيل
نحن ادرى وقد سألنا بنجــــد
اقصــــير طريقنا ام يــطول
فكثير من السؤال اشـــــتياق
وكثير مـــــن رده تعليــــل




صورة / مطرب المقام العراقي عبد القادر حسون


ان امثال المطرب عبد القادر حسون من معاصريه ، هم كما اشرت ، ينتمي معظمهم الى الطريقة القندرجية في حقبة النصف الاول من القرن العشرين وما بعدها بقليل .. التي ينحدر فيها مغنون كثيرون امتازوا بعدة مقامات سجلوها باصواتهم في الاذاعة العراقية او في اسطوانات الكرامافون ، حيث عبروا عنها بخصوصية شخصياتهم رغم انهم استقوا اسلوب ادائهم من الطرق القديمة مثل جميل البغدادي في مقام المنصوري ، وهو التلميذ الاصيل للطريقة الزيدانية ، ونجم الشيخلي في مقام السيكاه واحمد موسى في مقامي العريبون عجم وعرب – سلَّمهما الحجاز والبيات - ويوسف كربلائي في مقام البنجكاه – سلَّمه رست - وعبد الهادي البياتي في مقام البيات ويونس يوسف في مقام المخالف وعباس كمبير في مقام الخنبات – اصل سلَّمه بيات على درجة الدوكاه ويتنوع مع جنس النهاوند على درجة النوى - ومحمد العاشق في مقام البهيرزاوي – سلَّمه بيات - والحاج هاشم الرجب في مقام العجم عشيران وجميل الاعظمي في مقام الجهاركاه .. الخ

مقام الاوج
ولنستمع الآن الى مقام الاوج لعبد القادر حسون المغنى بهذه القصيدة وهي نفس القصيدة ونفس المقام الذي ســـبق ان غناه استاذه رشيد القندرجي. 1*
بها غير معذور فداو خــمارها
وصل بعشيات الغبوق ابتكارها
فقم انت واحس كاسها غير صاغر
ولا تشـق الا خمرها وعقارها
فقام يكاد الكاس تحــرق كفه
من الشمس ام من وجنتيه استعارها
ظللنابايدينا نتــــعتع روحها
فتأخذ من اقدامـــنا الراح ثارها
موردة من كف ظبـــي كانما
تناولها من خــــــده فادارها

ان غايات عبد القادر حسون ، ان كانت بوعي منه او دون وعي ، هي في الحقيقة اراد فيها ان يعبر عن تجربته الخاصة في الحياة وبصورة تبدو لنا مباشرة من الوهلة الاولى ، فسمة الحزن والشجن بادية بصورة واضحة في اسلوبه الادائي ، ونجد ذلك في كل مقاماته التي سجلها والتي كشف فيها عن تجربته ومعاناته الاجتماعية المريرة كما يبدو، باسلوب تعبيري لا يكمن في ادائه للمقامات فحسب ، وانما في المجتمع الذي نشأ فيه .. فأصبحت هذه المقامات وسيلة لكشف العُللْ والمشاكل الاجتماعية الكامنة تحت المظاهر الخارجية ، ومما لا شك فيه ان عبد القادر حسون لم يبلغ شهرته هذه من خلال مجتمع متزمت في نقده للاداء الغناقامي ، ولم يكن من قبيل المصادفة ايضا ، ان تسجل هذه السنوات الشهرة التي حصل عليها البعض من معاصريه المغنين الذين مر ذكرهم .. فشيوع شهرة عبد القادر حسون التي ازدادت بعد تسجيله المقامات العراقية من خلال الاذاعة يماثل شيوع شهرة معاصريه الجيدين مثل احمد موسى وجميل الاعظمي وحسن خيوكة وصديقة الملاية وغيرهم .. ولا شك في ان الخصائص التي رفعت نتاجات عبد القادر حسون الى مستوى اعمال ونتاجات معاصريه من الجيدين .. وهي خصائص ما تزال تبدو في ايقاع وموضوعات واساليب افضل مغني الحقبة .. ابتداءا من جميل البغدادي مرورا بعباس كمبيرالشيخلي ورشيد القندرجي ونجم الشيخلي ويوسف كربلائي وجميل الاعظمي واحمد موسى .. الخ وهي خصائص تنجح في الاعم الاغلب كما هو الحال في نتاجات رشيد القندرجي عندما تقترن بمحاولة صادقة في التعبير عن البيئة والمحيط او التعبير عن روح العصر ..

مقام النوى
وهذا مقام اخر قلَّد فيه عبد القادر حسون استاذه رشيد القندرجي وهو مقام النوى المغنى من كليهما بهذه القصيدة لعبد الله ابن المعتز ، اليك عزيزي القارئ الكريم مطلعها ، وابحث عن الابيات الاخرى من القصيدة في نصوص مقامات رشيد القندرجي ..

( ومقرطق يسعى الى الندمـاء بعقـــيقة في درة بيضـاء )

ان المغني عبد القادر حسون وامثاله من المعاصرين الذين مررنا على اسمائهم ، قد جمعوا في افضل نتاجاتهم .. بين غنائهم واسلوبهم وتعبيرهم النافذ عن تعقيدات الحياة العصرية ، وهم في اسوأ نتاجاتهم قد فقدوا نواحي فنية يحتاجها الاداء الغنائي الناجح ، مثل النطق بالكلمات والحروف واحكامها ، ولكنهم خدموا هدفا محمودا في مجال محافظتهم على شكل ومضمون الغناء المقامي التقليدي ، وفي مجال التعبير عن مرحلتهم الزمنية ، ان مثل هذه المفاهيم على كل حال ، تتعلق بالفن بصورة مباشرة ، وفي حين يتبارى المؤدون في السباق ، نجد ان موضوعات الاداء الغناقامي تختلف بمرور الزمن ، إلا أن معالجتها بصورة عامة يجب ان لا تختلف ، وقد اصبح في حكم من الحقيقة لاغلبية ابناء الجيل الحالي ، ان الغناقامي بصورة عامة يمثل وسائله الخاصة في النظر الى مضامين واعماق البيئة ..




**************************

شهاب احمد الاعـظمي
(1918-1997)
- شيء عن اتجاهه الجمالي
- دوره المقامي
- الاستماع الى المقامات وانتشارها
- بعض سمات الطريقة القندرجية
- مقام النوى
- مقام الابراهيمي
- مقام المخالف
- مقام البهيرزاوي
- مقام الخنبات

*************

شيء عن اتجاهه الجمالي
تقترب كلماتي التي وصفت بها المطرب الكبير رشيد القندرجي في احد فصول هذا الكتاب ، في مفهومها بأن رشيد القندرجي مرآة لعصره ، كذلك يمكن ان نوصف المطرب القدير شهاب الاعظمي ، على انه عكس في غنائه للمقام العراقي واقع حقبته الزمنية وحياته التي عاشها وثقافته البسيطة التي اكتسبها وامتلكها من بيئته .. ويمكن ان نلاحظ مفهوم هذا الحديث عند سماعنا للمقامات العراقية المسجلة بصوت شهاب الاعظمي ، الاولى منها والمتأخرة ، فهو من مواليد حقبة التحول وظهوره كمغني مقامي كان في حقبة التجربة ، فقد كان اتجاهه الجمالي والذوقي في غنائه المقامي قد استقاه من الطريقة القندرجية ، خلاصة كل التجارب القديمة للاداء المقامي الممتدة اسسها من القرن التاسع عشر بعد ان استمع اليها وتأثر بها وظل متأثرا ومتمسكا ومتلذِّذا وفياً لها حتى وفاته ..


صورة / مطرب المقام العراقي شهاب احمد الاعظمي ..


دوره المقامي
ان دور المغني الكبير شهاب الاعظمي جلي ، و لا سيما في المجال الذي يبلغ فيه غاياته وطموحاته ، وبهذا الدور احتل شهاب الاعظمي مكانة مهمة في فن غناء المقام العراقي كأحد اتباع الطريقة القندرجية الرصينة ، ولا زال يحتفظ بهذه الاهمية وهذه الشهرة حيث نستمع الى مقاماته المسجلة بصوته من اذاعة العراق وبعض الاذاعات الخارجية الاخرى ..
كان النصف الاول من القرن العشرين وبعد انتصافه التي عاشها وشهد احداثها المطرب شهاب الاعظمي ، فترة ظهور الطريقة القبانجية بكل كمالها ونضوجها ، واتَّسم انتصاف القرن هذا بنظرة جديدة واعية لحياة الوسط المقامي خلَّفها نمط جديد من التطلعات والعلاقات الاجتماعية ، ادى الى تكوين وبلورة الطريقة الجديدة ( الطريقة القبانجية) حتى امست النوع الفني الغنائي الأكثر استجابة لمهمات الحياة الجمالية والذوقية في بغداد في هذه الحقبة ، ولكن بالرغم من كل ذلك ظلَّ الاوفياء من اتباع الطريقة القندرجية متمسكون بمبادئهم الجمالية والذوقية في غناء المقام العراقي على هدي استاذهم رشيد القندرجي .. وكان منهم شهاب الاعظمي .. الذي انتشرت في زمنه الطريقة القبانجية وذاع صيتها ، اضافة الى الكثير من اغاني الالوان الغناسيقية الاخرى ..

الاستماع الى المقامات وانتشارها
رغم انتشار التسجيلات الصوتية لمغنين من غير المقام العراقي ، أي من الالوان الغنائية الاخرى وتأثيراتها الواضحة مثل الغناء الريفي والبدوي وغناء الاقليات والقوميات العديدة ، حتى اصبح الميل العارم نحو الاستماع الى المقام العراقي والتخصص فيه سواء في الغناء او العزف ، بعد انتصاف القرن العشرين ، حاجة ملحَّة ظلَّت تتزايد بحيث ازدادت الاهتمامات وكثرت المؤلفات والكتابات بالصحف والمجلات والاحاديث الاذاعية والتلفزيونية من قبل كل المتخصصين ، وكذلك كثرت بطبيعة الحال التسجيلات الصوتية في غناء المقام العراقي واصبحت اكثر انتشارا وتوزيعا من ذي قبل تماشيا للتطور المستمر للاجهزة الصناعية ، ومع كل هذه التنوعات في الاستماع والتخصص , استقر رأي شهاب الاعظمي ورؤيته الجمالية في غناء المقام العراقي عندما استمع الى الطريقة القندرجية عن طريق مؤسسها رشيد القندرجي وباقي الاتباع , فتأثر بها واختارها منهجا لغنائه المقامي وتمسك بكل مبادئها ، وجعلها لغة ادائية خاصة به .. فقد اثار مقام الابراهيمي (سلَّمه بيات) المغنى بصوت استاذ الجميع رشيد القندرجي ، شجونا تعبيرية في نفس مطربنا شهاب الاعظمي بواسطة رصانته وصياغته الاسلوبية والتعبيرية ، وبهذا فإننا نلحظ ونحن نستمع الى مقام الابراهيمي المغنى بصوت شهاب الاعظمي ، وكأنه تخصص في غناء هذا المقام ذي الروح الكلاسيكية القديمة ، وغناه بكل جوارحه وبكل جودة واتقان .. ومما اتذكره ، - قال لي يوما- انه رغم احترامه الكبير لمحمد القبانجي وطريقته الفذة ، إلا أنه مفتون بطريقة رشيد القندرجي (الطريقة القندرجية) ويعتبرها افضل الطرق الغنائية المقامية واجملها واقربها الى نفسه والى واقع التعبير عن حياة العراقيين , وهاجم بعض مغني اليوم واعتبر غناءهم هذيانا خالي من الاصالة والواقعية ، وعبر عن رغبته في الاستماع دوما الى المغنين المقاميين القدامى 2*

بعض سمات الطريقة القندرجية
انطوى الاسلوب الغنائي الخاص واللغة الادائية التي اتخذها شهاب الاعظمي ، المستقاة من الطريقة القندرجية ، على ذلك النمو العارم ، الذي اتسمت به تعابير الطريقة القندرجية المعارض للاتجاه الرومانسي في تخيُّلاته وتأملاته الحالمة .. فمن الطبيعي ان لا يستطيع شهاب الاعظمي الاستماع الى مغني اليوم المقاميين الذين ادركوا خيالات وتأملات تعبيرية فيها ميل نحو الرومانسية والحداثة , ووقف الجمهور المستمع الحالي مفتونا ببريق التطور التكنلوجي في اجهزة التسجيل الصوتي ونظامه التسجيلي ونظافة هذه التسجيلات ، موقفا يكاد ان يكون نسيانا للكثير من التسجيلات السابقة في مطلع القرن العشرين .. وهكذا كان رأي شهاب الاعظمي طبيعيا بالنسبة له فيما قال وادلى ، فقد حدَّد علاقته الجمالية بتسجيلات المقام العراقي المعاصرة ، استنادا واحتراما الى موروثاته الجمالية الاولى التي اكتسبها وامتلكها من جماليات الوسط المقامي منــذ صغره ، وبالذات من اعماق الطريقة القندرجية في الغناء المقامي ..
ان حالة الدقة والايجاز وعدم الاسهاب ، التي هي صورة من صور الطريقة القندرجية ومن سماتها وسمات التسجيلات الصوتية لمؤسسها رشيد القندرجي إبان النجاح المضطرد الذي احرزه هو واتباعه المغنين ، كانت مناسبة لروح العصر كما يبدو ذلك ، فالطريقة القندرجية تجمع بين فن المسارات اللحنية غير المسهبة ، وبين متانة البناء اللحني للعلاقات الداخلية للمواد الاولية والعناصر اللحنية المكونة للمقام العراقي .. وكذلك بين التعابير الجمالية المناسبة لتلك الحقبة الزمنية ، هذا على الرغم من ان هذه الحقبة كانت فيها الاسهابات وعدم الايجاز الغنائي مقبولا من الناحية الجمالية بصورة عامة . وقد عبر عن هذه السمات من بعيد او قريب الكثير من الكتَّاب والمؤلفين بما نشروه في الصحف والمجلات والكتب التي ألِّفتْ ..
وبهذه الميزة ، زائدا الاسلوب الغناسيقي والافكار الثقافية اضافة الى العفوية المعتمدة على الرؤية العفوية ، تُخلق المباديء الفنية وتُأسس الطرق الغناسيقية الفنية التي يُعتمد عليها وتأخذ مداها في الانتشار. وكذلك تخلق الحبكة والتماسك لكل المكونات التي تعبر عن هذه الطريقة وتجميعها في وحدة فنية متكاملة شاملة ..

مقام النوى
يوضح شهاب الاعظمي في مقام النوى المسجل بصوته ، المعنى الجميل لهذا المقام الذي يمثل ترف المقامات العراقية ، حيث يرافق ايقاع السماح 36\4 موسيقى هذا المقام ، وهو اكبر الايقاعات المستعملة في العراق , واختار لهذا المقام قصيدة جمال الدين ابن نباتة 3*

اودت فعالك يا اسما باحشــائي
واحيرتي بين افعال واســماء
ان كان قلبك صخرا من قـساوته
فإن طرف المعنى طرف خنساء
ويح المعنى الذي اضرمت باطنه
ماذا يكابد من اهوال اهـــواء
تحمي بمقلتك السوداء مهــجته
فليس ينفك مجنونا بســـوداء
يا صاحبيَّ اقلاّ من ملامكـــما
ولا تزيدا بتكرار الهـوى دائي
هذي الرياض عن الازهار باسمة
كما تبــسم عجبا ثغر لميـاء
والارض ناطقة عن صنع بارئها
الى الورى وعجيب نطق خرساء
خضراء قدمازجتها النفس عن طرب
ورب نفس على التحقيق خضراء
فما يصــــد كما الحال داعية
من شرب فاقعة للــهم صفراء
راحا غريت برياها ومشـــربها
حتى انتصبت اليها نصب اغراء
من الكميت التي يجري بصاحبها
جري الرهان الى غايات سراء
في كف اغيد يحسوها مقهــقهة
كما تأود غصــن تحت ورقاء

عبر شهاب الاعظمي ، الذي اورد خمسة ابيات ليس اكثر من هذه القصيدة الجميلة التي غناها في مقام النوى ، عن خلاصة مكثفة لكثير من المسارات اللحنية التي تتكرر في احايين كثيرة عند غناء هذا المقام من قبل مغنين آخرين بمستويات مختلفة ، ولعل اهم ملاحظة في هذه الحبكة الغنائية ، هي ان الجلسة الاولى وهي النزول من النهاوند الى البيات بقطعة ( العشيش) تسمعها متصلة بميانة المحمودي مباشرة دون قطع ، فشهاب ينزل الى العشيش ويستمر بهذا المرور صاعدا الى الميانة الاولى التي تبدأ بالمحمودي (سلَّمه بيات) حتى يكمل باقي الميانة ، وهذه الملاحظة هي من خصائص الطريقة القندرجية او انها تؤدى من قبل جميع المغنين على هذه الشاكلة في تلك الحقبة بصورة عامة ، وقد اتخذتها الطريقة القندرجية ضمن منهاجها ..
وهكذا يتخذ الاسلوب القندرجي الخاص لشهاب الاعظمي ، صورة محددة انطلاقا من مبدأ ادراكه ووعيه لسمات الطريقة القندرجية وتجسيدا في التعبير عن فلسفة حقبة زمنية كاملة. ومن ثم فإن شهاب الاعظمي يكون قد قدم برنامجه الغنائي الموضوعي ممتزجا بجماليات ومباديء الطريقة القندرجية ...

مقام الابراهيمي
ويمكننا الاشارة مرة اخرى الى تسجيل صوتي آخر لشهاب الاعظمي لمقام الابراهيمي الذي سبق ان تحدثنا عن تأثر الاعظمي بهذا المقام بصوت استاذه رشيد القندرجي وما يمتاز هذا المقام من روح تعبيرية كلاسيكية متماسكة وتحشيد كبير من القطع والاوصال في الانتقالات المقامية السلَّمية يصل الى حد التخمة في هذا المجال , فقد غناه شهاب بهذا الزهيري ..

لي خلة وطروني هموم وطـــــــراهم
وابشوكهم عن جرح الكلب وطـــــراهم
وسفة عليهم غدوا ما كضوا وطـــــراهم

فنك يكلبي عكبهم جيف راح تجـــــــد
وابكيت نايم وراسي عالوسادة تجـــــــد
واتشب نيران كلبي بالضماير تجـــــــد

كلما يجي ذكرهم عالبال وطــــــراهم

يمكننا الاشارة الى ان ما يقارب الثلاثون مقاما عراقيا ، تم تسجيلها بصوت شهاب الاعظمي موزعة بين الاذاعة والتلفزيون في العراق ، على حد قول شهاب الاعظمي عند ظهوره في برنامج ( سهرة مع المقام العراقي ) 4* منتصف الثمانينات ، وفي مستطاعنا استضافته والتحدث عن بعض هذه التسجيلات لانني لا امتلك كل تسجيلاته واكتفي بما وصلني من ولده البكر ( اياد) من صور فوتوغرافية قليلة وشريط كاسيت مدته ساعة يحوي على تسعة مقامات لا غيرها .. مقام المخالف ومقام النوى ومقام البهيرزاوي (سلَّمه بيات) ومقام الابراهيمي ومقاما العريبون عجم وعرب ومقام الحليلاوي(سلَّمه من اجناس الرست والسيكاه والحجاز ويستقر على الرست) ومقام الناري (سلَّمه بيات لكنه يستقر في مقاطعه على السيكاه) ومقام الحديدي (سلَّمه صبا) .. ومن جراء اهتمام الطريقة القندرجية بالمسارات اللحنية الاصولية التاريخية للشكل المقامي ومن ثم الغموض وعدم وضوح اللفظ في الكلمات الشعرية ومخارج حروفها التي امست من سمات هذه الطريقة والتي كانت مقبولة في حـــقبته الزمنية كما يبدو ذلك من خلال كثرة اتباعها من المغنين والمختصين والجماهير الواسعة .. ولذلك فقد عانيْت الامرَّين من اجل معرفة كلمات الزهيري او القصيدة الشعرية المغناة فرحت الجأ الى الكثير من المصادر محاولا العثور على نصوص هذه المفردات التي ترد في كتب الكتَّاب والمؤلفين المقاميين ...


صورة / حسين الاعظمي يشارك والده الروحي الموسيقار منير بشير
في جلسته في ادارة مسرح الرشيد 1987 ..



مقام المخالف
وفي مقام المخالف ، غنى مطربنا شهاب الاعظمي زهيْريَّاً جميلا استطاع البلوغ به الى درجة محسوسة بواقعيتها من الغناء التعبيري حيث يتملكنا الشعور في تبني شهاب الاعظمي هموما اكبر من همومه الذاتية ، بل انه قد تبنَّى هموم المجتمع كله حين افصح عن كل هذا من خلال غنائه لمقام المخالف بهذا الزهيري ..

لصاحب الانشدة اصله وطيبه عــــود
الزم وداده لما يدعي رجـيج العــــود
واللي تشوفه يلفـك بي لسانه عــــود

عن عشرته لا ترد نحوه ولا جـــــنها
بارض الخليه فلا دروه ولا جـــــنـها
ليش الصراحه بلف اللسان لا جـــــنها

عند الشدايد يبينلك صحيبك عـــــود

ازدادت واقعية تعابير المقامات التي سجلها شهاب الاعظمي بصوته بعد انتصاف القرن العشرين اكثر فأكثر ، فقد وصل في العقد الستيني من القرن العشرين الى ذروة نضوجه الادائي وادراكه للطريقة القندرجية التي عبر بواسطتها اجمل التعابير المقامية ، وطغت في هذه الفترة من حياته , الاوضاع الحياتية على كيانه التعبيري واتخذت صورة بيئية وروحية دقيقة .. وفي جانب آخر جرى وصف صورة الحياة اليومية في بعض تعابير المقامات التي اداها ..

مقام البهيرزاوي
ولنتأمل احد الزهيريات التي غناها في مقام البهيرزاوي ونلاحظ التطور الديناميكي القائم على التعابير الحياتية في هذا الكلام الغنائي ..

لي خله منهم روح الوداد يطيــــب
والغير منهم مريض او علو سادة يطيب
اخاف يدعوك في بحر السرور او طيب

اهل الخنا كالسـراب بقفــرة ودواي
عنهم تجنب يغثك حجـيهـــم ودواي
السيف جرحه يطيب بمرهـــم ودواي

لاجن هيهات مجروح اللسان ايطيب


صورة / الصورة على مسرح مهرجان تستور الدولي المكشوف بتونس في تموز عام 1976 يظهر فيها من اليمين باهر هاشم الرجب وجبار سلمان وحسين الاعظمي والحاج هاشم الرجب وحسن النقيب , لاحظ البيتين من الشعر ترحيبا بالوفد العراقي (ابناء دجلة مرحبا فاضت بنا الاشواق
فكان تستور بكم قد زارها اسـحاق)

مقام الخنبات
سأبقى اتذكر واتحسَّس تلك اللحظات الخالدات عندما كنت مشغولا في بحث عن - التراث الغناسيقي في الاعظمية 5* قدمته الى قسم الموسيقى في كلية الفنون الجميلة ، وقد اتخذت من الفنان شهاب الاعظمي عيِّنة من عيِّناته ، عندما كنا نجلس في مقهى السدير على نهر دجلة الخالد في الاعظمية كعادتنا كل مساء من تلك الفترة من عام 1991 فأجده حاضرا قبلي في المقهى دائما , وفي احدى المرات وصلت الى المقهى للقائه وكان في غاية المزاج مع نفسه ، فقد سمعته يغني مع نفسه بهدوء بالغ مقام الخنبات فلم اقاطعه وبقيت استمع اليه وهو يغني احدى قصائد ابي نؤاس الى ان اكمل كل المقام حتى تسليمه ..!

نضت عنها القميـص لصب ماء
فورد خدها فرط الحــــــياء
وقابلت الــــهواء وقد تعرت
بمعتدل ارق من الــــــهواء
ومدت راحة كالماء منــــها
الى ماء مـــــــعد في اناء
وما ان قضت وطرا وهمــت
على عجل لتأخذ بالـــــرداء
رات شخص الرقيب على التداني
فأســـبلت الظلام على الضياء
وغاب الصبح منها تحــت ليل
وظل المـــاء يجري فوق ماء
فسبحان الاله وقد بــــراها
كاحســـن ما تكون من النساء

وبعد ان انتهى من غنائه ، وقد كنت اتمنى لو يستمر اكثر من ذلك ، سلَّمت عليه وجلست بجانبه ، اردف قائلا ، كان مقام الخنبات هذا وبهذه القصيدة قد تعلَّمته من والدي ، فقد كان يغنيه دائما بهذه القصيدة مع التذكير ان والدي وعمي مهدي من المتأثرين بالطرق المقامية القديمة التي بلورها رشيد القندرجي الى طريقة منهجية في الغناء ، وعليه فقد قمت انا بتسجيل هذا المقام وبنفس القصيدة في اذاعة بغداد ..
ومما يذكر ان هذه القصيدة مغناة ايضا من قبل استاذه رشيد القندرجي ، ولكن في مقامه الشهير- مقام السيكاه –

******************************
ملاحظة / كل الاغاني ونوطاتها التي وردت في هذا المحور موجودة في كتابي الموسوم (المقام العراقي باصوات النساء) الصادر في كانون الثاني January 2005 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر .. وكتابي (الطريقة القبانجية في المقام العراقي واتباعها) الصادر في بيروت عن نفس المؤسسة مطلع عام 2009

***********
الهوامش
* حدثني استاذي المرحوم شعوبي ابراهيم , ان مقام الاوج لعبد القادر حسون , هو اول مرة يرافق فيها مطرب عازفا على آلة الجوزة ..وذلك عام 1951
2* كانت مناسبة بحثي الذي كتبته عن التراث الغناسيقي في الاعظمية وقدمته الى كلية الفنون الجميلة , قسم الفنون الموسيقية , ان التقي بالمرحوم شهاب الاعظمي مرات عديدة شبه يومية في مقهى السدير على نهر دجلة في الاعظمية بجانب جسر الائمة , حيث كنت قد اخترته احد عيناته , وقد اكتشفت فية شخصية مقبولة جدا , لذيذ المجالسة , منكتا بصورة نقدية ساخرة , بسيطا لكنه عميقا , فاهما جدا في شؤون المقام العراقي , يحفظ الشعر الفصيح والعامي ويتلذذ بهما عندما يلقيهما او يغنيهما , والاروع من كل ذلك انني وجدت فيه راويا للاحداث والتاريخ بشكل يثير الدهشة ولا يمكن ان يمل منه ابدا ..! الامر الذي وطد علاقتي بهذا الفنان المقامي الكبير رغم تاخرها , واستفدت من آرائه وافكاره الفنية الشيء الكثير حتى اصبح مجيئنا الى مقهى السدير شبه يومي ..
3* حول قصيدة ابن نباتة المصري حيث لم يغن منها شهاب الاعظمي اكثر من خمسة ابيات من بداية القصيدة , ولمتعة القاريء الكريم وفائدته وجمال وشهرة هذه القصيدة فقد اخرجتها من كتاب الغزل بالنسيب في مناجاة الحبيب ..
4* في منتصف الثمانينات ظهر الفنان شهاب في برنامج (سهرة مع المقام العراقي ) الذي كان يعده الحاج هاشم الرجب , اذ ذكر انه قد سجل اكثر من ثلاثين مقاما عراقيا في الاذاعة والتلفزيون ..
5* نفس لقاءاتي اليومية مع المرحوم شهاب الاعظمي واحاديثنا المتنوعة في شؤون المقام العراقي ..انظر هامش رقم 2 من هذا الفصل ..