ليالي تركستان









د. نجيب الكيلاني


















بسم الله الرحمن الرحيم



شخصيات الرواية



-خوجة نياز حاجي.

-الأمير.

-نجمة الليل.

-مصطفى مراد حضرت... (تورسون اسم مستعار له).

-منصور درغا.

- جين شو رين (الحاكم الصيني).

-قائد قومول الصيني.



شخصيات ثانوية:

-خاتون.

- صن لي

-الجنرال شريف خان.

- شين سي ساي: قائد صيني قام بانقلاب ضد الحاكم الصيني جين شو رين.

- السيد حاجي مدير عام المخابرات المركزية.

- باودين ضابط صيني مستعمر له علاقة بنجمة الليل.

-الجنرال عثمان باتور. قائد الثوار في مرحلة من مراحل الجهاد التركستاني.



المدينة المقدسة تكتظ بحجاج بيت الله الحرام، وحول الحرم المكي خلق كثيرون من شتى الأجناس والألوان، السود القادمون من إفريقيا، والبيض القادمون من أوربا وأمريكا، والوجوه الصفراء المميزة التي أتت من أقاصي آسيا، والعرب والعجم كلهم يسيرون في مواكب متدفقة يهللون ويكبرون، ويطوفون بالبيت العتيق، أو يهرولون بين الصفا والمروة، أو يصلون في مقام إبراهيم، ويتسابقون لشرب قطرات من ماء زمزم، هنا في هذه البؤرة المقدسة يلتقي الناس إخوة من كل فج وصوب، تباينت لغاتهم واختلفت ألوانهم، لكن شيئا واحدا يجمعهم... الإيمان بالله ورسوله وكتابه...

وبعد أن أديت صلاة الظهر... اتجهت إلى البيت الذي إقيم فيه بمكة المكرمة، وفي طريقي دلفت إلى بعض الأزقة.. هناك تباع المسابح والسجاجيد الصغيرة للصلاة، والطواقي المزخرفة والأدعية الشريفة، وجلست في حانوت صغير، نظرت إلى وجه التاجر الذي يبدو أنه قد تخطى السبعين من عمره، لم يكن عربيا... هذا واصح من ملامحه ولون وجهه، ولكنه خاصة في كلامه، قلت وأنا أمسك بين أناملي بعدد من المسابح الجميلة:

- من أي البلاد أنت؟

سدد إلي نظرات يوشيها الحزن والأسى وقال:

- من بلاد الله الواسعة...

- أعرف... فأي هذه البلاد تقصد؟

- من تركستان.

فكرت قليلاُ ثم قلت:

- أهي بلاد ملحقة بتركيا؟؟؟

وعلت ابتسامته الساخرة ظلال كآبة وقال:

- المسلمون لا يعرفون بلادهم، ما هي صناعتك؟

- طبيب من مصر.

- أفي بلاد الأزهر الشريف ولا تعرف تركستان؟؟؟ حسناً... لا شك أنك تعرف الإمام البخاري والفيلسوف الرئيس ابن سينا والفارابي، والعالم الجهبذ البيروني.

- إنني أعرفهم...

- هم من بلادي...

وشرح لي الرجل واسمه "مصطفى مراد حضرت" ما هي التركستان، وأخبرني أن التركستان تقع في أقصى الشمال، وأنها قد انقسمت بفعل الاستعمار إلى تركستان شرقية وأخرى غربية، وأن الروس قد احتلوا تركستان الغربية وضموها إلى اتحاد الجمهوريات السوفيتي، وأن تركستان الشرقية قد احتلها الصينيون من قديم، وضموها إليهم وسموها سنكيانغ – أي الأرض الجديدة – وأن الشيوعية قد نشرت جناحيها على تركستان شرقها وغربها... وهكذا ضاعت بلاد إسلامية كانت من أعظم بلاد الله حضارة وتاريخا ومجدا... إنها الأندلس الثانية... عيب المسلمين أنهم لا يعرفون تاريخهم، ولا يدرون إلا القليل عن بلادهم...

هكذا كان يقول، ولحيته البيضاء ترتجف...

ثم التفت صوبي قائلا:

- أتريد أن تشرب الشاي؟

- لا مانع.. لكني أريد القصة من أولها...

قال وهو يتناول أقداح الشاي من فتى صغير، لعله حفيده:

- "القصة تشكل مأساة طويلة.. الحجاج يأتون كل عام إلى مكة، ويؤدون المشاعر، ثم يعودون أدراجهم من حيث أتوا... هل فرض الحج على المسلمين لكي يأتوا ويعودوا؟؟؟

لا أظن ذلك،.. من مبلغ عني كل زائر لهذه الديار المقدسة قصة الشعب المسلم التعس الذي سقط بين قسوة المنجل والمطرقة؟ حسنا.. يمكننا أن نلتقي في المساء.. سأحضر لك بعض الكتب، سأحدثك عن قصتي الطويلة، أنا هنا.. وعيناي معلقتان بالأرض الخضراء بالجبل السماوي" جبل تيان شان"..

بجبال "بامير" الواقعة بين حدود باكستان وتركستان.. بالنساء اللاتي نزعن البراقع من فوق وجوههن.. بالشباب المعذب المخدر الذي يساق إلى معاهد العلم الجديدة هناك ليتعلم الإلحاد.. ويسقى الأكاذيب والترهات، حتى ينسى تاريخه وإسلامه.. بالمآذن والقباب.. بالجموع التي تزحف في أطراف سيبيريا يحرقها الهوان والعذاب واللعنات الظالمة... أنا من تركستان الشرقية... وإليك القصة من بدايتها..."











(1)



نحن الآن في عام 1930م، أعيش في مقاطعة (قومول) وكانت الصين قد احتلت هذه المقاطعة في نفس العام، وبعد الاحتلال أصبح القائد الصيني للمنطقة هو الحاكم بأمره، كل شيء يجري على هواه، والحسرة تملأ النفوس وتطل من العيون الحزينة، وأمير قومول المسكين يعيش في قصره لا يتمتع إلا بسلطة اسمية كنت أرى بعيني رأسي أفواج الصينيين تتدفق إلى الولاية.. أعني مقاطعة قومول.

وحكومتهم تمدهم بالأموال المنهوبة كي يشتروا الأرض، ويقيموا البيوت وينشئوا المتاجر، كان عمري إذ ذاك حوالي خمسة وعشرين عاما..حفظت القرآن في المسجد وتعلمت القراءة والكتابة باللغة العربية، وبلغة البلاد، وأنا أعرف الصينية أيضا.. نحن نجاور الصين، ويمكنني في الوقت نفسه أن أتحدث بلغة أهل منغوليا القريبة منا، والواقعة تحت سيطرة الروس..

هنا عاش جنكيزخان وأولاده..وهنا قصص كثيرة عن البطولات في كل فن ولون...

وفي يوم من الأيام أصدر القائد الصيني منشورا هز البلاد من أقصاها إلى أقصاها..

هذا المنشور يلزم أي تركستاني بأن يزوج ابنته من أي صيني يتقدم لطلب يدها، برغم اختلاف العقيدة..

إن الاحتلال أمر مؤقت قد يزول في يوم من الأيام، والمعركة مع العدو كر وفر..أما أن يدوس العدو مشاعر الناس ويحتقر شرائعهم، ويسخر من دينهم فهذا أمر فوق الطاقة..

استدعى القائد الصيني أمير قومول المسكين ، وقال له :

- أيها الأمير . . لقد عزمت على مصاهرتك أنت بالذات . .

شحب وجه الأمير ، وارتعشت أنامله ، وقال بصوت واهن :

- " أنت تعلم أيها القائد أن هذا مستحيل ".

قهقه القائد في سخرية :

- " أنا لا أعرف المستحيل أيها الأمير ".

- " هذا أمر الله . . "

- " لا دخل للإله في شؤون القلوب . . لقد أحببتها . . "

- " لقد درج الفاتحون على احترام عقيدة أهل البلاد المفتوحة . . "

- " هذه خرافات لا أومن بها "

- " هذا أبشع من الموت أيها القائد "

اكفهر وجه القائد وصرخ :

- "الأمر يخص الأميرة . . اذهب وأخبرها . . وأمامك بضع ساعات للتصرف.."

وخرج الأمير التركستاني ، لا يكاد يعي شيئاً مما حوله، إنها مهانة لا مهانة بعدها ، وبدا القصر لعينيه مقيتاً يوحي بالضيق والعذاب، كيف يقابل زوجته وأولاده ، لم تعد للحياة قيمة ، أيفر إلى الجبال يقتات الأعشاب، ويؤانس الوحوش، حتى لا يرى المأساة بعينيه ؟؟

ما أتعس العاجز المظلوم!! والأمر أشد تعاسة عندما يمس أميرا كان ذا شأن وسلطة ونفوذ لا حد له..

ودخل الأمير قصره . . . السيوف الأثرية تتدلى في عناء ، والبنادق الفارعة فوق الجدران كجثث الشياه المتعفنة ، وتاريخ أجداده نائم في أحضان الصفحات المتراصة التي غلفها الغبار . ..

همست زوجته:

- ما بك؟؟

رفع إليها عينين مبللتين بالدموع وقال:

- إنني أنتظر أمر الله...

لم تفهم شيئا، وقالت:

- أهناك ما يكربك؟ إنني لا أتوسم في هؤلاء الصينيين أي خير..

- إنهم لا يعرفون الرحمة.

- صدقت..

- القائد يريد أن يتزوج ابنتي..

ثم صاح كمجنون:

- تعالي يا بنيتي...أي فتاتي..

ثم مسح دمعة أفلتت من بين أهدابه:

- أميرتي الغالية...الدب الأحمق يريد أن يتزوجك..هذا مستحيل..أتوافقين؟؟

قالت الأميرة الصغيرة وعيناها تدوران في قلق ممتزج بالدهشة:

- ما معنى ذلك يا أبي؟

ضحك الأمير التركستاني ووجهه محتقن كالم نفسه:

- هناك أشياء كثيرة الآن لا معنى لها..الحياة نفسها لا معنى لها..

- لكنني أريده يا أبي..

-هو يريدك..

- عليه اللعنة..

- اللعنة تصيب المهزوم دائما..

- في أي شريعة أو دين يفرض على الفتاة أن تتزوج برغم إرادتها..

- العلاقة يا فتاتي بين الغالب والمغلوب لا تلتفت للمبادئ أو الإرادة الحرة..

ثم تلفت الأمير الحائر حواليه ، شعر أن الجو حواليه خانق ، يكاد يزهق أنفاسه ، كان يعبث بالفرش إلى جواره في عصبية بالغة :

- " أتوافقين ؟ "

- " الموت ولا هذا ! "

- " لماذا ؟ "

- " أمر الله فوق أمر الصينيين! "

وقف ، ثم احتضن الأميرة الصغيرة ، عيونها الجميلة توحي بالحيرة القاتلة ، وجهها النضر كالوردة ينطق بالرعب ، ثم شهقت باكية :

- " لا أتصور يا أبي . . . لا أتصور أن تساق فتاة هكذا . . . السير إلى ساحة الإعدام أسهل بكثير . . "

جفف الأمير أهداب ابنته ، وربّت على شعرها الناعم الأشقر ، ثم لامس خذيها الورديتين في حنان ، ثم وقف ودق الأرض بقدمه صارخاً :

- " لن يكون . . . "

قالت الزوجة بنبرات مرتعشة:

- يجب أن نتدبر الأمر بحكمة..

- أعرف أن لن يرضى الهزيمة..

- وسيتخذ إجراءات مشددة بالتأكيد..أنت تعرف القادة الصينيين جيدا..

- آخر مدى يصل إليه ما هو؟؟ حياتي؟؟

- طأطأت زوجته رأسها في حزن..

ونادى الأمير التركستاني قائلا:

- مصطفى مراد حضرت.

- أمر مولاي..

ودخلت عليه دون أن أرفع نظراتي إلى وجهه.

- مصطفى..لتحضر أوراقا ومحبرة وقلما..

وجلس أميرنا يسجل رسالة قصيرة للقائد الصيني جاء فيها:

"...إن الأمر أيها القائد المنتصر يخرج عن دائرة تصرفي لأن ديننا يمنع ذلك، ومن جانب آخر فإن ابنتي لا تفكر في الزواج، ومن ثم تراني خاضعا لاعتبارات عقائدية وإنسانية، وأن الصين العريقة لا تقبل أن تهمل تقاليد جيرانها، أو تتنكر لعقائدهم أو تهزأ من مشاعرهم... وليست هذه القضية تتعلق بكبرياء الصين أو جيشها المتتصر، إنها أمر ثانوي لا ينعكس عليها بالضرر بعد أن دانت لها البلاد، وامتلكت مصائرها السياسية والمادية.. وصدقني فإن أمرا كهذا قد تكون له عواقب وخيمة، تضر بالعلاقة التاريخية بين الشعبين: الصيني والتركستاني.. ولو أمعنا التفكير معا في آثار هذا القانون الذي يرغم التركستانيات المسلمات عل الزواج من الصينيين، لوجدناها بالغة الخطورة، ولا أعني بذلك التهديد، وإنما أقصد مصلحة الأصدقاء واستتباب الأمن في البلاد، وإني لأستحلفك بكل عظيم ومقدس أن تعيد النظر في هذا الأمر.. لعل جوانبها جميعها تتضح لديك..مع أطيب تحياتي واحترامي.."





((أمير قومول))



وسرت الأنباء في المدينة مسرى النار في الهشيم، وتخطّت حواجز القصر المنيف، وتهامست بها النسوة في المنازل، وتلقتها الرجال في قلق وغيظ بالغين. . إن احتلال الأرض لفترة ما قد يكون أمرا يسهل الانتظار عليه حتى تحين الفرصة للخلاص، لكن الدخول في أخص خصوصيات الناس هكذا والعبث بشرفهم ومعتقداتهم أمر آخر يحمل في طياته أشد أنواع الخطورة .. وعندما قرأ القائد الصيني رسالة الأمير التركستاني وكنت أنا الذي حملتها إليه، كورها في يده ، ثم رمى بها ، وبصق عليها .. .

ثم اتجه صوبي قائلاً :

- " قل لأميرك : إنه يعبث كما يعبث الصبية . . هذه قوانين (صن يان صن ) أبو الصين الأعظم . . ولن تستطيع قوّة في الأرض أن تبطل قوانينه "

وأٌخذ مولاي الأمير في نفس الليلة إلى السجن . . ليلتها بكت المدينة كما بكت بالأمس على شهداء المعركة ، وليلتها أدرك الناس أن الغزو الصيني يحمل في طياته خطراً آخر غير خطر غزو الأرض . . وليلتها لم يستطع النوم في قومول أن يستولي على جفون الرجال والعذارى، وشر البلية ما يضحك أن كل فتاة تحاول جاهدة أن تبحث لها عن رجل مسلم يتزوجها قبل أن تساق إلى غاز من الغزاة الصينيين أو مهاجر من مهاجريهم.. أنا لي قصة ظريفة.. كنت قد أحببت فتاة تخدم في القصر منذ عام.. كانت تتمنع علي وترفض الزواج، وتطمع في رجل أعلى مركزا مني.. أنا مجرد حارس في القصر.. والقصر يدخله علية القوم..

وعدما سيق الأمير إلى السجن أتت إلي مهرولة والدموع تغرق وجهها:

- مصطفى.. ها أنا ذا بين يديك.

كنت مغتما لمصير الأمير التعس وأشعر بعزوف عن الدنيا وما فيها.

صرخت في حدة في وجه الوصيفة.

- إليك عني يا نجمة الليل.

- ربما أكون قد أسأت إليك.. لكنني أحبك..

صورة الأمير السجين تملأ خيالي ، من الصعب أن تتصور الأعزة الكبار يرسفون في الأغلال ، ويساقون كما يساق العبيد ، يا إلهي ، إنه مشهد لا يمكن أن ينسى مدى الحياة ، ومع ذلك فقد كان الأمير يمضي بين الزبانية الصينيين مرفوع الرأس ، يشمخ بأنفه في كبرياء ، كان في صمته ثورة ، وفي استسلامه عاصفة ، وفي نظراته الشاردة نداء دمويٌّ رهيب.

قالت حبيبتي القديمة:

لم لا ترد يا مصطفى حضرت؟؟ ماذا تنتظر؟

سوف تندم حتى آخر حياتك إذا ما جاء صيني لئيم وضمني إليه..

قلت وكأني أثأر لكبريائي الجريح:

- أنا أرفض الزواج الاضطراري..

- أيها الأبله، إن فيه تحقيقا لآمالك، وإنقاذا لي، وحماية لعرضنا وديننا...

التفت إليها، وقد بدت الدموع في عينيها، وصاحت:

-لا تبك.. لقد أصبحت أكره النظر إلى وجوه الناس.. الدموع في كل مكان.. هذه حياة لا تطاق.. اعلمي جيدا أنني لن أتزوج إلا إذا خرج الأمير من سجنه..

اقتربت مني هامسة:

أيها المجنون.. انتهى عصر الأمير.. فلا تربط مصيرك بعالم يزول، ومجد ذاهب..

أمسكت بذراعها ودفعتها في عنف قائلا:

- هذه خيانة يا نجمة..

- أنت مخطئ يا مصطفى.. فأنا أحب الأمير وأسرته كما أحب روحي.. لكن لا معنى لأن تنتظر حتى تفوت الفرصة .. إن ذلك لا يرضي الأمير ذاته..

وتركتها دون أن أبت في الأمر، كان جو الحزن يخيم على قصر الأمير، وكانت زوجته تروح وتجئ كالمجنونة، تنتقل في جنبات القصر الفسيح على غير هدى لا تأكل ولا تشرب، وأولاده وبناته وأقاربه قابعون تلفهم الكآبة، أما ابنته الأميرة الصغيرة، فقد وقفت في صالة القصر المفروشة بالسجاد الثمين وقالت:

- ماذا لو تزوجته وقتلته؟؟

لم يلتفت لحديثها احد، لكنها أخذت تلف وتدور، وترغي وتزبد حول هذه الفكرة، غير أن أمها ربتت على كتفها في النهاية، وكانت امرأة عاقلة، وقالت لها:

- الأمر أكبر من ذلك بكثير..



في اليوم التالي كانت الشوارع في قومول تضج بمآسي يقشعر لها البدن، وتشيب لهولها الرؤوس، فالشرطة يجرون الفتيات جرا كي يرغمونهن على الزواج من الجنود والمهاجرين والآباء التركستانيين الرافضين تشوي السياط أبدانهم، ويضربون بكعوب البنادق، ويركلون بالأقدام في ازدراء ومهانة، وكثير من الأسر والبيوتات العريقة تهرب إلى خارج المدينة، إذا ما جاء الليل، وتأوي إلى الجبال أو تنطلق إلى الصحارى العريضة.

ومرت أيام كلها آلام وأحزان، وكان في مدينتنا رجل شهير يقال له (خوجة نياز حاجي)، وهو من رجال الفكر والدين والوطنية، معروف بشجاعته وصدق بلائه، وكان الرجال في قومول يذهبون إليه حائرين مستفسرين.. فكان يقول:

-"أدوات النصر أنتم تعرفونها... الصبر والصمود...الجهاد حتى الموت... لا جديد بعد كلمات محمد... انظروا... لا يفل الحديد إلا الحديد.. كل ما أعرفه أن أقواما بلا شرف.. هم موتى وإن كانوا يأكلون ويشربون ويتنفسون ... لا تستنكروا تصرفات العدو وحده، ولكن ابكوا على تهاونكم واستنكروا استسلامكم ...أتفهمون؟".

لكن موجة الطغيان تمتد وتنداح... وأصواط الاستغاثة تعلو.. والسياط تعلو وتهبط وتمزق الأجساد العارية، والنسوة يسقن إلى الجند الغزاة.. والرجال يشعرون بالخجل والضعة والهوان، والجنود يقهقهون ويمرحون ويتحسسون أجساد النساء في نشوة ولذة، وكأنما يفحصون ماشية معروضة للبيع.. والقومول تغلي كالمرجل، ولا تجد متنفسا لحقدها المكبوت، وأميرها يعاني الوحدة والعزاب في السجن.. وأنا العبد الضعيف (مصطفى مراد حضرت) ماذا أستطيع أن أفعل؟؟ قال لي (خوجة نياز حاجي) زعيم بلدنا الهمام :

- يا مصطفى . . اذهب إلى أميرك في السجن . . وقل له : يجب أن يبحث عن مخرج.



***





(2)



الحق في الدنيا لا يكاد يختلف عليه اثنان لكن انغماس النفوس في الهوى قد يخلق من الباطل حقا ومن الحق باطلا.

وأنا إنسان رقيق المشاعر برغم أني أحد رجال الحرس في القصر، أدنى إساأة تملأ كياني بالغضب، والسخرية مني تحيلني إلى طوفان من النقمة، حتى الوصيفة الساذجة التي أحبتني بالأمس، كانت تسخر مني، كنت أحبها من كل قلبي ، الظروف الطارئة جعلتها تغير رأيها، والتي تغير رأيها هل تغير مشاعرها أيضا؟؟

صدقني.. أنا لا أعرف، فقد كانت الدنيا هائجة مائجة، قومول ليس فيها شيء على حاله، الصينيون يرون الزواج من بناتنا حقا لا غبار عليه، وحجتهم ساذجة وبسيطة، ألا وهي أن الناس جميعا إخوة، وأنهم منتصرون، ويرون من الرحمة أن يأخذون نساءنا في ظل القانون بدلا من أن يأخذوهم كسبايا وغنائم، والأمر من وجهة نظرنا نحن التركستانيين ظلم فادح، وإذا لم يكن الصينيون يريدون أن يحتكموا لكلمات الله فلا مناص من الحرب.. أعني لا بد أن نساق إلى الموت.

فالحرب انتهت بهزيمتنا.. وبرغم الحصار الشديد الذي أقامه القائد الصيني حول الأمير، إلا أنه كان يسمح لبعض رجاله بزيارته لعلهم يجدون الفرصة فيقنع ويزوج ابنته الأميرة من القائد، وكان الأمير معتكفا في سجنه يصلي ويفكر، آلمه أن يتنكر له الزمان، ويتحول من قصر إلى سجن، ومن آمر إلى مأمور، وممن يتلقى أوامره؟ من رجل كافر لا يؤمن بالله ولا برسوله، واسألني أنا عن أحزان الملوك المنهزمين.. إنهم لا يبكون إلا لماما.. لكنهم يحبسون آلامهم في قلوبهم فتثور وتهدر كطوفان ناري لا يرحم..

ذهبت إليه حائرا وقرائصي ترتعد كلها..

- ما الذي أتى بك يا مصطفى حضرت..

- نحن بدونك لا نساوي شيئا..

- أنتم رجال وتلك حكمة الله..

- والرجال يريدونك يا مولاي..

- كيف؟؟

ونطر إلي باستغراب ودهشة فأجبت:

- قالها لي (خوجة نياز حاجي).

- ماذا قال؟..

- الأمير يجب أن يخرج إلينا..

ضحك الأمير ، وشد عوده الفارع ، وتطلع إلى الآفاق بعيني صقر جريح ، وهتف والحنق يأخذ بتلابيبه :

- " لست أملك مفاتيح السجن " !

- " للسجن جدران يا مولاي "

ضحك الأمير في عصبية :

- " وكيف أحطمها وحدي ؟ "

- " يقول لك ( خوجة نياز ) . . إن لم تكن تملك المفاتيح التي تفتح بها السجن ، ولا السواعد التي تهدمه . . فإن لك عقلاً يستطيع أن يحملك على جناحيه إلى الخارج . . "

صمت الأمير برهة، ثم التفت إلى وقال:

- حسنا .. اذهب إلى خوجة نياز وقل له إن الأمير قادم غدا..

عودني الأمير الصدق في القول، ما خدعني قط، لهذا هرولت إلى الخارج، وحملت رسالته إلى خوجة نياز، كان خوجة نياز يجلس خارج المدينة بين عدد من الرجال يتكلمون ويصلون ويقرؤون وطربوا لسماعهم الأنباء التي حملتها إليهم، أما خوجة نياز فقد بدا الاهتمام على وجهه، وتأرجحت عيناه في قلق، ورفع يديه إلى السماء وغمغم:

- اللهم غفرانك.. اللهم نصرك..

وعاد يحدث الرجال عن تجاربه في الحياة، وكان يقول لنا أن الأمور الخطيرة والأحداث الكبرى لا يمكن أن تحل بالتجزئة..وهي في نفس الوقت لا تقبل الحل الوسط، والمنتصر لا يعطس المهزوم شيئا أصيلا أبدا، إنه يعطيه الفتات والنفايات.. وشعبنا المسكين- شعب تركستان-محصور، تحبطنا الحراب المسمومة.. والمدافع.. والنيران.. والتحريض قادم من بعيد.. أنا أعرف دعاة الصليبية في العالم، إنهم ينتهزون فرصة ضعفنا وهواننا ويحتشدون حولنا.. ويثيرون نعرات شعوبية وإقليمية.. إنهم يريدون أي شيء على ألا نكون مسلمين.. هل تفهمون؟؟.

ولهذا فهم يجردون الجيوش والشرطة لإرغام فتياتنا على الزواج منهم.. ليس لديهم أزمة في النساء..

لكنهم يريدون القضاء على القيم والمبادئ.. هي وحدها التي حفظت استقلالنا وحريتنا عبر السنين الطويلة..



* * *



كان الأمير السجين يعلم أن نهايته الموت، ونحن ننطق كلمة الموت هكذا ببساطة، أو نكتبها على الورق دون أن تثير في نفوسنا مضاعفاتها المرعبة المدمرة، أميرنا يقف على أعتاب الموت... ليس هذا أمرا هينا.. وعندما يموت الإنسان يترك أحلاما جميلة لم تكتمل.. يودع ربيعا نابضا بالحب لم يذبل بعد، وعندما يموت الإنسان ينظر إلى عيني طفله الصغير اللاهي ويقرأ في العينين الصغيرتين أحلى قصيدة شعر، وينظر إلى النسوة والرجال الذين أحبهم .. ثم يتصور أنه بعد ذلك سوف يأوي إلى حفرة نائية مظلمة لا حس فيها ولا خبر.. ويطول به المقام فيها ربما لآلاف السنين.. ينام عاجزا في قبره.. والأحداث التي تهز العالم تضطرم حوله دون أن يستطيع المشاركة في شيء.. ويضحك الأطفال وتبتسم الغيد الحسان وتخضر الأرض، وتورق الحدائق، ويجوس الطغاة خلال الديار ويعبثون وينهبون ويرغمون المسلمات على الزواج.. وهو ..هو الأمير.. تحت التراب يرقد عاجزا كقطعة من خشب متعفن.. أليس الموت رهيبا..؟؟

وكتب أمير القومول السجين رسالة عاجلة إلى القائد الصيني يعتذر له فيها عل ما بدر منه من جفاء، ويعده بالنظر في الأمر من جديد بطريقة فيها النجاة والفائدة، وطلب منه أن يسمح بلقائه..

ابتسم القائد الصيني وأغمض عينيه برهة، كان يفكر في الأميرة الجميلة وليلة الزفاف الكبرى، والمتع التي سوف يجنيها .. وخيل للقائد آنذاك أن كل شيء تحت تصرفه، وليس في الإمكان أن يستعصي عليه أحد، وهو شعور ينتاب المنتصر القوي دائما، ولو للحظات قصار، وفي هذه اللحظة ينظر إلى البشرية بعين الرثاء والعطف.. عطف القادر المتعالي المتغطرس.. وقال القائد:

- أحضروا الأمير إلى المجلس لنرى ماذا يريد.

سر أيها الأمير المسكين ولا تحزن، فلن يضيرك أن تكون في يدك الأغلال، أو يحيط بك كوكبة من الصينيين الأجلاف الذين يتطاولون في البنيان ويشمخون بأنوفهم الصفراء...

سر يا أمير قومول وأغمض عينيك حتىلا ترى مظاهر الاستخفاف والعنهجية، وامض في طريقك حذرا، وسد أذنيك عن الكلمات السخيفة، وغض بصرك عن الملامح الشامتة والنظرات التي تنبض بالحماقة والتشفي.

- عم صباحا أيها القائد.

- مرحبا بك يا أمير.

وجلس الأمير خافض الرأس، وظل الأمر هكذا حتى أمر لاقائد أغلب رجاله بالانصراف، وما أن خلا الجو حتى مال الأمير التركستاني على القائد هامسا:

- إن أمرا كهذا لا يحله العنف.

قال القائد:

- لم أجد وسيلة أخرى بعد أن أمهلتكم.. وأنت نفسك رفضت زواجي من الأميرة..

- نستطيع أيها القائد "الصديق" أن نعالج الأمر برفق..

- كيف؟؟

- عندي فكرة..

- ما هي؟؟

وطرح الأمير أمام القائد فكرته، وهي أن تتركز في أن يطلق سراح الأمير، حتى يتمكن من الاجتماع بعلماء الشريعة، ويناقش الأمر معهم، لعله يستطيع الحصول منهم على "فتوى" دينية تبيح مثل هذا الزواج، وتلتمس له الأدلة في بطون الكتب القديمة، فإذا ما وفق الأمير لإخراج مثل هذه الفتوى الممهورة بتوقيع الفقهاء، حل الإشكال، وساد الهدوء ونعم الجميع بالأفراح والسعادة..

ابتسم القائد الصيني وعبث بشاربه وتمتم:

-أرى أننا نقترب أكثر فأكثر.. والشقة تضيق بيننا.. وصدقني إنني قادر على أن أبقيك على كرسي الإمارة..إن لي كلمة مسموعة لدى القيادة..

وأخذ القائد يقهقه بصورة أدهشت الأمير الذي قال:

- لا أشك أنك سعيد أيها القائد.

- كل السعادة يا أمير.. كلما تصورت أن الأميرة بين ذراعي.. وأنني سأنجب منها أطفالا غاية في الروعة والجمال.. أكاد أجن من الفرح.. سوف نصبح أسرة واحدة سعيدة.. ولن يكون هناك غالب أو مغلوب..

هذه الفلسفة الحمقاء التي تتوارى تحت ستار الإنسانية والأخوة، أشد ما أمقتها.. ابنتي بين ذراعيه يا للمهزلة!! إنني أشعر بالتقزز والغثيان، فما بال المسكينة إذا وقعت بين براثن هذا الحيوان، وانسكب في سمعها الرقيق غزله السمج.. ابنتي تجالس هذا الوحش؟؟ كيف؟؟ أعرف أن الإنسان ليس شحما ولا دما ولا لونا فحسب.. إنه الفكرة والمعتقد.. الأشياء العظيمة التي يؤمن بها الإنسان هي التي تجعلني أنظر إليه وأقيمه فأحبه أو أكرهه، والفكر يعطي كومة اللحم والعظم معنى وتقبلا وشفافية.. الفكر يغطي الهيكل.. يكسبه ثيابا.. يجعله يبتسم ابتسامته المقبولة، ويتحدث حديثه المحبوب، يجعله إنسانا..

وغمغم القائد:

- أتعتقد يا أمير أن هناك فرقا بين الصيني والتركستاني؟؟.

- بكل تأكيد.

التفت القائد إلى الأمير في دهشة وقال:

- ماذا؟؟

- الصيني انتصر..

قهقه القائد ثم قال:

- هذا أمر معروف،نحن ننتصر دائما..إنه أمر يمتد إلى سحيق تاريخنا.

فرد الأمير قائلا:

- منذ حرب الأفيون وقبلها.

شحب وجه القائد، ثم استدرك:

- لم يستطع التفوق الاستعماري أن يمحو شخصيتنا..

وسادت فترة صمت، قال القائد الصيني بعدها:

- يقول العلماء أننا شعب ذو صفات غالبة..

- كيف؟؟

واستدار القائد صوب الأمير وأخذ يشرح له باهتمام كيف أن علماء الوراثة أثبتوا أن الصيني إذا تزوج أوروبية مثلا، فإن الأبناء يحملون الصفات الصينية، وذلك بسبب قوة الجينات التي توجد في الخلايا..

رد الأمير في دهشة:

- وما هي الجينات؟؟

- لا أعرف أيها الأمير.. هكذا يقولون..

- يا إلهي.. لماذا كنتم تبيعون بناتكم وأطفالكم..

- هذا كان .. أيام الشقاء والفقر.. لا تذكرني بهذه الأيام الحزينة..

واكفهر وجه القائد الصيني فجأة، وبدت نذر الثورة على وجهه الأصفر، وهب واقفا، ثم خطا خطوات داخل قبو صغير، وعاد في يده زجاجة من الخمر الرديء، وأخذ يجرع منها في عصبية، وتحامل على نفسه، وأخذ يقول والغيظ يخالط نبراته:

- بحثت سنوات عنها..

- أختي..

- هل فقدت في حرب..

- اختطفها البعض في حرب الأفيون.. لا تصدق ما يزعم بعض الحمقى يقولون أن أمي باعتها حتى تطعمنا.. هذا كذب..كذب..كذب..

وهب الأمير واقفا وقال:

-لا تجزع أيها القائد.. ولسوف أعود إليك بالأنباء التي تسرك بعد أن ألتقي بعلماء الشريعة.. أتسمح لي بالانصراف؟؟

عادت الإشراقة إلى وجه القائد الصيني، وقذف بالكأس يمينا..

-تستطيع أن تنطلق حرا يا أمير قومول.. ولسوف نشرب كثيرا ليلة الزفاف.. وسنرقص ونغني ونضاجع النساء..

ولنرى أن الأجناس لها الصفات الغالبة.. في الشرق والغرب حاربت.. وكنت الغالب دائما.. الموت أمر هين.. لم أفكر فيه ولهذا لا أخافه، تعرضت له ألف مرة ومرة.. وها أنا أحارب وأنتصر.. وأحكم قومول.. سعادتي كلها في أن أنتصر.. لا أنظر لشيء وراء ذلك يا أمير.. أنتم تفكرون كثيرا في الجنة والنار..

- لأنها حقيقة أيها القائد.

- كيف؟؟

- أنت تمسك الآن بالكأس المملوءة.

- نعم.

- فأين النشوة التي تحدثها الكأس؟

- النشوة؟؟

- نعم، أين النشوة أيها القائد؟؟

- هذه ليست مادة.. لم أقرأ عنها شيئا في كتبي المفضلة.. لم يتحدثوا عن النشوة؛ لأنها ليست مادة..

- لكنك تشعر بها..

- نعم.. ولولاها لما شربت الخمر..

- هي موجودة.

- بالتأكيد يا أمير..

- أريد أن ألمسها..

- لا أنا ولا أنت نستطيع لمسها..

غمغم الأمير.

- والنشوة العظمى أيها القائد في جنة الله، وأنا أستشعرها بلا كأس..



***





(3)



ولقد عاد أميرنا بوجه غير الوجه الذي ذهب به، لم أعد أرى في وجهه عيني ملك، إنه يلبس أفخر الثياب، ويحوطه الحرس وجوقة الشرف من كل جانب، وأبواب القصر مفتوحة على مصارعها، وأردية الحشم والخدم المزركشة تخلب اللب، لكن مولاي.. يا إلهي كسير النفس... مال نحوي هامسا:

- يا مصطفى .. ما معنى أن تكون أميرا؟؟

لم أفهم لسؤاله معنى، ارتبكت، ولم يستطع لساني أن يتحرك، هتف بصوت متوتر كالفحيح:

- قلها يا أحمق..

تلعثمت وغمغمت:

- أن تطاع.. أن تكون حولك هذه الأبهة كلها..

قهقه في مرارة، ثم قال:

- الأمير هو الحر الذي يرضى عن نفسه..

ولما لم أعلق استطرد آسفا:

- أين هي الحرية إذا؟؟ ثم كيف أرضى عن نفسي وأنا أرى العدو يعبث في الأرض بالفساد، ويحاول أن يمرغ شرفنا في التراب..يا مصطفى..ديننا هو شرفنا..

ثم أشار بيده إلى التلال البعيدة التي لا أكاد أدركها لبعد الشقة بيني وبينها وقال:

- " هناك على التلال يعيش فئة من الرعاة الأبطال ، لم يستطع العدوان أن يقهرهم ، ولم يتزوج نساءهم ، بالقوة . . هؤلاء يشربون ألبان الماعز ، ويغزلون الصوف ، ويعبدون الله الواحد الأحد ، لا يخافون أحداً إلاّ الله . . . . أتدري ؟ هؤلاء هم الملوك غير متوجين . . . ما أشد حنيني إليهم يا مصطفى . . . "

قلت في ثقة:

- هؤلاء الذين تتحدث عنهم هم رعاياك يا مولاي.

- ليس للعبيد رعايا يا مصطفى.. العبيد لا يعرفون غير القيود والذل..

ودخل مولاي القصر حزينا مكتئبا، واحتشد حوله أهل بيته، ثم توافد عليه العلماء وعلية القوم من كل جانب، وفي المساء عقدت الجلسة التاريخية التي لا تنسى، وبينهم خوجة نياز حاجي، وكان الرجال العظماء يجلسون منكسي الرؤوس يعلوهم الكدر والعناء، وقال مولاي الأمير:

- أيها الرجال يجب أن نعود من حيث أتينا.

- كيف؟؟

هذا ما تساءل به خوجة نياز.

رد الأمير:

- أن نخلع رداء الأمراء والعظمة وأن نعود رعاة إبل وشياه.. ثم نبدأ من جديد المعركة.. فإن متنا كان هذا غاية الشرف، وإن انتصرنا وبقينا.. استطعنا ان نقول للناس ونحن أمراء.. المنهزم ليس أميرا.. ولا يصح أن يحكم.. إن حكم المنهزمين يجعلني أسخر من نفسي.. أنا أمير ويأمرني قائد صيني.. أليس هذا عين الخيبة والفشل؟؟..

أما نياز حاجي، فقد حاول أن يبدد الغيوم التي ذرت الكآبة في أفق القصر، وهتف بأعلى صوته:

- " أيها الأمير . . . أيها السادة . . . يجب أن نوافق القائد الصيني على فكرته "

هاج الحاضرون ، وماجوا ، وبدا عليهم الاشمئزاز والمعارضة الشديدة ، غير أن الأمير ابتسم وقال في هدوء :

- " وأنا أوافق خوخة نياز . . . وسيكون العرس في قصري ، وسيتزوج القائد الصيني ابنتي الغالية . . . سوف نفدي بذلك شعب قومول ، وننجيه من مذبحة لا تبقي ولا تذر . . . "

وصرخ أحد العلماء قائلاً :

- " الله . . . "

ورد الأمير :

- " الله معنا . . ولن يخذلنا . . "

وعاد العالم يقول :

- " وكيف يكون معنا ونحن ندوس شريعته ؟ . . "

وسادت همهمات وغمغمات، وأخذ الجالسون يتناقشون بصوت خفيض، وينكبّون على الأمير، ثم يذهبون إلى خوجة نياز، ولا تكاد ترى إلاّ شفاههم تتحرك، وأيديهم تشير، وعيونهم تتأرجح في حيرة وحذر.

وحملت في اليوم التالي رسالة إلى القائد الصيني مكتوبا فيها أن الأمير قد وافق على زواج ابنته من القائد، وأن العرس سيقام في قصر "قومول" الشهير الذي يسكنه الأمير، وأن الدعوة موجهة لكل العظام من الضباط وأكابر الصين، وكاد القائد الصيني يجن من شدة الفرح، لقد سقط الاعتراض الديني وسادت قومول موجة من الغضب والسخط ضد الأمير والعلماء المسلمين هذه المرة، وأخذت جموع الثائرين تتحرك في مجموعات صغيرة تعلن رفضها لفتوى العلماء، واستسلام الأمير، وحاول بعض الثائرين أن يقذف قصر الأمير بالأحجار، ولقد هم جيش الاحتلال باستخدام العنف للقضاء على هذه الظاهرة مخافة أن يتسع التمرد، وتندلع الثورة، لكن شروط أميرنا كانت تؤكد للقائد الصيني ألا يتعرض لأحد من المتمردين بسوء حتى ينتهي الأمر بسلام، ويستسلم الناس للأمر الواقع، ثم انقض المجتمعون في القصر على الموعد.. ولف قومول ليل أسود ثقيل، شديد الوطأة على نفوس الرجال الشرفاء، وكاد يحدث في القصر في تلك الليلة حادث له العجب، إذ أتت الأميرة إلى أبيها قائلة:

- " لن أتزوجه يا أبي . . . كيف أطيعك وأعصي الله . . الله أعز مني ومنك . ."

- " والله يريد ذلك يا ابنتي "

- " لا يريد الله إلاّ الخير "

- " لعل فيما ارتأيناه الخير كل الخير "

وقالت الأميرة وهي تنتحب :

- " الآن أبرأ منك . . . من الملك . . فدعني أرحل . . "

ربّت على شعرها الذهبي وقال :

- " كيف ترحلين وسط الذئاب ؟ "

تسللت إلى الداخل وسمع لبكائها صوت يمزق نياط القلوب، كانت قد أغلقت على نفسها حجرة صغيرة، وأبت أن تستجيب للإلحاح أمها كي تفتح لها الباب، ونظرت أمها من ثقب بالباب، فرأت فتاتها تمسك بخنجر، وترفع وجهها إلى السماء وكأنها تصلي وتدعو الله أن يغفر لها، فلم تضيع الأم وقتا، بل هرولت إلى الأمير وأخبرته بكل شيء، وبحركة بارعة وسريعة فتح باب الغرفة وأمسك بالأميرة قبل أن تغيب الخنجر في صدرها...



* * *



وجاء موكب القائد الصيني ، تصحبه الموسيقى العسكرية ، واللاعبون بالنار ، وبعض الرقصات الشعبية الصينية . وفقراء قومول يبتعدون ويبتعدون عن قلب المدينة . . . يسجدون لله تحت الأشجار خفية ، أو يرتلون الأدعيات على شواطئ الغدران . . ! وبعض المتصوفة يغرقون لحاهم بالدموع في الأضرحة القديمة، وفي المساجد العتيقة التي لم ازل شموعها ومصابيحها مطفاة أدهشني أن أرى قصر الأمير في أوج تألقه واستعداده، وللأمير فرقة خاصة من رجال الجبال يدعوهم دائما في المناسبات الهامة لكي يكملوا الموكب الملوكي ويزيدوا من رونقه وبهائه-كما يبدو- فقد كان أميرنا خائفا من أن يندس أحد المعارضين، ويرتكب حماقة تقلب الأفراح إلى كارثة محققة، ولهذا فقد وزع رجال الجبل في كل مكان داخل القصر وخارجه، وأعطاهم الأوامر المشددة بألا يسمحوا لأحد بالدخول أو الخروج وأن يراعى الدقة في الحركة والنظام...

وشرب القائد الصيني نخب الصداقة العريقة بين الشعب الصيني والشعب التركستاني ، وظل يشرب حتى كاد أن يترنح ثملاً وأخذ يقول:

- عندما نتحرر من التقاليد القديمة وسطوتها..نشعر أننا أصبحنا رجالا عصريين.. الرجل العصري إله بنفسه، لا تحكمه سماء، ولا تخيفه قوة مجهولة.. كانت أمي تقول لي: لا تفعل هذا الشيء؛ لأن ذلك لا يرضي الرب، فكنت أصرخ في وجهها قائلا: أين هذا الرب؟ فكانت المسكينة تدمع.. وتشير بيدها إلى السماء.. إلى أحد الجهات الأربع أو إلى تمثال قمئ.. فكنت أقهقه وأفعل ما يحلو لي، وهي تنظر إلى في دهشة، وكأني قد ارتكبت جرما كبيرا.. ها.. ها.. ها...مات بعد أن سرقت أختي.. وكانت تضم تمثالا صغيرا إلى صدرها.. هيه.. وبعد أن ماتت سطوت على كل ما عندنا من تماثيل وبعتها بكمية قليلة من القمح.. ها.. ها أيها الأصدقاء التركستانيون.. فلنشرب نخب القضاء على كل المبادئ القديمة العفنة.. فالمجد لنا نحن.. للإنسان.

تململ خوخة نياز، واحتقن وجه أحد العلماء ، وأصيب أحد الرجال بالصرع فحملناه خارجا ، وسمعنا صوتاً في جنبات القصر يدوّي " الله أكبر . . الله أكبر . . " قالها أربع مرات ، وفي وقت قصير لمعت السيوف وانطلقت البنادق القديمة ، واندلعت المعركة التي أشعلها رجال الجبل الذين أخذوا يتوافدون من كل ناحية ، ومن الدور الأعلى ، ومن باطن الأرض ، ومن فوق أسوار القصر، وفي وقت قصير كان القائد الصيني ومن حوله من الضباط العظام والرجال الكبار جثثا متناثرة في أروقة القصر، لقد تم القضاء على كل الرجال الصينيين، وساد الذعر جنبات قومول، وخرج الأهالي عن بكرة أبيهم يفتكون بالصينيين، ويستردون بناتهم التعسات ويحررون الأسرى والمأسورين في السجون ودور الشرطة.. من بقي من الصينيين كان يفر هاربا، أو يتوسل ضارعا، أو يسجد على الأرض طالبا العفو، معلنا إسلامه وإيمانه بالله..

ووقف الأمير وسط الساحة ينظر إلى المشهد الدموي وإلى جوار ابنته وقال وهو يضمها إلى جسده في حب رائع:

- أستطيع أن أقول الآن أنني أمير قومول..

قالت الأميرة في مرارة:

- لكنهم لن يتركونا..

ضحك الأمير:

- سأظل أميرا طول حياتي.. أعني لن ألقي السلاح، ولن أقبل الهزيمة مرة أخرى.. فإذا فشلنا سأمضي في طريق الجهاد حتى الموت.. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنني أن أعيش بها أميرا وأموت بها أميرا.. وألقى الله مسلما..



* * *





(4)

امتد النور إلى جميع الأنحاء، وخفقت أعلام النصر في أنحاء قومول، وتناقلت المقاطعات المجاورة أنباء "الانتقام المشروع" الذي حمل لواءه أميرنا ومعه قائدنا الفعلي خوجة نياز حاجي، وعلى الرغم من أنني شخصيا قد شاركت بعنف في موجة الثأر لديني ووطني إلا أنني كنت أشعر أن المعركة الساخنة لم تبدأ بعد، فالصينيون لن يتركوا الأمر يمر دون يصبغوا أرضنا الخضراء بدماء العقاب الوحشي... ووجدتني أفكر في الموت والحياة... إذا كان لكل شيء نهاية فلم نخاف من لقاء الله؟! وإذا كان مصير الشهداء هو الجنة فلماذا نحجم عن اقتحام حقول الموت في شجاعة؟ كان علماؤنا في المساجد يحدثوننا أننا خير أمة أخرجت للناس، وكنت أنظر إلى تحكم الصينيين فينا، فأشعر أنا قد أصبحنا أمة مهانة، يؤرقها الذل، وثقل خطاها القيد الذميم، ويمحق كرامتها وإنسانيتها قوم لا يؤمنون بالله....

- ها أنا قدمة إليك.

- ما الذي أتى بك يا نجمة الليل؟

- أنت روحي وحياتي، رأيتك تضرب بسيفك يمينا ويسارا وتجادل الأبطال فذبت شوقا إليك.

- يا نجمة الليل ابحثي لك عن رجل آخر.

- أنت الذي أبحث عنه يا مصطفى..

وتطلعت إلى الليل الضارب، وما يخفق به من أسرار وذكريات وغمغمت:

- الليل يا نجمة يحمل أسرارا مهولة...

- هذا ليل المحبين الجميل..

اقتربت من، وأمسكت بيدي الباردة وهمست:

- وراءنا بستان القصر تفوح في جنباته الروائح الزكية..

- كنت أفكر بالأمس في الزواج، لأني لم أكن أجد عملا ذا قيمة أعمله..

- واليوم يا مصطفى حضرت؟

- أفراح الروح معلقة بالسماء.. بالجهاد الأعظم..

- هذا لا يمنع أن تضمني إليك.. نستطيع أن نحارب وأن ننجب الأطفال..

- يا نجمة الليل ليس الليلة معدنا..

- متى إذن؟؟

- شيء يعلمه الله...

واجهتني بصراحة مؤلمة وقالت في غيظ:

- من أنتم؟ أتعتقدون أنكم قادرون على هزيمة ملايين الصينيين؟ دعنا نتزوج ونرحل عن هذه البلاد..

ضحكت في مرارة، أنا أعتصر كفها الصغير في غيظ:

- أين البلاد التي يحلو لنا فيها المقام؟ الوباء قادم من الشرق، والموت يزحف من الغرب ونحن حيرى.. لا حياة لنا ولا موت إلا هنا..

- أنت تعيش بقلب ميت قبل أن يحين الموت.

- أنا أحيا متفرغا للمعركة..

- والحرب يا مصطفى لا توقف أي شيء.. انظر.. الأزهار تنمو وتترعرع والحبالى تضع أطفالهن، والرعاة يغنون على سفوح الجبال، والناس تحصد وتزرع، وأنت كالراهب المتبتل يريد أن يجعل من الحرب والتفكير فيها صومعة يخلو لها..

كانت كلماتها قوية ومؤثرة، تورق بروعة الصدق، وتفوح من حروفها رائحة الحياة الحارة الجياشة، ووجدت العرق يتساقط على جبهتي، وشعرت بأن أعصابي المشدودة ترتخي رويدا رويدا، وأن عيناي تتطلعان إلى السفوح الخضراء يوشيها القمر الفضي، وتنفست من الهواء البارد الحلو بعمق، ثم تنهت قائلا:

- أنا أحبك يا نجمة الليل.

- ومتى يكون؟

- أقرب مما تتصورين..

- وسمعت حركة وخيولا تركض، وعربات تقرقع، وأصواتا مختلطة، ورأيت أشباحا تتحرك هنا وهناك، وكنت على علم بأن اجتماعا كبيرا سوف يعقد لدراسة ما تم من أحداث كبار، وما سوف يتبع ذلك من رد فعل قد يجري أهوالا لا حصر لها..

- انصرفي يا نجمة الليل الآن..

ومضت في عتمة الظلمة تدرج كخيال لطيف له حفيف الملائكة، العيون الخضراء تضيء كجوهرتين، والوجه الأبيض الذي يفيض حيوية وجمالا يتألق في نور الابتسامة العذراء، صورتها لم تزل عالقة بقلبي وروحي رغم انسحابها صوب الباب الجانبي للقصر..

وعقد اجتماع كبير في قصر أمير قومول، حضره علية القوم من علماء ومفكرين وقادة عسكريين، كما اشترك فيه عدد كبير من المقاطعات الأخرى التابعة لتركستان الشرقية، وافتتح أمير قومول الحديث موضحا أن المعركة التي احتدمت بالأمس لم يكن هناك مفر منها، ولم يكن شعب تركستان – لا قمول وحدها- يرضى أن تداس تعاليمه الإسلامية، وقد رفض القائد الصيني التنازل عن القوانين التي أصدرها، ولم يكن هناك من وسيلة سوى الصدام الذي جرى، وقد يرى البعض أن الحركة التي قمنا بها ضربا من الحماقة إذ أننا لم نتحسب النتائج الخطيرة التي ستترتب عليها، لكن هل كان هناك بديل لها سوى الاستسلام؟؟

إن الاستسلام القديم جر علينا كثيرا من الكوارث، والمنهزم لا حدود لتنازلاته، ومن ثم كان لا بد من الضرب بشدة بصرف النظر عما قد يحدث من نتائج.. ورد أحد الجالسين معلقا بكلام يفهم منه أن ما وقع كان خطأ كبيرا، فليس لدى تركستان قوة تضارع قوة الصين، وإن ثمانية ملايين من أبناء تركستان لا يمكن أن يصمدوا أمام شعب الصين الذي يربو تعداده على أربعمائة مليون، ولذا كان من الممكن أن نرسل وفدا إلى الحاكم الصيني الأعلى، ونجري معه مفاوضات سلام لعلهم يخففون الوطأة ويلغون القوانين الجائرة التي تتعارض مع ديننا وكرامتنا، وما لا نستطيع أن نأخذه بالحرب كان من الجائز أن نحصل عليه بالسياسة، أعني المفاوضات.. ولقي هذا الكلام ترحيبا لدى بعض السياسيين القدامى الذين حضروا الاجتماع، واقترحوا أن يرسل وفد إلى الحاكم العام الصيني لتركستان الشرقية، غير أن خوجة نياز حاجي أشار بيده وقال في غضب:

- أيها الرجال، إذا أرسلتم وفدا فلن يعود إليكم سوى أخبار ذبحه كما تذبح الشياه، ولن يغفر الصينيون لنا ما حدث لرجالهم في قومول، والرأي عندي أنه لا وسيلة سوى الحرب.. إننا نضيع الوقت عبثا إذا بقينا هكذا نبحث عن حل سلمي للأزمة، فلن ينسى الصينيون دماءهم، إنهم يقسون ويقتلون وينتقمون دونما سبب، فما بلكم وقد قضينا على أحد قادتهم هنا، ووارينا ضباطهم وجنودهم التراب..

ثم هب خوجة نياز حاجي واقفا، وصاح بأعلى صوته:

- سمعتكم تتحدثون عن الأربعمائة مليون صيني، كما لو كنتم حضرتم هذا الاجتماع بصفتكم وفدا عن الصين وليس جماعة من الفدائيين المسلمين، وإذا كنتم تقيسون الجيوش بعددها فوالله أن الإسلام ما كان لينتشر، وترفع راية الله في الأرض لو أن المسلمين الأوائل فكروا كما تفكرون، كأني بكم لم تقرؤوا قول العلي الأعلى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة:249) ولكي نكره خصومنا على احترام ديننا، فعلينا معشر المسلمين أن تتخذ القرآن إماما لنا، فإنه يكفل خير الدنيا والآخرة، والله ما تحكم الأعداء فينا وملكوا رقابنا إلا لأننا تنكرنا لديننا، ونبذنا قرآننا وراءنا ظهريا، وإني أعاهد الله على أني لن أضع سلاحي حتى ألقاه أو أنتقم لديني وبلادي، فمن كان أبواه مسلمين فليتبعني.

وخرج خوجة نياز حاجي من قصر الأمير، قاصدا إلى المخازن التي وضعت فيها أسلحة القتلى الصينيين، وسار الجميع وراءه..

كنت أمضي مع الحشد الثائر، وأرى مولد روح جديدة انبثقت وسط ظلمات اليأس المدلهمة، لم يعد أحد يفكر في جحافل الصينيين، كل رجل يسابق الآخر ليعثر على قطعة سلاح وكمية من الذخيرة.. وسقطت تحت أقدام المحاربين كل اعتبارات التفوق العددي والتفوق في الخيرة لدي الصين، العقلاء ظنوا ذلك ضربا من الجنون، والمتحمسون كانوا يتصورون أنه ليست هناك قوة على الأرض تستطيع أن توقف زحف الثوار والمؤمنون بالله إيمانا عميقا، يرون أن القتال قد فرض عليهم فرضا، وأن المعركة يجب أن تستمر، والعبرة بالسير إلى الأمام ومجادلة الكفرة والطغاة، أما النصر والهزيمة فأمرهما بيد الله، وبدا الموت سيئا لا يؤبه له...

وانحدر الرعاة بأغانيهم الشعبية من الجبال، وأتى الفلاحون بثيابهم الرثة حاملين أسلحتهم الصدئة يهللون ويكبرون، ونظرت من برج بأعلى القصر، فرأيت الطرق تموج بالبشر... وتألقت تحت عيني المآذن والقباب الخالدة التي بناها الأجداد العظماء... وبدت بلادنا الحبيبة بصباحها الذهبي، وجناتها الخضراء، ومبانيها الصامدة صورة من صور الخلود والقوة التي يحميها الله.. وهرولت نازلا.. وعند نهاية الدرج رأيتها:

- ماذا تريدين يا نجمة الليل؟

- قالت وقد تبللت الأهداب الجميلة بالدموع:

- هل أنت راحل؟

كانت نبراتها تشي بالأحزان الثقيلة:

- أوتظنين أن مصطفى يبقى ليقدم الزاد للخيل، ويرعى الأغنام؟؟

- كلكم ذاهبون..

- نعم.. فلا معنى للحياة في ظل الهوان..

أطالت النظر إلي، ثم قالت:

- قلبي يحدثني بأنك لن تعود..

- لو كنت تحبينني حقا لفاض قلبك بالأمر..

- الحب الكبير يخالجه الخوف..

هززت رأسي قائلا:

- الخوف؟؟

- نعم.. لا أكذب عليك..

- الحب الحقيقي يا فتاتي لا تموت.. ولا يعتريه خوف .. إذا كان حبا ساميا فسيبقى سواء طوانا الموت أم كتبت لنا الحياة..

رفعت يدها وخبطت على ذراعي مداعبة:

- لم أذق بعد شيئا من الحب كباقي النساء..

وشردت ببصري إلى بعيد، كنت أغمغم: " الليالي التي قضيتها أفكر فيك كانت أياما جميلة، كان للحرمان والصدود معنى صوفي يرقص له قلبي.. آه لو تعلمين.. قلبي الآن يخفق في فرح.. أعرف أن ورائي قلبا كبيرا يمتلئ بالحب لي، وسيضئ خيالك في ظلمات المعارك المدلهمة.. سأدافع عن شرفك وشرفي.. الشرف جزء من العقيدة التي أنعم الله بها علينا وعندما نعود سنتزوج.. يا نجمة الليل عودي إلى أميرتك.. فهس الآن وحدها.. فقد خرج الرجال.. وخروج الرجال في هذا اليوم المشهود ذكرى رائعة يجب أن تغنوا وترقصوا لها.. حرب المبادئ يا نجمة الليل، تصنع الرجال.. فيصبحون رجالا حقيقيين.."



***





(5)



توسلت إليه أن يحملها معه، وتضرعت بدموعها أن يتركها تصحب الرجال حيث الموت والعنف والنار لكن أمير قومول قال لابنته:

"تعلمين يا أميرتي الصغيرة، أن الرجال قادرون على مجابهة العدو، وراغبون في الموت، فلتركن النساء إلى الخباء..".

وأتى الرجال من كل فج، ومضوا في كل صوب، ضل الغزاة طريقهم وسط الزحف الكبير، الذي شمل تركستان الشرقية من أقصاها إلى أقصاها، تناثر الجنود ينشدون السلامة هنا وهناك، وكان الروس يرقبون الأحداث عن كثب، فأوعز حاكمهم إلى أتباعه كي يمدوا يد المساعدة إلى ثوار تركستان الشرقية، وأرسل وفدا لمقابلة خوجة نياز عارضا عليه المساعدة الحربية، وأخذ نياز يتدارس الأمر مع رفاقه، وفي آخر الأمر قال نياز لقادة المحاربين من رجاله:

- أنا أعرف جيدا ما تريد روسيا؟ إنهم لا يريدون لنا الاستقلال، من قديم وهم يريدون يثبتوا أقدامهم في ديارنا طمعا في خيراتها..

ورد أحد الرجال قائلا:

- ولماذا لا نتحالف مع الروس حتى نقضي على الصينيين؟

- وإن لم نكن قادرين على تحرير أراضينا بأنفسنا فلا نستحق الاستقلال..

- عدونا شرس، ولو تحالفنا مع الشيطان نفسه لرد العدوان لما لامنا أحد..

- تمهل أيها الصديق.. روسيا الأخرى عدو، وقد فكرت في مساعدتنا لأنها رأتنا نحقق النصر فعلا.. فهي تنشد مأربها بأرخص وأقرب طريق.. والكفر أيها لارجال ملة واحدة.. الحلف الأعظم هو الحلف الذي يضم شعبنا في شرق البلاد وغربها، وشمالها وجنوبها.. لن يكون هذا الحلف إلا في ظل الله.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة:1).. هكذا تقول كلمات الله.

في اللقاء الأخير مع الوفد قال نياز:

- نحن نشكر لكم نيتك الحسنة حيالنا.. ولكننا سنحارب العدو وحدنا..



قال رئيس الوفد:

- لن تصمدوا طويلا.. ولدينا معلومات وثيقة أن عاصمة الصينيين في أقصى الشرق سوف تحرك ألوية ضخمة للقضاء على ثورتكم..

قال نياز في حزم:

- نحن نرحب بصداقتكم، ولكن نعتذر عن قبول معاونتكم المشروطة، فقد قرر رجالي عدم السماح لجنودكم أو خبرائكم أو تجاركم بالنزول في بلادي.. وبهذا ترى أن الأمر لا أملكه.. ولكنه شعب ثائر قد قرر خطته بنفسه..

ومضت الثورة في طريقها، وانتشر رجال نياز في كل مكان، وتهاوت القلاع الصينية تحت ضربات الرجال الجبابرة، وتراخت قبضة حاكم الصين على تركستان الشرقية، ووقع في حيرة قاتلة، ووجده الروس في مأزق حرج، فأخذ يطلب المعونة من الروس، فوافق الروس بشرط أن تبرم بينه وبينهم معاهدة يكون من شروطها أن يكون للروس الحق في إنشاء وكالات تجارية في تركستان ولكل من يحمل الجنسية الروسية الحق في التجول في أنحاء البلاد، كما أنه ليس للسلطات المحلية الحق في التفتيش على الواردات الروسية...

وازدادت المعركة عنفا، كنا نمضي في شعاب الجبال، وفي خضم الأنهار والمراعي، فنرى الأسلحة وبعض رجال الروس يتدفقون لمساعدة الحاكم الصيني، وبدت المدن التي تحت سيطرة الصينيين وهي تغص بالرجال الروس، الذين أخذوا يبثون الدعايات المغرضة، ويرشون كبار رجال الحكم، ويحرضون على القضاء على خوجة نياز، الذين تمنوا أن يتحالفوا معه بالأمس...

والأدهى من ذلك ان الروس أخذوا يحرضون الطبقات بعضها على بعض، ويوقعون بينهم الفتنة والاشتباك، واستطاع السلاح أن يقوي شوكة الصينيين، كما استطاع التخريب الفكري أن يوهن القوى، ويمزق أواصر الوحدة الشعبية الكبيرة، وخضنا آنذاك معارك دامية، راح ضحيتها آلاف من الرجال، ووجدنا أنفسنا بعد شهور مضنية في حاجة ماسة إلى السلاح والمال والطعام، وكان لا بد أن نضمد الجراح، ونحظى بقسط من الراحة بعد الضغط الروسي الصيني الرهيب، فانسحبنا إلى الجبال..

واستطاع الحاكم الصيني أن يبسط سلطاته من جديد بعد أن كنا قاب قوسين أو أدنى من النصر التام.. وفي كهوف الجبال وممراتها وشعابها الكثيرة، كان خوجة نياز يتحرك بيننا ويقول:

- الحرب أيها الرجال، سجال.. يوم لك ويوم عليك... وقد عاهدنا الله ألا نستسلم حتى ننتصر أو نستشهد..

وكان يتطلع بعينيه القويتين النفاذتين إلى السحب التي تتوج هامات الجبال، ويجوب بنظراته عبر المراعي الشاسعة، ويحلم بيوم يستطيع فيه رجالنا أن يمسحوا كل شر وخطيئة دنست أرضنا الطيبة.. وكان يضحك ويقول:

- ها أنتم ترون الروس، الذين أتوا بالأمس لنجدتنا، يمدون يد العون الآن لعدونا.. ألا تعتقدون أنهم اليوم سبب نكبتنا..؟

ويعود خوجة نياز يضحك ويروي بعض ذكرياته:

- لا تحزنوا أيها الرجال.. من قديم والكنيسة تسعى للقضاء عليكم.. كانت تحرض روسيا على غزو ديارنا الإسلامية.. لأن الكنيسة لم تكن تنسى أن محاربينا الأشداء ساعدوا تركيا.. وعاونوا العالم الإسلامي في الحروب الصليبية، وبلادنا أيها الأبطال لها ماض وتاريخ وحضارة عظيمة، وفي أرضنا تكمن الثروات الضخمة..

إن هنام ألف سبب وسبب يجعلهم يطمعون في أرضنا.. وأهمها هو أننا مسلمون..



***



وبقينا في الجبل شهورا قاسية، لم نكن نكف فيها عن التدريب ومراقبة الأحداث، وتنظيم حرب العصابات، ونصب الكمائن، وبعد أن أعددنا العدة للهجوم الكبير، استدعانا خوجة نياز، وطلب منا أن نتخفي، وننطلق في أنحاء البلاد نجمع الأخبار، وندرس أحوال اعدو، ونقاط الضعف في تنظيماته، وفي وسط الرجال قلدني نوط الشرف وقال لي:

- يا مصطفي حضرت مراد حضرت.. أنت كنت دائما مثال الجندي العظيم.. وأنا إذ قلدتك هذا الوسام، إنما أعبر فقط عن بعض تقديري الذي ملأ قلبي.. وأرجو أن تسرعوا بالعودة.. فلم يعد أمامنا وقت طويل..

وانطلقنا في شتى الأنحاء متخفين، قومول الحزينة متشحة بالسواد؛ لأن الرجال يشنقون لأقل الشكوك، و"كاشغر".

لا تستطيع أن تقابل أحدا من رجالها الأبطال؛ فهم إما متخفون، أو هاربون في الجبال، أو يتظاهرون بتأييد الحاكم الصيني، أو يسير في رجال الخبراء الروس، أصبح من الصعب على الإنسان أن يميز الحقائق، وسط العنف الزائد، واستبدتاد الذي لا يرحم، وتغيرت معالم الأشياء في أورومجي، يخيل إلي أنن لا أرى إلا وجوه الصينيين والروس، الزحف الشيطاني يدير الرؤوس، ويزيغ الأبصار ويملأ الآذان بالطنين.. وهكذا صرت أتجول من مكان لمكان، ومن مدينة لمدينة، وعدت إلى قومول أبحث عن "نجمة الليل" الأسود الحزين أين أنت يا حبيبتي الفاتنة؟ نفسي تطفح بالآلام والأحزان والوسام الذي علقه القائد على صدري ذات يوم أشعر كأني لا أستحقه، لا قيمة لأوسمة والعدو يروح ويجئ ويلهب ظهر أبناء الوطن بالسياط، أو يسوقهم إلى السجون، أو يعلقهم على أعواد المشانق.. أشعر بغصة في حلقي.. بمرارة قاتلة.. ومع ذلك كنت ابحث عن "نجمة الليل"، ذهبت إلى قصر الأمير في قومول.. قصر الذكريات.. والحب الغاضب.. والتمرد العاطفي.. والوعود الخلابة.. وبدا لي القصر كمبنى ثري عتيق من مخلفات الأقدمين، وبدت دوحاته الشامخة وكأنما هدتها السنون، وخطها المشيب.. كل شيء يشيخ ويمرض.. ويبعث على الدموع والأحزان.

- هل رأيت "نجمة الليل" أيتها الأم الطيبة؟

ورفعت إلى امرأة عجوز رأسها، ونظرت بعينيها الواهيتي وقالت:

- أنا هنا منذ مائة عام، ولم أسمع بهذا الاسم قط.

وخطت وهي تتوكأ على عصاها ثم عادت وتوقفت وهي تقول وقد حمت عينيها من ضوء الشمس وأشارت بكفها المرتعشة:

- هل أنت غريب عن هذه الديار؟

- لا.. أنا ابن هذه الأرض..

هطلت الدموع من العينين الكسيرتين وقالت:

- حسبتك قادما من الجبال.. وأنا أبحث عن أولادي الأربعة.. ذهبوا ولم يعودوا.. ليت أحدكم يأخذني إليهم.. لقد مللت الوحدة هنا مع بناتي الأرامل.. أزواجهم ذبحوا كما تذبح الشاه.. ومعنا عدد كبير من الأطفال.. اللعنة على الصينيين والروس سواء بسواء..

ومضيت في طريقي أتجول في أنحاء القومول المحتلة.. وفجأة وقع بصري عليه.. إنه صديقي القديم:

- "منصور درغا" .

لقد هتفت باسمه دون وعي، واقترب مني الرجل وقال:

- مصطفى مراد حضرت.. أهو أنت؟

وتعانقنا عناق حارا، ثم جذبني من يدي، وذهب بي إلى مكان خفي أمين لا يرانا فيه أحد، ثم جلسنا وحدنا.

- ماهي أخبارك يا منصور؟

تنهد منصور درغا في أسى وقال:

- الثوار يذبحون في مقاطعلة "إيلي".. وفي مقاطعة "أقصو"، و"تشوشك"، ومدينة شهيار تعاني من السجن والكبت والانتقام المريع.. نفس الشيء في "كوتشار" وفي "آلتاي" . الاستبداد في كل مكان.. إن الأعداء يبرون ويخططون.. إن خبراءهم ليسوا للمعارك والتجارة والدعاية فحسب، بل لديهم خبراء في فن التعذيب والقتل والقضاء على الإسلام والمسلمين..

زدمعت عينا منصور درغا وصرخ في احتجاج:

- هل هذا يرضي الله؟

قلت في ألم: "بالطبع لا..".

رد منصور وقد تغيرت سحنته:

- لماذا إذن يتركنا هكذا نتعذب ونلاقي الذل؟؟

- الله عادل يا منصور.

- لكن الظلم أغرق الأمة في طوفان من الأحزان..

- ومع ذلك فإن الله عادل يا منصور..

- العدل أن يسحق هؤلاء الكفرة..

أمسكت بذراع منصور درغا وقلت:

- ومن العدل أيضا أن نكون مسلمين حقيقيين حتى ينصرنا..

هز رأسه في أسى وقال:

- صدقت.. فينا الخونة الذين تعاونوا مع العدو..

- هم قلة..

- نعم ، فينا الذين انسحبوا من الحياة ولم يشاركوا بشيء..

- السلبيون في كل أمة..

- أجل.. وفينا من كفروا بالله وآمنوا بالقادمين من هنالك..

ثم التفت منصور إلي محتقن العينين وقال:

- وفينا نساء جميلات.. لا يعرفن شيءا اسمه الفضيلة..

ضقت ذرعا بكلمات منصور، فهو في ثورة يأس قاتلة، ويعاني من أزمة نفسية مدمرة؛ لأن الأمر ليس على الصورة التي يرويها، فشعبنا شعب صابر مقاتل لم يستسلم، والخونة فئة قليلة جدا، قد ضعفت نفسها إما خوفا من العدو، أو انهيارا أمام ألوان العذاب، أو انخداعا ببعض المكاسب المادية، وهؤلاء أو هؤلاء عددهم قليل جدا، أما النساء فإن فئة من الجاهلات الغافلات اللاتي لا يجدن ما يقتتن منه، قد سقطن في شباك الرزيلة من أجل لقمة العيش، أو رضخوا للتهديد وفضلوا الحياة القذرة على الموت الشريف، أنا لا أنظر إلى الأمر كما ينظر إليه منصور درغا، فأنا أعرف منصورا من القديم، فهو مثالي حالم ينظم الشعر، ويحفظ أحاديث البخاري، وأن منصور يحلم دائما بالتاريخ العاطر، لم يحاول أن يوفق بين الماضي الرائع والحاضر التعس، حتى يحفظ على نفسه شيئا من التوازن النفسي.

- لماذا لا تقبل الواقع كما هو، وتحاول أن تعالجه..

هز منصور رأسه في غضب وقال:

- هناك حالات مرضية ميؤوس منها..

- والحل يا منصور؟

لوى شفتيه، وقال باشمئزاز:

- الحل هو الموت..

- وكيف نموت؟؟

أدرك ما أرمي إليه، دارت عيناه في حركة فائقة، وكأنه يكتشف آفاقا نفسه، ويحاول أن ينشر أفكاره القديمة، ويمعن النظر في آرائه:

- نموت يا مصطفى كما يموت الأبطال ..

احتضنته في سعادة وقلت:

- ها أنت ترانا متفقين..

- بكل تأكيد.. وكنت عازما على اللحاق بكم في الجبال.

- سنذهب غدا.. لقد اقترب الزحف الكبير..

وخرجنا نتجول في أنحاء قومول وقد أرخى الليل سدوله، وكان شيئا واضحا تماما في الموقف، فالناس قد ضاقوا ذرعا، ولا يحتاج الأمر إلى أن ينحدر الرجال من الجبال، وينزل خوجة نياز حاجي ليشعل الثورة من جديد.. وقبل أن نفترق قال منصور درغا.

- لم تسألني عن "نجمة الليل"؟

أمسكت في ضراعة:

- أين هي؟؟

ضحك منصور في مرارة وقال:

- تزوجت..

- كيف؟ أنك تمزح..

- عندما هجر الأمير القصر، وتفرقت أسرته، وخرج الناس للحرب، أصابها انهيار عصبي.. كانت تبكي وتصرخ.. لكن بكاءها وصراخها لم تطمس جمالها. هل فهمت..

- لم أفهم شيئا..

- لقد أعجب بها ضابط صيني نزل قومول لأول مرة.. دعنا من هذا الأمر الآن .. لا يصح أن نكترث له..

***

وانا إذ تنطفئ الفرحة في قلبي –أشعر أنني أغوص إلى أعماق بعيدة محشوة بالأفاعي والأشباح والدخان الأسود، ذلك كابوس قديم كنت أراه في منامي وأنا طفل صغير، وكان أبي يعلمني أن أقرأ آية الكرسي قبل أن أنام، وأن أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة.. لست أدري لماذا عادت إلي ذكرى ذلك الكابوس.. آه يا "نجمة الليل" .. هل أصدق دموعك القديمة؟ أم تعاليك علي في البداية؟ أم تشبثك بأهدابي؟ أم لظات الوداع وحديثك عن الذئاب القادمين من الصين؟ ماذا أصدق؟

أتراني أصدق الماقع المرير؟

- غدا نذهب إلى الجبل يا منصور..

وتهت بنظراتي إلى في ليل قومول الحزين وقلت:

-وعلى السفوح يبدو الليل صافيا، وتسمع أغاني الرجال فيطرب قلبك يا منصور، وتنظر على النجوم.. فلا ترى نجمة واحدة.. بل ترى ملايين النجوم تبتسم ابتسامتها الخالدة.

- الجبل رائع يا منصور....



****







(6)



تركت "نجمة الليل" ورائي، وتطلعت إلى القمر وكان بدرا، نعم كان يغلفه السحاب المتكاثر، لكني كنت أقرأ في وجه القمر الابتسامة الخالدة التي ظلت تتسم بالهدوء والوقار منذ ألوف السنين أو أكثر، أنا في ضوئك يا قمري المنير يا من تتحدى الظلمات أمضي وسط المراعي، قاصدا قيادة الثوار... وأنا أظلم الثوار إذ أذكر واحدا او مائة أو ألفا... إنهم كثيرون.. أمثال الجنرال محمود محيطي والجنرال العظيم عثمان باتور والجنرال شريف خان والجنرال عثمان أوراز.. وهناك على القمم التقت الزمرة-العيون التي انظلقت إلى كل المقاطعات والمدن-ونشرت تقاريرها عن الحال السيئة التي يرزح تحت عبئها شعبنا المناضل في تركستان.. وفي أواخر العام انطلق السيل العارم..

قال خوجة نياز:

- سنلتقي في أورومجي حيث قصر الحاكم العام الصيني...

وكنا نعرلم أن المرحلة طويلة، وأن دونها دماء وأهوال، أدركت ذلك من كلمات الجنرال محمود محيطي الذي سمعته يقول:

- سوف تصاحبنا العناية الإلهية...

قلت:

- أيها الآباء العظام إن الأحداث قد أتلفت بعض شبابنا..

ضحك خوجة نياز وقال:

- عندما تشرق شمس الحقيقة فإن هذه الخزعبلات كلها تذوب..

ونظر صوب القمم المتوجة بالثلوج وقال:

- إرادة الله أقوى من أي فلسفة أرضية، إن ما تحسبونه انتصارا أبديا إنما هو بريق مؤقت سرعان ما ينطفء.. وفي كل عصر من عصور التاريخ يتحدى بعض المغرورين كلمات الله وينالون بعض النصر..لكن هيهات.. لقد قال الله في كتابه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)

- انطلقوا بعون الله ولا تخافوا أحدا إلا الله..

ظاهرة غريبة أدركتها في شعب تركستان، هذا الشعب الذي بدا نائما مستسلما جريحا ينزف الحسرات واللوعة، ويعشش في قلبه اليأس، هذا الشعب عندما رأى جموعنا تزحف، إذ به ينفض الكسل والوهن عن كاهله، ويفتح عينيه في فرحة غامرة وينطلق معنا.. يا إلهي! أين الصينيون؟ إنني أراهم يفرون مذعورين، وكثيرون منهم يعتنقون الإسلامويحاربون إلى جوارنا وتحررت الفتيات اللاتيكنا أو ما زلن في عصمة الكفرة من الجنود الصينيين.. وخرجنا يشاركن في المعركة..

في إحدى المعارك وجدتها تمسك برجل ضخم الجثة والناس من حولها يصفقون.. من هذه المرأة؟ غنها امرأة من "كاشغر" اسمها "خاتون".. وضابط صيني أمسكت المرأة بالضابط وربطته في جذع شجرة ضخمة.. أخذ يدور حول الشجرة كالثور الذبيح.. وهي تشوي ظهره بالسياط...

- قلت لي: يا خاتون.. أنت لي.. ولن تستطيع أي إله أن ينقذك من بين يدي.. سقتني إلى كوخ حقير.. أتذكر؟ أخبرك ألف مرة.. إني أكرهك.. وأكرهك.. ولن تنال مني شيئا.. وأكدت لك أن الله أقوى مني ومنك.. وتركتني أيها الملعون عارية.. أحضرت رجالك السكارى يتفرجون على امرأة مسكينة عارية مكتوفة اليدين.. وكنت أبكي وأتطلع إلى السماء وهي تمطر.. دعوت الله من أعماقي.. سخرت مني وقلت لي.. الله لن يسمعك.. الموجود هو أنا.. الآن أين أنت يا صن لي؟ .. انظر على الرجال القادمين من كل صوب وحدب.. وتطلع إلى الرايات التي تخفق.. هل عرفت الله؟ .. تكلم.. آه.. إنك تسجد الآن.. تقبل التراب.. تستجير بالإله الذي أنكرته.. هل أنت رجل؟ .. أعرف أنك حقير تخاف الموت.. لكنك أيها الوغد جرحت قلبي.. وجرحت جسدي.. والمرأة التي تجرح عفتها قهرا في شرعنالا عقوبة للجاني إلا الموت..

ونظر خوجة نياز إلى المشهد المثير وقال:

- يبدو أن المرأة جنت..

وقدم أحد رجال "كاشغر" وقال:

- "كاشغر" كلها تعرف قصتها..

- لا بد أنها قاست طويلا..

- هي من بيت عريق يا سيدي..

- يبدو ذلك..

- والضابط كان لا يحلو له العبث إلا ببنات الأسر الفاضلة.. لقد قتل عددا كبيرا من كبار العلماء والمتدينين..

وتقدم خوجة نياز إلى حيث الضابط المربوط:

- ماذا فعلت؟؟

نظر الأسير بعيني متعبين وقال:

- كنت أمارس بالأمس حقوق المنتصر..

- وما هي حقوق المنتصر؟..

ولما لم يستطع أن يجيب أردف خوجة نياز:

- أن يدوس القيم العريقة؟

- لقد أحببتها أردتها لنفسي.

- ألهذا جئت لتحارب؟

- كنت أفعل ما يفعلون والمسئول هم القادة.

قال خوجة نياز للواقفين:

انظروا إليه.. يريد منا أن نحاكم من أتوا به..

ثم التفت إليه قائلا:

- وأمام الله نقف فرادى (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:95)

ألم تسمع بهذه الآية؟ بالطبع لا. ونحن لن نحاسبك على جرم قادتك.. بل بما اقترفت يداك..

- انهار الضابط وهتف:

- لا أريد أن أموت...

قهقهت خاتون قائلة وهي تخاطب خوجة نياز:

- سيدي الرئيس.. كان ضحاياه يطلبون منه الرحمة.. سمعت أحد الشباب الشرفاء يهتف أمامه ذات مساء "لا أريد أن أموت" .. نفس الكلمات.. لكنه كان وقحا..

وواصلت الكلام وهي متجهة إليه:

- أتنكر؟ كنت وقحا.. ورفعت مسدسك بكل هدوء وأطلقت منه مجموعة من القذائف.. ثم أخذت خاتون..

تدور على السامعين وتقول بصوت ملتاع حزين:

- كان الضحية يتلوى.. ويتأوه.. عيناه تصرخ باللهفة للحياة.. والكلب الحقير يشرب فنجانا من الشاي.. ويدخن في تلذذ.. ويحكم المعطف الواقي من البرد على جسده.. ويضحك.. ثم يجلسني مرغمة على فخذيه.. ويداعب خدي بخنجر.. تصوروا.. تصوروا ... انظروا إلى وجهي إن آثار الجروح القديمة لم تزل بوجهي.. وكان وجهه يشرق بالسعادة وهو يمتص قطرات من دمائي..

ثم صرخت في نوبة حادة تشبه الجنون:

- محكمة..

وساد الصمت، وتعلقت الأبصار بالمرأة الدامعة المتوترة، وبالضابط المهزوم المربوط في الشجرة، وفي لحظات شق الصفوف شيخ يربو على الستين وفي يده سيف قديم، ولم نكد نفيق حتى كان سيفه قد أطاح برأس الضابط.. وساد هرج ومرج، بينما صاح العجوز:

- أنا أبوها.

وتعلقت خاتون بأبيها، وأمر نياز رجاله بالانصراف، واحتدمت المعارك حول "كاشغر" وغيرها من المدن وأخذ الثوار يمشطون المناطق المحررة من كل خائن أو محتل..

عشرات القصص المحزنة تروى في كل مكان.. كان خوجة نياز يغمغم: "أنا أبوها".... وأخذ يكرر هاتين الكلمتين في تمعن، كان يشعر أنه هو الآخر أبوها، وكان يؤكد للجميع أن تركستان التي تعاني الأهوال في حاجة دائمة إلى أب مسلم بار، وإلى أبناء شرفاء يدافعون عن شرفها وكيانها، وينتقمون لجراحها البدنية والنفسية.

وتذكرت الملعونة "نجمة الليل" .. ليتها كانت مثل خاتون...

لكن لماذا أفكر الآن في "نجمة الليل" أنا لست أباها.. وهي ليست كخاتون.. إنها مجرد إفرازات سامة لهذه الظروف العصيبة.. وفي كل بستان جميل قد تنبت أشواك تدمي الأنامل، وقد تتخفى أفعى بين الورود... و"نجمة الليل" شيء شبيه بالهزيل الحقير الضابط.. ويجب أن تكون حربنا ضده وجيشه.. وضد الإفرازات السمة القاتلة التي تشبه "نجمة الليل" وأمثالها...

وساد السكون شتى الأنحاء، وأعلنت الجمهورية الجديدة في "كاشغر" واختير خوجة نياز رئيسا للجمهورية التركستانية كما اختير رجل صالح آخر كان مهاجرا إلى القاهرة اسمه مولانا ثابت رئيسا للحكومة التي تم تأليفها، وقد تكون مجلس للنواب والوزراء... وتحررت أراضينا تقريبا.. ةبعد فترة وجيزة اتجهت النية لمحاصرة مدينة أورومجي وهي مقر الحاكم الصيني، ومعقله الأخير..

أما أنا فأرسلت في مهة تتعلق بتجميع القوات وتوزيع الأوامر إلى قومول.. كنت سعيدا لذهابي منتصرا إلى قومول.. ما أروع أن يعود الجندي منتصرا إلى مسقط رأسه، إنه يمضي مرفوع الرأس، ينظر إلى الناس في حب ومودة، يشعر أن رابطة قوية تربطهم وبينه، وهو نبض من قلوبهم.. جزء من أرواحهم وآمالهم، وأفراحعم وآلامهم النصر العظيم-كالألم العظيم- يوحد القلوب، ويصهر الآمال في بوتقة واحدة.

الفارس العائد يدق أرض الشارع في فخر.. ينظر إلى الوجوه الجميلة المستبشرة وهي تطل من النوافذ، وإلى الأطفال الذين لوحت بشرتهم البيضاء ويجيئون في هدوء وسعادة..

الفارس العائد يشعر أنه قد أدى بعض الواجب، وهو يقتحم الحصون بالأمس، ويطلق مدفعه القديم، ويطهر المواقع من دنس الصينيين، وأنا الفارس العائد... يا لها من أغنية حلوة.. أشد ما كان يثلج صدري أن أرى الغزاة ينهارون ويموت كل منطق لديهم.. ويذكرون الله على الفور.. أنا واثق أنهم لم يكونوا يكذبون.. لقد انجابت الغشاوة عن أعينهم فعادوا بفطرتهم – وقت الكرب - إلى الله .. الحقيقة الأولى الأزلية التي لا زيف فيها..

وسرت... وسرت.. وأنا أدق الأرض بحذا جديد.. سمعت من خلفي يهتف:

- ها قد عدت مرة أخرى يا مصطفى مراد حضرت.. أقسم أنك جئت تبحث عنها..

ونظرت خلفي فإذا بمنصور درغا.. كان يربط ساعده الأيمن بضمادة كبيرة، كما كان رأسه هي الأخرى مربوطة بضمادة صغيرة أخرى وهتفت في انشراح:

- كدت لا أعرفك..

وتعانقنا، بينما أخذ منصور درغا يقول: "قضيت فترة من الزمن في المستشفى، استخرجوا من ذراعي رصاصتين أو ثلاثة لا أدري.. وقالوا إن شللا مؤقتا سيصيب ساعدي، هذا ليس مهما.."

ثم أحنى رأسه وقال في حزن:

- مات كثير من الرجال .. أصبحت أكره الموت.. أن يقتل الإنسان هذا شيء مريع.. لماذا كل هذه الحماقات؟ غير أني أحاول أن أنسى.. وأهز كتفي.. وأرفع مدفعي.. وأسدده عشوائيا صوب تجمع صيني أو روسي.. لا أريد أن أقتلهم وإنما أريد أن يكفزا عن قتلنا.. أريد لأسلحتهم أن تصمت.. الكارثة أن أسلحتهم لا تصمت إلا إذا صمتوا هم أولا.. وهذا محزن.. لا بد أن يموتوا لكي تكف أسلحتهم عن الجنون.. هيا نضحك.

قلت في دهشة:

- من؟؟

- "نجمة الليل..

- أنا أبوها..

وقهقه منصور عندما سمع كلمتي الأخيرة:

- أنت أبوها إذن؟

وشردت ببصري نحو القصر المهجور وقلت:

- سمعت عجوزا في "كاشغر" يقول نفس الكلمات.. أنا أبوها.. وسمعت رئيسنا يقولها أيضا.. أنا أبوها.. وبلدنا يا منصور درغا في حاجة ماسة إلى من يردد دائما : أنا أبوها.

ربت منصور على كتفي في حزم وقال:

- الحرب أرهقت أعصابك.

قلت في أسى:

- ربما.

- هل بلغتم أورومجي؟

- لقد حاصرناها ، والمعركة أوشكت على لانتهاء..

ضحك منصور درغا وقال:

-أما أنا فأقول إنه لا نهاية لعذابنا، ما دمنا بين كماشة : فكها الأولفي الصين، وفكها الثاني في روسيا، وكلاهما طامع فينا، يريد القضاء على إسلامنا.. لأن القضاء على الإسلام قضاء علينا.. سمعت فلاسفتهم يقولون ذلك.. وقرأت بعض نشراتهم السرية في بعض المدن التي قمنا باحتلالها وفروا منها قبل أن تتاح لهم الفرصة إحراق أوراقهم.. إن لدي مجموعة كبيرة من هذه الوثائق.. وسوف أحملها إلى خوجة نياز.. إنها حرب صليبية من نوع جديد..

وفجأة مال منصور على أذني هامسا:

- "نجمة الليل" .. هربت تحت جنح الظلام..

- كيف هربت؟

- كان الضابط الذي أخذها لنفسه أول الهاربين..

ضحك منصور وقال:

- "نجمة الليل" .. طول عمرها أرض.. بل أوحال فوق أوحال.. أنت لا تعرفها كما أعرفها.. دعني أحدثك عنها لأول مرة أيها الصديق العزيز.. لقد كان لها من العشاق أكثر من عشرة.. كانت تجمع بين سائس الخيل وفتى المراعيوالجندي السمهري والعجوز الغني الذي يجود عليها بالجواهر.. أنت يا مصطفى ساذج أبله.. لا تحزن.. أنا لست مثلك تماما.. هذه الأيام السوداء جعلتني لا أثق إلا في شيء واحد.. في الإنسان الذي يحمل سلاحه ويحارب حتى الموت، هذا عصر فساد وضياع.. العيش فيه لعنة.. لقد ذهبت "نجمة الليل" إلى أورومجي... صدقني لو استطعنا أن ندخل أورومجي فستجدها تأتي إليك مستنجدة باكية، وتبدو للجميع كشهيدة للعسف والطغيان.. وسيصدق الناس دموعها وأنت أيضا سيرق قلبك..

وتحسست بمسدسي وقلت بصوت كالضجيج:

- الخائن يعدم..

ضحك منصور وقال وهو يهز كتفيه:

- لا تستطيع.. ألم تكن مرغمة على ما فعلت؟

- يجب أن نطهر أرضنا من الإفرازات السامة، والنباتات المتسلقة..

ابتسم منصور:

- الإفرازات من صنع الله.. والنباتات المتسلقة موجودة دائما.. أما أنا فقد تزوجت غجرية من الجبل لا تعرف الكثير عن الحرب.. هيه.. وأنت؟

- سأبقى في قومول ليلة أو ليلتين، وسأعود إلى أورومجي..

- ولن أستطيع اللحاق بكم قبل أسبوعين..

وودعت منصورا، وسرت في طرقات قومول على غير هدى.



***





(7)



وبرغم كل شيء فقد كنا دولة صغيرة في مجابهة دولتين كبيرتين هما الصين وروسيا، ولكن هل نتخذ من صغر حجمنا مبررا لكي نفتح أبوابنا للغزاة، ونفرط أغلى ما وهبنا الله؟ لتمض الحرب شهرا..شهرين..عاما.. لتمض كيفما شاء الله.. زسنبقى طوال حياتنا محاربين فهذا قدرنا، ولا حيلة لنا فيه، ونظر خوجة نياز حوله وقال:

- لقد خربت الحرب كل شيء.

قال الجنرال شريف خان وكان صلبا عنيفا، وكأنما خلقه الله محاربا:

- المهم ألا تخرب الحرب ثقتنا بالله وبأنفسنا.

- مجاعات هنا وهناك..

- أعلم يا سيدي الرئيس أن الثمن باهظ.

- وقلق يسيطر على البقاع.

والتفت إليه الجنرال شريف خان وقال:

- ولكن عندي فكرة.. أن ندخل أورومجي، في معركة يائسة..

- هذا ما يجب أن نفعله..

- إما أن نموت أو نسيطر تماما على أورومجي وإيلي.

وفي هذه الأثناء كانت المباحثات جارية بين الحاكم الصيني والروس لإرسال قوات كافية لسحق الثوار، وكان الروس في الحقيقة لا يثقون في هذا الحاكم.

ولهذا تحركوا بسرعة، وساهموا في عمل انقلاب في القوات الصينية تزعمه قائد الجيش الصيني، ونجح الانقلاب وفر الحاكم إلى الصين، وأصبحت السلطة الكاملة في يد القائد الصيني، وباسم تحالف المصلحة والمبدأ، عقدت اتفاقية جديدة بينه وبين الروس، تعهد القائد الصيني بجمع المواد الخام من التركستان الشرقية وإرسالها للروس، في مقابل مده بالرجال والسلاح لفك الحصار والقضاء على الجمهورية الوليدة، وفي يوم من الأيام في شهر ديسمبر أخذت ثلاث ألوية روسية مجهزة بثلاثين طائرة وعشرين دبابة وخمسين سيارة مصفحة تتدفق عن طريق "إيلي" و"تشوشك".

كانت الأنباء مزعجة، أولاها الناس اهتماما بالغا، إذ لم يكن لدينا قوة تستطيع أن تهزم المد الروسي المباغت، وقال خوجة نياز:

- بالأمس كنا نحارب.

رد الجنرال شريف خان مستفهما:

- واليوم؟

- حربنا ضرب من المغامرة.

ثم التفت إلى الجنرال وقال:

- ومع ذلك، هل هناك بديل للحرب أيها الجنرال الصديق؟؟

- أنا لا أفهم شيئا اسمه السياسة، علمتني التجارب أن الحرب هي الأسلوب الوحيد الذي تبقى لنا، ومن العسير أن يستسلم العدو إلا إذا قهر في معركة...

قال خوجة نياز وهو يرى الطائرات تمطر الثوار بوابلها:

- إذن فلنمض في الحرب حتى النهاية..

وفي هذه الأثناء، أرسل الروس خبراء في كافة الشئون العسكرية والتجارية والسياسية، وكان ضابطا روسيا واحدا من اثنين من المستشارين الكبار للحاكم الصيني الجديد.

وكان الروسي داهية خبيثا لا يستهان بتخطيطاته وآرائه والتقى بالحاكم الصيني وقال له:

- هناك صورة متخيلة في ذهني للمعركة، لو استطعنا تحقيقها لكسبنا الكثير..

قال الحاكم :

- كيف؟

- لدينا مجموعة ضخمة من المنشقين من أبناء تركستان الشرقية ونحن واثقون منهم تمام الثقة، وفي إمكاننا أن تستعين بهم، ونجعلهم في مقدمة الجهاز الإداري والعسكري للحاكم.. عندئذ تبدو المعركة وكأنها معركة بين الرجعيين من أمثال خوجة نياز وجماعته، وبين المنشقين.

وأبدى الحاكم ترحيبا حارا بالفكرة، وعلى الفور تدفق المنشقون وهم تركستانيون أصلا، ونصب أحدهم رئيسا للمخابرات التي كانت على غرار الجستابو الألماني، ولعب أقذر الأدوار في الانتقام من الوطنيين والنيل منهم.. كما تم إنشاء فروع لمؤسسة المخابرات في أنحاء المدن المختلفة..

وكنا نحارب بكل ما وهبنا الله من قوة، فكانت معركة عنيفة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ولم تكن الحرب وقفا على الرصاص، والطائرات والمصفحات والدبابات التي تخوض في أجساد الشهداء منا، بل كانت هناك حرب أخرى من نوع رخيص، فبعد أن قبض المنشقون على زمام الأمور في إحدى المدن، وأخذنا نحن نتراجع عن أورومجي، سمعنا بمحاكمات عجيبة تجري، لقد أسر صديقي منصور درغا، ثم استطاع الهرب بعد فترة وروى لنا الأعاجيب، في مبنى المخابرات "ج. ب. أو) سيق منصور درغا وقال:

- أنا رجل من الجبال لا أفهم في الحرب شيئا، ولا أعرف القراءة ولا الكتابة، أخذني الثوار بخرافي وبهائمي على الرغم مني ، ثم أمسكتم بي .. أنا بريء لا أعرف من الحرب شيئا.

كان مركز المخابرات يبدو كجهنم، ورئيس المخابرات يقف بنفسه يراقب ويوجه الأمور.

- أيها الضباط الخونة، كيف تحاربون في صفوف الرجعي الخائن خوجة نياز.. ألا تعلمون أنه اختلس أموالكم وأخفى الملايين عنكم؟؟ ألا تعلمون أنه يتاجر بكم ويستغلكم وأن لديه الضياع والنساء والذهب؟؟ انظروا فضائحه..

وأخذ ينشر أمامهم بعض المطبوعات المزيفة، والأرقام الكاذبة، والصور الفوتوغرافية الملفقة، وفعل نفس الشيء بالجنرال شريف خان وغيره من كبار القادة، وبعد أن حطم روحهم المعنوية بأكاذيبه أشار إلى زبانيته فبدأ في استئناف التعذيب.. الآلات الجهنمية تعمل والوسائل الخبيثة لا حصر لها، والمساكين يبكون ويضرخون، أو يموتون صامتين، واعترافات موهومة تنتزع ويوقع عليها المتهمون الأبرياء قهرا، ثم تنشر في صحيفة "سنكيانغ" وهناك الكتيبات الصغيرة التي دبجها الخونة، أو ألفها تلامذة الجستابو، ومهروها بأسماء تركستانية، فلقد اتسع نطاق الحرب، واتخذت اتجاهات عدة، وظل الثوار يحاربون في استماتة..

وجاء يوم لا يمكن أن انساه في حياتي...

آه .. ليتني لم أعش لأرى ذلك اليوم، احتدمت المعركة وتوافد الأعداء والخونة من المنشقين، توافدوا من كل مكان، كانت المعركة ضارية.. تلفت خوجة نياز حواليه:

- أيها الإخوان ليس أماننا إلا الشهادة..

كان الجنرال شريف خان منهمكا في المعركة، والتراب يحفر وجهه المحتقن والطائرات والدبابات تصب نيرانها في عنف، والقتلى يزحمون الطريق ورائحة الدم تشبع الجو، وتمتم شريف خان:

- يبدو أننا خسرنا هذه الجولة..

وقال خوجة نياز:

- لا بد أن ننسحب إلى موقع آخر..

وتكاثر الأعداء، وأخذنا نلاقي الأهوال في انسحاب غير منظم في حرب غير متكافئة، وكنت أصعد تلا قاسيا لا أكاد أشعر بما يدخل في قدمي ويدي من الأشواك، ووقفت على تبة عالية وأنا ألهث، وأنا أنظر إلى بعيد.. يا إلهي لقد سقط خوجة نياز والجنرال شريف وغيرهما في قبضة العدو، ثم سيقوا إلى مركز المخابرات أو "ج. ب. أو".

لقد تبدد الأمل.. كل شيء في جوانحي يموت.. الحب.. الأمل.. النصر.. كما ماتت بالأمس في قلبي "نجمة الليل" .. أيام النضال تكاد تتوزارى، وتصبح مجرد ذكرى .. كذكرى منصور درغا الذي اختفى ولم أكن أعرف منه في حينها أي شيء.. آلمني أن أرى أبناء تركستان الشرقية الذين انشقوا وعادوا بكل قسوة وعبودية وعنف وسخرية بالثوار.. إن أقسى شيء على النفس أن أرى واحدا من أبناء بلدي مكتنز الجسم ضاحك العينين، عالي النبرة، ويسوق إخوانه كما تساق الشاه.. ويعاملهم كالحيوانات.

إن ما جرى لخوجة نياز والجنرال شريف خان يكاد يعتبر سرا لفترة طويلة من الزمن؛ لأنهم أخذوهما وغيرهما من الأسرى لأماكن مجهولة.. إلى جب سحيق لا يعرف عه أحد أي شيء.. في مركز المخابرات وقف خوجة نياز مهلهل الثياب، ممزق البشرة وإلى جواره الجنرال شريف خان، وكان التحقيق عنيفا شاذا وقف حاجي نياز محمر العينين عاجزا، وصاح به مدير المخابرات:

- ألا تقر بخيانتك؟

ضحك حاجي نياز، ونظر إليه بعينين يكاد يطفو منهما الدم، وقال:

- وأنت؟

- أنا ماذا؟

- أأنا الخائن أم أنت؟؟

وهوى رئيس المخابرات بصفعة على وجه رئيس الجمهورية وهز حاجي نياز يديه المقيدتين في بأس وسخرية وتمتم:

- قد تحك أنفك ذبابة على الرغم منك..

- تكلم الحقيقة..

ضحك خوجة نياز وقال:

- الحقيقة واضحة.. الذين أرادوا المحافظة على حريتهم وشرفهم أيديهم في أغلال.. والخونة والأنجاس يمسكون بمقاليد الأمور وبالسياط وبمفاتيح السجن الكبير.. والحقيقة الأخرى التي أعلمها هي أنني سأموت.. لهذا فأنا أبصق عليك..

سدد إلى رئيس المخابرات نظرات نارية وقال:

- وما قيمة جثتي.. إن الروح هناك تحلق في أعالي الجبال.. لأنها لا تموت..

وتدخل مدير تحرير الصحيفة قائلا وقد أمسك بورقة وقلم متسائلا:

- ما معنى الروح يا حاجي نياز؟

نظر إليه حاجي نياز وكان يعرفه:

- ألا تنشر شيئا في صحيفتك عن تعاليم بوذا وكونفشيوس؟؟

- حسنا .. الروح من أمر ربي..

رد مدير المخابرات:

- تلك سفسطة الرجعيين..

وابتسم نياز وتمتم بكلمات القرآن:

- قال الأولون من الكافرين: لا يهلكنا إلا الدهر.

همس للسيد حاجي:

- يجب أن تعترف بأنك غررت بجموع الشعب.

- ويجب أن تعترف أنت الآخر بأنك تآمرت ضد الشعب الذي حملني أمانة الحكم، وحارب بشرف من أجل حريته..

- ولتعترف بما اختلسته من أموال..

- ليس لدي أموال خاصة، كنت آكل وأشرب وأنام مع المحاربين الشجعان..

- وأنت تحاكم الآن كمجرم حرب.

شرف أن أحارب من أجل طرد الغزاة، لست مجرم حرب ولكني مجاهد في سبيل الله..

وقال القائد:

- القضاء على الإسلام أولا، عندئذ تتفتت كل مقاومة..

- بالطبع.

جمع دير المخابرات أوراقه وهو يقول:

- الأمر ليس في حاجة إلى اعتراف منك، فقد قبض عليك متلبسا بالجريمة في ميدان القتال.

- سجل عنك بكل فخر أنني لم أتراجع.. وكنت أتمنى أن أموت شهيدا.

أما الجنرال شريف خان فقد تدخل موجها الحديث لمدير المخابرات:

- لو كنت جنديا من جنودي لسحقتك بحذائي كحشرة.

رمقه مدير المخابرات بنظرة حانقة وقال:

- إن إعدامك لا يكفي، يجب أن تمزق قطعة قطعة، ثم يرمى لحمك للقطط..



وكان منصور درغا مسجونا في نفس المكان، ورأى بعينيه كل ما جرى، وشرب هو الآخر من كؤوس العذاب والهوان، وقد نجا من الموت بأعجوبة، فقد حدث انفجار أثناء الليل في يوم من أيام شهر أوغسطس أثار ذعرا بالقرب من مركز المخابرات، وأحدث فيه فجوة كبيرة أعطت الفرصة لثلاثة من السجناء كي يفروا، واستطاع منصور درغا أن يهرب، أما زميلاه فقد أرداهما الرصاص قتيلين، ولم ألتق بمنصور درغا إلا بعد عام وكان متخفيا في زي راع غجري أعرج رث الثياب يدعي البله..

وفي هذه الأيم العصيبة، لعب العدو بأرواح البشر وأمن البلاد وثرواتها، وعبثوا بكل مقدس وغال، قال منصور درغا:

- تصور... أنهم يستولون على إناث المواشي في التركستان ويبعثون بها إلى بلادهم ليقطعوا بذلك تناسلهم.

قلت في مرارة بائسة:

- تماما كما استولوا على النساء بالأمس.

وكانت التهم تلفق تلفيقا، ويكفي أن نلصق التهمة بأحد الأبرياء فيؤخذ جميع أقربائه بذنبه ، وضرب حصار شديد على البلاد حتى لا تتسرب الأنباء المحزنة خارجها، وعم الذعر، وانتشر الخوف وصار الإنسان الوطني لا يستطيع أن يتكلم بحرية مع ولده، فقد نجح العدو في أن يجعلوا من نصف البيت التركستاني جواسيس، وأصبح الجار لا يثق في جاره، وتحول اكثر من ثلاثة أرباع كبار موظفي الدولة إلى جواسيس، ونصف رجال الجيش والطلبة والقرويين والعمال، أصبحوا يتقاضون مرتبات من مركز المخابرات العامة، وبعضهم يمارس التجسس تحت التهديد حتى لا يزج به في معتقل، ولا يختطف أحد أبنائه، أو تنتزع ابنته، وكانت التهم التي توجه إلى بعض الناس في غاية الدهشة والغرابة، فهذا طالب يقبض عليه بحجة أنه ينوي الثورة، وهذا عامل يساق إلى التحقيق والتعذيب لأن آراءه تضر بأمن البلاد، وهذا مفكر يقبض عليه بتهمة العمل لحساب دولة أجنبية... يا إلهي.. كلما تذكرت هذه الأهوال يحيل إلي أن ما كنت أراه كان مجرد حلم رهيب لا ظل له من الحقيقة، وكيف أصدق أن مائة ألف يقتلون بوسائل شتى، وإن حوالي الربع مليون يساقون إلى المعتقلات، وأن علماء الدين الذين يعاملون معاملة مذرية حتى الموت، وأن كتب الدين والتاريخ تمزق، والمساجد تحال إلى مخازن ومسارح.. وتلقفوا النشء الجديد ليتعلم ما يدمر به تاريخه وشخصيته كي يذوب في طوفان الغزو.



***





(8)



آه يا مدينة "قومول" ما أكثر ما شهدت من فواجع وكوارث! فبعد أن فشلت محاولة حاكم قومول الصيني أن يستولي على الأميرة وثارت ثائرة العلماء واندلعت الثورة، أصبح اسم قومول على كل لسان، كان اسمها رمزا للرفض والعزيمة، وكانت قومول مثالا للكرامة والإباء، وكان الرجال يشعرون بالفخر لانتمائهم إليها.. هكذا المدن-مثل الأجداد تماما-قد تكون ذات حسب ونسب، وقد تكون من أسافل المخلوقات، أو ممن لا وزن لهم من مخلوقات الله.. غير أن الأمر لم يدم طويلا، فقد تعرضت قومول للانتقام، وكان قصر أميرها مركزا لتصويب الرصاص والنقمة والأخذ بالثأر، وكانت الأميرة داخل القصر وبعض أفراد الأسرة المالكة، وكانت نجمة الليل ما برحت تقيم فيه.. وكانت الأسرة المالكة على وشك الفرار، غير أن الضابط الصيني دهم القصر وليس معه سوى عدد قليل من الجنود..دخل شاهرا سيفه ووقعت عيناه أول ما وقعتا على فتاة جميلة تشم وردة حمراء وتداعب بها خدها، كانت نجمة الليل تبتسم وتنظر إلى الضابط نظرات ذات معنى، وقبل أن ينطق الضابط بكلمة سمع نجمة الليل تقول باسمة:

- نحن لا نؤخذ بقوة.. وأنا أحب الشجعان لكني أكره الجلادين القساة...

نظر إليها في حيرة، ما معنى كلماتها؟ ومن هي أولا؟ إن جمالها لا شك رائع، وكلما نظر إليها ازداد افتنانا، لكنه لا يثق بأحد، يشك في كل مخلوقات الله.. ويفضل أن يأخذ كل شيء بالقوة والعنف، أليس محاربا؟ والنصر في جانبه؟ وهؤلاء المسلمون رفضوا الزواج من الصينيين، وثاروا من أجل ذلك، وسمع نجمة الليل تقول:

- إذا أخذتني قهرا فلن تشعر بأدنى سعادة... اقترب منها، وقد أنزل سلاحه الذي كان مصوبا، وقال:

- أفهم من ذلك أنك لا تمانعين في جلسة قصييرة وكأس من نبيذ؟

توردت وجنتاها وقالت:

- ولم لا أيها الماجن؟ لكنين أخجل من رجالك.

- سوف أجعلهم ينتظرون بالخارج.

قالت نجمة الليل في اشمئزاز:

- يا إلهي! كيف يسعد العاشقان والعيون ترقبهما أو على الأقل يعرفان أن هناك من ينتظر.. لا...لا ليذهبا بعيدا بعيدا...

- إن بالقصر أشخاصا نريدهم..

- أنا سيدة القصر، وقد أصبحت طوع يمينك.

قالتها وهي تغمز بإحدى عينيها، فأمر رجاله بالعودة إلى ثكناتهم واستطاع أقناعهم بالانصراف الفوري وأقبل نحو نجمة الليل:

- حسنا، إن جمالك يذهب العقل..

- لا تلمسني. دع فرصة لكي أتعطر وأحضر النبيذ.

وهرولت نجمة الليل إلى الداخل، كانت الأميرة وأمها وأخواتها وباقي الخدم في ذعر شديد، والليل قد أطل على قومول بوجهه الأسود، والرعب يسود جنباته، وقالت نجمة الليل للأسرة المالكة:

- آن أن ترحلوا قبل أن تسقطوا سبايا في أيدي الصينيين، هذا أمر يؤسف له، سوف أتولى خديعة الضابط وانسلوا أنتم من الباب الخلفي، وانطلقوا صوب الجبل، العربة التي أعددناها تنتظر، والرجال يحرسون طريق الهروب، حذار أن تحدث معركة، أية معركة تنشب سوف تجمع عليكم الأعداء، وستفقدون حياتكم أو كرامتكم، إنني على استعدتاد أن أضحي بنفسي من أجلكم، لا تضيعوا الوقت عبثافالضابط في الغرفة، وأنا ذاهبة إليه بالنبيذ، ولتذهبوا أنتم.

وانهمرت الدموع، واختلطت كلمات الوداع بالتأوهات والنشيج، وعادت نجمة الليل وقليل من الدموع ما زال عالقا بأهدابها، لكنها كانت تغني أغنية صينية خليعة كانت قد حفظت بعض مقاطعها من خادمة صينية عجوز، وكانت تحمل زجاجات النبيذ، وحينما رفعت الكأس للضابط نظر إلى الكأس في شك، ثم ضربه بكفه الغليظة مما أزعجها وأثار الخوف في قلبها فقالت شاحبة الوجه:

- سأشرب أنا أولا، وليس في تاريخ القصر أحد مات مسموما، هنا لا يتصارع الرجال والنساء إلا بالسيوف.

اقترب منها وضمها إلى صدره، فدفعته في رفق قائلة:

- لقد خسرت كثيرا.

أدرك ما ترمي إليه فقال على الفور:

- أنا آسف.

- فات الأوان.

- ما معنى ذلك؟

- إن نجمة الليل لا ترهب أحدا إلا الله.

- لكننا قبل كل شيء تربطنا علاقة حب.

- الشك يقتل الحب أيها الضابط الصيني.

- الظروف المحيطة تلزمني بالحذر، إن العصابات قتلوا الكثيرين من رجالنا، وأنا أحبك، وقفت متسمرة وقالت في شجاعة:

- لا أريد أن أراك الليلة.

ما أعجب أمرها، هذا ما كان يردده بينه وبين نفسه، وكان في إمكانه أن يقبض على خصلات شعرها الذهبية ويضعها تحت حذائه الغليظ، ويفعل بها ما يشاء، لكن قلبه لم يطاوعه، إنه مأخوذ بأسلوبها وجمالها الساذج الوحشي، وكلماتها الصريحة المعبرة.

- يا نجمة الليل أنا احبك، ولن أنصرف قبل أن تعلني رضاك عني.

قالت وهي تعطيه ظهرها متوجهة صوب الداخل:

- تستطيع أن تطلق الرصاص من الخلف، أنا أعرفكم، لكني ذاهبة لأستريح في غرفتي.

قال في توسل:

- يا أميرتي الغالية.

التفتت إليه هاتفة بعنف:

- لست الأميرة، الأميرة المسكينة طفلة صغيرة وقد هربت إلى الجبال كالقطة المذعورة، أنا في الحقيقة الوصيفة الأولى، وإن شئت فأنا سيدة القصر... كان الأمير وزوجته وأفراد أسرته يأتمرون بأمري، هل عرفت الآن من أنا؟

وطال بينهما الحديث، حتى تيقنت أن الركب الملكي قد غادر القصر هاربا إلى الجبال، لقد نجحت خطتها، وأدت واجبها نحو القصر وأهله، وآن لها ان تنطلق في حرية... إن المآسي التي تدور من حولها، والقيم التي تداس أبان الحروب، وسقوط الحكم ثم قيامه، وتغير الحاكم، وتبادل النصر والهزيمة، وليالي العرق والعذاب والدموع قد أورثها الملل والضيق من الحياة، فلقد ذهب الأمير ولن يعود، وذهب مصطفى مراد حضرت، ولن يعود، أصبح العالم من حولها عالم حيوانات تركض وتنهش وتلعق الدماء، وترتكب الدنس، ولم تلتفت خلفها وهي تذهب إلى حجرة الأميرة، تلك الحجرة الفاخرة ذات الرياش والأثاث الباهر، ثم استلقت على السرير الأميري وتنهدت في يأس، الظلال الحمراء تتراقص على الجدران، والانعكاسات الذهبية تومض ومضات صفراء، والعملاق يقف بالباب ذليلا كالكلب، لقد ألهبت نجمة الليل حواسه ومشاعره:

- أتسمحين لي بالدخول؟

- أغلق الباب من الخارج.

وتصرف حسب أوامرها دون وعي، وكم كانت دهشته حينما وجد نفسه وحيدا خارج الباب، فأدرك المداعبة المخجلة، ففتح الباب مرة ثانية، ودلف إلى الداخل في هياج كالثور، لم تكترث له، أمسك بيدها فسحبتها بلطف..

- لا أريدك الليلة.

- وأين أذهب إذن؟

- لقد سقط القصر في أيديكم، تستطيع أن تتخذ لك مقرا في أية حجرة أخرى.

- وأنت؟

هبت واقفة وقالت:

- تريدني متعة عابرة؟

لم يدر بماذا يجيب:

- حسنا، إذا أردت أن تتزوجني... فـ....

وسكتت، بينما نظر إليها في دهشة وقال:

- كيف؟

- أن تكون على ديني.

- وما دينك؟

- مسلمة.

- لكني...

- أنا أحتقر الذي لا يؤمن بخالقه، إنك تقف أمام رئيسك في أدب واحترام، وكأنك في صلاة، فكيف لا تؤدي فروض الطاعة لخالقك؟

قال وهو يلقي بجثته الضخمة على أقرب مقعد مريح:

- أنا لا أعرف الإسلام.

- يجب أن تعرف.

- والقيادة ستدمرني إذا عرفت أنني أعتنق تلك الأفكار الرجعية.

- وما يدريهم؟

- نعم.

- حسنا هيا بنا.

- ماذا؟

- لنبدأ الزواج.

- هناك طقوس وكلمات يجب أن تقولها، وهناك مبادئ بسيطة يجب أن تفهمها أولا.

استبد به الضيق رآها تمعن في الهروب، وتكثر من المطالب، وتجره إلى أمور لم يكن يأبه لها بالأمس، لماذا كل هذه المتاعب؟ وكيف يصبر لهذا الحد؟ قال في ضيق:

- أستطيع أن أجرك كالشاة إلى مقري وأفعل بك ما أشاء.

هزت كتفيها في عدم اكتراث وقالت:

- تستطيع....

وبعد أن ابتعلت ريقها قالت:

- لطنك لن ترى في آنذاك الأنثى التي تسقيك رحيق الحب، سأكون مجرد وجبة شهية كطعام الشاة، الفرق كبير بين لحم الأنثى ولحم الشاة.

ركع على ركبتيه وقال:

- إنك امرأة غريبة، لقد أصدرت حكم الإعدام على المئات في هذه المدينة، وتم التنفيذ في لحظات، وقتلت نساء ورجالا، الذي يحيرني هو أنني لا أستطيع أن أفعل شيئا حيالك.

ابتسمت نجمة الليل وقالت:

- وهذا يسعدني.

- لماذا؟

- لأنك تتحول تدريجيا من حيوان مفترس إلى إنسان.

صرخ في حدة:

- ماذا تعنين؟

- القتلة والظالمون ليسوا بشرا، وماضيك يبدو كماضي قاطع الطريق، إنني أريد إنسانا شجاعا، إنسانا.. أتعرف معنى كلمة إنسان؟

الإنسان في نظره هو المخلوق الآدمي ذو الشاوارب، الذي يستطيع أن يحارب وينتصر، ويحقق ما يريد، ويقتل ويستولي على الغنائم، ويرفع الشعارات التي يرفعها سادته ورؤساؤه، ويستمتع بالنساء من أي لون وعقيدة وجنس، ماذا تريد منه هذه المرأة.

وسمعها تقول وهي تقترب منه وتقدم له كأسا من النبيذ:

- بالتأكيد هناك فرق بين الإنسان والحيوان.

- الناس جميعا يعرفون من أنا؟

- الناس بين خائف منك، أو تابع لجيشك، ولهذا لن تسمع إلا ما يرضي غرورك.

أمسك كتفيها الممتلئتين في عنف وقال:

- ماذا تريدين مني؟

- أن يكون لقاؤنا في ظل مبدأ، مبدأ غير المبادئ الخاطئة التي يضعها الأقوياء بعد أن يهزموا التعساء.

- إنني أحبك يا نجمة الليل.

- ولن نلتقي إلا إذا شهدت لا إلله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- لأني أحبك سأنفذ ما تقولين.

- قل الشهادتين.

ولما قالها أردفت قائلة:

- ويجب أن تمنع رجالك عن القتل والسلب.

- سأفعل.

- أعرف أنكم جائعون، متعبون، وتريدون الطعام والنساء والأمان. فلتسنوا الشرائع العادلة، ولا يكون انتصاركم مبررا لتحولكم إلى حفنة من الوحوش، أسلوب الوحوش يجر إلى الكراهية والعنف، ولا تشم فيه رائحة للسعادة.

قال:

- لشد ما تعجبني كلماتك.

- إذن فأنت جدير بالاحترام، وبالقرب من القصر عالم فقيه لسمه الشيخ مولوي عبد الرازق، اذهب إليه وأحضره إلى هنا وليكن معه شاهدان، وبذلك نتزوج.

شعر ببعض الحرج، وأخذ يتلفت يمنة ويسرة ولا يدري ماذا يفعل عندما وثبت من سريرها، وارتدت عباءتهاالسوداءثم قالت:

- انتظر أنت، وسأعود به على الفور.

قال ملوحا بسبابته:

- حذاري ..الهرب معناه أن أحيل المدينة إلى حمام دم.

رمته بنظرة عاتبة وقالت:

- اجلس صامتا.



***

وفي خلال الأيام التالية رأى الناس في قومول نجمة الليل تركب عربة فخمة يجرها جوادان، إلى جوارها الضابط، وكل السائرين في الشارع يفسحون الطريق، لقد تزوجته ولم يكن زواجها بالأمر السهل في قومول، ما دام السر الكامن وراءه لميكتشف، ورماها الناس بالخسة والدناءة والدعارة، لو أن الضابط الصيني أخذها عنوة لالتمسوا لها الأعذار، لكنها - على ما يبدو- قد باعت نفسها للمستعمرين، وتنكرت لخطيبها مصطفى مراد حضرت، وسارت في ركاب المنتصرين، مما جعل الشائعات تتردد عنها في كل مكان، ولم يفكر أحد في السبب الذي من اجله توقفت المذابح في قومول إلى حين، وبدت نجمة الليل أكثر شحوبا وفتنة، وأصبحت تظهر في مجتمعات الصينيين يحوطها الاحترام مما جعل العجب والدهشة يسيطران على المواطنين والمواطنات في المقاطعة.

وعندما انتصر الثوار في البداية، وأقاموا جمهورية في "كاشغر" برئاسة خوجة نياز، وأذاقوا الصينيين الأهوال أخذت القوات الصينية تهرب في كل اتجاه قاصدة عدة أماكن، وكان من نصيب هذا الضابط أن يهرب إلى أورومجي، وأخذ معه نجمة الليل، فقد شهدها أهل قومول قبيل الهروب تفر معه، كانت اللعنات تطاردها، وكانت النسوة يبصقن وراءها، وقد تشجع بعض الأطفال وقذفوا وراءها بالأحجار، ثم ولوا مذعورين.

وبعد أن تمت الاتفاقية بين الحاكم والروس، وجاءت الطائرات والدبابات والمصفحات الروسية، تغيرت الأوضاع، وتقهقر الثوار، كما تم اعتقال رئيس الحكومة وكبار القادة، وتمت السيطرة على الأرض الإسلامية وعلى الشعب الإسلامي في تركستان الشرقية...

وعاد الضابط ذات مساء ووجدها تبكي.

- لماذا تبكين يا نجمة الليل؟

- الناس يموتون، وأنا أكره الحرب، وأخاف.

قال في ضيق:

- وماذا أفعل، إنهم يقتلون منا ونحن نقتل منهم.

قالت والدموع تنهمر في عينيها:

- تمنيت أن تعود إلى بلادك وأنا معك، وأن نعيش كما يعيش البشر في سعادة واطمئنان.

أدرك على التو أنها تبدي اعتراضها على احتلال الصينيين لبلادها بأسلوب غير مباشر، فقال دون انفعال:

- حبيبتي، هذه أمور كبار لا يحق لمثلي مناقشتها، الجيش يتحرك بأمر عال، هكذا في كل أرض، ولا عبرة- أمام السياسة- بحق أو بباطل.

ثم نفث دخان غليونه وقال والكدر يعلو وجهه:

- لشد ما أعاني من التعب.

وصمت برهة وقال:

- أتريدين العودة إلى قومول؟ إنها الآن هادئة تماما، وقد أخفق الثوار، وعادت سيطرتنا عليها.

قالت في أسى:

- لشد ما أتمنى أن أهيم على وجهي في أرض لا يعرفني فيها أحد.

قال وهو يمسح على وجهها:

- أدرك ما تعانين منه.

- أبعد يك عني.

- لماذا؟

- أشعر أنها ملوثة بدماء الرجال والنساء.

قال في شرود:

أنا في الحرب كالأعمى، ماذا نفعل؟ لقد خلقنا لنأكل، ولكي نأكل لا بد أن نحارب، ونموت، وأنت لي، أحبك يا نجمة الليل.

ثم صمت برهة وقال:

- كيف تنظرين إلي؟

قالت في توتر:

- أنت سجين، مريض، إنسان معذب على كل حال.

ابتسم في رضا وقال:

- هذا يسعدني.

التفتت إليه في دهشة:

- وكيف؟

- لأنك لا تعتبرينني عدوا.

قالت على الفور:

- إنك عدو لا شك.

بان الكدر في عينيه وهمس:

- ذلك هو قدري.

ضحكت نجمة الليل واقتربت منه وقالت:

- ماذا لو طلبت الانفصال عنك؟

هتف في رعب:

- ماذا؟

- أعني الطلاق.

- لماذا؟

- لأنك لست مسلما.

- هل تنسين؟ أنني نفذت كل ما طلبه العالم الفقيه.

- لكنك تحارب في صفوف الكفار.

- أنا لا أعرف سوى انني جندي في جيش.

ثم صرخ ودق الحائط بقبضته وقال:

- الجيوش لا تعرف الله.

- ولم لا نحاول معرفته إذن؟

هز كتفه في سخرية وقال:

- وما قيمة ذلك؟

- أن نعرف طريق السعادة.

- آهـ.. الكافرون بالملايين وهم أكثر عددا من المؤمنين، عي هذا الأمر فسوف نتعذب بلا فائدة.

وجفف عرقه:

- إذا رحلت.

ولم يكمل كلامه، فاقتربت منه وقالت:

- أنا أحبك، لكن لا أبقى لحظة واحدة معك إذا تسببت في قتل واحد من أبناء شعبي.

- اهدئي يا حبيبتي، فلم يعد لي شأن بالحرب الفعلية، فأنا الآن مشرف على نقل المواد التموينية، والأمر لم يعد في أيدي الصينيين، إن الروس قد ملكوا زمام كل شيء الآن.

ثم استطرد ساخرا:

- ثم هناك الكثيرون من أبناء تركستان باعوا أنفسهم للشيطان، إنهم يقتلون ويرتكبون أبشع الجرائم ضد مواطنيهم، ألم تعرفي؟

أغرقت عينيها في وسادة وانفجرت باكية.



* * *





(9)



تحولت بلادي الخضراء، ذات الفواكه والزروع المتنوعة والمعادن الكثيرة، أقول تحولت إلى جحيم لا يطاق، وكيف يعيش الإنسان في أرض يكمن فيها الموت، ويبث الرعب في جنباتها، ويلهو بمصائرها الأجانب الغزاة، ما أفظع أن تعيش في بلدك الحبيب، الحقيقة لم أكن أنا الغريب، بل شعرت أن تركستان هي الغريبة، هي الشاردة الهائمة على وجهها في عالك كله ابتزاز وسجون وقتل، والشيء الذي أعجب له هو أني ما ذلت حيا حتى الآن، لكنها إرادة الله، وما أقل ما بقي من المساجد، قلة من الشيوخ الطاعنين في السنين يتوجهون إلى المساجد خفية، ويرتلون الصلوات في نبرات دامعة خافتة وعيون الجواسيس تراقبهم، قد لا يصيبهم أذى، لكن بنيهم وأهليهم معرضون دائما للانتقام، وكنا نمر على المساجد التي استولوا عليها وأحالوها إلى مسارح أو أماكن لسكنى الشرطة والإدارة، ونتمسح في الجدران ونبكي في هدوء، فمن يبكي علانية يعرض نفسه لموت محقق، وكنت أتنقل من بلد إلى بلد وكنت أتخذ لنفسي في كل مرة اسما جديدا.. آهـ... إنها ذكريات قديمة، لم أعد أذكر الأسماء التي انتسبت إليها، وفي أورومجي، وجدت أن تغيير الاسم وحده لا يكفي، لقد اشتغلت حمالا، وضعت على ظهريوقاء ثقيلا من قماش الأجولة وأمسكت بمخلبين حديديين، وتركت لحيتي وشاربيينموان كيف شاء لهما، وبدت أقدامي الحافية متشققة، وكأنها عاشت في الطين عشرات السنين، ولزمت الصمت، وأحيانا إذا تلفظت بكلمات معقولة تشي بك الكلمات، وتكشف عن شخصيتك، وفي المساء ألجأ إلى حجرة قذرة صغيرة، وأعبد الله، كنت أتخيل أن الملائكة تمسح دموعي الحارة، إن حضارتنا تمحى وتذوب، الروس يأتون بعشرات الآلاف، والصينيون يأتون، وكذلك الصينيات حتى يحدث التزاوج بين أبناء تركستان وبين أبناء الغزاة الصينيين، قلت أعمل حمالا، كنت أحمل على ظهري خيرات بلادي من كل الأنواع وأضعها في السيارت الضخمة والقطارات كي تشحن إلى أرض الغزاة، كل الأشياء كانت تشحن، معادن وفواكه وبهائم ومزروعات... كان للغزاة الكبار أماكن للتجمع، هناك يرقصون ويشربون ويسهرون ويغنون، وكنت أرى العجب العجاب، ما أكثر الخونة الذين باعوا ضمائرهم ودينهم واستسلموا لرغبة الغزاة ونواياهم، وبذلك أمكنهم أن يتسلموا بعض المناصب الهامة، وبين عشية وضحاها تحولوا إلى نوع جديد من البشر، كلما نظرت إلى وجوههم خيل إلي أنهم لم يعودوا تركستانيين بالمرة، وأن طريقتهم في المأكل والمشرب والملبس، حتى أسلوبهم وسلوكهم، وكل شيء فيهم تغير، إنهم يقلدون السادة الغزاة في كل شيء، ويلوون ألسنتهم بلغة العدو، كلما نظرت إلى ملامح الوطن أصاب بالرعب، وكيف تعود تركستان الشرقية العروسالطاهرة الفاتنة ذات الطهر والنقاء.

اليأس يدب في نفسي، وأنا أدب في الأرض حزينا تثقلني الأحمال التي أنقلها إلى السيارات أو إلى السفن، وأثناء تجوالي في يوم من الأيام رأيتها... أصابني الذهول... ضرخت دون وعي:

- نجمة الليل!

وتوقفت العربة التي يقودها أحد الصينيين، ونظرت بوجهها الشاحب، أفقت إلى نفسي، أدرت وجهي إلى وجهة أخرى، وأزمعت الفرار، لكنها طارتني بعربتها حتى أمسكت بي، نظرت إلي بعيون جامدة لا تطرف. وقالت:

- أريدك أن تتبعني إلى القصر..

ارتجفت وهتفت في ضيق:

- ستأتي إلي، السيد يريد رجلا يعمل في خدمتنا، وهو غائب خارج أورومجي، لا بد أن تحضر.

وقبل أن أفيق من هول المفاجأة، كانت العربة الأنيقة قد انطلقت، وسمعتها قبل أن تنطلق تصف مكان القصر في كلمات قصار، وعدت إلى حجرتي المظلمة العفنة أصلي وأبكي، في كثير من الأحيان يبدو لي الموت أروح بكثير من الحياة، الموتى لا يشعرون بشيء، وأحيانا أخرى يملآ قلبي اليقين بأن الإسلام لا بد أن ينتصر، وأن الحرية حتما ستجئ، أنا معلق بين اليأس والأمل، راغب في الموت أحيانا، متشبث بالحياة أحيانا أخرى، أنا الممزق المعذب الضائع الذي لا يعرف له طريقا يسير فيه أو ملجأ يهنأ فيه..

البحث عن قصر السيد ليس صعبا، القصر في مكان هادئ منعزلوعليه قليل من الحرس، ولم أستطع أن أذهب بثيابي الرثة، خلعت ملابس الحمال، ولبثت شيئا يليق بالحارس القديم في قصر حاكم قومول الذي انتهى أمره وتشتت عائلته.

لم يمنعني أحد، نظر إلي حارس القصر وقال:

- أأنت القادم لمقابلتها؟

هززت رأسي في خوف، وحمدت الله على أنه لم يسألني عن اسمي، مع أن اسمي قد لا يثر خطرا ذا بال، فالعدو عندما يتمكن ويحكم قبضته يتوارى الخوف في قلبه، وينصرف بشيء من الاستهتار، ومن حسن حظي أن البيت كان خاليا، يا إلهي! لماذا أتيت، وماذا أقول لها؟ وهل أقبل العمل في خمة سيدة أصبحت من سيدات المجتمع الراقي؟ وقد كانت بالأمس مخطوبة لي، ما معنى ما أفعل؟ هي في السماء وأنا ملقي على الأوحال، والموت يطاردني كما يطارد كل ثائر قديم، لكن حب الفضول يدفعني دفعا لا هوادة فيه، كانت تجلس على كرسي من القطيفة الحمراء، وترتدي لباسا أسود يزيد من فتنتها، لشد ما تغيرت نجمة الليل، إنها تبدو حزينة وسيمة وقورة، لا أرى أثرا لطيش الشباب ونزوات الصبا، تبدو كأرملة فاتنة..

- كنت أريد أن أراك منذ زمن طويل.

نظرت إليها دون أن أجيب.

- ظننت أنك قد لقيت حتفك في الحرب.

اعتصمت بالصمت، وحاولت أن أتكلم فلم أستطع.

- واليأس يجعل الإنسان يفعل أي شيء يا مصطفى مراد حضرت.

وانتظرت أن أفتح فمي بلا فائدة، هبت من مقعدها واقفة وقالت:

- لشد ما أحترم الرجال الذين ماتوا في المعركة.

- تمنيت أن لا يموت أحد على أعواد المشانق أو في ساحات السجون يجب أن يموت المناضلون في الميدان ولا يسلموا أنفسهم للغزاة.

ووجدتني أقترب إليها في جرأة وأقول:

- ولماذا سلمت نفسك حية يا نجمة الليل؟

ضحكت في ألم:

- ها أنت تتكلم أخيرا.. حسنا...أنا لا أبرر تصرفاتي، عندما سقط القصر أردت أن أحمي سكانه، وأردت في نفس الوقت أن لا أكون مطية لكل غاز لهذا اخترت رجلا وتزوجته.

قلت في دهشة:

- وكيف تزوجت؟

- كما يتزوج الآلاف، اعتنق الإسلام وتزوجني.

وتنهدت في حسرة وقالت:

- الأمر مر ببساطة غريبة، عندما رأيته متشبثا بي، وضعت شروطي وقبلها، أعرف أن إسلامه شيء ظاهري بحت لا حرارة فيه، وأعرف أنني أخدعه وأخدع نفسي، لكني.... ماذا أقول لك... لم أكن على استعداد لأن ينهشني الذئاب، لقد تزوجني وحماني ولم يزل يحبني.

قلت في شيء من الدهشة:

- وكيف تعيشين في كنف رجل لا تحبينه.

هزت كتفيها في سخرية وقالت:

- كما تعيش بلدي تركستان تحت وطأة الاحتلال، كما تعيش أنت في أورومجي الذي يحكمه العدو، كل شيء هنا يمضي بلا روح.

غمغمت : "بلا روح".

قالت:

- نعم افتقدنا عشق الأشياء وحبها، ولهذا نأكل وننام ونشرب ونلهو بلا روح، ونتحرك كأننا تماثيل من الشمع تحتاج إلى من ينفخ فيها الروح، كاللعب اليابانية الجميلة التي تجري وتصدر أصواتا وهي من خشب أو صفيح، الحياة الحقيقية لم يعد لها وجود، نحن نضحك ونبكي وننفعل كممثلي المسرح، هل فهمت يا مصطفى مراد حضرت؟

وصفقت بيديها في عصبية فجاءت رئيسة الخدم... وقمتني إليها قائلة:

- أريد أن يتزين بأفخر الثياب، وأن يكون ممن يليقون بصر السيد.

اسمس الآن "تورسون" أتجول في قصر السيد، إنني أتحرك كالمنوم، سيد القصر امرأة تركستانية جميلة، يبدو أنها ارتاحت لمرآي، وفي غرفة الخدم الأنيقة المريحة نمت لأول مرة هادئا بعض الوقت، لم يزل ظهري يؤلمني، لكن الحمام التركي قد خفف الكثير من آلامي، وبعد أن حلقت لحيتي وشاربي ونظرت إلى المرآة، عاد الشباب إلي، إلهي ! إن عيني تطلقان صراخ الجبال الوحشيبرغم وداعتي، هأنذا أفكر في نجمة الليل.. شعوري نحوها شعور رجل اغتصبت أنثاه.. أصبحت نجمة الليل كمدينة أسيرة احتلها العدو، والمعنى الذاتي في العشق والحب تحول إلى لوثة وطنية، ها.. ها.. إنني أضحك، إن تفكيري لم يعد على ما يرام.

وفي اليوم التالي اصطحبتني في عربتها النيقة ونزلنا إلى منطقة تزحمنا الأشجار والأزهار والفواكه خاصة برجال الاحتلال، الجميع يعرفون نجمة الليل، فقد هبوا لتحيتها، وأفسحوا لها الطريق، ونزلنا ثم انطلقنا عبر الأغصان المدلاة والزهور والفواكه الشذية، ومضت أمامي ومشيت خلفها صامتا، قالت:

- قالوا عني إنني طلقت الشرف والعفاف..

وقطعت غصنا صغيرا ونظرت إلى الشمس الغاربة بوجهها الشاحب وهمست:

- أهل قومول تروج بينهم الأكاذيب بسهولة، لماذا اهتموا بقصتي ذلك الاهتمام كله؟ لم أكن سوى وصيفة تافهة في قصر الأمير.

والتفتت إلي وأمسكت بيدي:

- ألم أدعك للزواج فرفضت؟

- كان الوقت رحيلا وكنا على أعتاب الموت.

ضحكت في مرارة:

- لم نزل على أعتاب الموت، أتعرف كم عدد الذين أعدمتهم الحكومة المحتلة؟ إنهم أكثر من مائة ألف.

وقلت في دهشة:

- أما زلت تفكرين في الثوار والشهداء؟

نظرت إلي باحتقار وقالت:

- وماذا تظن؟

- مثلك لا مجال لها أن تفكر في أمر كهذا...

- ألست تركستانية مسلمة مثلك؟

وساد الصمت فترة أخرى، كان النسيم باردا، والشمس في المغيب تصب أخزانا من نوع عجيب، بعض المآذن القديمة ترقد في صفاء الأصيل كلحن عتيق ذي رنين أثري تاريخي، والقباب نائمة كسلحقاة عجوز رأيتها ذات صباح في حديقة الحيوان، والمباني تبدو تحت السفوح التي تذرعها وكأن لا يعنيها شيء... همست نجمة الليل وهي تقذف بوردة حمراء:

- فكرت في قتله.

- من؟

- زوجي الضابط.

- لماذا؟

- ظننت أن ذلك واجبي، لكني أسألك بدوري، أن أقتله أم أروضه؟

هززت كتفي متسائلا:

- وما قيمة ترويضه؟ المذابح والعذاب والعنف في كل مكان.

- وما قيمة قتله، وها أنا ذا أسألك بدوري.

- إنه الثأر المقدس.

- لكني ربحت أكثر وأنا أروضه.

وقفت بوجه صلب وقلت:

- سيدتي إن معيشة العدو أمر كله زيف كذب.

التفتت إلي في دهشة ثم قالت:

- أتظن ذلك؟ معناه أنني كنت أخدع نفسي بفلسفة عرجاء كي أنجو من العنف والضياع، وكي أحيا...ها... أتظن ذلك؟

طأطأت رأسي:

- ولهذا احتقرك أهل قومول.

انهمرت الدموع من عينيها، واقتربت مني وأخذت تهزني في عنف وتقول:

- هؤلاء المقى لا يفهمون، كان يجب أن أنقذ أسرتي الأمير، كان لا بد أن أدفع الثمن، كلنا يحب الحياة ويكره الموت.

ثم أخذت تجفف موعها وتقول:

- وأنت يا مصطفى مراد حضرت، ماذا تظنني؟

- تورسون، اسمي تورسون، لننسى الاسم القديم.

- ما رأيك؟

- أقولها صراحة، كسرة خبز جافة على سفوح الجبال مع الرجال المناضلين، أسمى لدي من مائة نعجة تنحر في قصرك الشامخ.

انسكبت قطرات من السماء، وبدأ البرد أشد مما كان، وكنا نسمع لقطرات المطر طرقعة خفيفة، شعرت أن الحذاء يكاد يخنق قدمي، وأن الياقة الخضراء تضغط على عنقي، أكاد أموت برغم إحساسي بالدفء، ذلك الإحساس الذي افتقدته منذ مدة طويلة.

- مصطفى.

- خادمك تورسون.

- إلى أين؟

- إلى حيث كسرة الخبز والرجال العظام على السفوح.

- سندبر الأمر مليا.

اختفيت حينما عاد سيد القصر من سفره لوقت قصير، لكني رأيته يدلف إلى القصر ويبحث عن نجمة الليل بعيون نهمة، عيون تتري قديم، اعتصرها بين ذراعيه وأخذ يقبلها، ويلف بها ويدور، وهي تبتسم ابتسامة صفراء وتبعث بنظراتها هنا وهناك لعلها كانت خائفة من أن يقع بصري عليها.

- هل أنت سعيدة بعودتي؟

قالت دون أن ترفع بصرها إليه:

- كل السعادة، لكن رجال المخابرات يقتلون الناس بالمئات.

- هذا أمر آخر، لماذا تفكرين فيه الآن؟ ليس لي في الأمر حيلة.

- لماذا لا يكون لك في الحياة موقف؟

- بل موقف محدد يا حبيبتي.

- ما هو؟

- طالما حادثتك، موقفي هو أن أؤدي عملي.

- الفرق كبير بين أن تؤدي عملك وتؤدي واجبك.

- عملي هو واجبي.

- أريدك إنسانا.

- أنعود للجدل العقيم يا نجمة الليل؟

- الإنسان الحقيقي هو الذي يشعر بأسى المعذبين والمضطهدين.

قال في شراسة مباغتة:

- يجب أن تفهمي أن هؤلاء المضطهدين لو ترك لهم الحبل على الغارب لقضوا على حياتي وحياتك أنت أيضا.

قالت بهدوء غريب:

- هذا لا يهم، المهم أن تؤدي واجبك.

- صاح في ثورة:

- وأنا من أكون؟ مجرد فرد في هذا الجيش الكبير، ترس صغير في آلة ضخمة، أهكذا تقابلين زوجا عائدا من سفره؟ أين حبنا القديم؟ تعالي.

ودلفا إلى حجرتهما الخاصة، قلت لنفسي هذه الملعونة تلعب بي وبه، ولو عشت إلى جوارها أكثر من ذلك لتسممت كل أفكاري، إن النقاء الحقيقي ليس هنا في المدن، بل هناك على سفوح الجبال، حيث يعيش الرجال أحرارا، وعلى أكتافهم السلاح، يجب أن أرحل في أقرب فرصة ممكنة.

نظر إلي الضابط عند الظهر أثناء طعام الغداء نظرات نافذة وقال:

- هل هذا هو الخادم الجديد؟

- نعم، إنه كفء مخلص في عمله.

- من أية مقاطعة أنت؟

- اسمي تورسون ، من مقاطعة آلتاي.

المائدة عامرة بأطيب الطعام، والشعب في الخارج يأكل أوراق الشجر ويلتقط الفتات ويتضور جوعا، والأطفال المساكين ينظرون بعيون مفتوحة على الآخر، إلى الخيرات تشحن في العربات، أو تنقل إلى بيوت الغزاة.

دارت رأسي، وأنا أنظر إلى السكاكين الموضوعة على المائدة.

- تستطيع أن تنصرف أنت يا تورسون.

قالها في رقة، وعدت إلى المطبخ أتخبط كالثمل، الثائر لا يعرف المهادنة، والكراهية تأكل قلبي كما تأكل النار الحطب، وحربهم للدين وعقائده تدفعني لأن أرتكب أية حماقة، ليس الأمر خاصا بي، ولكنه ثأر لله.



* * *



(10)



إني أعيش في بيت أحد أعدائي، إنه ليس مجرد عدو، غريم استولى على من كنت أحب، يخيل إلي لو مضى علي في هذا المكان عام لتحولت إلى آلة، إلى إنسان شبيه بنجمة الليل، فالحياة الهادئة وتوافر الطعام والملبس والهدوء والركون إلى عيش جميل كهذا يقتل في الإنسان روح الثورية والجهاد، مشكلة أخرى أنني أرى في عيني نجمة الليل أشواقا غريبة حادة، أصبحت أخجل من نظراتها، وفي أغلب الأحيان أهرب منها، وأجد نفسي في كثير من الليالي أفكر فيها، وأغار عليها، هذا البيت تسكنه شياطين من نزوات وخطايا، بالأمس أقيمت في البيت حفلة راقصة، اختلط الحابل بالنابل، كانت نجمة الليل لا شك هي نجمة الحفل، العيون تلاحقها، كل الضباط يريدون مراقصتها، وشرب زوجها حتى ثمل، لكنهم في الفجر استدعوه لمهمة عاجلة فخرج يترنح بعد أن ارتدى معطفا سميكا، الأمر يبدو عاديا، لكني وجدتها تأتي إلى غرفتي، ازداد وجهها شحوبا من كثرة السهر، أحاطتني بذراعيها ووجدت شفتيها تقتربان..

- سيدتي.. يجب أن أعد طعام الإفطار.

- لست أشتهي شيئا، وأنا لست سيدتك.

- القصر كله عيون.

- لا أستطيع الصبر.

- ما معنى ذلك؟

- ألا تفهم؟

- وأنا أكره الخيانة.

- خيانة الخائن ليست خطيئة.

- وأنا رجل مسلم أعرف الله.

هل كانت تريد الانتقام من زوجها، أم تريد أن تقدم نوعا من العطف أوالشفقة، أهو الحب القديم ثار وتمرد؟ وأمسكت بيدي في توسل، وأنا أهرب من نظراتها ولمساتها مخافة ان تضعف مقامتي، وهمست في انفعال:

- على سفوح الجبال رجال يتضورون عذابا وجوعا.

- هم رجال حقا، لكنهم يعيشون حياتهم.

- في الحدود التي أباحها الله.

نظرت كذئب جائع مفترس وقالت مهددة:

- أنت تعرف أنني أستطيع عقوبتك.

- أهذا هو الحب؟

- نعم.

- عندما يضمك سجن من سجونهم الرهيبة، ويلفك الصمت والظلام، وتهوي السياط على جسدك، عندها سوف تحلم بدقائق تقضيها إلى جواري.

قلت لها في ثقة:

- لقد نذرت نفسي للموت.

- أنت تلعب بالنار، أنت زوجي الحقيقي.

- لكنك في عصمة رجل أسلم، وإن كان إسلامه أمرا ظاهريا.

- إذن لماذا أتيت إلى هنا؟

باغتني السؤال، صحيح، لماذا أتيت؟ لقد كنت أفكر في الانتقام طوال حياتيمن هؤلاء المعتدين، لكن أين الانتقام؟ ودق قلبي، هناك حقيقة أحاول إخفاءها، لقد كنت أحب نجمة الليل، إن قبولي المجيء إلى هذا القصر يمت إليها هي الخرى بصلة،وتركتني وانصرفت، لم أرها طوال اليوم، وبقيت أفكر لماذا ساءت الحال؟ وتحكم في أرضنا الغريب، قال لي في الزمن الغابر أحد خطباء مسجد "كاشغر":

- يا بني إن الإسلام هو العزة، فمن تمسك به عز، ومن تركه ذل، وبلادنا استسلمت في نوم عميق، وغلبت عليها الدعة والاسترخاء والعبث، وأخذ الناس ينسلون عن الدين عروة عروة... يا بني لقد طغى الغنى وضاعت الحكمة ورضخ العلماء للأمراء وعم الفساد والفقر والجهل، وانتشرت المعاصي، يا بني هذا هو بداية الانهيار. وقال أيضا:

- إن في الشرق اعداء وفي الغرب أعداء، وهم يعتصمون ابلقوة والكثرة، ونحن نعتصم بأمجاد قديمة، والأمجاد القديمة لا تصمد وحدها.

وقال لي:

- يا بني، المسلمون ممزقون، تركيا تنهكها الحروب والمظالم، والعرب تحت سنابك خيل العدو صامتون، والكفر ملة واحدة، والمسلمون ملل عدة، وبذلك تستطيع أن تفسر لماذا يكون النصر، ولماذا يكون الهزيمة.

إني أتذكر هذه الكلمات جيدا، وكلمات أخرى كثيرة كان يرددها خوجة نياز والجنرال شريف خات وغيرهما، كانوا مؤمنين شجعانا، وفي ساحة الموت لقوا الله دون خوف، لا شك أن مجيئي لها القصركان نزوة من نزوات الشيطان، ويجب أن أرحل، يجب أن أرحل على الفور، لكن بعد أن أفعل شيئا، مقابل الوقت الذي أضعته هنا، وبعدها أسرع بالذهاب إلى الرجال بالجبال.

يقال إن البطل العظيم عثمان باتور أحد رجالنا الشجعان يجمع الرجال ويستعد لثورة جديدة، فلماذا أبقى هنا؟

وحاولت نجمة الليل أثناء غياب زوجها أن تطمس المعاني التي تختمر في قلبي ورأسي لكني كنت أقاوم، كان من الصعب أن أقاوم، فلنجمة الليل إغراء من وع قاتل، إن سيطرتها على الضابط هذه السيطرة العجيبة لا تعني سوى أنها امراة في غاية القوة.

وعاد الضابط بعد يومين، كان مرهقا منزعجا، سمعته يقول لها:

- إننا على أبواب متاعب جمة.

- لماذا؟

- عثمان باتور والثوار بدأوا حرب العصابات.

- وماذا يضيرك، هل تظن أنهم قادرون على هزيمتكم؟

- إنهم يداهمون المراكز الصناعية، ويخطفون الضباط، ويقتلون الكثيرين، لو كانوا في معركة مكشوفة لأمكن القضاء عليهم.

وبدا في عينيها بريق الفرح لكنها اخفته، كان منهمكا في الطعام والشراب غارقا في التفكير، وفي المساء علمت أنها خرجت معه وحدهما للتنزه في إحدى الحدائق الخاصة، وطال بقاؤهما في الخارج، لكن عند منتصف الليل عادت تصحبها ضجة كبرى، وامتلأ القصر بالضباط ورئيس الاستخبارات، ماذا جرى؟ لقد أصيب زوجها برصاصة قاتلة.. فحملوه إلى القصر، وهي تبكي وتصرخ وتشد شعرها، وتقول:

- لقد رأيت القاتل ... لقد أطلق الرصاص وركب جواده وهرول صوب النهر.. أستطيع أن أميزه من بين عشرة آلاف...

وكانت تصيح وتولول، وبان الغضب والضيق في أعين الحضور، وأخذوا يستجوبون الأرملة الحزينة وهي غارقة في دموعها، كانوا يحاولون تهدئتها، لكنها كانت تحرضهم على الثأر والانتقام، واعتقال كل المشتبه فيهم في أورومجي.

وقال رجل الاستخبارات:

- هذا هو الحادث الثالث اليوم في أورومجي، إن رجال عثمان باتور يثيرون الاضطرابات، لا حل سوى العنف، والمزيد من العنف، لقد قلت يجب أن نقتل كل تركستاني يشتبه في أمره، لكنهم يرفضون وجهة نظري أن جميع التركستانيين مشتبه في أمرهم، أنا أعرف كيف ألتقط الخونة، لن أترك هذه الأحداث تمر ون عقاب، وقد أعلنا حالة الطوارئ في أورومجي.

وكانت نجمة الليل في حالة من الحزن والألم والتعب يرثى لها، لكن الغريب أن الكثيرين من رفاق القتيل كانوا يروحون ويجيئون ويقدمون التعازي لنجمة الليل، وكنت أرى في عيونهم الفرح والأمل، الكثيرون كانوا يطمعون فيها بالرغم من أن دماء القتيل لم تجف بعد، وقررت نجمة الليل في النهاية أن تعتكف في بيتها أسبوعا لا تقابل فيه أحدا، وكثرت الإشاعات في المدينة، وسادها جو من الخوف، وكان الضباط الأجانب يعانون من ضيق شديد، وبدا الأسود والنمور كالأرانب، لقد كنت على وشك الرحيل من ذلك القصر، لكن هذا الحادث أخر رحيلي، حسنا يجب أن أنتظر، وذات مساء وجدتها تدخل غرفتي، انتفضت واقفا وأنا أهمهم:

- سيدتي.

نظرت إلي بعينين ثابتتين لا تطرفان:

- ألا تعرف القاتل؟

- من؟

- حسنا، أنا الذي قتلته.

- أنت يا نجمة؟

ضحكت في شماتة وقالت:

- نعم، أتدري لماذا؟

كانت تتحدث في توتر، وكنت مذهولا لحديثها، فلم أنطق بكلمة واستطردت وهي تقول:

- لقد قاد كمينا أوقع بعشرة من الثوار، كانت عملية رهيبة، لقد اعترف لي بنفسه، وبرر ذلك بأنه لا يستطيع مخالفة الأوامر، لقد وعدني قبل ذلك أن يتفرغ للإمدادات التموينية، وليلتها لم أنم، حاول مضاجعتي، لم يبد عليه أدنى تأثر أو انفعال، كان يمرح ويحك وكأنه لم يفعل شيئا، وتصورت.. ماذا لو كنت أنت يا مصطفى مراد حضرت أحد هؤلاء الثوار العشرة، أخذته، قلت لنحتفل بانتصارك ونشرب النخب، كان سعيدا، وروى الكثير من العمليات الناجحة، وعما أعدوه للثوار، إن عثمان باتور يسبب لهم إزعاجا كبيرا..

آه ، ونزلنا إلى الحديقة، ومررنا بجوار السور من الداخل، تناولت مسدسا، واجهته، لم أهاجمه من الخلف، قلت إنني أحاكمك، أنت خائن، والقتل جزاء الخيانة والغدر، أخذ يقهقه، كان يظن أنني أمزح، صرخت فيه كمجنونة، اثبت مكانك، الجريمة الكبرى هي الكذب، كذبت حينما زعمت أنك مسلم، فلم تصل ركعة واحدة، وكذبت حين قلت إنك تكره الحرب، أنت لم تكن سوى حيوان، وأنا بالنسبة لك كالكأس التي أدمنتها ولا يمكنك الاستغناء عنها، ..قف.. لا تتحرك، لقد شحب وجهه، ركع على ركبتيه، رأيت في عينيه الموع، تصور أنه كان يبكي، لشد ما تلذذت ببكائه، ما الذي أتى بك في بلادنا؟ أغمض عينيه وقال متوسلا:

- أنا أحبك يا نجمة، لم أحب أحدا مثلما أحببتك، أعدك بشرفي ألا أعود لمثلها لوو طردوني من الجيش، أنت كل شيء في حياتي.

ضحكت وضغطت على الزناد وأنا أقول:

- وأنا أحبك، وقتلي لك يطهرك من قاذورات وخطايا كثيرة. خذ..خذ...خذ..خمس طلقات بعدد التعساء الذين راحوا ضحيتك.

وانهمرت دموعها:

- ماذا يقول أهل قومول عني لو عرفوا ما حدث؟

ثم جرت إلى الخارج، وعادت وفي يدها كأس:

- معذرة، الملعون عودني على شرب الخمر، ولسوف نتزوج يا حبيبي، ولكن كيف؟

ورمت الكأس، ثم أخذت تقول وهي تقهقه في عصبية:

- أحد أصدقائه ألمح لي بالزواج، أحد أصدقائه المخلصين، تصور الضباط هنا قلوبهم من أحجار.

وقضينا أيما تعسة، كان رئيس الاستخبارات في أورومجي يسوق الأبرياء المشبوهين إلى المعتقل، وكل يوم كان يعدم واحدا أو اثنين بحثا عن القاتل، ومن آن لآخر كانوا يأتون إلى نجمة الليل ويعرضون عليها بعض الثوار أو المشتبه فيهم فتنكر أن أحدهم هو القاتل، وزادت عمليات القمع والسجن واشتدت حالة الطوارئ وحدها بل في كافة المدن الكبرى، كما ازداد نشاط الثوار.

وذهبت إلى نجمة الليل ذات مساء وقلت لها:

- ها قد انتهت فترة الحداد، وأرى أن تقيمي حفلا راقصا كبيرا وتدعين فيه نخبة من الكبار، بهذه الطريقة نلقي ستارا على الحادث القديم وينتهي هو وقصته، ورأيي على أن تحرصي على أن تعلني خطبتك على ذلك الصيني الذي يريدك.

قالت في غيظ:

- لقد قتلته لأني أريدك.

- وأنا أريد هذا الحفل إن كنت تحبينني حقيقة..

- لماذا؟

أمسكت بذراعيها البضة وجذبتها نحوي بشدة ثم ضممتها إلى صدري قائلا:

- حبيبتي، يجب أن ننتقم للأبرياء.

- كيف؟

- لدي شحنة ضخمة من المتفجرات أرسلها الثوار.. وعندما يكتمل الحفل سنحيل القصر إلى جحيم.

هزت رأسها:

- ونحن؟

- سنتركهم غارقين في الخمر والرقص والغناء، فإذا ما ابتعدنا عن القصر وى الانفجار.

- وإلى أين نذهب:

- إلى الجبال، هناك عثمان باتور والرجال الشجعان.

أشرق وجهها بالفرح، وأخذت تقبلني من كل مكان وأخذت أغمغم:

- الطباخة العجوز يجب ان نبعث بها بعيدا قبل الحادث، وسائق العربة ذلك المنغولي التعس يجب أن نجد له مخرجا ، والصبيان الذان يخدمان سنبعث بهما إلى الحديقة ليعدا غرفة خاصة طالما لهوت بها أنت وهو..

وفي الليلة الموعودة، كان الليل دامسا، وركبنا جوادا قويا، وانطلقنا في عتمة الليل القارس، ونظرنا خلفنا فإذا القصر كتلة من النيران المشتعلة، وإذا المكان من حوله يضئ وإذا الصراخ وصفارات الإنذار تتوالى، وبعد ساعة كنا على مشارف الجبل.

قلت وأنا أنزلها من فوق الجواد:

- الجبل يا نجمة الليل سيظل مملكة الأحرار، المناضلين.

قالت وهي ترتجف من البرد:

- لشد ما أنا سعيدة.

ضحكت قائلا:

- يجب أن تبحثي لنفسك عن ثياب خشنة.

وسألتني نجمة الليل فجأة:

- لكن لماذا فكرت في هذه العملية الجريئة في هذا الوقت بالذات؟

قلت وأنا أسحب الجواد إلى منعطف ضيق آمن:

- ليست هذه هي المرة الأولى، طوال إقامتي في أورومجي كنت أقوم بعمليات مشابهة، كنت أتحرك بأوامر عثمان باتور.

نظرت إلي ساهمة وعيناها محملقتان..

- ولو لم تفعلي ما فعلت في زوجك وفي حادث الليلة لكان مصيرك كمصير هؤلاء الذين يحترقون بنيران غدرهم وظلمهم.

صرخت قائلة:

- ماذا؟ أكنت تقتلني؟

تذكرت قصة الضابط وخاتون، وهتفت:

- أنا أبوها.

لم تفهم نجمة الليل شيئا، وانصرفنا إلى أحاديث أخرى، عن السفر الطويل ولقاء عثمان باتور قائد الثورة في الجبال...



* * *





(11)



أحسست بقدر غير قليل من الراحة وأنا أقطع مغاور الجبال، وعلى القمم يقترب الإنسان من السماء، وتصفو الآفاق، وتزيد برودة الجو، أشعر أن صدري تتفتح شعبه اكثر وأكثر، أشعر بأني طائر تنقصه الأجنحة، ونجمة الليل تمضي إلى جواريأو خلفي على ظهر الجواد، لقد لفحت الشمس وجهها الشاحب فبدا أكثر سمرة واحمرارا، ها هي تعود إلى صورتها الماضية في قصر الأمير، إنها سعيدة مرحة ولكن في شيء من القسوة، أحست في الأيام الأولى ببعض الضيق، لعدم مقدرتها في أخذ حمام ساخن كالنظام التركي، شعرت بغير قليل من الاشمئزاز حينما لم تجد أدوات الزينة إلى جوارها، وربما آلمها ألا تجد الهامات التي كانت تنحني لها صباح مساء من علية القوم، فالناس في الجبال على الفطرة، والنسوة يشاركن الرجال في كل شيء يتعلق بالعمل، كانت البيئة الجديدة التي حولها لا شك جديدة، وبرغم تلك المضايقات التي ذكرتها إلا أنها كانت متحمة للتجربة، ولا تخفى سعاتها، ومن آن لآخر تكرر القصة، كيف قتلته... نظرات الرعب في عينيه، التوسل، الرجاء، والكلمات المستعطفة التي تنسكب من بين شفتيه.

كنت أدرك أنها فخورة أيما فخر بما فعلت، وبعد رحلة شاقة بلغنا جبال آلتاي.

هنا مقر الجنرال عثمان باتور البطل الذي دوخ الأعداء والذي استطاع أن يمسك ببعض الخونة من أبناء البلاد المتشيعين للعدو، وكان عثمان باتور صارم النظرات، طويل الشارب، كث اللحية، كبير الأنف لحد ما، وكان هادئ الحركة، وسيما قليل الكلام، عميق التفكير، إنني أعرفه جيدا، وأعرف الكثيرين من الرجال الذين يناضلون إلى جواره، وكان يلبس الملابس الثقيلة أو السميكة اتقاء للبرد القارس في الجبال، ما أعجب هؤلاء الرجال، كانوا يصمدون لعواصف الطبيعةومكائد الأعداء، ويجابهون الموت والمكاره بشجاعة منقطعة النظير طوال سنوات، وكان شعارهم الذي يهز الجبال "الله أكبر... الله أكبر" وكان بالجبل العديد من مراكز الثوار، فكنت أقضي مع هذا المركز أو ذاك فترة من الوقت، وأحكي لهم تفاصيل المذابح والاضطهاد التي يرتكبها الأعداء في حق المواطنين، وأشترك في بعض الهجمات أو العمليات الخاطفة، وكان هدفي في النهاية أن أكون قريبا من عثمان باتور، حيث مجموعتي الأصلية التي أنتمي إليها، وأعمل معها، وسألتقي هناك مع مصطفى درغا...

وأخيرا نفق منا الجواد، ولجأنا إلى قرية صغيرة في الجبال يسكنها بعض المزارعين والرعاة، كان الجو قد بدأ يميل إلى الدفء قليلا، وبقينا في هذه القرية بضع ليال...

قالت نجمة الليل:

- إلى متى المسير؟

- لعائدين.

- هذا مرهق.

- تلك هي الحرب.

- لا أعني ذلك.

- ماذا تريدين.

- آن أن نتزوج، إنك دائما لا تغتنم الفرص، أتذكر آخر لقاء لنا في قصر الأمير، ليتك فعلت....

أمسكت بيدها في حنان فأخذت يدي ولصقتها بخدها، وبقينا هكذا وقتا طويلا، ونظرت بعينين تفيضان رقة وحنانا.

- إلى متى نبقى هكذا؟

- لا شك أن بالقرية أحد العلماء.

- سأجري أبحث عنه.

- دعي هذا الأمر لي.

- إنني في قمة السعادة.

- نحن نغامر.

- ولم يا مصطفى؟

- أترى سنعيش حنى ننجب أولادا ويكبرون ونسعدهم؟

- دع الأمر لله.

كان زواجنا مختصرا جميلا، شاركنا فيه أهل القرية، فرقصت الفتيات، وغنى لنا الرعاة أغانيهم الجميلة، ودقت طبولهم الحلوة التي تهز القلوب، وأكلنا وشربنا، وقضينا عشرة أيام ممتعة كأنما اختلسناها من الزمن، وباعت نجمة الليل ما تمتلك من مجوهرات، واشترينا جوادين، واستأنفنا المسير.

- هناك يا حبيبتي. الرجال الشجعان، سنعيش، إنهم مجتمع كامل بنسائه ورجاله وأطفاله، الكل لا يعرف شيئا سوى الحرب.

- الحرب هنا معناها الحياة والحرية، الحرب فريضة في سبيل الله، وعندما ننتصر ونصبح سادة في بلادنا سنبأ حياة أجمل وأروع...

ابتسمت ونظرت إلى الآفاق التي توشحها الغيوم وقالت:

- أهناك أجمل وأروع من هذه الحياة التي نحياها الآن؟

- نعم يا حبيبتي ... عندما يحل السلام، وترجع بلاد الإسلام للإسلام، ويفر الأعداء، عندذئ نستطيع أن ننعم بالحياة، ونكون سعداء حقا، إننا يجب أن نعيش لمعنى كبير، أكبر من الحب الذي بيني وبينك، ستكون تركستان كلها أغنية حب خالدة، وسنكون أنا وأنت وأمثالنا سر روعة الأغنية المقدسة، وسر خلودها، تلك هي الجنة على الأرض.



* * *





(12)





كنا على الجبال، وقال عثمان باتور في اجتماع حاشد بجبل آلتاي:

- أيها الرجال الصناديد...

"إن اليوم يوم عصيب ودقيق، ويتوقف عليه مستقبل بلادنا، ربما لأجيال، وصراعنا على هذه الأرض طويل، منذ طمع فينا قياصرة الروس، بتحريض من المتعصبين الأوروبيين ادعياء المسيحية، ومنذ امتد بصر الصينين من عشرات السنين إلى بلادنا العظيمة.. أرض البطولات.. والأمجاد .. والمعارك الإسلامية الخالدة.. منذ أن اجتزأ كل عدو قطعة من أرضنا، في غفلة من الأمراء والحكام اللاهين، لا أريد أن أتحدث أيهغا الرجال عن الماضي كثيرا، وإنما أردت أن أقول إن تحرير أرضنا لن يحققه لنا أحد، على أكتافنا وحدنا ينهض بناء الحرية، كذب علينا الروس حينما عرضوا لنا العون، وكذب علينا الصينيون حينما زوقوا لنا الأمنيات الحلوة في الحرية والاستقلال، وها أنتم ترون بلادكم تحكم بالحديد والنار، ويساق الآلاف إلى ساحات الإعدام، ويساق مئات الألوف إلى المعتقلات، لقد أبيدت أسر تركستانية بأسرها، وقادتنا العظام قادة التحرير لم يعاملوا كأسرى حرب عندما وقعوا في أيدي العدو، وإنما قتلوا أشنع قتلة، ولوثت سمعتهم وشرفهم، وهم خير من أنجبت أرضنا الطيبة، وهم الآن يحاولون خلق جيل مخدوع ضائع من أبنائنا في المقاطعات القرى والمدن، ويزعمون أنهم يريدون نشر العلم والتقدم في بلادنا."

"أيها الأبطال! إننا نحارب من أجل تحرير أرضنا، ونكره العدوان في ي صورة من صوره، وندافع عن ديننا الإسلامي الحنيف، وتراثنا الحضاري العريق.

إن حربنا اليوم جهاد في سبيل الله، وعلينا أن نضرب ضربتنا حتى تقصم ظهر العدو، وعندما نتحرر فسنكون أصدقاء للجميع، فبلادنا لا تعادي أحدا، ولا طمع في أحد، غنية بالخيرات والأمجاد يجب أن تكون لنا، ألسنا شعبا جديرا بالحرية؟ لقد يئس العدو من القضاء على حرب العصابات التي قمنا بها، قاموا بحملة فتك الأهالي وسطوا على الشعب بغيهم وانتقامهم، واليوم لا مناص من الحرب الشاملة الكبرى.."

ودوى الرجال بالهتاف والتكبير، وفي الأيام التالية أخذت الجموع تزحف زحفا كبيرا، كانت قوات العدو تتراجع في ذعر، وأصبحنا على بضعة أميال من أورومجي، فأخذت قوات الشعب تكيل الضربات لقوات العدو الباقية في التركستان الشرقية، وتراجعت تلك القوات إلى تركستان الغربية، وكشف تقهقر العدو عن حقائق عجيبة، كانت مختفية تحت وطأة الاحتلال، فقد ظهر فعلا من السجلات التي تركها العدو أثناء تقهقرهم أن هناك عائلات تركستانية بأكملها قد اختفت تماما، كما بلغ عدد المعتقلين في معسكرات الاعتقال ثلاثمائة ألف، وقد روى المعتقلون الذين أفرج عنهم بعد الانسحاب قصصا رهيبة من التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له في معسكرات الاعتقال، وكانت الصور التي رسمها هؤلاء المفرج عنهم مما تقشعر لهوله الأبدان، ولم يعثر أهل الضحايا على جثث شهدائهم فقد كانوا يخفونها ويعملون على إبادتها بوسائل عجيبة، وقد عثر بالمصادفة على جثتين في أحد المناجم المملوءة بالغازات الخانقة تبين فيما بعد أنهما للسيد خوجة نياز والجنرال شريف خان أحد قواده، كما حدث نتيجة للأمطار الشديدة أن انهارت عمارة تشغلها إدارة الاستخبارات (ج. ب. أو) والتي كان يعتمد عليها العدو في البطش بخصومهم، ووجد تحت أنقاض هذا المبنى هياكل بشرية بلغت ثلاثة آلاف هيكل، مما يدل على أنه كان يوجد تحت البناء المتهدم سجن لأفراد الشعب، وأنهم ماتوا فيه دون أن يعني أحد بأن يفتح لهم الباب أو يسأل عن مصيرهم، وخرج أبناء الشعب التركستاني من كل الطوائف ليشهدوا المأساة التي لا مثيل لها.

قالت نجمة الليل والدموع تنهمر من عينيها:

- كيف مات هؤلاء؟ إنني يا مصطفى لا أستطيع أن أستطرد في خيالاتي، أليس هذا منتهى القسوة؟ آه... الحجرات المظلمة.... الاستغاثات التي لا يلبيها أحد... الجوع.. الظمأ... السياط الخارقة... كان فيهم من يحلم بزوجة وأطفاله، وبفتاة وهبها قلبه.. يا إلهي! أيمكن أن يحدث هذا في العالم؟ لعنة الله على الأعداء، ماذا يريد منا هذا العدو؟ كيف يرجى خير من وراء قوم فعلوا هذا الفعل البشع؟ انظر الهياكل المتعانقة، إنهم ماتوا وهم يحتضنون بعضهم بعضا، وهناك هياكل ماتت ميتة القرفصاء، لا شك أن البرد كان شديدا، كانوا يتضرعون إلى الله وهم في أتعس الأوصاع، هؤلاء الذين عاشوا طلقاء في الغابات والجبال في بلادنا الجميلة يوتون على هذه الصور الرهيبة... اللعنة على الكافرين..

أمسكت بيدها قائلا:

- عندما يموت الإنسان لا يشعر بشيء بعدها، لا تعذبي نفسك.

- العذاب لنا نحن، ويجب أن نتألم، حتى تتولد في أعماقنا طاقة كراهية خالدة لكل الطغاة...

- عزيزتي، إننا نطاردهم في كل مكان..

وجففت نجمة الليل دموعها وقالت:

- يا مصطفى ، لا أستطيع الاستمرار في السير معكم.

- لماذا؟

- يبدو أن بين أحشائي جنينا.

نظرت إلى الهياكل المعثرة تحت الشمس والمطر، ونظرت إلى نجمة الليل ووجهها الشاحب المتألم، وهمست في أذنها:

- إذا رزقنا الله بولد فسوف نسميه خوجة نياز.

ابتسمت في مرارة وأخذتها غلى البيت الذي سنقيم فيه. وقلت:

سوف أرحل بعد أسبوع، إن مقاطعتي إيلي وآلتاي الغنيتين بالمعادن والثروات يجب أن ننتزعهما من أيدي العدو.

واستمرت المعارك القاسية، والأعداء يولون الأدبار، والتقى بنا عثمان باتور في لقاء خاص ضم عددا غير قليل من القادة، وقال:

- أيها الرجال! هل علمتم بما فعله الحاكم الصيني لتركستان؟

تركزت أبصارنا إليه، وقال بهدوئه المعهو:

- إنه يقبض على حلفائه.

كانت مفاجأة مذهلة وصحنا في صوت واحد:

- كيف؟

- لعبة السياسة والمصالح لعبة قذرة.

- لكنهم حلفاؤه وهم الذين أنقذوه.

- نعم أنقذوه ليملكوه، وليستغلوه ويستغلوا البلاد.. كان بملك ولا يحكم.

وكان واضحا ان الحاكم الصيني قد ضاق ذرعا بحلفائه ولم يستطع أن يفلت من أسر مستشاريهم وخبرائهم إلا بعد رحيل العدد الأكبر منهم، وبعد أن استطاعت قوات عثمان باتور أن تبدد جحافلهم وتفر هاربة، فانتهز الفرصة، واعتقل الرعايا الحلفاء، وأرسل لزعيمه يعتذر ويتأسف ويطلب منه العون ضدنا، إن الحاكم لا مبدأ له، وعلينا أن نستعد لجولة ديدة مع الصينيين بعد أن هزمنا حلفاءهم.

وأصدرت قيادتنا أمرا عاما بتكليف كل قادر على حمل السلاح بتقديم نفسه للاشتراك في تطهير البلاد من الجرذان الصينيين، ثم بعث عثمان باتور إنذارا إلى الحاكم الصيني وحدد له موعدا لمغادرة البلاد مع قواته، وإلا كان مصيرهم ميعا الهلاك المحقق.

كان الحاكم حائرا لا يدري ماذا يفعل، فقواتنا تحاصره من كل جانب ، والرسل التي أرسلها –ومنهم شقيقه- إلى عاصمتهم لم يأت عنها خبر، والشعب يتدافع إلى الموت من أجل الخلاص في ثورة عارمة تدعو إلى الفخر والإعجاب.

- ها نحن نلتقي مرة ثالثة يا مصطفى حضرت.

ونظرت فإذا بصديق العمر منصور درغا..

- آه يا منصور.. لشد ما تغيرت، إني أرى الشعرات البيضاء في رأسك، بالأحضان يا منصور.

لاحظت أن ذراعه اليسرى لا تتحرك، وأنه يدفع مدفعه بيده اليمنى، فاحتضنته في حب بالغ.

وعدت أنظر غليه، لقد ذهب الكثير من نضرة وجهه، ورأسه بدت صلعاء إلا من شعرات قليلة، لكن لحيته بقيت رمادية توحي بالإصرار العنيد، وفي عينيه حزن لا يريم...

- ما هي أخبارك يا منصور؟

- انتصرنا...

ضحكت، فلم يعد أحد يجهل هذه الحقيقة، وأدرك هو أن جوابه غير شاف.

- وحبيبتي الغجرية ماتت، ذبحوها كما تذبح الشاة في وليمة فاخرة، كانوا يتقاسمونها كالوحوش، كانت تصرخ وتدافع، الحيوانات المفترسة تعرف الرحمة، أما هم...

وأكمل وهو يلوح بسبابته:

- لا... لا... وانتشر خبر فراري من المعتقل، ليتني ما هربت، كان خيرا لي أن أكون أحد الهياكل التي عثروا عليها في مبنى المخابرات المنهار، تسألني لماذا؟ لقد بحثوا عني في كل مكان، ولأنهم فشلوا في العثور علي اختطفوا أسرتي كلها نساء ورجالا وأطفالا.. تسألني الآن مامصيرهم، فأقول بكل أسف.. ذهبوا..

ومعت عيناه:

- ذهبوا إلى من لا يظلم أحدا.

وجفف الدموع وتمتم:

- أتعتقد أني أسعد من هؤلاء الذين ذهبوا؟

أمسكت بيده وقلت:

- هيا بنا، فغن نجمة الليل كانت تريد أن تراك..

نظر إلي، كأنه يتذكر قصة قديمة عفا عليها النسيان:

- نجمة الليل؟

- نعم.. زوجتي.

- زوجتك؟...مستحيل... أنت تعرف..

ضحكت في ثقة وقلت:

- لقد اشتركت معي في عدة عمليات فدائية رائعة..

وكان يجلس إلى جوارنا صحفي جريح عاد لتوه وقال:

- أأنت مصطفى مراد حضرت؟

- نعم.

وضحك الصحفي في سعادة وقال:

- هنا منشور في أورومجي وفي آلتاي وكاشغر وقومول بخصوصكما..

- ماذا تعني؟

- مبلغ من الذهب لمن يقبض عليك أو على نجمة الليل سواء أكنتما أحياء أو أمواتا، إذا هو أنت؟ إن قصتك مادة صحفية رائعة.

ونظرت إلى كتفي، وأشرت إلى الصحفي الذي هتف مقهقها:

- نجمة الشرف الأولى.

- نعم يا صديقي من عثمان باتور.

- وحكم الحكم من الحاكم الصيني.. ما أعجب الدنيا؟

كان القمر يرسل أشعته الوانية، وإلى جواري منصور درغا.

غمغم منصور:

- مات أمير قومول، وأظنهم قتلوه، وتبدد الأمراء أو تحولوا إلى نماذج للشقاء والتعاسة، وانفرط نساؤهم في كل الأنحاء، الدنيا تموج وتفور بأحداث لا نهاية لها، لكأنما كتب علينا أن نقضي العمر محاربين..

- ليس هناك أشرف من الجهاد في سبيل الله، يا منصور..

- أعرف، لكني أحيانا أفيق إلى نفسي، واتذكر الأيام الجميلة والطفولة البريئة، والأهل والغدير، لماذا ذهب كل هذا؟ هل لا بد أن يشقى الإنسان حتى يبلغ ينابيع السعادة؟ وأين هي السعادة يا مصطفى؟ ها نحن ننتصر، لكن الأمر لكثرة الانتصارات والهزائم أصبح أمرا هينا، أحيانا ينتابني هذا الشعور... اعذرني... فقد فجعت في الإنسان كإنسان، لماذا تموت زوجتي؟ ولماذا يموت العجوز أبي؟ وتراق دماء أمي وإخوتي وعشيرتي؟ قيل لي إنهم كانوا يتمتمون ببضع آيات من القرآن، وكان أبي يعلو صوته بآية الكرسي، كان الجلادون يضحكون.. لماذا يضحكون؟ مصطفى.. أريد أن ألتقي بنجمة الليل، أريد أن أسألها كيف عاشت مع هؤلاء الوحوش؟ كيف آكلتهم وشاربتهم؟ أكانوا بشرا؟

أدركت أن منصور متألم لما أصابه وأصاب أهله، وأن نوبات الحزن التي تحل به من وقت لآخر تثير ثائرته، وتكاد تذهب بعقله.

فربت على كتفه في مودة وهمست:

- أتؤمن بالله؟

- نعم.

- انهمرت دموعه، ثم أخذ يغمغم:

- (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:156)

-



* * *







(13)





كور قبضته، وزم شفتيه، وصرخ في جنون:

- تسحقني الإرادة اليائسة.

هذا ما قاله خاكم تركستان الأكبر، واستطرد في سخط:

- كان علي أن أعتمد على خلفائنا أو على مساعدة الصين لكي أحمي سلطاني من ثورة الشعب التركستاني، ما وقفت قط وحدي واستطعت أن أنجز أي انتصار.. ما معنى ذلك؟ معناه أن أبقى طول حياتي متكئا على ذراع حليفي، لذالك لم أشعر قط بالراحة أو التنسم بيرح السعادة.

رد أحد الجنرالات الصينيين الكبار قائلا:

- لم نفكر قط في أن نتخذ شعب التركستان الشرقية صديقا.

- هذا مستحيل، الغازي والمهزوم لا يمكن أن يكونا صديقين، كل مرة كنت أحاول أن أسكت المقاومة بالعنف والقسوة... لم يكن هناك طريق آخر.. لست ساذجا، إنني أفعل ما أعتقد أنه صواب لا غير، انظر.. الجبال حولنا تمطرنا بالرصاص والرجال، بعد انهيار العون من حلفائنا، وإذا لم يف زعيمنا بوعده فستسقط أورومجي، وسنذبح هنا في أشهر مذبحة عرفتها أرض تركستان..

- وعاد الحاكم إلى استراحته الخاصة، كان ثائرا منفعلا، وجلس وحده يفكر، ولا يدري أطال به الوقت أم قصر، لكنه عندما رفع رأسه وجد فتاته تقف وفي يدها زجاجة وكأسان، وتمتم في دهشة:

- منذ متى وأنت واقفة هكذا:

- حوالي نصف ساعة.

- يا إلهي! ولماذا لم تتكلمي، لشد ما يعذبني صمتك.

كانت فتاة تركستانية مرغمة على أن تعيش مع الحاكم على الرغم منها، كانت تحمي بذلك نفسها وأسرتها، ليست هي الفتاة الأولى ولكنها هنا منذ شهور، إن الرئيس لم يكلمها بعد، هي صامتة دائما، كان المفروض أن يطردها، لكن صمتها كان يحلو له، كل النساء ثرثارات، أما هذه فلا تكاد تفتح فمها إلا لتجيب على سؤال في أقل كلمات ممكنة، وقال لها:

- إذا رحلنا من هنا فهل تبقين أم ستأتين معي؟

- إنني طوع أمرك يا سيدي.

يبدو أنها لم تفهم ما يرمي إليه.

- حسنا .. قد يهزمنا التركستانيون عندئذ...

ولم يكمل حديثه، لكنها نظرت إليه، وقالت بسذاجة:

- عندئذ ستنجو بنفسك يا سيدي، ولن تفكر بامرأة مثلي.

- لماذا؟

- النساء كثيرا على طول الطريق، وأنا من أكون؟

هز رأسه وقال:

- ستبقين هنا إذن؟

أجابت بكل هدوء:

- نعم، حتى يأتي أهلي ويأخذوني.

أطاح بالزجاج والكأسين بضربة واحدة وصرخ:

- كلكم تعيشون معي بلا قلوب.

- إنني لا أفهم ما تتكلم عنه، أتراني قصرت في واجبي؟

- أنا لا أتكلم عن الواجب يا حمقاء..

- عم تتكلم إذن يا سيدي؟

- عن الحب..

- نظرت في بلاهة ولم تتكلم...

"الحياة كلها يسودها الخوف، والناس هنا يتحركون بدافع الخوف أو المصلحة، حتى الجنود الصينيون في المعركة، عندما يشعرون أن حياتهم في خطر، يركعون على الأرض ويهتفون مستغيثين ويطلبون الشفاعة من التركستانيين، وبعضهم يهرب بحياته للإسلام، ويعتنق دين الأعداء التركستانيين، والحلفاء يعانونني ويرسلون جيوشهم بثمن.. إما أن يسيطروا على السلطة أو يستولوا علىالمواد الخام أو يكسبوا أنصارا لهم، وأنا نفسي لم يتقدموا لمساعدتي إلا بعد أن أعلنت ولائي لهم..."

والتفت مرة ثانية إلى الفتاة:

- اذهبي إلى الجحيم.

- أخرج من القصر؟

- ألا تعرفين الجحيم؟

- الجحيم... الجحيم... لا أعرف مكانه بالضبط، ولكني أستطيع أن أسأل...

قهقه في سخرية وهتف:

- انصرفي يا حمقاء..

وعندما همت بالانصراف، عادت إليه تقول:

- تذكرت يا سيدي، الجحيم هنا، في الآخرة حيث يأوي الأشرار والكفرة وأعداء الله..

استرخى على المقعد، ونظر إليها بعينين ذاهلتين وقال:

- اذهبي إلى هناك.

- لكني لم أمت بعد.

وراح في سبات عميق، كان غطيطه يدل على أنه لم ينم منذ ليلتين، وبقيت الفتاة واقفة، ثم أفاق على ضجة ونظر، فإذا بها واقفة:

- من أي داهية أتيت؟

- جئت من أقصى الشمال، من أطراف سيبريا.. هل نسيت يا سيدي ، كنت أقدم لك الكؤوس والفواكه في إحدى زياراتك .. أعجبت بي.. وبقية القصة أنت تعرفها.. إذا رحلت أنت من هنا، فسأذهب إلى الشمال، وأبحث عن أبي وأمي.

- كانت جميلة فاتنة غير متعلمة،جرها إلى المقعد، وأجلسها على ركبتيه، وأخذ يربت على شعرها في تدله، ويلامس أنفها الرقيق وشفتيها الدسمتين، وعينيها الواسعتين ثم يقبلها وكأنه في حلم وردي وتمتم:

- الحاكم لم يصلح لشيء، لقد ذهب الشباب والحب بعد أن زال السلطان والنفوذ، لقد نسيت اسمك ولم أعد أذكر إلا خيالات باهتة يحتضنها الماضي التي تختلط فيه الابتسامات بالموع.. والحرب دائما.. ولا شيء غير الحرب..

دقت دقات على الباب، فتنحني الفتاة وتخرج، ويدخل ضابط أركان حرب:

- سيدي، النجدة لم تصل، والتركستانيون المسلمون يحاصرون أورومجي، والمعارك الدامية تدور خارج المدينة ، لم نحرز أي تقدم.

- ادفعوا بالمزيد من الرجال.

- ألا تفكر في الانسحاب؟

- الانسحاب حماقة، إذا فكرنا وانسحبنا أتدريماذا تكون النتيجة؟

- ماذا؟

- سيختطفنا المسلمون من كل جانب، سيقضون علينا من كل صوب، ونخسر المعركة بكل تأكيد، وسنموت جميعا، أورومجي محصنة، وتستطيع أن تصمد لفترة طويلة، ليس هناك من وسيلة سوى الصمود حتى الموت.. أو تأتي النجدة.. اخرج وأبلغ القيادة بذلك.

- تلعثم الضابط وقال:

- إن الإنذار الذي أرسله عثمان باتور يؤكد سلامتنا إذا رحلنا.

ضحك وقال:

- أنا لا أثق في وعود المحاربين.

- لماذا؟ إنهم لا يكذبون يا سيدي.

- قهقه وقال:

- إننا خدعناهم ألف مرة.

- لكنهم...

قاطعه الحاكم قائلا:

- انصرف، المقاومة حتى النهاية، لا انسحاب ولا تسليم.

وانصرف الضابط، وبقي الحاكم وحده يعاني من ضيق ووساوس لا حد لها، وعندما يقترب القائد من حافة اليأس لا يصح أن يستسلم، بل يجب أن ينتحر، وأفضل وسيلة للانتحار أن يقذف بنفسه في أتون المعركة، هذا ما أفكر فيه، لقد أرسلت أخي إلى عاصمة الصين، ولن يعود أخي خالية الوفاض، إن الزعيم لن يترك تركستان الشرقية تفلت من أيدينا.. معنى ذلك أن يبتلعها حلفاؤنا، النجدة لا بد آتية.

وبينما هو منهمك في أفكارهإذ عادت الفتاة الصامتة مرة ثانية تحمل إليه بعض الطعام وزجاجة أخرى من الخمر، وبعد أن وضعت الطعام أمامه قالت:

- سيدي.أريد أن أرحل.

نظر إليها في دهشة وقال:

- لماذا؟

- إنني هنا خائفة، والحرب تقترب.

قهقه وقال:

- نعم.

- وما قيمة أن تموتي أو تعيشي؟

- لا أريد أن أموت.

- ألا يكفيأن تكوني في جواري؟

- أنت سيد كبير وأنا مجرد جارية أو خادمة .

نظر إليها في غيظ،كان يحبها ويلذ له وجهها وصمتها وسذاجتها، لقد ضاق ذرعا بأنواع كثيرة من النساء، لقد جرب المتعلمات، وجرب الفنانات، وعاشر وجرب الصينيات المهاجرات إلى أرضه الجديدة، مل الجميع، ولكن هذه البلهاء لم يزل لها في قلبه منزلة أسيرة، لماذا؟ لا يدري.. للقلب أحكامه الخاصة.

ونظر إليها نظرة أخرى بعد أن خف غيظه وقال:

- ماذا تتمنين من الحياة؟

- أن أعود إلى أهلي.. حيث المراعي.. و..

قاطعها قائلا:

- ألا تريدين البقاء معي؟ سأغمرك بالذهب والطعام والملابس والحماية...

أخذت تبكي وتنتحب، فصرخ فيها محتدا:

- لسوف أشوي جلدك بالسياط أيتها المتمردة.

جففت عينيها في ذعر، وقالت:

- ما فكرت في أن أسيء إليك.

- وسأسوق أهلك إلى سجن أسود لا يخرجون منه..

فانكبت على قدميه باكية وقالت:

- الرحمة، إنني أعتذر عما بدر مني خطأ.

- اذهبي.

- فخرجت ترتجف كطائر بلله المطر في ليلة باردة ليلاء..







* * *







(14)





وأخيرا أرسل الزعيم النجدة المكونة من ست فرق انتحارية مجهزة بأحدث أسلحة، وعندما حاولت الفرق الستعبور حدود تركستان تصدت لها قوات الحدود، فأرادت القوات الصينية أن تخدعها، وتقدم قائد الفرق الصينية من القائد التركستاني وقال:

- إننا لم نجئ إلا لتأديب الحاكم الذي انحاز وتشيع مع حلفائه، ولا نريد سوى تطهير بلادكم منهم.

قال القائد التركستاني ساخرا:

- فلتطهروا بلادكم أولا.

- تاكد يا سيدي أننا قادرون على تطهير أرضنامنهم ومن قائدكم أيضا، نحن نعرفه جيدا، إننا نعتصم باللإسلام وهو خير درع ضد أي غزو.

قال القائد الصيني:

- إن وقوفكم في وجه قواتي يعطي الأعداء فرصة أكبر.

- أنتم أيضا أعداء.

- لسوف يفتك بكم الحاكم.

- إنه محاصر في أورومجي، ولن يستطيع الهروب.

- حسنا.. لسوف نعود من حيث أتينا، ولنترك لكم هذا الخطر الداهم كي تعالجوه بأنفسكم.

ولم تمر أيام قليلة حتى ظهرت الخدعة، وتقدمت الفرق الانتحارية الصينية على حين غرة، وداهمت حرس الحدود، وكان عددهم قليلا جدا بالقياس على عدد القوات الصينية الزاحفة، إنها معركة غير متكافئةجعلت الصينيين يعبرون الحدود، وعانت هذه الفرق ما عانت من مقاومة الأهالي، وفقدت الكثير من القتلى واستطاعت بعد جهاد مرير أن تقترب من ؟أورومجيحيث يقيم الحاكم الصيني كالسجين، إذ كان تحاصره قوات عثمان باتور النظامية، عندئذ أعلن الحاكم الصيني عن تخليه عن حلفائه تماما، فأتت جموع صينية جديدة تزحف كالنمل، لتواجه عثمان باتور وقواته:

قال عثمان باتور:

- أيها الرجال! أنا لم أيأس بع.

- لا قبل لنا أيها الجنرال بهذه الحشود الصينية التي لا أول لها ولا آخر.

ابتسم عثمان باتور في ثقة.

- إلى القلب الحنون... إلى الجبل.

- كيف؟

- ن هناك سنبدأ من جديد يا مصطفى حضرت.

- سيدي..

- أعرف ما تقول، تريد أن تستمر المعركة حول أورومجي، في الإمكان أن نصمد حتى الموت، هذا شيء عظيم، الأعظم منه أن نبقى أحياء ونطهر أرض الإسلام منهم.. أعلن في الرجال العودة إلى الجبال.

وعدنا إلى الجبال نحمل جراحنا وقتلانا وأحزاننا، لم يستبد بنا اليأس، كنا فرحين لأننا أذقنا العدو الأمرين، وكبدناه الكثير من الضحايا، لقد دفع الثمن غاليا، ونحن لم تنكسر شوكتنا، أو تخمد عزائمنا، وأشرف الجبل من جديد بوجوه الرجال الصابرين الصامدين، وعادت صفوف الصلاة والتكبيرات تحوم في الآفاق العالية وأخذت المناورات تستأنف من جديد، الأمر المضحك أن الزعيم أصدر أمرا بعزل صديقه الحاكم الذي استنجد به، وعين مكانه صينيا آخر حاكما عاما على التركستان الشرقية، وابتسم عثمان باتور وقال:

- من لا يملك يجود على من لا يستحق، كأن بلادنا مزرعة خاصة لهم.

كان الحاكم الجديد شرسا عصبيا، وأراد أن يثبت أنه جدير بمنصبه الجديد، لقد اتخذ خطوة قمع قاسية خبيثة، وكان أبشع ما في هذه الخطة هو أنه أصدر أمرا بالقبض على الطبقة المثقفة في تركستان وخاصة الكتاب والشعراء والعلماء، حتى أولئك الذين لم يحملوا السلاح من قبل، وأقام مذبحة رهيبة ترددت أنباؤها الفظيعة في كل أنحاء البلاد.

ويومها ساد جو الجبل وجوم حزين، وقال منصور درغا:

- المجرم يحاول قتل روح الأمة.

قلت في أسى:

- حملة الفكر تذبحون كما تذبح الشاة.

- نعم، الدين والفكر الأصيل هما وجدان الشعب، الطاغية الخبيث ضرب ضربة في الصميم.

وقال منصور درغا وهو يبكي:

- أعرف شاعرا طالما تغنى بالانتثار وآمال الغد..

- وأعرف عالما فذا أفاض على الشباب أبان المعمعة بتحليلات ودراسات إسلامية مذهلة.

- حتى فتية المدارس الصغار الذين كانوا ينشدون الأشعار في المظاهرات ساقوهم إلى ساحة الموت.

وجاءت نجمة الليل تحمل على كتفيها طفلا صغيرا لا يكف عن الصياح وهي تهدهده في رقة وقالت:

- لماذا بقي هؤلاء المثقفون هناك، المثقف الذي لا يحمل السلاح ويأتي إلى الجبل لاستئناف المعركة ليس حقيقيا..

قلت في أسى:

-إن هؤلاء المثقفين لهم عذرهم، وشعبنا في كل مكان في حاجة إليهم وإلى كلماتهم، إنهم يؤدون نفس الدور الذي يؤديه حملة السلاح على سفوح الجبال، بل ربما يكون دورهم أخطر، ولهذا ترين يا عزيزتي أن العدو الصيني ساقهم إلى الموت قبل غيرهم، لأنه يعرف خطرهم.

وبدأت حرب العصابات من جديد، وبدا للصينيين أن المعركة لم تنته بعد، وفي كل ساعة ينحدر الرجال من الجبال ليقوموا بعملياتهم الانتحارية، ويختطفوا الغزاة، ويدمروا منشآتهم، ويبددوا المن الذي ظنوه حقيقة واقعة، وتحول النصر الصيني إلى آلام وتضحيات وعذابات مستمرة.

وفي الوقت نفسه ثورة شعبية أخرى في مقاطعة إيلي، يتزعمها وطني مخلص، وهو عالم إسلامي كبير اسمه علي خان الذي استطاع بعد معارك عنيفة مع الصينيين أن يستولى على مقاطعة ويحررها، وأصبح الشيخ علي خان رئيسا لجمهورية تركستان الشرقية الإسلامية، وكان الجنرال عثمان باتور قد انضم إليه هو ورجاله، وبفضل خبرة هذا القائد الهمام عثمان تم الاستيلاء على مقاطعتي آلتاي وتشوشك، وتكبد العدو الصيني خشائر فادحة في الأموال والأرواح، وأصدر رئيس الجمهورية الشيخ علي خان أمرا بتعيين الجنرال عثمان باتور واليا على مقاطعة آلتاي.

ولم يكن الشيخ علي يستطيع تحقيق هذا النصر إلا بعون كاف من السلاح الذي جاءه من الروس دون إملاء أية شروط سوى تطهير التركستان الشرقية من الغزو الصيني، لم يكن من اليسير أن يستسلم الصينيون بين يوم وليلة، بل ظلوا يقاومون في استماتة، وكثر عدد الجيش الإسلامي التركستاني، وانتعشت آمال الأمة بعد مفاح وعناء شديدين....

لكن منصور درغا قال:

- ها نحن ننتصر، ولكني خائف.

قلت في ثقة:

- لا معنى للخوف، ولقد جربنا أن النصر تصنعه سواعدنا.

قال منصور درغا ساخرا:

- وما قيمة سواعدنا بدون سلاح؟

أدركت أنه يعني معونة السلاح الذي جاءه للشيخ علي خان، إن منصور يشك، ويخاف على بلدنا الصغير أن يعود إلى اللعبة المحزنة، لعبة الكرة التي تتداولها أقدام الأقوياء.

- إن العالم يتغير يا منصور.

هز كتفيه قائلا:

- بل إن المنتصرين امتلأوا غرورا وغطرسة.

- سوف يتحول احتلال البلاد إلى شيء آخر.

- ماذا تعني يا مصطفى؟

- أني الصداقة هي بديل للاحتلال، ولا مانع من أن نكون أصدقاء للذين ساعدونا.

نظر منصور إلى الطفلي الصغير وقال:

- إنني أنظر إلى طفلك الصغير، أتعلم أنني حزين من أجله؟

- لماذا؟

- أنت تظن أننا وحدنا مارسنا حياة الأخطار والأهوال، لكني أؤكد لك أن ابنك وجيله سيكون أتعس منا.

قالت نجمة الليل وهي تلف ولدها في حب وتضمه إلى صدرها في خوف:

- لا تقل هذا الكلام عن ولدي.

وضحكت، وضحك منصور، لكنه عاد يقول:

- الصينيون المنهزمون طلبوا الصلح.

- لقد رفضناه.

استدار نحوي وقال:

- هل تعلم أن الدولة التي تمدنا بالسلاح ضغطت على رئيس الجمهورية كي يقبل الصلح والمفاوضات؟

قلت في حدة:

- على أي أساس؟

هز منصور كتفيه وقال:

- على أساس استقلالنا، وأريد أن أقول إن رغبة تلك الدولة كانت أقوى من الرغبة الشعبية، أردنا انسحابا غير مشروط للذينيين وهزيمة كاملة لهم، وأرادت تلك شيئا آخر.. المعنى لا يخفى عليك.

قالت نجمة الليل وهي تهدهد طفلها:

- لقد عاد السلام الذي طالما حلمنا به، ونحن نعود إلى مدننا وبيوتنا وننعم ببعض الراحة، إني أرى المستقبل رائع.

لوح منصور درغا بيده قائلا ثم مال على أذني هامسا:

- عثمان باتور كان رافضا للمقترحات.. إن استقلالنا استقلال ذاتي.

قلت في ضيق:

- سيرحل الصينيون، وهذا هو المهم.

هز كتفيه مرة أخرى وقال:

- من يدري.





***









(15)





ساد لغط كبير في أنحاء البلاد أبان الاستعدادات للاستفتاء الكبير وتقرير المصير، ووجدت خلافات جذرية بين السياسيين والمفكرين، لكن ثقل الحلفاء أعطى التغييرات الداخلية اتجاهات خاصة ومؤتمرات معينة، فقد طفا على السطح أولئك البرجال الذين يمتدحون موقف الحلفاء ومدهم لتركستان الشرقية بالسلاح، كانت وحدة النضال تجميع قلوب الرجال على معنى واحد هو التحرير وعودة البلاد إلى حظيرة الإسلام والحرية، ونتيجة للمفاوضات التي أجريت تقرر تعيين جانجي القائد العام لشمال غرب الصين حاكما عاما لتركستان الشرقية، يعاونه ثلاثة من التركستانيين هم: أحمد جان، وبرهان شهيدي، (نائبا للحاكم) وليومون شون سكيرتيرا للحاكم العام، وكانت مهمة هؤلاء الأربعة هي العمل علىإجراء الانتخابات التي نصت عليها المعاهدة، وتهامس الناس، إن الرجال الثلاثة من أعوان الحلفاء، لقد باعوا انفسهم للشيطان، ولكن الدعاية حاولت أن تبعد عنهم هذه الشبهات، وحاولت تصويرهم بصورة الأبطال، القوميين الذين لعبوا أدوارا من أجل تحرير البلاد أبان محنتها، كما ساعدوا على مد الثوار بالسلاح مما جعل الثورة الشعبية تحقق أهداقها على صورة رائعة، ومع ذلك فقد أخذت البلاد تستعد للانتخابات، الآن رأي الشعب هو الرأي الحاسم، ولن يستطيع أحد أن يخدع هؤلاء الثور المحاربين الذين ظلوا سنوات طويلة يتصدون للعدو، ويحطمون من محاولاته المستمرة للقضاء على استقلال البلاد، وفي هذه الأثناء فوجئنا بالدولة الحليفة تحاول السيطرة على المقاطعات الثلاث: إيلي، وآلتاي وتشوشك، كن الرئيشس علي خان وقف وأعلن على الملأ:

- إننا لن نفرط في ذرة من تراب الوطن، ولن نسمح بالتدخل في الولايات الثلاث.. ونحن على استعداد لاستئناف القتال ضدهم إذا لم ينسحبوا.

- وغرقت البلاد في جو من الدسائس والفتن.

تمتم الجنرال عثمان باتور.

فرد الرئيس عي خان قائلا:

- العالم مشغول عنا بتضميد جراح البشرية.

- انتهت حربنا ولم تنته..

اقترب الرئيس علي خان من عثمان باتور وقال:

- يا جنرال ! عد إلى قواتك.. واستعد.

أدركت ما يعتمل في الأفق السياسي من تحركات مريبة، فقلت لزوجتي:

- نجمة الليل! لقد حان الرحيل..

- إلى أورومجي...

- لا أريد الذهاب إليها، إن ذكرياتها تؤلمني.

- إذن إلى قومول..

- وقومول هي الأخرى فيها افتراءات قديمة قد تجلب لي ولك المتاعب.

- أتوافقين على الذهاب إلى كاشغر؟

- لا بأس.

- وهناك ستعيشين مع الطفل، أما أنا فذاهب إلى الجبال.

- الأيام المريرة تعود، والصديق يريد الثمن.

وكان الرئيس علي خان يجلس في قصر الرئاسة مع زوجه وذويه والليل خارج القصر ساكن هادئ، والناس في بيوتهم يسمرون ويتحدثون عن الانتخابات المقبلة والعهد الجديد، وتدهم القصر فئة من الشبيبة حاملين السلاح، تعلن عيونهم وملامحهم عن الغدر والخيانة:

- ماذا تريدون؟

- قم معنا.

- أنسيتم أنني الرئيس؟

- نحن نعرف، وليس أمامنا من وسيلة سوى إطلاق الرصاص إذا لم ترافقنا.

اختفى الشيخ علي خان، وأخذ الناس يتهامسون، لماذا لم يعد يظهر كالعهد به في صلاة الجمعة، ولماذا لم يعد يلتق برفاق السلاح الذين قادهم بالأمس وأحرز معهم الانتصارات البارعة ضد الصينيين، وكثر اللغط والجدل حول مصير الشيخ علي، لكن بيانا رسميا يصدر عن الحكومة تعلن فيه أن الحاكم الرئيس علي خان سافر للاستشفاء...

وفؤجئ الناس بالاتخبارات من جديد، لقد اندسوا في الشوارع والمزارع والمصانع، وأخذوا يعتقلون المناوئين في الولايات الثلاثة التي طمع فيها الصديق، وصدر قرار بتعيين أحمد جان التركستاني المعروف رئيسا على المقاطعات الثلاثة: إيلي وآلتاي وتشوشك.

وعندما قدمت القوات لاحتلال آلتاي برز الجنرال عثمان باتور برجاله وتصدى للقوات وبدأت الحرب..

كان العدو أكثر عدد وعدة، ومن ثم لجأ الجنرال عثمان باتور إلى منطقة غوجن واعتصم بالجبال المنيعة هناك.

عقب المعركة جاء منصور درغا يعرج، نظرت إليه وبكيت:

- ماذا جرى؟

قال في سخرية مرة:

- في كل مرة أفقد شيئا عزيزا علي، يوما ما فقدت ذراعي، ومرة فقد زوجتي الحبيبة، في أيام السلام القصيرة تزوجت أرملة في آلتاي، ترى ما مصيرها الآن؟ وقد أصيبت ساقي اليمنى برصاصة، مع أني ما زلت أحمل السلاح الذي عاونونا به... ما هذا العجب الذي نراه في دنيانا الغريبة؟

وارتمى إلى جواري يلهث، أخذ الماء وكأنه لم يشرب منذ أسبوع، ثم انحنى على ضمادة ساقه وأخذ يعيد إحكامه وينقي عنها الغبار والطين..

ثم تطلع إلى الأفق الدامي عند غروب الشمس وقال:

- كلما نظرت إلى الأصيل تذكرت الآخرة، الأصيل يوحي إلي بالنهاية...

- لم هذه الأحزان يا منصور؟

- تستطيع أن تطلق علي من الآن فصاعدا المهزوم..

ثم أخذ يغني أغنية شعبية تركستانية قديمة:

الليل يا حبيبتي مرصع بالنجوم..

ينوح كالأسير في غياهب الوجوم..

كوجه غانية..

سوداء قاتمة..

من ساحل العبيد..

حليها رخيصة..

لكنها تضئ..

عيناي لم تزالا تهمسان بالنشيد...

بوجهك المضئ..

يا حبيبتي لكنما لقاؤنا محال..

فرحتي ترف في مجاهل التلال..



قلت مازحا:

- إن حبيبتك أرملة قد تخطت الأربعين، ولا شك أنها تغط في نوم عميق الآن..

التفت إلي منصور في أسى وقال:

- ألم أقل لك؟ ها قد فعلوها وفصلوا الولايات الثلاث وهم الآن يعيشون في باقي الولايات، يبعثرون نفوذهم في كاشغر وأورومجي، وقنصلياتهم تشتري الرجال، وتخطف الرجال، لقد اشتروا حتى الذهب والفضة فارتفعت الأسعار... أتعلم ذلك؟ إنهم يفسدون الاقتصاد والسياسة والفكر والدين، وذمم المواطنين أيضا.

كانت المنطقة التي لجأنا إليها حصينة حقا، فلم يكن أحد بقادر على مداهمتنا فيها لوعورة مسالكها، وكل مجموعة دفعها العدو إلينا استطعنا أن نبيدها إبادة تامة، وأصبحت لنا اليد الطولى في تنسيق العمليات الجربية، وتنظيم حرب العصابات، وكانت سلطة العدو تحاول جاهدة أن تصدر البيانات الكاذبة.. عثمان باتور قاد عملية بارعة، وزحفنا حشودا ضخمة صوب آلتاي، واستطعنا احتلالها وطردنا العدو وفر أذنابه والخونة، وفرض الجنرال باتور سيطرته على المقاطعة مرة ثانية..

ويومها ابتسم منصور درغا وقال:

- هذا حظ أرملتي الحسناء، أوشكت أن تترمل مرتين.

ودخلنا المدينة وجرت النسوة المحجبات يستقبلن الجنرال بالأغاني وخرج الرجال بالهتافات المدوية، والأطفال بالأناشيد الحماسية، كلما حققنا شيئا من النصر يظهر وجه بلادنا الحقيقي تغمره الفرحة تضئ المآذن وينطلق منها التكبير والتسبيح لله.

أشعر أن آباءنا الأقدمين الفارابي والبيروني والبخاري وابن سينا أشعر وكأنهم يلبسون عمائمهم ويقفون على مشارف الطرق يحيون جهادنا، ويرحبون بمقدمنا..

أشعر أن المجد القديم كله يبعث من جديد، فيمتلئ بالثقة وتفيض روحي بالأمل...



* * *







(16)



تمتم منصور درغا قائلا في حزن:

- نحن كالغريق، يظل يقاوم بذراعيه قوى الموت، ويضرب ويضعف ويدفع الأمواج في وهن، ثم يغوص، وهناك في المجاهل المظلمة في أعماق البحر يودع الحياة في صمت وحزن، آه..يا مصطفى حضرت، نحن هكذا.. أترى سيذكرنا أحد بعد الموت؟

كان منصور درغا يتكلم، ويحاول أن يمثل دور الغريق وهو جالس إلى جواري، ويسبح متوهما بحماس بالغ، ثم ألقى سؤاله الأخير وهو يلهث وكأنه يقاوم الأمواج حقيقة..

ووجدتني أجيبه قائلا:

- ما قيمة أن يكرنا أحد؟

قال والجد يرتسم على وجهه:

- لذلك قيمة كبرى.

- ما هي؟

- إذا نسينا الناس فمعنى ذلك أن القضية الشريفة التي نناضل من أجلها قد ماتت..

وأخذت أهز كتفي وأقول:

- القضايا لا تموت بموت الرجال.

ضحك منصور في سخرية وقال:

- لا قضايا بدون رجال، مات خوجة نياز، ومات الجنرال شريف خان ومات أمير قومول... نحن لسنا أمراء ولا جنرالات، لكن القضية حية، انتظر لا تقاطعني، وماتت زوجتي الأولى، وتزوجت أرملة غيرها، القضية لم تزل حية، لكن وا أسفاه! ما زلنا نقاوم الأمواج، أترى سنبلغ شاطئ الأمان أو ستأتي سفينة النجاة.. أم نلاقي الموت في الأعماق السواد الصامتة؟

ومانت آلتاي في أيدينا وعثمان باتور يعد العدة، ويجند الجنود، والثوار يهرولون إلينا من كل مكان يحتله العدو أو يسيطر عليه الخونة، وأخذ ينضم إلينا التجار الذين أفلسوا والأغنياء الذين سلبهم الفقراء أموالهم، والفقراء الذين يسخرون لشق الطرق أو بناء السكك الحديدية دون أجر سوى أن يأخذوا وجبة طعام، والعلماء الذين أذيقوا العذاب والسخرية ألوانا.

وذات يوم جاؤوا بجنودهم.

هذا ما كان يتوقعه عثمان باتور، جاؤوا هذه المرة بأعداد كبيرة، زحفزا على آلتاي كالسيل الجارف، ومعهم عدد وآلات، وكانت المعركة عنيفة دامية، خسروا كثيرا وخسرنا كثيرا، لكنهم استولوا ثانية على آلتاي، وعدنا مرة ثانية إلى الجبال وشعابها، واتخذنا باريكول قاعدة لانسحابنا، وكان عثمان باتور يقول:

- النضال حتى الموت.

ابتسم منصور درغا، وكانت الدماء ينزف من رأسي، أخذ يضمد لي جراحي ويقول:

- لكأنما نموت موتا بطيئا.

- ألا تؤمن بالبعث؟

طاف منصور بنظراته الساهمة عبر الآفاق البعيدة التي يوشحها السكون البارد، وقال:

- إنني أؤمن بالبعث، لكننا نبعث في الآخرة يا صديقي، وقلوبنا صافية كالنبق الرقراق، لن يبعث معنا حقدنا، إنني أحقد على الأعداء أشد الحقد، عندما يتوارى هذا الحقد، فلسوف أفقد لذة كبرى، إنني ادعو الله أن أبعث حاقدا، هؤلاء الشياطين ارتكبوا من الموبقات ما لا يصدق، آه يا مصطفى.. قد أخذ بعض رجالنا أسرى أثناء إحدى المعارك، أتتذكر؟ ربطوهم في عجلات الدبابات .. أتذكر؟ كانوا يتبارون في تصويب الرصاص إلى آذانهم وعيونهم، أتذكر؟ كانوا يسخرون ويقولون : اشنقوا آخر ثائر بأمعاء آخر جندي، بقد شنقوا بعض العلماء الثوار فعلا بأمعاء أحد جنرالاتنا.. أيمكن أن تسمى هؤلاء بشرا؟

كانت وطأة الهويمة على أنفسنا قاسية، وكان الأصدقاء قد تحالفوا مع الحاكم الصيني الجديد، على استئصال شأفتنا، وأخذنا نتطلع يمنة ويسرة فلا نجد صديقا ولا حليفا، قال عثمان باتور وهو ينظر إلى السماء ويشير بسبابته:

- إنه معنا...

وهتف الرجال المرهقون الذين ينزفون ويتألمون : "الله أكبر".

وقال منصور درغا ذات أصيل:

- سوف نذهب إلى أعماق الجبال، وقد نرجع إلى المدينة أو لا نرجع، ما رأيك في أن نقوم بجولة صغيرة؟ أريد أن أطمئن على زوجتي، وأنت الا تريد أن رؤية ولدك وزوجتك؟

الحقيقة أنني كنت في أشد الشوق إلى رؤية نجمة الليل وطفلي الذي كبر، لكننا مطاردون...ثوار.. وإذا سقطنا في أيدي العدو فمعنى ذلك الموت لا محالة، وهتفت في قلق:

- المدينة تبدو لنا وكأنها حقل من حقول الموت.

- أتخاف الموت يا مصطفى؟ هيا بنا.. سوف نتخفى.. وسنرى الدنيا الجديدة التي شكلها المعتون، في المدينة سنرى الرايات، والشعارات، سنرى المدينة تنشد قصيدة رثاء ووداع، المدن كالبشر يا مصطفى تحزن وتتألم، وتترنم بالشعر، وتلطم خدودها، المدينة كائن حي، كائن بشري... صدقني..

ونخترق الطريق الطويل بلا هويات، أحيانا نلبس زي الرعاة وأحيانا نبدو متسولين نستجدي لقمة العيش، وفي بعض الأوقات نشترك مع عمال الشحن والبناء، أو نشترك في مظاهرة صاخبة تهتف، أو نأخذ دورنا في رجم أحد الثوار الخونة الشرفاء، لكننا لم نكن حريصين أن تسقط أحجارنا عليه، كنا في وسط الضجيج نضرب الأحجار في رؤوس الجنود سواء أكانوا أعداء أو تركستانيين خونة، اختلط الحابل بالنابل وسادت البلاد فوضى من نوع غريب، المصاحف وتفاسير القرآن، وكتب الحديث وخاصة كتاب الإمام البخاري جدنا العظيم وغيرها من كتب الفقه والتوحيد، كثير منه ممزق وملقى في الشوارع، والجنود يشعلون فيه النار ليستدفؤوا من شدة البرد..

وأخيرا وبعد ليال شاقة مضنية وصلنا إلى المنزل الذي تقيم فيه زوجة منصور درغا، كنا قبيل المغرب بقليل، وخل منصور أولا.. ووجدته يضحك بصوت عال كاد يستلقي على قفاه:

- تعال وانظر يا مصطفى.. المرأة خلعت برقع الحياء.

- وسمعتها تقول بصوت يخالطه البكاء:

- لعنة الله على الشياطين! لقد مزقوا قناعي في الشارع وفعلوا ذلك مع كل امرأة تسير محجبة، واختطفوا عباءتي، وأشعلوا فيها النار، بل أمسكوا بثوبي وأعملوا فيه المقص حتى يصير قصيرا، وتصير أكمامه أيضا قصيرة، إنهم يريدون لنا التقدم والحضارة.

كان منظر الأرملة في ثوبها القصير الأسود، وأكماما التي تقترب من إبطها، وشعرها المتهدل، يعطي انطباعا في قلبي لا أنساه، إنه مشهد يضحك ويحزن في نفس الوقت...

وأمسك منصور بزوجته وقال:

- هذه هي تركستان الجديدة.

كانت المرأة تشعر بالخجل، وتبكي ف حرارة، لكن منصور ضمها إليه في حنان وقال:

- لا تحزني يا حبيبتي، لن نبقى هنا طويلا، سنذهب إلى حيث تلبس النساء ما تشاء، وفي الجبل يا حبيبتي لا توجد مصاحف ممزقة، ولا يستطيع أحد أن يدوس صحيح البخاري.

وتركت منصور درغا على أمل اللقاء به في الغد، كنت أشعر بشوق جارف نحن نجمة الليل والطفل الحبيب، الذي يستطيع الآن أن يجري ويلعب ويناديني باسمي.. لكم أحب هذا الولد الجميل المرح..

الليل في المدينة يوحي بالخوف والخطر، والتجول ممنوع حتى الفجر، والمدينة امتلأت بوجوه كثيرة لم تكن فيها من قبل نساء ورجالا وأطفالا، صدق ما سمعناه أن الأعداء يقومون بهجرة واسعة إلى تركستان، وفي نفس الوقت يأخذون مئات اللوف من أبناء تركستان الأصليين، ويهبون بهم إلى بعيد، ويستولون على المنشآت والمتاجر والمزارع، ويبنون للمهاجرين الجدد بيوتا ومؤسسات، وأماكن للدعارة أيضا، قوافل الفتيات الصينيات ملأت البلاد باسم الحرية والتحرر، والكتب الصغيرة بمختلف اللغات تملأ المدارس والأندية والشوارع، إنها كتب خصيصا لبلادنا، وهي تتحدث عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتذكر أبطالا لم نسمع بهم قط، وتصور عثمان باتور وخوجة نياز والرئيس علي خان بصورة اللصوص وقطاع الطرق، وتجعل من الحاكم الجديد التتري المهاجر غلى بلادنا الذي أصبح مكان الرئيس علي، والذي يتغنى بمجدهم تجعل منه البطل القومي محرر الشعب، ورفيق التقدم، وأبا الأحرار ... هذه ليست المدينة التي أعرفها، لا الرجال رجالها، ولا الأطفال أطفالها، وهؤلاء النساء العاريات الكاسيات لسن نساءها...

وأخيرا ذهبت إلى الجهة التي كانت تعيش فيه زوجتي... قلبي الحزين يدق فرحا بلقاء الأم والطفل، عندما انظر إلى وجه نجمة الليل أشعر براحة كبرى، وطرقت الباب طرقات خفيفة، وسمعت وقع خطوات ثقيلة، وعندما فتح الباب كدت أصعق...

- من أنت؟

نظر إلي بعينين محتنقتين، ووجه مكتنز شديد الحمرة، وخصلات من شعر رأسه يخالطها قليل من الشيب، وبقايا حساء تبدو قطراتها عالقة بشاربه الكث، وقال:

- ألا تعرف من أنا؟ الكل يعرفني، أنا زعيم العمال الذين قبضوا على كبار الثوار.

كان واضحا انه جاهل لا يعرف شيئا من التعليم، وعلى الرغم من أنه يتكلم بلغة البلاد إلا أن وجهه كان غريبا، وسحنته كذلك، وهذه الغلظة التي فيه ، ونظرة الكراهية التي تطل من عينيه..

- يبدو أنك أخطأت الطريق.

قالها ثم صفق الباب.

آه.. والدار لو كلمتنا ذات أخبار.. واضح أنه احتلال من نوع صغير.. ودخلني رعب مبهم، أين ذهبت زوجتي وولدي؟ يجب أن اتصرف بروية وهدوء وإلا قبض علي، وعندما أساق إلى سجن أو معتقل فلن أخرج منه طوال حياتي، وبرغم القلق الذي يسيطر على روحي، والثورة العارمة التي تحرق قلبي إلا أني اعتصمت بالصبر والهدوء، وأخذت أتجول في الحي القديم الي بدا نصفه مهدما، فقراء المنطقة يعرفني بعضهم ويعرفون ولدي وزوجتي، وهناك قريب عجوز كان يعمل خادما في مسجد، والحلاق الذي يقع دكانه على ناصية الشارع أعرفه جيدا، إنه يحلق لولدي شعره الذهبي، ليته محتفظ بخصلة من شعره الحبيب، لكن المسجد مغلق، ولا أكاد أرى أحدا من المعارف، وذهبت إلى الحلاق، كان يحلق لأحد الرجال، نظر إلي من طرفه، والتقت عيناي بعينيه، وهممت أن أحييه تحية الود القديم،لكمه سرعان ما أغمض عينيه، لم يكترث لوجودي، وبدا أنه غير راغب في محادثتي، وفكرت، ماذا أفعل، حسنا، فلأجلس على هذا المقعد الخشبي العتيق، وليكن ما يكون، ولاحظت أن الحلاق يسرع في عمله، وأخيرا تقاضى أجره، وانصرف الزبون، وأشار إلي، فقد جلست مكان الرجل الي انصرف.

- ماذا جرى يا عم عبد الخالق؟

- قال وهو يزاول عمله في رأسي الكث:

ما الذي أتى بك إلى هنا؟ إن رجال عثمان باتور إذا قبض عليهم يقتلون فورا، كيف دخلت المدينة؟ يجب أن ترحل بأسرع ما يمكن وإلا فقدت حياتك.

وقلت في سخرية:

- ماذا يجري؟

- لست أدري ولكني حلاق يريد أن يعيش.

- أين ذهبت نجمة الليل؟

- هربت.

- والتفت إليه في دهشة:

- أخذت الطفل وتسللت دون أن اعرف عنها شيئا.

دارت الأرض، المقص يصدر أصواتا سريعة تزيد من توتر أعصابي، وأدرك عبد الخالق ما أعانيه من أحزان وحنق أثار جنوني.

- تصرف بحكمة يا مصطفى، نحن في زمان تعس لا يعرف الرحمة، ولا يعرف الله.

قلت بصوت كالفحيح:

- أين ذهبت زوجتي؟

- يرجح أنها اتخذت طريقها غلى قومول.

- ولماذا قومول بالذات؟

- هذا إذا بلغت قومول سالمة، الأسر تناثرت في كل مكان، البلاد امتت إليها أيدي أسطورية ضخمة تلهو بجماهير الناس وتخلطهم وتعتصرهم، وتبعثرهم يمينا وشمالا، لا أدري ماذا أقول، وكيف أعبر، خير لك أن ترحل عن هذه المقاطعة فقد سقطت نهائيا في أيدي العدو.

- مستحيل.

ساد وجهه الشحوب وارتبك وقال:

- لا ترفع صوتك يا مصطفى، نحن شعب صغير يأتيه البلاء من كل مكان، ويحاصره الرعب من جميع الجهات الأربع، قضيت فترة تحت يدي عبدالخالق، وقبل أن أنصرف من دكانه وضع على صدري شارة العدو وهو يقول:

- هذه الشارة ستوفر عليك الكثير من المتاعب.

انتزعتها من فوق صدري، ثم قذفتها وسط الشعر المتناثر المقصوص وبصقت عليها وسحقتها بحذائي، وانصرفت، أين أذهب؟ أنا في وطني كالغريب، أرض ليست لي، أصدقاء يهربون، وزوجتي غرقت في خضم الأحداث الكبار، فلأعد إلى منصور درغا لأقضي عنده الليلة.

عندما دخلت إلى بيت منصور، وجدته يجلس في ناحية وزوجته في مقابلته، والطعام لم تلمسه يد..

وهشا لمجيئي المباغت، ونظر إلي منصور في حزن فقلت له:

- لم أجد أحدا.

هز رأسه وقال:

- لقد رحلت هي وطفلها إذن؟

- نعم، ولا يدري أحد إلى أين...

- قال منصور وقد اختنق وجهه وارتجف شاربه:

- هذا أفضل.

لم أفهم ماذا يعني، لكنه قال والحسرة تتقطع قلبه:

- ألا تدري؟ لقد أفلتت زوجتي من الضياع والموت، لكنها دفعت الثمن.

- أي ثمن؟

- كانت تستضيف الأعداء، هل فهمت؟ لقد حضروا.. رأيتهم يدخلوان البيت سكارى.. هل فهمت؟

- أنا اختبأت كالفأر المذعور في أحد الأركان حتىلا يقتلني أحدهم، وهي.. هي .. زوجتي أخذت تمازحهم وتقبلهم، . من أجلي.. هكذا قالت.. تكلمي أيتها المومس الفاضلة؟

قالت وهي تتشنج عاليا:

- أردت أن اموت، لكني جبنت، اغتصبوني عنوة.. لم أكن أعرف لي مكانا آوي إليه، لماذا لا تأخذني إليك يا ربي؟ ارحمني يا منصور، إنهم فعلوا نفس الشيء ببنات العلماء الكبراء وزوجاتهم، إنني لا أتصور أنني أرى الحقيقة، يخيل إلي دائما أني أحلم.

وقال منصور درغا والدموع تبلل أهدابه، ولكنه كان يحاول أن يمزح زاحا مرعبا:

- حسنا سوف نقضي ليلتنا هنا كضيوف شرفاء، لديك أبتها المومس الفاضلة، غدا نرحل، أنت طالق... وأنت...ماذا أقول؟ على من يقع اللوم؟

وتطلع إلى الأرض والسماء وإلي، ثم أخذ يقهقه كمجنون.





***







(17)





غمغم منصور درغا ونحن في الطريق العام:

- فكرت في أن أضع حدا لحياتي، لكني رأيت الانتحار جبنا وهروبا، وهو يتنافى مع ما تعلمناه من قواعد ديننا الحنيف، لقد آلمني يا مصطفى أن أفقد المعركة... وشرفي.. في وقت واحد، تصاغرت أمام نفسي، خيل إلي أنني مسئول مسئولية مباشرة عن كل ما حدث، أنا وحدي المسئول.. هكذا يبدو لي..

كان منصور في حالة من البؤس يرثى لها، وكنت مقدرا لنا يرزح تحته من أعباء نفسية قاسية، أن كل شيء أمامه ينهار .. الثورة... الرجال الشرفاء.. المآذن والقباب، القيم الإسلامية التي عاش في ظلها، امرأته تتحول إلى مومس على الرغم منها، ومع أن آلامي وأحزاني كانت لا تقل عنه بشاعة إلا أنني قلت:

- إنك تحمل نفسك فوق ما تطيق، من أنت حتى تكون مسئولا عن كل ما جرى في هذه الأيام العصيبة؟ من أنت حتى تتصدى للأعداء؟ أنت فرد ضعيف يا منصور، وقد اديت واجبك.

تأوه وعيناه تحملقان في الطريق الواسع الطويل، وقال:

- واجبي؟ ها هنا.. الواجب في أعناقنا حتى نموت.. ما مت حيا فلا بد أن نفعل شيئا، ويوم أن تشعر أنك يئست وأنه لا جدوى من أي عمل تعمله فقد خنت الأمانة.

أدركت أن مأساة زوجته تؤثر فيه أيما تأثير فقلت:

- النساء كثيرات.

ضحك في هستيرية وقال:

- وطننا قد انتهك شرفه، لا أدري كيف نعيش ونأكل وننام وننجب الأطفال.

ووجدنا من بعيد حشدا هائلا من الناس في أيديهم المعاول والفؤوس، ورجال الشرطة يروحون ويجيئون، وسألنا أحد المارة قائلين:

- ما هذا؟

- الأعداء يريدون أن يستولوا على المسجد ويحيلوه إلى مخزن لبعض المواد الخام، وشيخ المسجد يقف بالباب معترضا، أخذوه ثم ربطوه في شجرة مقابلة للمسجد وهم الآن يسخرون منه، ويبصقون عليه ويضربونه بأفرع الأشجار، والدماء تسيل من جسده...

وتوقفنا عن السير، قال منصور:

- لماذا توقفت؟

- يجب أن ننطلق إلى طريق آخر.

ضحك منصور ضحكة مخيفة وقال:

- معي سلاحي وذخيرتي، ولن تستطيع قوة أن تمنعني من المضي في طريقي إلى الأمام.

كان يخفي غدارته، وكمية من الطلقات تحت معطفه الرث، وقبل أن أنتبه لما سيفعله، وجدته يجري ثم يقصد المسجد من الخلف ويختفي، أخذت أتابعه كي ألحق به لكني لم أجده، وبينما كان الشبيبة يضربون شيخ المسجد ويقهقهون ويسخرون انطلقت بضع رصاصات وقع ثلاثة من الشبيبة على أثرها على الأرض ينزفون إلى جوار الشيخ المربوط وصاح الشيخ المظلوم:

- الله أكبر.. هذا هو انتقام الله.

واتجه الناس بأبصارهم إلى أعلى المسجد، كان منصور درغا يقف بين القبة وقاعدة المئذنة فوق سطح المسجد، ولم أكن أرى سوى رأسه ومدفعه، وسمعته يصيح بأعلى صوته:

- أيها الكلاب.. هذا بيت الله! ولن تطأه أقدامكم النجسة .

غاص قلبي في داخلي، ودهمني خوف شديد، إن منصور يقف الآن بين يدي الموت، ويعرض نفسه لكارثة محققة، ولم أدر ماذا أفعل، وتوالت طلقاته، فأصيب عدد كبير من الشبيبة بالجراح، وتنبه رجال الشرطة ونفر من الحزب وصاحوا:

-خائن...خائن.. رجعي...رجعي..

وانصب الرصاص صوب القبة والمئذنة، وساد صمت وانفض خلق كثير ممن كانوا يقفون متفرجين، وبعد دقائق ظهرت رأس منصور درغا ثانية وأخذ يصيح:

- لن تدخلوا المسجد إلا على جثتي، هذا بيت الله أيها الأوغاد.

وعاد تبادل الرصاص من جديد، وسقط عدد آخر من المهاجمين وأخذ بعضهم يقذف بالقنابل اليدوية، فتعالى الدخان من فوق المسجد مع دوي الانفجار، إن منصور ميت لا محالة، وبعد فترة ستأتي النجدة، إنه يخوض معركة بائسة، ترى لماذا فعل ذلك؟

إن عشرات المساجد ق استولى عليها الأعداء، وتصديه لهم في هذا المكان لن يغير من الواقع المرير شيئا، ورأيت في عيون الناس في الشارع سعادة تترقرق في أعينهم، إنهم فخورون بالرجل الذي يقف خلف القبة مدافعا عن بيت الله، وفي دقائق امتلأ المكان مرة أخرى وأخذ المشاهدون يرشقون الأعداء بالأحجار والحصى واللعنات واندلعت في المكان ثورة صغيرة من أجل بيت الله..

فلم يجد الأعداء مناصا من الانسحاب، ووقف منصور لدى مقصورة صغيرة في المئذنة وأخذ ينادي بأعلى صوته: الله أكبر.. الله أكبر.. الصلاة جامعة... الصلاة جامعة..

فرأيت الموع في عيون التعساء المظلومين، ورأيت إمام المسجد يتحرر من الشجرة التي ربط فيها، ويرتدي ملابسه، ثم يقصد الماء ليتوضأ ، ونزل منصور إلى جوار المنبر وقال:

أيها الناس! لعلها صلاة الوداع.. مع ذلك فلا تتخلوا عن بيت من بيوت الله.. دافعوا عن كل شبر، كل حجر فيه.. إنه يمثل المعنى الكبير، المعنى الإلهي الذي عشنا في ظل عقيدته منذ مئات السنين، فلنصل ركعتين لله..

كان بعض المسلمين قد استولى على قطع من الأسلحة التي وقعت من أيدي القتلى أو المصابين أو الهاربين، ووجدتني أتناول مدفعا رشاشا وكمية من الذخيرة، ومن بعيد رأيتهم قادمين في سيارات الجيشذات العلامات المميزة.. وانصبت النيران على المسجد وعلى من فيه، وجرت معركة غير متكافئة بين الثوار وبينهم، وقلت لنفسي: إن عثمان باتور ينتظر هناك في باريكول، ورأيت أن أنسحب وبحثت عن منصور درغا، لكني وجدته ملقى على باب المسجد والسلاح في يمينه، ويده قد تدلت إلى جواره غارقة فيبركة الدماء، واقتربت منه، فإذا هو قد مات، وإلى جواره عدد غير قليل ممن أصابتهم الرصاصات القاتلة، وكان إمام المسجد الآخر لقي حتفه ولحيته البيضاء مصبوغة بالدماء... وأسرعت بالرحيل..

كان رحمه الله يؤمن بأن الواجب باق في عنقه حتى الموت.. وقد استشهد على عتبة المسجد، ضرب الخونة في وضح النهار وفي عقر تمركزهم، وتحرك الناس من حوله، لقد مات سعيدا دون شك، كان الطريق إلى قومول مغلفا بالأخطار، وكان الناس يتحدثون عن حادثة المسجد، وعن غدر العدو، وعن الانتخابات التي حاولوا تزييفها فأتت بالرغم من تزييفهم في صالح الشعب، فعمدوا إلى الخديعة والاغتيالات وراح الأحرار في السجون ، كل شيء يعرفه الشعب، والأكاذيب التي تنطلق في الصحف معروفة جيدا، والترهات والزيف يسود صفحات الصحف اليومية، كل هذا لا يخفى على أحد، وحفلات التكريم التي يقيمها العدو، والخطباء المفوهون والشعارات التي تلصق على الجدران، كلها تعبر عن وجه الزيف والاحتلال المكشوف والمقنع الذي اشترك فيه الأعداء...

أصبحت الولايات الثلاث: إيلي وآلتاي وتشوشك تحت سيطرة الأعداء، أما باقي الولايات السبع التي يحكمها أحد الخونة فقد أعلن هذا الخائن انضمام تركستان الشرقية للصين، عندئذ تملك الذعر الأهالي، وباتوا فكأنما في كل بيت مأتم، وأخذوا يستشرفون مستقبلا أشد حلكة وسوادا محفوفا بمزيد من الأخطار والمكاره...

وبدخول القوات الصينية مرة أخرى، أدرك الناس أن ذلك سوف يتيح فرصة أخرى للتنكيل والمظالم فما زالت الذكريات المزعجة تطوف بأذهانهم، قرر الثوار أن تستمر المقاومة بقيادة عثمان باتور، وأن تتوجه فئة أخرى للخارج بقيادة الزعيم محمد أمين بغرا نائب الحاكم العام السابق لإبلاغ العالم اعتداء الصين على التركستان، وطلب المساعدة، وخرج الوفد، ووصلوا إلىمدينة لاداخ التابعة لكشمير، وبصحبتهم عدد قليل يقل عن ربع العدد الأصلي، أما الثلاثة أرباع فقد لقوا الله شهداء في الاشتباكات الدامية على الحدود مع الجيش الصيني، وبسبب الجوع والبرد الشديد والاختناق، وبعض الأحياء تجمدت أطرافهم، إذ استغرقت سيرهم شهرين كاملين بين الطرق الثلجية القاسية والممرات الجبيلة الوعرة، وكان عليهم عبور خمسة أنهار، وعبروها مائتي مرة لعدم استقامة الطريق، والتواء المجاري، وتسلق قمم الجبال الشاهقة، حيث يقل الأوكسجين مما جعل الدم يسيل من أنوفهم، ومن خياشيم الدواب، وأخيرا وصل عدد قليل منهم إلى مدينة سريناجر عاصمة كشمير، كانت هذه الرحلة صورة مجسمة للعناء الذي لا مثيل له، العناء الذي لقيه شعبنا المسلم في سبيل الحفاظ على دينه وحريته واستقلاله..

أما انا فلم أستطع الاهتداء في قومول على نجمة الليل أو الطفل، وبدت لي قومول كالأرض الخراب التي تنضح بالمرارة والأحزان والعذاب..

كان الناس في كر وفر، وأغلب الأسر يهربون إلى الجبالأو الحدود بحثا عن مكان ىمن لا يلحقهم فيه العدو..

واتخذت طريقي إلى باريكول حيث يهسكر عثمان باتور وعشرين ألفا من رجاله الثوار بين الجبال المنيعة، وها أنا ذا أعود وحدي بعد أن تركت منصور درغا نائما نومته الأبدية على عتبة المسجد، ليروي ثراها بدمائه الزكية، في أعنف معنى لمعاني الرفض الجبار الذي يواجه الموع والسلاح والمبادئ الممرة التي تمتلك أنواع الدمار والفساد..

ولأول مرة بعد الرحلة الشاقة المضنية عبر بلادي الحبيبة أشعر بشيء من الاطمئنان، إن أحضان الجبل توحي بالسكينة والرضا، وهنا أتنسم الهواء النظيف، وأهتف من أعماق قلبي بالتسبيح والدعاء لله، ونتدرب على الأسلحة المتطورة التي جاءتنا، لكنها على الأغلي أسلحة يدوية لا تتفق وما يمله العدو من طائرات ودبابات وغيرها..

لكم كان يحلو لي أن أرى نجمة الليل، وأرى ولدي الذي كبر ونما، وأتحدث معه وألاعبه وأعلمه الرماية، آه يا قلبي، حسبتك تشبه جلمود الصخور ولا ترتجف لذكرى الأحباب ، ولا تحن لأيام اللقاء الأسري الشذي العامر بكل النعاني الحلوة .. لكنك يا قلبي من لحم وم.. ما ذنبي وما ذنبك؟ إنني أشرد ببصري إلى لآفاق الممتد إلى معيد، وأتخيل ملايين البشر في الحقول والغابات والمراعي والمصانع والجيوش، وأتأمل بخيالي وجوههم باحثا عن ولدي الوحيد.. أين أنت يا ولدي؟

وتتساقط الدموع من عيني، ويخفق قلبي خفقة اللوعة والشوق في ظل السنوات الطوال التي ينوء تحتها جسدي المنهوك..وكلمتا رأيت طفلا قبلته بنظراتي اللهفى، وأخذت أتابعه حتى يختفي، وكثيرا ما أجري خلفه، وأقدم له بعض الفواكه الطازجة، وأسأله عن فتى صغير اسمه نياز مصطفى مراد حضرت، وعن أمه نجمة الليل... آه... يا قلبي.. لشد ما تعذبني بأوهامك وذكرياتك وأشواقك الملتهبة التي لا يطفئها برد الجبال ولا تجور عليها أحداث الزمان ولا تصرفك عنها المعارك الدامية، ولم يكن عثمان باتور رجلا سائجا غير مدرك لواقع الأمور، ومجريات الأحداث، فقد كان قائدا بطلا محنكا، كان يعلم أن العشرين ألف جندي الذين يعتصمون معه بالجبال لا يستطيعون وحدهم أن يتصدوا لملايين الأعداء، لكن ثقته الكبرى كانت تتركز حول عدة معاني أهمها أن تبقى الثورة حية ومستمرة في جهادها الأسملا، وأن الشعب الذي يعيش خلف أسوار الكبت والقهر والمظالم يتلقف الأنباء عن ثورته الدائمة، بالتالي فسوف يشعل الثورة هو الآخر، ويجعل من بقاء المستعمرين جحيما لا يطاق، واستمرار الجهاد سيحرك العالم لنصرة قضايا الشعوب المظلومة..

وفوق هذا وذاك فإن الاستسلام للهزيمة أمر لم يرد على ذهن عثمان باتور ورجاله، كان يقول دائما في كل مناسبة:

- هذا قدرنا... وقد كتب علينا ألا نضع السلاح ما دمنا أحياء.. وخير لنا أن نلقى الله من أن نرضخ لحكم الأعداء، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله،

وقد توجس المستعمرون شرا من الثوار، فأرسلوا وفدا من عملائهم إلى باريكول يدعو الوطنيين إلى الكف عن القيام بالهجوم ضد الحكومة الشعبية، كما تدعوهم للحضور إلى أورومجي عاصمة البلاد لعرض مطالبهم على المسئولين.

قال عثمان باتور:

- إن ذهاب القادة إلى أورومجي يحمل في طياته خطرا كبيرا، حسنا.. نحن لا نأمن مكر الأعداء، اذهبوا إليهم في أورومجي وأعلنوا مطالبنا، ألا وهي ضمان الحريات، حرية الرأي والعبادة، والكف عن الاعتقالات، والكف عن مصادرة الممتلكات الفردية، وأن مصير الأمة يتقرر بنفسها دون تدخل من أحد..

لم يكن عثمان باتور يجهل ألاعيب الأعداء ومخططاتهم، ولهذا كنا نستعد ليل نهار للمعركة الفاصلة، ولم يعد الوفد الذي ذهب إلى أورومجي بأية نتيجة، وكنت إلى جوار الجنرال في مسيرة قصيرة لتفقد مواقع الجبل، وسمعته يغمغم:

- على الأندلس السلام..

- إنها مشيئة الله...

- أفمر كثيرا لماذا لا يعيش البشر في سلام؟

- وضحك ضحكة حزينة وقال:

أرض الصين شاسعة، والبشر هناك كالنمل، لماذا يطمعون في ثروتنا وأرضنا، هل نسوا ما عانوه على أيدي الطغاة؟ الإنسان لا يتعظ، وسادت فترة صمت قال بعدها:

- تعلمت من بين سطور القرآن أن أعيش حرا، وأن أموت مكافحا عن شرف العقيدة.

- الحياة هنا قصيرة.. ما أروع حياة الأبد، ولهذا كانت إرادة الله أن تكون الآخرة هي دار المقام والخلود، أعجب إذ تتصارع الدول والأفراد في سبيل متعة تافهة محدودة بآجال قصيرة، ولهذا ترى الموت في سبيل الله حياة.

وتطلع حواليه وهو يمسح على لحيته وشاربه الطويل وقال:

- آمنت بالله، العالم اليوم لا يعبد الله، العالم يسجد للقوة والرعب، هذا عالم العبيد، سواء الذين هزموا في برلين أو الذين انتصروا في لندن وباريس وأمريكا..



***







(18)







كل شيء من حولنا يتبدل ويتغير بسرعة، الناس والأشياء والأسلحة والمواقف وخريطة العالم، كثير من أولادنا ذابوا في خضم الهزيمة، أخذوا يلوون ألسنتهم بكلمات جديدة، وشعارات رنانة، والبنات- يا إلهي!- خرجن إلى الشوارع سافرات... تيار كاسح من المغالطات والفضائح والانحرافات يجرف كل شيء أمامه باسم التقدم، ألا يمكن أن يتقدم الناس ويتحضروا ون أن تتحيفهم المظالم، أو تسحق حرياتهم أو يساقوا سوقا كما تساق العبيد؟ ألكي يتعلموا لا بد أن يكفروا؟ لماذا لا يمشي التقدم معانقا العدالة والحرية، ولماذا لا يسير العالم يدا في يد ع الإيمان بخالق الكائنات، ولماذا لا تحدث نهضة دون أن تعري النساء أجساهن ودون أن يكثر البغايا والعابثات؟ لماذا لا تتصادق الشعوب دون أن يحاول شعب إفناء شعب آخر أو تبديده واكتساحه بالهجرة من ألوان وأجناس اخرى؟ إن ما أراه في تلك الأيام يبدو لي وكأنه من صنع الشياطين، وكنت أردد من آن لآخر لأصدقائي المحاربين أن الطهر والنقاء الثوري كل هذا يتعلق على سفوح الجبال، وكنت أنظر غلى عثمان باتور الجنرال المؤمن فيخيل إلي أنه بقية السلف الصالح.

إن هذا الرجل تتجمع فيه المعاني العريقة لجيل ينقرض، لحضارة طويلة فاضت بالخير والنبل والصفاء، وأنا وراء هذا الرجل حتى الموت، ودارت المعارك حامية الوطيس بين رجالنا والقوات الصينية المسلحة بأحدث الأسلحة، وانتصرنا في سلسلة من المعارك، ولكن هل كان انتصارنا سهلا؟... لا.. فإن مدد العدو لا ينفد وكان رجالنا دائما يتناقصون، كنا ننتصر بالتضحية التي لا مثيل لها، ويغمغم الجنرال عثمان باتور:

- رجالنا يتقمون ويندفعون إلى الموت.

- رجالنا يتقمون ويندفعون إلى الموت.

- سيدي الجنرال.. إنهم يعرفون ما يجب عمله..

- الملحة التي يسطرونها يا مصطفى حضرت بمائهم ملحمة خالدة، لكني علمت اليوم من طلائعنا المتقمة أن العدو يجهز ليوم رهيب، ولم تمر إلا أيام قليلة، وفؤجئنا بالحشد الصيني الذي توقعه عثمان باتور، وظلت المعركة محتدمة الأوار ثلاثة أشهر كاملة، وقررنا الانسحاب نحو ولاية شينهاي الصينية لجمع الشمل وجعلها مركزا للهجوم على القوات المعادية، لكن الطريق إلى شينهاي لم يكن معبدا سهلا، فقد كان الموت يترصدنا في كل جانب، وتزعف علينا أكثر من عشرة آلاف جندي صيني من مدينة "آن سي شا" الصينية إحدى مدن "قانصو" وقد سيطر علينا شعور بالتفاني، وكأننا باندفاعنا الدامي مع العدو نريد الموت، أو نهرب إليه من المصير المحتوم، وتمكنا أخيرا من الوصول إلى مدينة ماخاي التابعة لولاية شينهاي.. كنا نريد أن نستريح بعض الوقت ونلتقط أنفاسنا.. وكنت أنا شخصيا أحاول البحث عن نجمة الليل وولدي...وكانت أمنيتي أن أراها قبل أن أموت، قد يرى البعض أنها أمنية تافهة في مثل هذه الأوقات العصيبة، وقد يرميني البعض بالأنانية لأنني أفكر في زوجتي وولدي على هذه الصورة والوطن برمته متعرض للضياع والفناء... أنا لا أكترث لما يقوله البعض، فقد تعلمت الصدق مع نفسي... وأنا بشر تعرف الدموع طريقها إلى عينيه، ويعرف الخفقان سبيله إلى قلبي..

- المطاردة لم تخفت حدتها، هناك الآلاف يزحفون نحونا من مدينة "دون خان" إحدى مدن ولاية "قانصو"، وهناك آلاف آخرون يزحفون صوبنا من مدينة "شر خلق" المتاخمة لحود الصين..

وقال الجنرال عثمان باتور:

- "الليل يزحف على "ماخاي" أيها الأصدقاء.. يا من فضلتم الموت على الحياة، الذئاب تسد مسالك الطريق يا شهداء العدوان، وأرى الرايات قد لونت الأفق، في كل يوم يسوق الجزارون خرافا للذبح، هم لا يفرقون بين الخراف والبشر، والطريق الذي قطعناه أيها الرفاق من "باريكول" أو من الجبل إلى هنا، ترصفه عظام الأحرار، وترويه ماؤهم الزكية، يا طول الرحلة المرهقة!! وكثير من النساء والأطفال يفرون في كل اتجاه يبحثون عنا.. عن ذويهم.. وإذاعة أورومجي أيها الأصدقاء تردد الأناشيد الحماسية للأعداء وتسمم الأفكار، وأبناء شعبي المسجونون في الشوارع والبيوت ومصانع السخرة والمساقون إلى الحدود والمنفى وساحات الإعدام يتمتمون بأصوات خافتة، يجأرون إلى الله، ويردون ترانيم الموت، هؤلاء الشهداء الأحياء أتعس مصيرا من الذين يموتون في المعركة، أيها الأصدقاء سندخل المعركة، ومن يبقى منكم حيا فليحمل قصة جهادنا وعذابنا الطويل للأمم المسلمة النائمة في الجنوب وفي الشرق والمغرب العربي.. وفي إندونيسيا والهند وباكستان،.. وقولوا لهم إن الأندلس الثانية قد سقطت في قبضة عدو الله والإنسان.. ومن يدري لعل المسلمين يتيقظون في يوم من الأيام ويجمعون شتاتهم، وتكون لهم معركة كبرى ينتصرون فيها لله... قولوا للمسلمين في أطراف الأرض لا تصدقوا صحف العدو، ولا تثقوا في تاريخه وفلسفته ودعوته".

وتطلع عثمان باتور إلى السماء، واتجه صوب القبلة ودعانا للصلاة..

وفي اليوم التالي اندفعت جموع الأعداء صوبنا من كل حدب..

واحتدمت المعركة... واندمجنا في المعركة الأخيرة بكل ما ملك من إحساس وقوة وإيمان وانتهى كل شيء..

سقط الجنرال عثمان باتور في يد الأعداء... وشهته من فوق شرف عال يسير مرفوع الرأس، كان الأعداء يجبون أكمامه، وغطاء رأسه ومعطفه، ويداعبونه مداعبات الموت، لكنه كان صامدا يتطلع إليهم في أنفة، أو يركلهم في ازدراء..

تفرق المحاربون –أو البقية الباقية منهم- في كل اتجاه.. ثم كانت وجهة كل واحد منهم صوب الحدود أملا في الوصول إلى كشمير، وسيق الجنرال عثمان باتور إلى ساحة الإعدام.. كما سيق تسعون ألفا من التركستانيين والصينيين تحت تهديد السلاح ليشهدوا نهاية البطل.. ومات البطل عثمان باتور..

كنت مندسا بين الصفوف لا يعرفني أحد، فقد ارتديت ملابس محاربي مدينة "دون خان" إمعانا في التخفي، كنت أنظر إلى البطل الشهيد وأنا أضحك في هيستريا، وعيناي مبللتان بالدموع، وأصرخ كالمجنون: يحيا العدل!

وفي الليل الأسود القاسي القلب توجهت إلى إلى الطريق.. طريق الهاربين من الجحيم، وبعد ليال قاسية مضنية بلغت حدود كشمير.. ووجدت بقية الباقية هناك.. لم يبق من العشرين ألفا سوى ثلاثمائة... لأن العدو طوال الطريق كان يناوش الفارين وينقض عليهم، ويطاردهم بنيرانه في معارك سنكرس وكتساو وغيرهما من مدن التيبت، وخسر العدو خسائر فادحة، وأخيرا تبقى منا عند الحدود حوالي الثلاثمائة.. وخلوا كشمير.. وتوافد علينا خلق كثير من المهاجرين التركستانيين، واختلط الجميع.. كنت في أمس الحاجة إلى النوم، لم أستطع المقاومة .. وأغفيت.. ولا أدري هل طال الوقت أم قصر.. لكني تيقظت قبيل المغرب على يد حانية تهزني برفق، وفتحت عيني...

هل أنا في حلم أم يقظة.. يا إلهي! ها هي نجمة الليل ترتدي زيا مشابها لزي نساء كشمير.. وطفلي الكبير إلى جوارها ، إنني أعرفه جيدا .. هذا الفتى الجميل الذي أظهرت الشمس بشرته الشقراء..وأخذت أتحسس رأس الطفل، وأربت على وجه نمة الليل، والدموع تملأ عيني، لم أستطع الكلام فقد خنقتني الدموع، وزوجتي هي الأخرى كانت تنتفض من الانفعال، وتضمني إلى صدرها، وولدي يطوقني بكلتا يديه...

- لم أكن أتصور أن تنجو من الموت يا مصطفى.. إن الشيب قد صبغ شعرك والتجاعيد ملأت وجهك.. لكأنما مر على فراقنا مائة عام..

قبلت الطفل في حنان، وهمست بنرات راعشة:

- لكم يحزنني أن أترك شعبي المسلم السجين خلف الحدود يقتسمه الأعداء..

وهمست نجمة الليل وقد ازداد وجهها شحوبا، واكتسى بحزن وقور:

- إن أمنيتي أن نرحل إلى بيت الله الحرام.. ولنعش في مكة أو المدينة..

وتطلعت عبر الآفاق المعتمة ورائي، وتذكرت منصور درغا الذي مات على باب المسجد، وتذكرت الرفاق المؤمنين الذين قضوا حياتهم وراء القضبان، ثم الشهداء الذين سقطوا حول الجنرال عثمان باتور، ويوم المشهد العظيم حينما ساقوا الجنرال إلى ساة الموت..

وغمغمت:

- سوف نسير إلى بيت الله الحرام.. إن قطرات من ماء زمزم قد ترد روح الضائعين والمتعبين.. إني أتخيل وأنا أصرخ في جموع الحجيج مبشرا بيوم الخلاص.. وكأني بملايين المسلمين يشقون الأكفان، وينطلقون تحت راية التوحيد ليحرروا من جديد ملايين العبيد..

تلك هي قصتي...



انتهى.







ليالي تركستان









د. نجيب الكيلاني

















بسم الله الرحمن الرحيم



شخصيات الرواية



-خوجة نياز حاجي.

-الأمير.

-نجمة الليل.

-مصطفى مراد حضرت... (تورسون اسم مستعار له).

-منصور درغا.

- جين شو رين (الحاكم الصيني).

-قائد قومول الصيني.



شخصيات ثانوية:

-خاتون.

- صن لي

-الجنرال شريف خان.

- شين سي ساي: قائد صيني قام بانقلاب ضد الحاكم الصيني جين شو رين.

- السيد حاجي مدير عام المخابرات المركزية.

- باودين ضابط صيني مستعمر له علاقة بنجمة الليل.

-الجنرال عثمان باتور. قائد الثوار في مرحلة من مراحل الجهاد التركستاني.



المدينة المقدسة تكتظ بحجاج بيت الله الحرام، وحول الحرم المكي خلق كثيرون من شتى الأجناس والألوان، السود القادمون من إفريقيا، والبيض القادمون من أوربا وأمريكا، والوجوه الصفراء المميزة التي أتت من أقاصي آسيا، والعرب والعجم كلهم يسيرون في مواكب متدفقة يهللون ويكبرون، ويطوفون بالبيت العتيق، أو يهرولون بين الصفا والمروة، أو يصلون في مقام إبراهيم، ويتسابقون لشرب قطرات من ماء زمزم، هنا في هذه البؤرة المقدسة يلتقي الناس إخوة من كل فج وصوب، تباينت لغاتهم واختلفت ألوانهم، لكن شيئا واحدا يجمعهم... الإيمان بالله ورسوله وكتابه...

وبعد أن أديت صلاة الظهر... اتجهت إلى البيت الذي إقيم فيه بمكة المكرمة، وفي طريقي دلفت إلى بعض الأزقة.. هناك تباع المسابح والسجاجيد الصغيرة للصلاة، والطواقي المزخرفة والأدعية الشريفة، وجلست في حانوت صغير، نظرت إلى وجه التاجر الذي يبدو أنه قد تخطى السبعين من عمره، لم يكن عربيا... هذا واصح من ملامحه ولون وجهه، ولكنه خاصة في كلامه، قلت وأنا أمسك بين أناملي بعدد من المسابح الجميلة:

- من أي البلاد أنت؟

سدد إلي نظرات يوشيها الحزن والأسى وقال:

- من بلاد الله الواسعة...

- أعرف... فأي هذه البلاد تقصد؟

- من تركستان.

فكرت قليلاُ ثم قلت:

- أهي بلاد ملحقة بتركيا؟؟؟

وعلت ابتسامته الساخرة ظلال كآبة وقال:

- المسلمون لا يعرفون بلادهم، ما هي صناعتك؟

- طبيب من مصر.

- أفي بلاد الأزهر الشريف ولا تعرف تركستان؟؟؟ حسناً... لا شك أنك تعرف الإمام البخاري والفيلسوف الرئيس ابن سينا والفارابي، والعالم الجهبذ البيروني.

- إنني أعرفهم...

- هم من بلادي...

وشرح لي الرجل واسمه "مصطفى مراد حضرت" ما هي التركستان، وأخبرني أن التركستان تقع في أقصى الشمال، وأنها قد انقسمت بفعل الاستعمار إلى تركستان شرقية وأخرى غربية، وأن الروس قد احتلوا تركستان الغربية وضموها إلى اتحاد الجمهوريات السوفيتي، وأن تركستان الشرقية قد احتلها الصينيون من قديم، وضموها إليهم وسموها سنكيانغ – أي الأرض الجديدة – وأن الشيوعية قد نشرت جناحيها على تركستان شرقها وغربها... وهكذا ضاعت بلاد إسلامية كانت من أعظم بلاد الله حضارة وتاريخا ومجدا... إنها الأندلس الثانية... عيب المسلمين أنهم لا يعرفون تاريخهم، ولا يدرون إلا القليل عن بلادهم...

هكذا كان يقول، ولحيته البيضاء ترتجف...

ثم التفت صوبي قائلا:

- أتريد أن تشرب الشاي؟

- لا مانع.. لكني أريد القصة من أولها...

قال وهو يتناول أقداح الشاي من فتى صغير، لعله حفيده:

- "القصة تشكل مأساة طويلة.. الحجاج يأتون كل عام إلى مكة، ويؤدون المشاعر، ثم يعودون أدراجهم من حيث أتوا... هل فرض الحج على المسلمين لكي يأتوا ويعودوا؟؟؟

لا أظن ذلك،.. من مبلغ عني كل زائر لهذه الديار المقدسة قصة الشعب المسلم التعس الذي سقط بين قسوة المنجل والمطرقة؟ حسنا.. يمكننا أن نلتقي في المساء.. سأحضر لك بعض الكتب، سأحدثك عن قصتي الطويلة، أنا هنا.. وعيناي معلقتان بالأرض الخضراء بالجبل السماوي" جبل تيان شان"..

بجبال "بامير" الواقعة بين حدود باكستان وتركستان.. بالنساء اللاتي نزعن البراقع من فوق وجوههن.. بالشباب المعذب المخدر الذي يساق إلى معاهد العلم الجديدة هناك ليتعلم الإلحاد.. ويسقى الأكاذيب والترهات، حتى ينسى تاريخه وإسلامه.. بالمآذن والقباب.. بالجموع التي تزحف في أطراف سيبيريا يحرقها الهوان والعذاب واللعنات الظالمة... أنا من تركستان الشرقية... وإليك القصة من بدايتها..."











(1)



نحن الآن في عام 1930م، أعيش في مقاطعة (قومول) وكانت الصين قد احتلت هذه المقاطعة في نفس العام، وبعد الاحتلال أصبح القائد الصيني للمنطقة هو الحاكم بأمره، كل شيء يجري على هواه، والحسرة تملأ النفوس وتطل من العيون الحزينة، وأمير قومول المسكين يعيش في قصره لا يتمتع إلا بسلطة اسمية كنت أرى بعيني رأسي أفواج الصينيين تتدفق إلى الولاية.. أعني مقاطعة قومول.

وحكومتهم تمدهم بالأموال المنهوبة كي يشتروا الأرض، ويقيموا البيوت وينشئوا المتاجر، كان عمري إذ ذاك حوالي خمسة وعشرين عاما..حفظت القرآن في المسجد وتعلمت القراءة والكتابة باللغة العربية، وبلغة البلاد، وأنا أعرف الصينية أيضا.. نحن نجاور الصين، ويمكنني في الوقت نفسه أن أتحدث بلغة أهل منغوليا القريبة منا، والواقعة تحت سيطرة الروس..

هنا عاش جنكيزخان وأولاده..وهنا قصص كثيرة عن البطولات في كل فن ولون...

وفي يوم من الأيام أصدر القائد الصيني منشورا هز البلاد من أقصاها إلى أقصاها..

هذا المنشور يلزم أي تركستاني بأن يزوج ابنته من أي صيني يتقدم لطلب يدها، برغم اختلاف العقيدة..

إن الاحتلال أمر مؤقت قد يزول في يوم من الأيام، والمعركة مع العدو كر وفر..أما أن يدوس العدو مشاعر الناس ويحتقر شرائعهم، ويسخر من دينهم فهذا أمر فوق الطاقة..

استدعى القائد الصيني أمير قومول المسكين ، وقال له :

- أيها الأمير . . لقد عزمت على مصاهرتك أنت بالذات . .

شحب وجه الأمير ، وارتعشت أنامله ، وقال بصوت واهن :

- " أنت تعلم أيها القائد أن هذا مستحيل ".

قهقه القائد في سخرية :

- " أنا لا أعرف المستحيل أيها الأمير ".

- " هذا أمر الله . . "

- " لا دخل للإله في شؤون القلوب . . لقد أحببتها . . "

- " لقد درج الفاتحون على احترام عقيدة أهل البلاد المفتوحة . . "

- " هذه خرافات لا أومن بها "

- " هذا أبشع من الموت أيها القائد "

اكفهر وجه القائد وصرخ :

- "الأمر يخص الأميرة . . اذهب وأخبرها . . وأمامك بضع ساعات للتصرف.."

وخرج الأمير التركستاني ، لا يكاد يعي شيئاً مما حوله، إنها مهانة لا مهانة بعدها ، وبدا القصر لعينيه مقيتاً يوحي بالضيق والعذاب، كيف يقابل زوجته وأولاده ، لم تعد للحياة قيمة ، أيفر إلى الجبال يقتات الأعشاب، ويؤانس الوحوش، حتى لا يرى المأساة بعينيه ؟؟

ما أتعس العاجز المظلوم!! والأمر أشد تعاسة عندما يمس أميرا كان ذا شأن وسلطة ونفوذ لا حد له..

ودخل الأمير قصره . . . السيوف الأثرية تتدلى في عناء ، والبنادق الفارعة فوق الجدران كجثث الشياه المتعفنة ، وتاريخ أجداده نائم في أحضان الصفحات المتراصة التي غلفها الغبار . ..

همست زوجته:

- ما بك؟؟

رفع إليها عينين مبللتين بالدموع وقال:

- إنني أنتظر أمر الله...

لم تفهم شيئا، وقالت:

- أهناك ما يكربك؟ إنني لا أتوسم في هؤلاء الصينيين أي خير..

- إنهم لا يعرفون الرحمة.

- صدقت..

- القائد يريد أن يتزوج ابنتي..

ثم صاح كمجنون:

- تعالي يا بنيتي...أي فتاتي..

ثم مسح دمعة أفلتت من بين أهدابه:

- أميرتي الغالية...الدب الأحمق يريد أن يتزوجك..هذا مستحيل..أتوافقين؟؟

قالت الأميرة الصغيرة وعيناها تدوران في قلق ممتزج بالدهشة:

- ما معنى ذلك يا أبي؟

ضحك الأمير التركستاني ووجهه محتقن كالم نفسه:

- هناك أشياء كثيرة الآن لا معنى لها..الحياة نفسها لا معنى لها..

- لكنني أريده يا أبي..

-هو يريدك..

- عليه اللعنة..

- اللعنة تصيب المهزوم دائما..

- في أي شريعة أو دين يفرض على الفتاة أن تتزوج برغم إرادتها..

- العلاقة يا فتاتي بين الغالب والمغلوب لا تلتفت للمبادئ أو الإرادة الحرة..

ثم تلفت الأمير الحائر حواليه ، شعر أن الجو حواليه خانق ، يكاد يزهق أنفاسه ، كان يعبث بالفرش إلى جواره في عصبية بالغة :

- " أتوافقين ؟ "

- " الموت ولا هذا ! "

- " لماذا ؟ "

- " أمر الله فوق أمر الصينيين! "

وقف ، ثم احتضن الأميرة الصغيرة ، عيونها الجميلة توحي بالحيرة القاتلة ، وجهها النضر كالوردة ينطق بالرعب ، ثم شهقت باكية :

- " لا أتصور يا أبي . . . لا أتصور أن تساق فتاة هكذا . . . السير إلى ساحة الإعدام أسهل بكثير . . "

جفف الأمير أهداب ابنته ، وربّت على شعرها الناعم الأشقر ، ثم لامس خذيها الورديتين في حنان ، ثم وقف ودق الأرض بقدمه صارخاً :

- " لن يكون . . . "

قالت الزوجة بنبرات مرتعشة:

- يجب أن نتدبر الأمر بحكمة..

- أعرف أن لن يرضى الهزيمة..

- وسيتخذ إجراءات مشددة بالتأكيد..أنت تعرف القادة الصينيين جيدا..

- آخر مدى يصل إليه ما هو؟؟ حياتي؟؟

- طأطأت زوجته رأسها في حزن..

ونادى الأمير التركستاني قائلا:

- مصطفى مراد حضرت.

- أمر مولاي..

ودخلت عليه دون أن أرفع نظراتي إلى وجهه.

- مصطفى..لتحضر أوراقا ومحبرة وقلما..

وجلس أميرنا يسجل رسالة قصيرة للقائد الصيني جاء فيها:

"...إن الأمر أيها القائد المنتصر يخرج عن دائرة تصرفي لأن ديننا يمنع ذلك، ومن جانب آخر فإن ابنتي لا تفكر في الزواج، ومن ثم تراني خاضعا لاعتبارات عقائدية وإنسانية، وأن الصين العريقة لا تقبل أن تهمل تقاليد جيرانها، أو تتنكر لعقائدهم أو تهزأ من مشاعرهم... وليست هذه القضية تتعلق بكبرياء الصين أو جيشها المتتصر، إنها أمر ثانوي لا ينعكس عليها بالضرر بعد أن دانت لها البلاد، وامتلكت مصائرها السياسية والمادية.. وصدقني فإن أمرا كهذا قد تكون له عواقب وخيمة، تضر بالعلاقة التاريخية بين الشعبين: الصيني والتركستاني.. ولو أمعنا التفكير معا في آثار هذا القانون الذي يرغم التركستانيات المسلمات عل الزواج من الصينيين، لوجدناها بالغة الخطورة، ولا أعني بذلك التهديد، وإنما أقصد مصلحة الأصدقاء واستتباب الأمن في البلاد، وإني لأستحلفك بكل عظيم ومقدس أن تعيد النظر في هذا الأمر.. لعل جوانبها جميعها تتضح لديك..مع أطيب تحياتي واحترامي.."





((أمير قومول))



وسرت الأنباء في المدينة مسرى النار في الهشيم، وتخطّت حواجز القصر المنيف، وتهامست بها النسوة في المنازل، وتلقتها الرجال في قلق وغيظ بالغين. . إن احتلال الأرض لفترة ما قد يكون أمرا يسهل الانتظار عليه حتى تحين الفرصة للخلاص، لكن الدخول في أخص خصوصيات الناس هكذا والعبث بشرفهم ومعتقداتهم أمر آخر يحمل في طياته أشد أنواع الخطورة .. وعندما قرأ القائد الصيني رسالة الأمير التركستاني وكنت أنا الذي حملتها إليه، كورها في يده ، ثم رمى بها ، وبصق عليها .. .

ثم اتجه صوبي قائلاً :

- " قل لأميرك : إنه يعبث كما يعبث الصبية . . هذه قوانين (صن يان صن ) أبو الصين الأعظم . . ولن تستطيع قوّة في الأرض أن تبطل قوانينه "

وأٌخذ مولاي الأمير في نفس الليلة إلى السجن . . ليلتها بكت المدينة كما بكت بالأمس على شهداء المعركة ، وليلتها أدرك الناس أن الغزو الصيني يحمل في طياته خطراً آخر غير خطر غزو الأرض . . وليلتها لم يستطع النوم في قومول أن يستولي على جفون الرجال والعذارى، وشر البلية ما يضحك أن كل فتاة تحاول جاهدة أن تبحث لها عن رجل مسلم يتزوجها قبل أن تساق إلى غاز من الغزاة الصينيين أو مهاجر من مهاجريهم.. أنا لي قصة ظريفة.. كنت قد أحببت فتاة تخدم في القصر منذ عام.. كانت تتمنع علي وترفض الزواج، وتطمع في رجل أعلى مركزا مني.. أنا مجرد حارس في القصر.. والقصر يدخله علية القوم..

وعدما سيق الأمير إلى السجن أتت إلي مهرولة والدموع تغرق وجهها:

- مصطفى.. ها أنا ذا بين يديك.

كنت مغتما لمصير الأمير التعس وأشعر بعزوف عن الدنيا وما فيها.

صرخت في حدة في وجه الوصيفة.

- إليك عني يا نجمة الليل.

- ربما أكون قد أسأت إليك.. لكنني أحبك..

صورة الأمير السجين تملأ خيالي ، من الصعب أن تتصور الأعزة الكبار يرسفون في الأغلال ، ويساقون كما يساق العبيد ، يا إلهي ، إنه مشهد لا يمكن أن ينسى مدى الحياة ، ومع ذلك فقد كان الأمير يمضي بين الزبانية الصينيين مرفوع الرأس ، يشمخ بأنفه في كبرياء ، كان في صمته ثورة ، وفي استسلامه عاصفة ، وفي نظراته الشاردة نداء دمويٌّ رهيب.

قالت حبيبتي القديمة:

لم لا ترد يا مصطفى حضرت؟؟ ماذا تنتظر؟

سوف تندم حتى آخر حياتك إذا ما جاء صيني لئيم وضمني إليه..

قلت وكأني أثأر لكبريائي الجريح:

- أنا أرفض الزواج الاضطراري..

- أيها الأبله، إن فيه تحقيقا لآمالك، وإنقاذا لي، وحماية لعرضنا وديننا...

التفت إليها، وقد بدت الدموع في عينيها، وصاحت:

-لا تبك.. لقد أصبحت أكره النظر إلى وجوه الناس.. الدموع في كل مكان.. هذه حياة لا تطاق.. اعلمي جيدا أنني لن أتزوج إلا إذا خرج الأمير من سجنه..

اقتربت مني هامسة:

أيها المجنون.. انتهى عصر الأمير.. فلا تربط مصيرك بعالم يزول، ومجد ذاهب..

أمسكت بذراعها ودفعتها في عنف قائلا:

- هذه خيانة يا نجمة..

- أنت مخطئ يا مصطفى.. فأنا أحب الأمير وأسرته كما أحب روحي.. لكن لا معنى لأن تنتظر حتى تفوت الفرصة .. إن ذلك لا يرضي الأمير ذاته..

وتركتها دون أن أبت في الأمر، كان جو الحزن يخيم على قصر الأمير، وكانت زوجته تروح وتجئ كالمجنونة، تنتقل في جنبات القصر الفسيح على غير هدى لا تأكل ولا تشرب، وأولاده وبناته وأقاربه قابعون تلفهم الكآبة، أما ابنته الأميرة الصغيرة، فقد وقفت في صالة القصر المفروشة بالسجاد الثمين وقالت:

- ماذا لو تزوجته وقتلته؟؟

لم يلتفت لحديثها احد، لكنها أخذت تلف وتدور، وترغي وتزبد حول هذه الفكرة، غير أن أمها ربتت على كتفها في النهاية، وكانت امرأة عاقلة، وقالت لها:

- الأمر أكبر من ذلك بكثير..



في اليوم التالي كانت الشوارع في قومول تضج بمآسي يقشعر لها البدن، وتشيب لهولها الرؤوس، فالشرطة يجرون الفتيات جرا كي يرغمونهن على الزواج من الجنود والمهاجرين والآباء التركستانيين الرافضين تشوي السياط أبدانهم، ويضربون بكعوب البنادق، ويركلون بالأقدام في ازدراء ومهانة، وكثير من الأسر والبيوتات العريقة تهرب إلى خارج المدينة، إذا ما جاء الليل، وتأوي إلى الجبال أو تنطلق إلى الصحارى العريضة.

ومرت أيام كلها آلام وأحزان، وكان في مدينتنا رجل شهير يقال له (خوجة نياز حاجي)، وهو من رجال الفكر والدين والوطنية، معروف بشجاعته وصدق بلائه، وكان الرجال في قومول يذهبون إليه حائرين مستفسرين.. فكان يقول:

-"أدوات النصر أنتم تعرفونها... الصبر والصمود...الجهاد حتى الموت... لا جديد بعد كلمات محمد... انظروا... لا يفل الحديد إلا الحديد.. كل ما أعرفه أن أقواما بلا شرف.. هم موتى وإن كانوا يأكلون ويشربون ويتنفسون ... لا تستنكروا تصرفات العدو وحده، ولكن ابكوا على تهاونكم واستنكروا استسلامكم ...أتفهمون؟".

لكن موجة الطغيان تمتد وتنداح... وأصواط الاستغاثة تعلو.. والسياط تعلو وتهبط وتمزق الأجساد العارية، والنسوة يسقن إلى الجند الغزاة.. والرجال يشعرون بالخجل والضعة والهوان، والجنود يقهقهون ويمرحون ويتحسسون أجساد النساء في نشوة ولذة، وكأنما يفحصون ماشية معروضة للبيع.. والقومول تغلي كالمرجل، ولا تجد متنفسا لحقدها المكبوت، وأميرها يعاني الوحدة والعزاب في السجن.. وأنا العبد الضعيف (مصطفى مراد حضرت) ماذا أستطيع أن أفعل؟؟ قال لي (خوجة نياز حاجي) زعيم بلدنا الهمام :

- يا مصطفى . . اذهب إلى أميرك في السجن . . وقل له : يجب أن يبحث عن مخرج.



***





(2)



الحق في الدنيا لا يكاد يختلف عليه اثنان لكن انغماس النفوس في الهوى قد يخلق من الباطل حقا ومن الحق باطلا.

وأنا إنسان رقيق المشاعر برغم أني أحد رجال الحرس في القصر، أدنى إساأة تملأ كياني بالغضب، والسخرية مني تحيلني إلى طوفان من النقمة، حتى الوصيفة الساذجة التي أحبتني بالأمس، كانت تسخر مني، كنت أحبها من كل قلبي ، الظروف الطارئة جعلتها تغير رأيها، والتي تغير رأيها هل تغير مشاعرها أيضا؟؟

صدقني.. أنا لا أعرف، فقد كانت الدنيا هائجة مائجة، قومول ليس فيها شيء على حاله، الصينيون يرون الزواج من بناتنا حقا لا غبار عليه، وحجتهم ساذجة وبسيطة، ألا وهي أن الناس جميعا إخوة، وأنهم منتصرون، ويرون من الرحمة أن يأخذون نساءنا في ظل القانون بدلا من أن يأخذوهم كسبايا وغنائم، والأمر من وجهة نظرنا نحن التركستانيين ظلم فادح، وإذا لم يكن الصينيون يريدون أن يحتكموا لكلمات الله فلا مناص من الحرب.. أعني لا بد أن نساق إلى الموت.

فالحرب انتهت بهزيمتنا.. وبرغم الحصار الشديد الذي أقامه القائد الصيني حول الأمير، إلا أنه كان يسمح لبعض رجاله بزيارته لعلهم يجدون الفرصة فيقنع ويزوج ابنته الأميرة من القائد، وكان الأمير معتكفا في سجنه يصلي ويفكر، آلمه أن يتنكر له الزمان، ويتحول من قصر إلى سجن، ومن آمر إلى مأمور، وممن يتلقى أوامره؟ من رجل كافر لا يؤمن بالله ولا برسوله، واسألني أنا عن أحزان الملوك المنهزمين.. إنهم لا يبكون إلا لماما.. لكنهم يحبسون آلامهم في قلوبهم فتثور وتهدر كطوفان ناري لا يرحم..

ذهبت إليه حائرا وقرائصي ترتعد كلها..

- ما الذي أتى بك يا مصطفى حضرت..

- نحن بدونك لا نساوي شيئا..

- أنتم رجال وتلك حكمة الله..

- والرجال يريدونك يا مولاي..

- كيف؟؟

ونطر إلي باستغراب ودهشة فأجبت:

- قالها لي (خوجة نياز حاجي).

- ماذا قال؟..

- الأمير يجب أن يخرج إلينا..

ضحك الأمير ، وشد عوده الفارع ، وتطلع إلى الآفاق بعيني صقر جريح ، وهتف والحنق يأخذ بتلابيبه :

- " لست أملك مفاتيح السجن " !

- " للسجن جدران يا مولاي "

ضحك الأمير في عصبية :

- " وكيف أحطمها وحدي ؟ "

- " يقول لك ( خوجة نياز ) . . إن لم تكن تملك المفاتيح التي تفتح بها السجن ، ولا السواعد التي تهدمه . . فإن لك عقلاً يستطيع أن يحملك على جناحيه إلى الخارج . . "

صمت الأمير برهة، ثم التفت إلى وقال:

- حسنا .. اذهب إلى خوجة نياز وقل له إن الأمير قادم غدا..

عودني الأمير الصدق في القول، ما خدعني قط، لهذا هرولت إلى الخارج، وحملت رسالته إلى خوجة نياز، كان خوجة نياز يجلس خارج المدينة بين عدد من الرجال يتكلمون ويصلون ويقرؤون وطربوا لسماعهم الأنباء التي حملتها إليهم، أما خوجة نياز فقد بدا الاهتمام على وجهه، وتأرجحت عيناه في قلق، ورفع يديه إلى السماء وغمغم:

- اللهم غفرانك.. اللهم نصرك..

وعاد يحدث الرجال عن تجاربه في الحياة، وكان يقول لنا أن الأمور الخطيرة والأحداث الكبرى لا يمكن أن تحل بالتجزئة..وهي في نفس الوقت لا تقبل الحل الوسط، والمنتصر لا يعطس المهزوم شيئا أصيلا أبدا، إنه يعطيه الفتات والنفايات.. وشعبنا المسكين- شعب تركستان-محصور، تحبطنا الحراب المسمومة.. والمدافع.. والنيران.. والتحريض قادم من بعيد.. أنا أعرف دعاة الصليبية في العالم، إنهم ينتهزون فرصة ضعفنا وهواننا ويحتشدون حولنا.. ويثيرون نعرات شعوبية وإقليمية.. إنهم يريدون أي شيء على ألا نكون مسلمين.. هل تفهمون؟؟.

ولهذا فهم يجردون الجيوش والشرطة لإرغام فتياتنا على الزواج منهم.. ليس لديهم أزمة في النساء..

لكنهم يريدون القضاء على القيم والمبادئ.. هي وحدها التي حفظت استقلالنا وحريتنا عبر السنين الطويلة..



* * *



كان الأمير السجين يعلم أن نهايته الموت، ونحن ننطق كلمة الموت هكذا ببساطة، أو نكتبها على الورق دون أن تثير في نفوسنا مضاعفاتها المرعبة المدمرة، أميرنا يقف على أعتاب الموت... ليس هذا أمرا هينا.. وعندما يموت الإنسان يترك أحلاما جميلة لم تكتمل.. يودع ربيعا نابضا بالحب لم يذبل بعد، وعندما يموت الإنسان ينظر إلى عيني طفله الصغير اللاهي ويقرأ في العينين الصغيرتين أحلى قصيدة شعر، وينظر إلى النسوة والرجال الذين أحبهم .. ثم يتصور أنه بعد ذلك سوف يأوي إلى حفرة نائية مظلمة لا حس فيها ولا خبر.. ويطول به المقام فيها ربما لآلاف السنين.. ينام عاجزا في قبره.. والأحداث التي تهز العالم تضطرم حوله دون أن يستطيع المشاركة في شيء.. ويضحك الأطفال وتبتسم الغيد الحسان وتخضر الأرض، وتورق الحدائق، ويجوس الطغاة خلال الديار ويعبثون وينهبون ويرغمون المسلمات على الزواج.. وهو ..هو الأمير.. تحت التراب يرقد عاجزا كقطعة من خشب متعفن.. أليس الموت رهيبا..؟؟

وكتب أمير القومول السجين رسالة عاجلة إلى القائد الصيني يعتذر له فيها عل ما بدر منه من جفاء، ويعده بالنظر في الأمر من جديد بطريقة فيها النجاة والفائدة، وطلب منه أن يسمح بلقائه..

ابتسم القائد الصيني وأغمض عينيه برهة، كان يفكر في الأميرة الجميلة وليلة الزفاف الكبرى، والمتع التي سوف يجنيها .. وخيل للقائد آنذاك أن كل شيء تحت تصرفه، وليس في الإمكان أن يستعصي عليه أحد، وهو شعور ينتاب المنتصر القوي دائما، ولو للحظات قصار، وفي هذه اللحظة ينظر إلى البشرية بعين الرثاء والعطف.. عطف القادر المتعالي المتغطرس.. وقال القائد:

- أحضروا الأمير إلى المجلس لنرى ماذا يريد.

سر أيها الأمير المسكين ولا تحزن، فلن يضيرك أن تكون في يدك الأغلال، أو يحيط بك كوكبة من الصينيين الأجلاف الذين يتطاولون في البنيان ويشمخون بأنوفهم الصفراء...

سر يا أمير قومول وأغمض عينيك حتىلا ترى مظاهر الاستخفاف والعنهجية، وامض في طريقك حذرا، وسد أذنيك عن الكلمات السخيفة، وغض بصرك عن الملامح الشامتة والنظرات التي تنبض بالحماقة والتشفي.

- عم صباحا أيها القائد.

- مرحبا بك يا أمير.

وجلس الأمير خافض الرأس، وظل الأمر هكذا حتى أمر لاقائد أغلب رجاله بالانصراف، وما أن خلا الجو حتى مال الأمير التركستاني على القائد هامسا:

- إن أمرا كهذا لا يحله العنف.

قال القائد:

- لم أجد وسيلة أخرى بعد أن أمهلتكم.. وأنت نفسك رفضت زواجي من الأميرة..

- نستطيع أيها القائد "الصديق" أن نعالج الأمر برفق..

- كيف؟؟

- عندي فكرة..

- ما هي؟؟

وطرح الأمير أمام القائد فكرته، وهي أن تتركز في أن يطلق سراح الأمير، حتى يتمكن من الاجتماع بعلماء الشريعة، ويناقش الأمر معهم، لعله يستطيع الحصول منهم على "فتوى" دينية تبيح مثل هذا الزواج، وتلتمس له الأدلة في بطون الكتب القديمة، فإذا ما وفق الأمير لإخراج مثل هذه الفتوى الممهورة بتوقيع الفقهاء، حل الإشكال، وساد الهدوء ونعم الجميع بالأفراح والسعادة..

ابتسم القائد الصيني وعبث بشاربه وتمتم:

-أرى أننا نقترب أكثر فأكثر.. والشقة تضيق بيننا.. وصدقني إنني قادر على أن أبقيك على كرسي الإمارة..إن لي كلمة مسموعة لدى القيادة..

وأخذ القائد يقهقه بصورة أدهشت الأمير الذي قال:

- لا أشك أنك سعيد أيها القائد.

- كل السعادة يا أمير.. كلما تصورت أن الأميرة بين ذراعي.. وأنني سأنجب منها أطفالا غاية في الروعة والجمال.. أكاد أجن من الفرح.. سوف نصبح أسرة واحدة سعيدة.. ولن يكون هناك غالب أو مغلوب..

هذه الفلسفة الحمقاء التي تتوارى تحت ستار الإنسانية والأخوة، أشد ما أمقتها.. ابنتي بين ذراعيه يا للمهزلة!! إنني أشعر بالتقزز والغثيان، فما بال المسكينة إذا وقعت بين براثن هذا الحيوان، وانسكب في سمعها الرقيق غزله السمج.. ابنتي تجالس هذا الوحش؟؟ كيف؟؟ أعرف أن الإنسان ليس شحما ولا دما ولا لونا فحسب.. إنه الفكرة والمعتقد.. الأشياء العظيمة التي يؤمن بها الإنسان هي التي تجعلني أنظر إليه وأقيمه فأحبه أو أكرهه، والفكر يعطي كومة اللحم والعظم معنى وتقبلا وشفافية.. الفكر يغطي الهيكل.. يكسبه ثيابا.. يجعله يبتسم ابتسامته المقبولة، ويتحدث حديثه المحبوب، يجعله إنسانا..

وغمغم القائد:

- أتعتقد يا أمير أن هناك فرقا بين الصيني والتركستاني؟؟.

- بكل تأكيد.

التفت القائد إلى الأمير في دهشة وقال:

- ماذا؟؟

- الصيني انتصر..

قهقه القائد ثم قال:

- هذا أمر معروف،نحن ننتصر دائما..إنه أمر يمتد إلى سحيق تاريخنا.

فرد الأمير قائلا:

- منذ حرب الأفيون وقبلها.

شحب وجه القائد، ثم استدرك:

- لم يستطع التفوق الاستعماري أن يمحو شخصيتنا..

وسادت فترة صمت، قال القائد الصيني بعدها:

- يقول العلماء أننا شعب ذو صفات غالبة..

- كيف؟؟

واستدار القائد صوب الأمير وأخذ يشرح له باهتمام كيف أن علماء الوراثة أثبتوا أن الصيني إذا تزوج أوروبية مثلا، فإن الأبناء يحملون الصفات الصينية، وذلك بسبب قوة الجينات التي توجد في الخلايا..

رد الأمير في دهشة:

- وما هي الجينات؟؟

- لا أعرف أيها الأمير.. هكذا يقولون..

- يا إلهي.. لماذا كنتم تبيعون بناتكم وأطفالكم..

- هذا كان .. أيام الشقاء والفقر.. لا تذكرني بهذه الأيام الحزينة..

واكفهر وجه القائد الصيني فجأة، وبدت نذر الثورة على وجهه الأصفر، وهب واقفا، ثم خطا خطوات داخل قبو صغير، وعاد في يده زجاجة من الخمر الرديء، وأخذ يجرع منها في عصبية، وتحامل على نفسه، وأخذ يقول والغيظ يخالط نبراته:

- بحثت سنوات عنها..

- أختي..

- هل فقدت في حرب..

- اختطفها البعض في حرب الأفيون.. لا تصدق ما يزعم بعض الحمقى يقولون أن أمي باعتها حتى تطعمنا.. هذا كذب..كذب..كذب..

وهب الأمير واقفا وقال:

-لا تجزع أيها القائد.. ولسوف أعود إليك بالأنباء التي تسرك بعد أن ألتقي بعلماء الشريعة.. أتسمح لي بالانصراف؟؟

عادت الإشراقة إلى وجه القائد الصيني، وقذف بالكأس يمينا..

-تستطيع أن تنطلق حرا يا أمير قومول.. ولسوف نشرب كثيرا ليلة الزفاف.. وسنرقص ونغني ونضاجع النساء..

ولنرى أن الأجناس لها الصفات الغالبة.. في الشرق والغرب حاربت.. وكنت الغالب دائما.. الموت أمر هين.. لم أفكر فيه ولهذا لا أخافه، تعرضت له ألف مرة ومرة.. وها أنا أحارب وأنتصر.. وأحكم قومول.. سعادتي كلها في أن أنتصر.. لا أنظر لشيء وراء ذلك يا أمير.. أنتم تفكرون كثيرا في الجنة والنار..

- لأنها حقيقة أيها القائد.

- كيف؟؟

- أنت تمسك الآن بالكأس المملوءة.

- نعم.

- فأين النشوة التي تحدثها الكأس؟

- النشوة؟؟

- نعم، أين النشوة أيها القائد؟؟

- هذه ليست مادة.. لم أقرأ عنها شيئا في كتبي المفضلة.. لم يتحدثوا عن النشوة؛ لأنها ليست مادة..

- لكنك تشعر بها..

- نعم.. ولولاها لما شربت الخمر..

- هي موجودة.

- بالتأكيد يا أمير..

- أريد أن ألمسها..

- لا أنا ولا أنت نستطيع لمسها..

غمغم الأمير.

- والنشوة العظمى أيها القائد في جنة الله، وأنا أستشعرها بلا كأس..



***





(3)



ولقد عاد أميرنا بوجه غير الوجه الذي ذهب به، لم أعد أرى في وجهه عيني ملك، إنه يلبس أفخر الثياب، ويحوطه الحرس وجوقة الشرف من كل جانب، وأبواب القصر مفتوحة على مصارعها، وأردية الحشم والخدم المزركشة تخلب اللب، لكن مولاي.. يا إلهي كسير النفس... مال نحوي هامسا:

- يا مصطفى .. ما معنى أن تكون أميرا؟؟

لم أفهم لسؤاله معنى، ارتبكت، ولم يستطع لساني أن يتحرك، هتف بصوت متوتر كالفحيح:

- قلها يا أحمق..

تلعثمت وغمغمت:

- أن تطاع.. أن تكون حولك هذه الأبهة كلها..

قهقه في مرارة، ثم قال:

- الأمير هو الحر الذي يرضى عن نفسه..

ولما لم أعلق استطرد آسفا:

- أين هي الحرية إذا؟؟ ثم كيف أرضى عن نفسي وأنا أرى العدو يعبث في الأرض بالفساد، ويحاول أن يمرغ شرفنا في التراب..يا مصطفى..ديننا هو شرفنا..

ثم أشار بيده إلى التلال البعيدة التي لا أكاد أدركها لبعد الشقة بيني وبينها وقال:

- " هناك على التلال يعيش فئة من الرعاة الأبطال ، لم يستطع العدوان أن يقهرهم ، ولم يتزوج نساءهم ، بالقوة . . هؤلاء يشربون ألبان الماعز ، ويغزلون الصوف ، ويعبدون الله الواحد الأحد ، لا يخافون أحداً إلاّ الله . . . . أتدري ؟ هؤلاء هم الملوك غير متوجين . . . ما أشد حنيني إليهم يا مصطفى . . . "

قلت في ثقة:

- هؤلاء الذين تتحدث عنهم هم رعاياك يا مولاي.

- ليس للعبيد رعايا يا مصطفى.. العبيد لا يعرفون غير القيود والذل..

ودخل مولاي القصر حزينا مكتئبا، واحتشد حوله أهل بيته، ثم توافد عليه العلماء وعلية القوم من كل جانب، وفي المساء عقدت الجلسة التاريخية التي لا تنسى، وبينهم خوجة نياز حاجي، وكان الرجال العظماء يجلسون منكسي الرؤوس يعلوهم الكدر والعناء، وقال مولاي الأمير:

- أيها الرجال يجب أن نعود من حيث أتينا.

- كيف؟؟

هذا ما تساءل به خوجة نياز.

رد الأمير:

- أن نخلع رداء الأمراء والعظمة وأن نعود رعاة إبل وشياه.. ثم نبدأ من جديد المعركة.. فإن متنا كان هذا غاية الشرف، وإن انتصرنا وبقينا.. استطعنا ان نقول للناس ونحن أمراء.. المنهزم ليس أميرا.. ولا يصح أن يحكم.. إن حكم المنهزمين يجعلني أسخر من نفسي.. أنا أمير ويأمرني قائد صيني.. أليس هذا عين الخيبة والفشل؟؟..

أما نياز حاجي، فقد حاول أن يبدد الغيوم التي ذرت الكآبة في أفق القصر، وهتف بأعلى صوته:

- " أيها الأمير . . . أيها السادة . . . يجب أن نوافق القائد الصيني على فكرته "

هاج الحاضرون ، وماجوا ، وبدا عليهم الاشمئزاز والمعارضة الشديدة ، غير أن الأمير ابتسم وقال في هدوء :

- " وأنا أوافق خوخة نياز . . . وسيكون العرس في قصري ، وسيتزوج القائد الصيني ابنتي الغالية . . . سوف نفدي بذلك شعب قومول ، وننجيه من مذبحة لا تبقي ولا تذر . . . "

وصرخ أحد العلماء قائلاً :

- " الله . . . "

ورد الأمير :

- " الله معنا . . ولن يخذلنا . . "

وعاد العالم يقول :

- " وكيف يكون معنا ونحن ندوس شريعته ؟ . . "

وسادت همهمات وغمغمات، وأخذ الجالسون يتناقشون بصوت خفيض، وينكبّون على الأمير، ثم يذهبون إلى خوجة نياز، ولا تكاد ترى إلاّ شفاههم تتحرك، وأيديهم تشير، وعيونهم تتأرجح في حيرة وحذر.

وحملت في اليوم التالي رسالة إلى القائد الصيني مكتوبا فيها أن الأمير قد وافق على زواج ابنته من القائد، وأن العرس سيقام في قصر "قومول" الشهير الذي يسكنه الأمير، وأن الدعوة موجهة لكل العظام من الضباط وأكابر الصين، وكاد القائد الصيني يجن من شدة الفرح، لقد سقط الاعتراض الديني وسادت قومول موجة من الغضب والسخط ضد الأمير والعلماء المسلمين هذه المرة، وأخذت جموع الثائرين تتحرك في مجموعات صغيرة تعلن رفضها لفتوى العلماء، واستسلام الأمير، وحاول بعض الثائرين أن يقذف قصر الأمير بالأحجار، ولقد هم جيش الاحتلال باستخدام العنف للقضاء على هذه الظاهرة مخافة أن يتسع التمرد، وتندلع الثورة، لكن شروط أميرنا كانت تؤكد للقائد الصيني ألا يتعرض لأحد من المتمردين بسوء حتى ينتهي الأمر بسلام، ويستسلم الناس للأمر الواقع، ثم انقض المجتمعون في القصر على الموعد.. ولف قومول ليل أسود ثقيل، شديد الوطأة على نفوس الرجال الشرفاء، وكاد يحدث في القصر في تلك الليلة حادث له العجب، إذ أتت الأميرة إلى أبيها قائلة:

- " لن أتزوجه يا أبي . . . كيف أطيعك وأعصي الله . . الله أعز مني ومنك . ."

- " والله يريد ذلك يا ابنتي "

- " لا يريد الله إلاّ الخير "

- " لعل فيما ارتأيناه الخير كل الخير "

وقالت الأميرة وهي تنتحب :

- " الآن أبرأ منك . . . من الملك . . فدعني أرحل . . "

ربّت على شعرها الذهبي وقال :

- " كيف ترحلين وسط الذئاب ؟ "

تسللت إلى الداخل وسمع لبكائها صوت يمزق نياط القلوب، كانت قد أغلقت على نفسها حجرة صغيرة، وأبت أن تستجيب للإلحاح أمها كي تفتح لها الباب، ونظرت أمها من ثقب بالباب، فرأت فتاتها تمسك بخنجر، وترفع وجهها إلى السماء وكأنها تصلي وتدعو الله أن يغفر لها، فلم تضيع الأم وقتا، بل هرولت إلى الأمير وأخبرته بكل شيء، وبحركة بارعة وسريعة فتح باب الغرفة وأمسك بالأميرة قبل أن تغيب الخنجر في صدرها...



* * *



وجاء موكب القائد الصيني ، تصحبه الموسيقى العسكرية ، واللاعبون بالنار ، وبعض الرقصات الشعبية الصينية . وفقراء قومول يبتعدون ويبتعدون عن قلب المدينة . . . يسجدون لله تحت الأشجار خفية ، أو يرتلون الأدعيات على شواطئ الغدران . . ! وبعض المتصوفة يغرقون لحاهم بالدموع في الأضرحة القديمة، وفي المساجد العتيقة التي لم ازل شموعها ومصابيحها مطفاة أدهشني أن أرى قصر الأمير في أوج تألقه واستعداده، وللأمير فرقة خاصة من رجال الجبال يدعوهم دائما في المناسبات الهامة لكي يكملوا الموكب الملوكي ويزيدوا من رونقه وبهائه-كما يبدو- فقد كان أميرنا خائفا من أن يندس أحد المعارضين، ويرتكب حماقة تقلب الأفراح إلى كارثة محققة، ولهذا فقد وزع رجال الجبل في كل مكان داخل القصر وخارجه، وأعطاهم الأوامر المشددة بألا يسمحوا لأحد بالدخول أو الخروج وأن يراعى الدقة في الحركة والنظام...

وشرب القائد الصيني نخب الصداقة العريقة بين الشعب الصيني والشعب التركستاني ، وظل يشرب حتى كاد أن يترنح ثملاً وأخذ يقول:

- عندما نتحرر من التقاليد القديمة وسطوتها..نشعر أننا أصبحنا رجالا عصريين.. الرجل العصري إله بنفسه، لا تحكمه سماء، ولا تخيفه قوة مجهولة.. كانت أمي تقول لي: لا تفعل هذا الشيء؛ لأن ذلك لا يرضي الرب، فكنت أصرخ في وجهها قائلا: أين هذا الرب؟ فكانت المسكينة تدمع.. وتشير بيدها إلى السماء.. إلى أحد الجهات الأربع أو إلى تمثال قمئ.. فكنت أقهقه وأفعل ما يحلو لي، وهي تنظر إلى في دهشة، وكأني قد ارتكبت جرما كبيرا.. ها.. ها.. ها...مات بعد أن سرقت أختي.. وكانت تضم تمثالا صغيرا إلى صدرها.. هيه.. وبعد أن ماتت سطوت على كل ما عندنا من تماثيل وبعتها بكمية قليلة من القمح.. ها.. ها أيها الأصدقاء التركستانيون.. فلنشرب نخب القضاء على كل المبادئ القديمة العفنة.. فالمجد لنا نحن.. للإنسان.

تململ خوخة نياز، واحتقن وجه أحد العلماء ، وأصيب أحد الرجال بالصرع فحملناه خارجا ، وسمعنا صوتاً في جنبات القصر يدوّي " الله أكبر . . الله أكبر . . " قالها أربع مرات ، وفي وقت قصير لمعت السيوف وانطلقت البنادق القديمة ، واندلعت المعركة التي أشعلها رجال الجبل الذين أخذوا يتوافدون من كل ناحية ، ومن الدور الأعلى ، ومن باطن الأرض ، ومن فوق أسوار القصر، وفي وقت قصير كان القائد الصيني ومن حوله من الضباط العظام والرجال الكبار جثثا متناثرة في أروقة القصر، لقد تم القضاء على كل الرجال الصينيين، وساد الذعر جنبات قومول، وخرج الأهالي عن بكرة أبيهم يفتكون بالصينيين، ويستردون بناتهم التعسات ويحررون الأسرى والمأسورين في السجون ودور الشرطة.. من بقي من الصينيين كان يفر هاربا، أو يتوسل ضارعا، أو يسجد على الأرض طالبا العفو، معلنا إسلامه وإيمانه بالله..

ووقف الأمير وسط الساحة ينظر إلى المشهد الدموي وإلى جوار ابنته وقال وهو يضمها إلى جسده في حب رائع:

- أستطيع أن أقول الآن أنني أمير قومول..

قالت الأميرة في مرارة:

- لكنهم لن يتركونا..

ضحك الأمير:

- سأظل أميرا طول حياتي.. أعني لن ألقي السلاح، ولن أقبل الهزيمة مرة أخرى.. فإذا فشلنا سأمضي في طريق الجهاد حتى الموت.. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنني أن أعيش بها أميرا وأموت بها أميرا.. وألقى الله مسلما..



* * *





(4)

امتد النور إلى جميع الأنحاء، وخفقت أعلام النصر في أنحاء قومول، وتناقلت المقاطعات المجاورة أنباء "الانتقام المشروع" الذي حمل لواءه أميرنا ومعه قائدنا الفعلي خوجة نياز حاجي، وعلى الرغم من أنني شخصيا قد شاركت بعنف في موجة الثأر لديني ووطني إلا أنني كنت أشعر أن المعركة الساخنة لم تبدأ بعد، فالصينيون لن يتركوا الأمر يمر دون يصبغوا أرضنا الخضراء بدماء العقاب الوحشي... ووجدتني أفكر في الموت والحياة... إذا كان لكل شيء نهاية فلم نخاف من لقاء الله؟! وإذا كان مصير الشهداء هو الجنة فلماذا نحجم عن اقتحام حقول الموت في شجاعة؟ كان علماؤنا في المساجد يحدثوننا أننا خير أمة أخرجت للناس، وكنت أنظر إلى تحكم الصينيين فينا، فأشعر أنا قد أصبحنا أمة مهانة، يؤرقها الذل، وثقل خطاها القيد الذميم، ويمحق كرامتها وإنسانيتها قوم لا يؤمنون بالله....

- ها أنا قدمة إليك.

- ما الذي أتى بك يا نجمة الليل؟

- أنت روحي وحياتي، رأيتك تضرب بسيفك يمينا ويسارا وتجادل الأبطال فذبت شوقا إليك.

- يا نجمة الليل ابحثي لك عن رجل آخر.

- أنت الذي أبحث عنه يا مصطفى..

وتطلعت إلى الليل الضارب، وما يخفق به من أسرار وذكريات وغمغمت:

- الليل يا نجمة يحمل أسرارا مهولة...

- هذا ليل المحبين الجميل..

اقتربت من، وأمسكت بيدي الباردة وهمست:

- وراءنا بستان القصر تفوح في جنباته الروائح الزكية..

- كنت أفكر بالأمس في الزواج، لأني لم أكن أجد عملا ذا قيمة أعمله..

- واليوم يا مصطفى حضرت؟

- أفراح الروح معلقة بالسماء.. بالجهاد الأعظم..

- هذا لا يمنع أن تضمني إليك.. نستطيع أن نحارب وأن ننجب الأطفال..

- يا نجمة الليل ليس الليلة معدنا..

- متى إذن؟؟

- شيء يعلمه الله...

واجهتني بصراحة مؤلمة وقالت في غيظ:

- من أنتم؟ أتعتقدون أنكم قادرون على هزيمة ملايين الصينيين؟ دعنا نتزوج ونرحل عن هذه البلاد..

ضحكت في مرارة، أنا أعتصر كفها الصغير في غيظ:

- أين البلاد التي يحلو لنا فيها المقام؟ الوباء قادم من الشرق، والموت يزحف من الغرب ونحن حيرى.. لا حياة لنا ولا موت إلا هنا..

- أنت تعيش بقلب ميت قبل أن يحين الموت.

- أنا أحيا متفرغا للمعركة..

- والحرب يا مصطفى لا توقف أي شيء.. انظر.. الأزهار تنمو وتترعرع والحبالى تضع أطفالهن، والرعاة يغنون على سفوح الجبال، والناس تحصد وتزرع، وأنت كالراهب المتبتل يريد أن يجعل من الحرب والتفكير فيها صومعة يخلو لها..

كانت كلماتها قوية ومؤثرة، تورق بروعة الصدق، وتفوح من حروفها رائحة الحياة الحارة الجياشة، ووجدت العرق يتساقط على جبهتي، وشعرت بأن أعصابي المشدودة ترتخي رويدا رويدا، وأن عيناي تتطلعان إلى السفوح الخضراء يوشيها القمر الفضي، وتنفست من الهواء البارد الحلو بعمق، ثم تنهت قائلا:

- أنا أحبك يا نجمة الليل.

- ومتى يكون؟

- أقرب مما تتصورين..

- وسمعت حركة وخيولا تركض، وعربات تقرقع، وأصواتا مختلطة، ورأيت أشباحا تتحرك هنا وهناك، وكنت على علم بأن اجتماعا كبيرا سوف يعقد لدراسة ما تم من أحداث كبار، وما سوف يتبع ذلك من رد فعل قد يجري أهوالا لا حصر لها..

- انصرفي يا نجمة الليل الآن..

ومضت في عتمة الظلمة تدرج كخيال لطيف له حفيف الملائكة، العيون الخضراء تضيء كجوهرتين، والوجه الأبيض الذي يفيض حيوية وجمالا يتألق في نور الابتسامة العذراء، صورتها لم تزل عالقة بقلبي وروحي رغم انسحابها صوب الباب الجانبي للقصر..

وعقد اجتماع كبير في قصر أمير قومول، حضره علية القوم من علماء ومفكرين وقادة عسكريين، كما اشترك فيه عدد كبير من المقاطعات الأخرى التابعة لتركستان الشرقية، وافتتح أمير قومول الحديث موضحا أن المعركة التي احتدمت بالأمس لم يكن هناك مفر منها، ولم يكن شعب تركستان – لا قمول وحدها- يرضى أن تداس تعاليمه الإسلامية، وقد رفض القائد الصيني التنازل عن القوانين التي أصدرها، ولم يكن هناك من وسيلة سوى الصدام الذي جرى، وقد يرى البعض أن الحركة التي قمنا بها ضربا من الحماقة إذ أننا لم نتحسب النتائج الخطيرة التي ستترتب عليها، لكن هل كان هناك بديل لها سوى الاستسلام؟؟

إن الاستسلام القديم جر علينا كثيرا من الكوارث، والمنهزم لا حدود لتنازلاته، ومن ثم كان لا بد من الضرب بشدة بصرف النظر عما قد يحدث من نتائج.. ورد أحد الجالسين معلقا بكلام يفهم منه أن ما وقع كان خطأ كبيرا، فليس لدى تركستان قوة تضارع قوة الصين، وإن ثمانية ملايين من أبناء تركستان لا يمكن أن يصمدوا أمام شعب الصين الذي يربو تعداده على أربعمائة مليون، ولذا كان من الممكن أن نرسل وفدا إلى الحاكم الصيني الأعلى، ونجري معه مفاوضات سلام لعلهم يخففون الوطأة ويلغون القوانين الجائرة التي تتعارض مع ديننا وكرامتنا، وما لا نستطيع أن نأخذه بالحرب كان من الجائز أن نحصل عليه بالسياسة، أعني المفاوضات.. ولقي هذا الكلام ترحيبا لدى بعض السياسيين القدامى الذين حضروا الاجتماع، واقترحوا أن يرسل وفد إلى الحاكم العام الصيني لتركستان الشرقية، غير أن خوجة نياز حاجي أشار بيده وقال في غضب:

- أيها الرجال، إذا أرسلتم وفدا فلن يعود إليكم سوى أخبار ذبحه كما تذبح الشياه، ولن يغفر الصينيون لنا ما حدث لرجالهم في قومول، والرأي عندي أنه لا وسيلة سوى الحرب.. إننا نضيع الوقت عبثا إذا بقينا هكذا نبحث عن حل سلمي للأزمة، فلن ينسى الصينيون دماءهم، إنهم يقسون ويقتلون وينتقمون دونما سبب، فما بلكم وقد قضينا على أحد قادتهم هنا، ووارينا ضباطهم وجنودهم التراب..

ثم هب خوجة نياز حاجي واقفا، وصاح بأعلى صوته:

- سمعتكم تتحدثون عن الأربعمائة مليون صيني، كما لو كنتم حضرتم هذا الاجتماع بصفتكم وفدا عن الصين وليس جماعة من الفدائيين المسلمين، وإذا كنتم تقيسون الجيوش بعددها فوالله أن الإسلام ما كان لينتشر، وترفع راية الله في الأرض لو أن المسلمين الأوائل فكروا كما تفكرون، كأني بكم لم تقرؤوا قول العلي الأعلى: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) (البقرة:249) ولكي نكره خصومنا على احترام ديننا، فعلينا معشر المسلمين أن تتخذ القرآن إماما لنا، فإنه يكفل خير الدنيا والآخرة، والله ما تحكم الأعداء فينا وملكوا رقابنا إلا لأننا تنكرنا لديننا، ونبذنا قرآننا وراءنا ظهريا، وإني أعاهد الله على أني لن أضع سلاحي حتى ألقاه أو أنتقم لديني وبلادي، فمن كان أبواه مسلمين فليتبعني.

وخرج خوجة نياز حاجي من قصر الأمير، قاصدا إلى المخازن التي وضعت فيها أسلحة القتلى الصينيين، وسار الجميع وراءه..

كنت أمضي مع الحشد الثائر، وأرى مولد روح جديدة انبثقت وسط ظلمات اليأس المدلهمة، لم يعد أحد يفكر في جحافل الصينيين، كل رجل يسابق الآخر ليعثر على قطعة سلاح وكمية من الذخيرة.. وسقطت تحت أقدام المحاربين كل اعتبارات التفوق العددي والتفوق في الخيرة لدي الصين، العقلاء ظنوا ذلك ضربا من الجنون، والمتحمسون كانوا يتصورون أنه ليست هناك قوة على الأرض تستطيع أن توقف زحف الثوار والمؤمنون بالله إيمانا عميقا، يرون أن القتال قد فرض عليهم فرضا، وأن المعركة يجب أن تستمر، والعبرة بالسير إلى الأمام ومجادلة الكفرة والطغاة، أما النصر والهزيمة فأمرهما بيد الله، وبدا الموت سيئا لا يؤبه له...

وانحدر الرعاة بأغانيهم الشعبية من الجبال، وأتى الفلاحون بثيابهم الرثة حاملين أسلحتهم الصدئة يهللون ويكبرون، ونظرت من برج بأعلى القصر، فرأيت الطرق تموج بالبشر... وتألقت تحت عيني المآذن والقباب الخالدة التي بناها الأجداد العظماء... وبدت بلادنا الحبيبة بصباحها الذهبي، وجناتها الخضراء، ومبانيها الصامدة صورة من صور الخلود والقوة التي يحميها الله.. وهرولت نازلا.. وعند نهاية الدرج رأيتها:

- ماذا تريدين يا نجمة الليل؟

- قالت وقد تبللت الأهداب الجميلة بالدموع:

- هل أنت راحل؟

كانت نبراتها تشي بالأحزان الثقيلة:

- أوتظنين أن مصطفى يبقى ليقدم الزاد للخيل، ويرعى الأغنام؟؟

- كلكم ذاهبون..

- نعم.. فلا معنى للحياة في ظل الهوان..

أطالت النظر إلي، ثم قالت:

- قلبي يحدثني بأنك لن تعود..

- لو كنت تحبينني حقا لفاض قلبك بالأمر..

- الحب الكبير يخالجه الخوف..

هززت رأسي قائلا:

- الخوف؟؟

- نعم.. لا أكذب عليك..

- الحب الحقيقي يا فتاتي لا تموت.. ولا يعتريه خوف .. إذا كان حبا ساميا فسيبقى سواء طوانا الموت أم كتبت لنا الحياة..

رفعت يدها وخبطت على ذراعي مداعبة:

- لم أذق بعد شيئا من الحب كباقي النساء..

وشردت ببصري إلى بعيد، كنت أغمغم: " الليالي التي قضيتها أفكر فيك كانت أياما جميلة، كان للحرمان والصدود معنى صوفي يرقص له قلبي.. آه لو تعلمين.. قلبي الآن يخفق في فرح.. أعرف أن ورائي قلبا كبيرا يمتلئ بالحب لي، وسيضئ خيالك في ظلمات المعارك المدلهمة.. سأدافع عن شرفك وشرفي.. الشرف جزء من العقيدة التي أنعم الله بها علينا وعندما نعود سنتزوج.. يا نجمة الليل عودي إلى أميرتك.. فهس الآن وحدها.. فقد خرج الرجال.. وخروج الرجال في هذا اليوم المشهود ذكرى رائعة يجب أن تغنوا وترقصوا لها.. حرب المبادئ يا نجمة الليل، تصنع الرجال.. فيصبحون رجالا حقيقيين.."



***





(5)



توسلت إليه أن يحملها معه، وتضرعت بدموعها أن يتركها تصحب الرجال حيث الموت والعنف والنار لكن أمير قومول قال لابنته:

"تعلمين يا أميرتي الصغيرة، أن الرجال قادرون على مجابهة العدو، وراغبون في الموت، فلتركن النساء إلى الخباء..".

وأتى الرجال من كل فج، ومضوا في كل صوب، ضل الغزاة طريقهم وسط الزحف الكبير، الذي شمل تركستان الشرقية من أقصاها إلى أقصاها، تناثر الجنود ينشدون السلامة هنا وهناك، وكان الروس يرقبون الأحداث عن كثب، فأوعز حاكمهم إلى أتباعه كي يمدوا يد المساعدة إلى ثوار تركستان الشرقية، وأرسل وفدا لمقابلة خوجة نياز عارضا عليه المساعدة الحربية، وأخذ نياز يتدارس الأمر مع رفاقه، وفي آخر الأمر قال نياز لقادة المحاربين من رجاله:

- أنا أعرف جيدا ما تريد روسيا؟ إنهم لا يريدون لنا الاستقلال، من قديم وهم يريدون يثبتوا أقدامهم في ديارنا طمعا في خيراتها..

ورد أحد الرجال قائلا:

- ولماذا لا نتحالف مع الروس حتى نقضي على الصينيين؟

- وإن لم نكن قادرين على تحرير أراضينا بأنفسنا فلا نستحق الاستقلال..

- عدونا شرس، ولو تحالفنا مع الشيطان نفسه لرد العدوان لما لامنا أحد..

- تمهل أيها الصديق.. روسيا الأخرى عدو، وقد فكرت في مساعدتنا لأنها رأتنا نحقق النصر فعلا.. فهي تنشد مأربها بأرخص وأقرب طريق.. والكفر أيها لارجال ملة واحدة.. الحلف الأعظم هو الحلف الذي يضم شعبنا في شرق البلاد وغربها، وشمالها وجنوبها.. لن يكون هذا الحلف إلا في ظل الله.. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة:1).. هكذا تقول كلمات الله.

في اللقاء الأخير مع الوفد قال نياز:

- نحن نشكر لكم نيتك الحسنة حيالنا.. ولكننا سنحارب العدو وحدنا..



قال رئيس الوفد:

- لن تصمدوا طويلا.. ولدينا معلومات وثيقة أن عاصمة الصينيين في أقصى الشرق سوف تحرك ألوية ضخمة للقضاء على ثورتكم..

قال نياز في حزم:

- نحن نرحب بصداقتكم، ولكن نعتذر عن قبول معاونتكم المشروطة، فقد قرر رجالي عدم السماح لجنودكم أو خبرائكم أو تجاركم بالنزول في بلادي.. وبهذا ترى أن الأمر لا أملكه.. ولكنه شعب ثائر قد قرر خطته بنفسه..

ومضت الثورة في طريقها، وانتشر رجال نياز في كل مكان، وتهاوت القلاع الصينية تحت ضربات الرجال الجبابرة، وتراخت قبضة حاكم الصين على تركستان الشرقية، ووقع في حيرة قاتلة، ووجده الروس في مأزق حرج، فأخذ يطلب المعونة من الروس، فوافق الروس بشرط أن تبرم بينه وبينهم معاهدة يكون من شروطها أن يكون للروس الحق في إنشاء وكالات تجارية في تركستان ولكل من يحمل الجنسية الروسية الحق في التجول في أنحاء البلاد، كما أنه ليس للسلطات المحلية الحق في التفتيش على الواردات الروسية...

وازدادت المعركة عنفا، كنا نمضي في شعاب الجبال، وفي خضم الأنهار والمراعي، فنرى الأسلحة وبعض رجال الروس يتدفقون لمساعدة الحاكم الصيني، وبدت المدن التي تحت سيطرة الصينيين وهي تغص بالرجال الروس، الذين أخذوا يبثون الدعايات المغرضة، ويرشون كبار رجال الحكم، ويحرضون على القضاء على خوجة نياز، الذين تمنوا أن يتحالفوا معه بالأمس...

والأدهى من ذلك ان الروس أخذوا يحرضون الطبقات بعضها على بعض، ويوقعون بينهم الفتنة والاشتباك، واستطاع السلاح أن يقوي شوكة الصينيين، كما استطاع التخريب الفكري أن يوهن القوى، ويمزق أواصر الوحدة الشعبية الكبيرة، وخضنا آنذاك معارك دامية، راح ضحيتها آلاف من الرجال، ووجدنا أنفسنا بعد شهور مضنية في حاجة ماسة إلى السلاح والمال والطعام، وكان لا بد أن نضمد الجراح، ونحظى بقسط من الراحة بعد الضغط الروسي الصيني الرهيب، فانسحبنا إلى الجبال..

واستطاع الحاكم الصيني أن يبسط سلطاته من جديد بعد أن كنا قاب قوسين أو أدنى من النصر التام.. وفي كهوف الجبال وممراتها وشعابها الكثيرة، كان خوجة نياز يتحرك بيننا ويقول:

- الحرب أيها الرجال، سجال.. يوم لك ويوم عليك... وقد عاهدنا الله ألا نستسلم حتى ننتصر أو نستشهد..

وكان يتطلع بعينيه القويتين النفاذتين إلى السحب التي تتوج هامات الجبال، ويجوب بنظراته عبر المراعي الشاسعة، ويحلم بيوم يستطيع فيه رجالنا أن يمسحوا كل شر وخطيئة دنست أرضنا الطيبة.. وكان يضحك ويقول:

- ها أنتم ترون الروس، الذين أتوا بالأمس لنجدتنا، يمدون يد العون الآن لعدونا.. ألا تعتقدون أنهم اليوم سبب نكبتنا..؟

ويعود خوجة نياز يضحك ويروي بعض ذكرياته:

- لا تحزنوا أيها الرجال.. من قديم والكنيسة تسعى للقضاء عليكم.. كانت تحرض روسيا على غزو ديارنا الإسلامية.. لأن الكنيسة لم تكن تنسى أن محاربينا الأشداء ساعدوا تركيا.. وعاونوا العالم الإسلامي في الحروب الصليبية، وبلادنا أيها الأبطال لها ماض وتاريخ وحضارة عظيمة، وفي أرضنا تكمن الثروات الضخمة..

إن هنام ألف سبب وسبب يجعلهم يطمعون في أرضنا.. وأهمها هو أننا مسلمون..



***



وبقينا في الجبل شهورا قاسية، لم نكن نكف فيها عن التدريب ومراقبة الأحداث، وتنظيم حرب العصابات، ونصب الكمائن، وبعد أن أعددنا العدة للهجوم الكبير، استدعانا خوجة نياز، وطلب منا أن نتخفي، وننطلق في أنحاء البلاد نجمع الأخبار، وندرس أحوال اعدو، ونقاط الضعف في تنظيماته، وفي وسط الرجال قلدني نوط الشرف وقال لي:

- يا مصطفي حضرت مراد حضرت.. أنت كنت دائما مثال الجندي العظيم.. وأنا إذ قلدتك هذا الوسام، إنما أعبر فقط عن بعض تقديري الذي ملأ قلبي.. وأرجو أن تسرعوا بالعودة.. فلم يعد أمامنا وقت طويل..

وانطلقنا في شتى الأنحاء متخفين، قومول الحزينة متشحة بالسواد؛ لأن الرجال يشنقون لأقل الشكوك، و"كاشغر".

لا تستطيع أن تقابل أحدا من رجالها الأبطال؛ فهم إما متخفون، أو هاربون في الجبال، أو يتظاهرون بتأييد الحاكم الصيني، أو يسير في رجال الخبراء الروس، أصبح من الصعب على الإنسان أن يميز الحقائق، وسط العنف الزائد، واستبدتاد الذي لا يرحم، وتغيرت معالم الأشياء في أورومجي، يخيل إلي أنن لا أرى إلا وجوه الصينيين والروس، الزحف الشيطاني يدير الرؤوس، ويزيغ الأبصار ويملأ الآذان بالطنين.. وهكذا صرت أتجول من مكان لمكان، ومن مدينة لمدينة، وعدت إلى قومول أبحث عن "نجمة الليل" الأسود الحزين أين أنت يا حبيبتي الفاتنة؟ نفسي تطفح بالآلام والأحزان والوسام الذي علقه القائد على صدري ذات يوم أشعر كأني لا أستحقه، لا قيمة لأوسمة والعدو يروح ويجئ ويلهب ظهر أبناء الوطن بالسياط، أو يسوقهم إلى السجون، أو يعلقهم على أعواد المشانق.. أشعر بغصة في حلقي.. بمرارة قاتلة.. ومع ذلك كنت ابحث عن "نجمة الليل"، ذهبت إلى قصر الأمير في قومول.. قصر الذكريات.. والحب الغاضب.. والتمرد العاطفي.. والوعود الخلابة.. وبدا لي القصر كمبنى ثري عتيق من مخلفات الأقدمين، وبدت دوحاته الشامخة وكأنما هدتها السنون، وخطها المشيب.. كل شيء يشيخ ويمرض.. ويبعث على الدموع والأحزان.

- هل رأيت "نجمة الليل" أيتها الأم الطيبة؟

ورفعت إلى امرأة عجوز رأسها، ونظرت بعينيها الواهيتي وقالت:

- أنا هنا منذ مائة عام، ولم أسمع بهذا الاسم قط.

وخطت وهي تتوكأ على عصاها ثم عادت وتوقفت وهي تقول وقد حمت عينيها من ضوء الشمس وأشارت بكفها المرتعشة:

- هل أنت غريب عن هذه الديار؟

- لا.. أنا ابن هذه الأرض..

هطلت الدموع من العينين الكسيرتين وقالت:

- حسبتك قادما من الجبال.. وأنا أبحث عن أولادي الأربعة.. ذهبوا ولم يعودوا.. ليت أحدكم يأخذني إليهم.. لقد مللت الوحدة هنا مع بناتي الأرامل.. أزواجهم ذبحوا كما تذبح الشاه.. ومعنا عدد كبير من الأطفال.. اللعنة على الصينيين والروس سواء بسواء..

ومضيت في طريقي أتجول في أنحاء القومول المحتلة.. وفجأة وقع بصري عليه.. إنه صديقي القديم:

- "منصور درغا" .

لقد هتفت باسمه دون وعي، واقترب مني الرجل وقال:

- مصطفى مراد حضرت.. أهو أنت؟

وتعانقنا عناق حارا، ثم جذبني من يدي، وذهب بي إلى مكان خفي أمين لا يرانا فيه أحد، ثم جلسنا وحدنا.

- ماهي أخبارك يا منصور؟

تنهد منصور درغا في أسى وقال:

- الثوار يذبحون في مقاطعلة "إيلي".. وفي مقاطعة "أقصو"، و"تشوشك"، ومدينة شهيار تعاني من السجن والكبت والانتقام المريع.. نفس الشيء في "كوتشار" وفي "آلتاي" . الاستبداد في كل مكان.. إن الأعداء يبرون ويخططون.. إن خبراءهم ليسوا للمعارك والتجارة والدعاية فحسب، بل لديهم خبراء في فن التعذيب والقتل والقضاء على الإسلام والمسلمين..

زدمعت عينا منصور درغا وصرخ في احتجاج:

- هل هذا يرضي الله؟

قلت في ألم: "بالطبع لا..".

رد منصور وقد تغيرت سحنته:

- لماذا إذن يتركنا هكذا نتعذب ونلاقي الذل؟؟

- الله عادل يا منصور.

- لكن الظلم أغرق الأمة في طوفان من الأحزان..

- ومع ذلك فإن الله عادل يا منصور..

- العدل أن يسحق هؤلاء الكفرة..

أمسكت بذراع منصور درغا وقلت:

- ومن العدل أيضا أن نكون مسلمين حقيقيين حتى ينصرنا..

هز رأسه في أسى وقال:

- صدقت.. فينا الخونة الذين تعاونوا مع العدو..

- هم قلة..

- نعم ، فينا الذين انسحبوا من الحياة ولم يشاركوا بشيء..

- السلبيون في كل أمة..

- أجل.. وفينا من كفروا بالله وآمنوا بالقادمين من هنالك..

ثم التفت منصور إلي محتقن العينين وقال:

- وفينا نساء جميلات.. لا يعرفن شيءا اسمه الفضيلة..

ضقت ذرعا بكلمات منصور، فهو في ثورة يأس قاتلة، ويعاني من أزمة نفسية مدمرة؛ لأن الأمر ليس على الصورة التي يرويها، فشعبنا شعب صابر مقاتل لم يستسلم، والخونة فئة قليلة جدا، قد ضعفت نفسها إما خوفا من العدو، أو انهيارا أمام ألوان العذاب، أو انخداعا ببعض المكاسب المادية، وهؤلاء أو هؤلاء عددهم قليل جدا، أما النساء فإن فئة من الجاهلات الغافلات اللاتي لا يجدن ما يقتتن منه، قد سقطن في شباك الرزيلة من أجل لقمة العيش، أو رضخوا للتهديد وفضلوا الحياة القذرة على الموت الشريف، أنا لا أنظر إلى الأمر كما ينظر إليه منصور درغا، فأنا أعرف منصورا من القديم، فهو مثالي حالم ينظم الشعر، ويحفظ أحاديث البخاري، وأن منصور يحلم دائما بالتاريخ العاطر، لم يحاول أن يوفق بين الماضي الرائع والحاضر التعس، حتى يحفظ على نفسه شيئا من التوازن النفسي.

- لماذا لا تقبل الواقع كما هو، وتحاول أن تعالجه..

هز منصور رأسه في غضب وقال:

- هناك حالات مرضية ميؤوس منها..

- والحل يا منصور؟

لوى شفتيه، وقال باشمئزاز:

- الحل هو الموت..

- وكيف نموت؟؟

أدرك ما أرمي إليه، دارت عيناه في حركة فائقة، وكأنه يكتشف آفاقا نفسه، ويحاول أن ينشر أفكاره القديمة، ويمعن النظر في آرائه:

- نموت يا مصطفى كما يموت الأبطال ..

احتضنته في سعادة وقلت:

- ها أنت ترانا متفقين..

- بكل تأكيد.. وكنت عازما على اللحاق بكم في الجبال.

- سنذهب غدا.. لقد اقترب الزحف الكبير..

وخرجنا نتجول في أنحاء قومول وقد أرخى الليل سدوله، وكان شيئا واضحا تماما في الموقف، فالناس قد ضاقوا ذرعا، ولا يحتاج الأمر إلى أن ينحدر الرجال من الجبال، وينزل خوجة نياز حاجي ليشعل الثورة من جديد.. وقبل أن نفترق قال منصور درغا.

- لم تسألني عن "نجمة الليل"؟

أمسكت في ضراعة:

- أين هي؟؟

ضحك منصور في مرارة وقال:

- تزوجت..

- كيف؟ أنك تمزح..

- عندما هجر الأمير القصر، وتفرقت أسرته، وخرج الناس للحرب، أصابها انهيار عصبي.. كانت تبكي وتصرخ.. لكن بكاءها وصراخها لم تطمس جمالها. هل فهمت..

- لم أفهم شيئا..

- لقد أعجب بها ضابط صيني نزل قومول لأول مرة.. دعنا من هذا الأمر الآن .. لا يصح أن نكترث له..

***

وانا إذ تنطفئ الفرحة في قلبي –أشعر أنني أغوص إلى أعماق بعيدة محشوة بالأفاعي والأشباح والدخان الأسود، ذلك كابوس قديم كنت أراه في منامي وأنا طفل صغير، وكان أبي يعلمني أن أقرأ آية الكرسي قبل أن أنام، وأن أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة.. لست أدري لماذا عادت إلي ذكرى ذلك الكابوس.. آه يا "نجمة الليل" .. هل أصدق دموعك القديمة؟ أم تعاليك علي في البداية؟ أم تشبثك بأهدابي؟ أم لظات الوداع وحديثك عن الذئاب القادمين من الصين؟ ماذا أصدق؟

أتراني أصدق الماقع المرير؟

- غدا نذهب إلى الجبل يا منصور..

وتهت بنظراتي إلى في ليل قومول الحزين وقلت:

-وعلى السفوح يبدو الليل صافيا، وتسمع أغاني الرجال فيطرب قلبك يا منصور، وتنظر على النجوم.. فلا ترى نجمة واحدة.. بل ترى ملايين النجوم تبتسم ابتسامتها الخالدة.

- الجبل رائع يا منصور....



****







(6)



تركت "نجمة الليل" ورائي، وتطلعت إلى القمر وكان بدرا، نعم كان يغلفه السحاب المتكاثر، لكني كنت أقرأ في وجه القمر الابتسامة الخالدة التي ظلت تتسم بالهدوء والوقار منذ ألوف السنين أو أكثر، أنا في ضوئك يا قمري المنير يا من تتحدى الظلمات أمضي وسط المراعي، قاصدا قيادة الثوار... وأنا أظلم الثوار إذ أذكر واحدا او مائة أو ألفا... إنهم كثيرون.. أمثال الجنرال محمود محيطي والجنرال العظيم عثمان باتور والجنرال شريف خان والجنرال عثمان أوراز.. وهناك على القمم التقت الزمرة-العيون التي انظلقت إلى كل المقاطعات والمدن-ونشرت تقاريرها عن الحال السيئة التي يرزح تحت عبئها شعبنا المناضل في تركستان.. وفي أواخر العام انطلق السيل العارم..

قال خوجة نياز:

- سنلتقي في أورومجي حيث قصر الحاكم العام الصيني...

وكنا نعرلم أن المرحلة طويلة، وأن دونها دماء وأهوال، أدركت ذلك من كلمات الجنرال محمود محيطي الذي سمعته يقول:

- سوف تصاحبنا العناية الإلهية...

قلت:

- أيها الآباء العظام إن الأحداث قد أتلفت بعض شبابنا..

ضحك خوجة نياز وقال:

- عندما تشرق شمس الحقيقة فإن هذه الخزعبلات كلها تذوب..

ونظر صوب القمم المتوجة بالثلوج وقال:

- إرادة الله أقوى من أي فلسفة أرضية، إن ما تحسبونه انتصارا أبديا إنما هو بريق مؤقت سرعان ما ينطفء.. وفي كل عصر من عصور التاريخ يتحدى بعض المغرورين كلمات الله وينالون بعض النصر..لكن هيهات.. لقد قال الله في كتابه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)

- انطلقوا بعون الله ولا تخافوا أحدا إلا الله..

ظاهرة غريبة أدركتها في شعب تركستان، هذا الشعب الذي بدا نائما مستسلما جريحا ينزف الحسرات واللوعة، ويعشش في قلبه اليأس، هذا الشعب عندما رأى جموعنا تزحف، إذ به ينفض الكسل والوهن عن كاهله، ويفتح عينيه في فرحة غامرة وينطلق معنا.. يا إلهي! أين الصينيون؟ إنني أراهم يفرون مذعورين، وكثيرون منهم يعتنقون الإسلامويحاربون إلى جوارنا وتحررت الفتيات اللاتيكنا أو ما زلن في عصمة الكفرة من الجنود الصينيين.. وخرجنا يشاركن في المعركة..

في إحدى المعارك وجدتها تمسك برجل ضخم الجثة والناس من حولها يصفقون.. من هذه المرأة؟ غنها امرأة من "كاشغر" اسمها "خاتون".. وضابط صيني أمسكت المرأة بالضابط وربطته في جذع شجرة ضخمة.. أخذ يدور حول الشجرة كالثور الذبيح.. وهي تشوي ظهره بالسياط...

- قلت لي: يا خاتون.. أنت لي.. ولن تستطيع أي إله أن ينقذك من بين يدي.. سقتني إلى كوخ حقير.. أتذكر؟ أخبرك ألف مرة.. إني أكرهك.. وأكرهك.. ولن تنال مني شيئا.. وأكدت لك أن الله أقوى مني ومنك.. وتركتني أيها الملعون عارية.. أحضرت رجالك السكارى يتفرجون على امرأة مسكينة عارية مكتوفة اليدين.. وكنت أبكي وأتطلع إلى السماء وهي تمطر.. دعوت الله من أعماقي.. سخرت مني وقلت لي.. الله لن يسمعك.. الموجود هو أنا.. الآن أين أنت يا صن لي؟ .. انظر على الرجال القادمين من كل صوب وحدب.. وتطلع إلى الرايات التي تخفق.. هل عرفت الله؟ .. تكلم.. آه.. إنك تسجد الآن.. تقبل التراب.. تستجير بالإله الذي أنكرته.. هل أنت رجل؟ .. أعرف أنك حقير تخاف الموت.. لكنك أيها الوغد جرحت قلبي.. وجرحت جسدي.. والمرأة التي تجرح عفتها قهرا في شرعنالا عقوبة للجاني إلا الموت..

ونظر خوجة نياز إلى المشهد المثير وقال:

- يبدو أن المرأة جنت..

وقدم أحد رجال "كاشغر" وقال:

- "كاشغر" كلها تعرف قصتها..

- لا بد أنها قاست طويلا..

- هي من بيت عريق يا سيدي..

- يبدو ذلك..

- والضابط كان لا يحلو له العبث إلا ببنات الأسر الفاضلة.. لقد قتل عددا كبيرا من كبار العلماء والمتدينين..

وتقدم خوجة نياز إلى حيث الضابط المربوط:

- ماذا فعلت؟؟

نظر الأسير بعيني متعبين وقال:

- كنت أمارس بالأمس حقوق المنتصر..

- وما هي حقوق المنتصر؟..

ولما لم يستطع أن يجيب أردف خوجة نياز:

- أن يدوس القيم العريقة؟

- لقد أحببتها أردتها لنفسي.

- ألهذا جئت لتحارب؟

- كنت أفعل ما يفعلون والمسئول هم القادة.

قال خوجة نياز للواقفين:

انظروا إليه.. يريد منا أن نحاكم من أتوا به..

ثم التفت إليه قائلا:

- وأمام الله نقف فرادى (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:95)

ألم تسمع بهذه الآية؟ بالطبع لا. ونحن لن نحاسبك على جرم قادتك.. بل بما اقترفت يداك..

- انهار الضابط وهتف:

- لا أريد أن أموت...

قهقهت خاتون قائلة وهي تخاطب خوجة نياز:

- سيدي الرئيس.. كان ضحاياه يطلبون منه الرحمة.. سمعت أحد الشباب الشرفاء يهتف أمامه ذات مساء "لا أريد أن أموت" .. نفس الكلمات.. لكنه كان وقحا..

وواصلت الكلام وهي متجهة إليه:

- أتنكر؟ كنت وقحا.. ورفعت مسدسك بكل هدوء وأطلقت منه مجموعة من القذائف.. ثم أخذت خاتون..

تدور على السامعين وتقول بصوت ملتاع حزين:

- كان الضحية يتلوى.. ويتأوه.. عيناه تصرخ باللهفة للحياة.. والكلب الحقير يشرب فنجانا من الشاي.. ويدخن في تلذذ.. ويحكم المعطف الواقي من البرد على جسده.. ويضحك.. ثم يجلسني مرغمة على فخذيه.. ويداعب خدي بخنجر.. تصوروا.. تصوروا ... انظروا إلى وجهي إن آثار الجروح القديمة لم تزل بوجهي.. وكان وجهه يشرق بالسعادة وهو يمتص قطرات من دمائي..

ثم صرخت في نوبة حادة تشبه الجنون:

- محكمة..

وساد الصمت، وتعلقت الأبصار بالمرأة الدامعة المتوترة، وبالضابط المهزوم المربوط في الشجرة، وفي لحظات شق الصفوف شيخ يربو على الستين وفي يده سيف قديم، ولم نكد نفيق حتى كان سيفه قد أطاح برأس الضابط.. وساد هرج ومرج، بينما صاح العجوز:

- أنا أبوها.

وتعلقت خاتون بأبيها، وأمر نياز رجاله بالانصراف، واحتدمت المعارك حول "كاشغر" وغيرها من المدن وأخذ الثوار يمشطون المناطق المحررة من كل خائن أو محتل..

عشرات القصص المحزنة تروى في كل مكان.. كان خوجة نياز يغمغم: "أنا أبوها".... وأخذ يكرر هاتين الكلمتين في تمعن، كان يشعر أنه هو الآخر أبوها، وكان يؤكد للجميع أن تركستان التي تعاني الأهوال في حاجة دائمة إلى أب مسلم بار، وإلى أبناء شرفاء يدافعون عن شرفها وكيانها، وينتقمون لجراحها البدنية والنفسية.

وتذكرت الملعونة "نجمة الليل" .. ليتها كانت مثل خاتون...

لكن لماذا أفكر الآن في "نجمة الليل" أنا لست أباها.. وهي ليست كخاتون.. إنها مجرد إفرازات سامة لهذه الظروف العصيبة.. وفي كل بستان جميل قد تنبت أشواك تدمي الأنامل، وقد تتخفى أفعى بين الورود... و"نجمة الليل" شيء شبيه بالهزيل الحقير الضابط.. ويجب أن تكون حربنا ضده وجيشه.. وضد الإفرازات السمة القاتلة التي تشبه "نجمة الليل" وأمثالها...

وساد السكون شتى الأنحاء، وأعلنت الجمهورية الجديدة في "كاشغر" واختير خوجة نياز رئيسا للجمهورية التركستانية كما اختير رجل صالح آخر كان مهاجرا إلى القاهرة اسمه مولانا ثابت رئيسا للحكومة التي تم تأليفها، وقد تكون مجلس للنواب والوزراء... وتحررت أراضينا تقريبا.. ةبعد فترة وجيزة اتجهت النية لمحاصرة مدينة أورومجي وهي مقر الحاكم الصيني، ومعقله الأخير..

أما أنا فأرسلت في مهة تتعلق بتجميع القوات وتوزيع الأوامر إلى قومول.. كنت سعيدا لذهابي منتصرا إلى قومول.. ما أروع أن يعود الجندي منتصرا إلى مسقط رأسه، إنه يمضي مرفوع الرأس، ينظر إلى الناس في حب ومودة، يشعر أن رابطة قوية تربطهم وبينه، وهو نبض من قلوبهم.. جزء من أرواحهم وآمالهم، وأفراحعم وآلامهم النصر العظيم-كالألم العظيم- يوحد القلوب، ويصهر الآمال في بوتقة واحدة.

الفارس العائد يدق أرض الشارع في فخر.. ينظر إلى الوجوه الجميلة المستبشرة وهي تطل من النوافذ، وإلى الأطفال الذين لوحت بشرتهم البيضاء ويجيئون في هدوء وسعادة..

الفارس العائد يشعر أنه قد أدى بعض الواجب، وهو يقتحم الحصون بالأمس، ويطلق مدفعه القديم، ويطهر المواقع من دنس الصينيين، وأنا الفارس العائد... يا لها من أغنية حلوة.. أشد ما كان يثلج صدري أن أرى الغزاة ينهارون ويموت كل منطق لديهم.. ويذكرون الله على الفور.. أنا واثق أنهم لم يكونوا يكذبون.. لقد انجابت الغشاوة عن أعينهم فعادوا بفطرتهم – وقت الكرب - إلى الله .. الحقيقة الأولى الأزلية التي لا زيف فيها..

وسرت... وسرت.. وأنا أدق الأرض بحذا جديد.. سمعت من خلفي يهتف:

- ها قد عدت مرة أخرى يا مصطفى مراد حضرت.. أقسم أنك جئت تبحث عنها..

ونظرت خلفي فإذا بمنصور درغا.. كان يربط ساعده الأيمن بضمادة كبيرة، كما كان رأسه هي الأخرى مربوطة بضمادة صغيرة أخرى وهتفت في انشراح:

- كدت لا أعرفك..

وتعانقنا، بينما أخذ منصور درغا يقول: "قضيت فترة من الزمن في المستشفى، استخرجوا من ذراعي رصاصتين أو ثلاثة لا أدري.. وقالوا إن شللا مؤقتا سيصيب ساعدي، هذا ليس مهما.."

ثم أحنى رأسه وقال في حزن:

- مات كثير من الرجال .. أصبحت أكره الموت.. أن يقتل الإنسان هذا شيء مريع.. لماذا كل هذه الحماقات؟ غير أني أحاول أن أنسى.. وأهز كتفي.. وأرفع مدفعي.. وأسدده عشوائيا صوب تجمع صيني أو روسي.. لا أريد أن أقتلهم وإنما أريد أن يكفزا عن قتلنا.. أريد لأسلحتهم أن تصمت.. الكارثة أن أسلحتهم لا تصمت إلا إذا صمتوا هم أولا.. وهذا محزن.. لا بد أن يموتوا لكي تكف أسلحتهم عن الجنون.. هيا نضحك.

قلت في دهشة:

- من؟؟

- "نجمة الليل..

- أنا أبوها..

وقهقه منصور عندما سمع كلمتي الأخيرة:

- أنت أبوها إذن؟

وشردت ببصري نحو القصر المهجور وقلت:

- سمعت عجوزا في "كاشغر" يقول نفس الكلمات.. أنا أبوها.. وسمعت رئيسنا يقولها أيضا.. أنا أبوها.. وبلدنا يا منصور درغا في حاجة ماسة إلى من يردد دائما : أنا أبوها.

ربت منصور على كتفي في حزم وقال:

- الحرب أرهقت أعصابك.

قلت في أسى:

- ربما.

- هل بلغتم أورومجي؟

- لقد حاصرناها ، والمعركة أوشكت على لانتهاء..

ضحك منصور درغا وقال:

-أما أنا فأقول إنه لا نهاية لعذابنا، ما دمنا بين كماشة : فكها الأولفي الصين، وفكها الثاني في روسيا، وكلاهما طامع فينا، يريد القضاء على إسلامنا.. لأن القضاء على الإسلام قضاء علينا.. سمعت فلاسفتهم يقولون ذلك.. وقرأت بعض نشراتهم السرية في بعض المدن التي قمنا باحتلالها وفروا منها قبل أن تتاح لهم الفرصة إحراق أوراقهم.. إن لدي مجموعة كبيرة من هذه الوثائق.. وسوف أحملها إلى خوجة نياز.. إنها حرب صليبية من نوع جديد..

وفجأة مال منصور على أذني هامسا:

- "نجمة الليل" .. هربت تحت جنح الظلام..

- كيف هربت؟

- كان الضابط الذي أخذها لنفسه أول الهاربين..

ضحك منصور وقال:

- "نجمة الليل" .. طول عمرها أرض.. بل أوحال فوق أوحال.. أنت لا تعرفها كما أعرفها.. دعني أحدثك عنها لأول مرة أيها الصديق العزيز.. لقد كان لها من العشاق أكثر من عشرة.. كانت تجمع بين سائس الخيل وفتى المراعيوالجندي السمهري والعجوز الغني الذي يجود عليها بالجواهر.. أنت يا مصطفى ساذج أبله.. لا تحزن.. أنا لست مثلك تماما.. هذه الأيام السوداء جعلتني لا أثق إلا في شيء واحد.. في الإنسان الذي يحمل سلاحه ويحارب حتى الموت، هذا عصر فساد وضياع.. العيش فيه لعنة.. لقد ذهبت "نجمة الليل" إلى أورومجي... صدقني لو استطعنا أن ندخل أورومجي فستجدها تأتي إليك مستنجدة باكية، وتبدو للجميع كشهيدة للعسف والطغيان.. وسيصدق الناس دموعها وأنت أيضا سيرق قلبك..

وتحسست بمسدسي وقلت بصوت كالضجيج:

- الخائن يعدم..

ضحك منصور وقال وهو يهز كتفيه:

- لا تستطيع.. ألم تكن مرغمة على ما فعلت؟

- يجب أن نطهر أرضنا من الإفرازات السامة، والنباتات المتسلقة..

ابتسم منصور:

- الإفرازات من صنع الله.. والنباتات المتسلقة موجودة دائما.. أما أنا فقد تزوجت غجرية من الجبل لا تعرف الكثير عن الحرب.. هيه.. وأنت؟

- سأبقى في قومول ليلة أو ليلتين، وسأعود إلى أورومجي..

- ولن أستطيع اللحاق بكم قبل أسبوعين..

وودعت منصورا، وسرت في طرقات قومول على غير هدى.



***





(7)



وبرغم كل شيء فقد كنا دولة صغيرة في مجابهة دولتين كبيرتين هما الصين وروسيا، ولكن هل نتخذ من صغر حجمنا مبررا لكي نفتح أبوابنا للغزاة، ونفرط أغلى ما وهبنا الله؟ لتمض الحرب شهرا..شهرين..عاما.. لتمض كيفما شاء الله.. زسنبقى طوال حياتنا محاربين فهذا قدرنا، ولا حيلة لنا فيه، ونظر خوجة نياز حوله وقال:

- لقد خربت الحرب كل شيء.

قال الجنرال شريف خان وكان صلبا عنيفا، وكأنما خلقه الله محاربا:

- المهم ألا تخرب الحرب ثقتنا بالله وبأنفسنا.

- مجاعات هنا وهناك..

- أعلم يا سيدي الرئيس أن الثمن باهظ.

- وقلق يسيطر على البقاع.

والتفت إليه الجنرال شريف خان وقال:

- ولكن عندي فكرة.. أن ندخل أورومجي، في معركة يائسة..

- هذا ما يجب أن نفعله..

- إما أن نموت أو نسيطر تماما على أورومجي وإيلي.

وفي هذه الأثناء كانت المباحثات جارية بين الحاكم الصيني والروس لإرسال قوات كافية لسحق الثوار، وكان الروس في الحقيقة لا يثقون في هذا الحاكم.

ولهذا تحركوا بسرعة، وساهموا في عمل انقلاب في القوات الصينية تزعمه قائد الجيش الصيني، ونجح الانقلاب وفر الحاكم إلى الصين، وأصبحت السلطة الكاملة في يد القائد الصيني، وباسم تحالف المصلحة والمبدأ، عقدت اتفاقية جديدة بينه وبين الروس، تعهد القائد الصيني بجمع المواد الخام من التركستان الشرقية وإرسالها للروس، في مقابل مده بالرجال والسلاح لفك الحصار والقضاء على الجمهورية الوليدة، وفي يوم من الأيام في شهر ديسمبر أخذت ثلاث ألوية روسية مجهزة بثلاثين طائرة وعشرين دبابة وخمسين سيارة مصفحة تتدفق عن طريق "إيلي" و"تشوشك".

كانت الأنباء مزعجة، أولاها الناس اهتماما بالغا، إذ لم يكن لدينا قوة تستطيع أن تهزم المد الروسي المباغت، وقال خوجة نياز:

- بالأمس كنا نحارب.

رد الجنرال شريف خان مستفهما:

- واليوم؟

- حربنا ضرب من المغامرة.

ثم التفت إلى الجنرال وقال:

- ومع ذلك، هل هناك بديل للحرب أيها الجنرال الصديق؟؟

- أنا لا أفهم شيئا اسمه السياسة، علمتني التجارب أن الحرب هي الأسلوب الوحيد الذي تبقى لنا، ومن العسير أن يستسلم العدو إلا إذا قهر في معركة...

قال خوجة نياز وهو يرى الطائرات تمطر الثوار بوابلها:

- إذن فلنمض في الحرب حتى النهاية..

وفي هذه الأثناء، أرسل الروس خبراء في كافة الشئون العسكرية والتجارية والسياسية، وكان ضابطا روسيا واحدا من اثنين من المستشارين الكبار للحاكم الصيني الجديد.

وكان الروسي داهية خبيثا لا يستهان بتخطيطاته وآرائه والتقى بالحاكم الصيني وقال له:

- هناك صورة متخيلة في ذهني للمعركة، لو استطعنا تحقيقها لكسبنا الكثير..

قال الحاكم :

- كيف؟

- لدينا مجموعة ضخمة من المنشقين من أبناء تركستان الشرقية ونحن واثقون منهم تمام الثقة، وفي إمكاننا أن تستعين بهم، ونجعلهم في مقدمة الجهاز الإداري والعسكري للحاكم.. عندئذ تبدو المعركة وكأنها معركة بين الرجعيين من أمثال خوجة نياز وجماعته، وبين المنشقين.

وأبدى الحاكم ترحيبا حارا بالفكرة، وعلى الفور تدفق المنشقون وهم تركستانيون أصلا، ونصب أحدهم رئيسا للمخابرات التي كانت على غرار الجستابو الألماني، ولعب أقذر الأدوار في الانتقام من الوطنيين والنيل منهم.. كما تم إنشاء فروع لمؤسسة المخابرات في أنحاء المدن المختلفة..

وكنا نحارب بكل ما وهبنا الله من قوة، فكانت معركة عنيفة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ولم تكن الحرب وقفا على الرصاص، والطائرات والمصفحات والدبابات التي تخوض في أجساد الشهداء منا، بل كانت هناك حرب أخرى من نوع رخيص، فبعد أن قبض المنشقون على زمام الأمور في إحدى المدن، وأخذنا نحن نتراجع عن أورومجي، سمعنا بمحاكمات عجيبة تجري، لقد أسر صديقي منصور درغا، ثم استطاع الهرب بعد فترة وروى لنا الأعاجيب، في مبنى المخابرات "ج. ب. أو) سيق منصور درغا وقال:

- أنا رجل من الجبال لا أفهم في الحرب شيئا، ولا أعرف القراءة ولا الكتابة، أخذني الثوار بخرافي وبهائمي على الرغم مني ، ثم أمسكتم بي .. أنا بريء لا أعرف من الحرب شيئا.

كان مركز المخابرات يبدو كجهنم، ورئيس المخابرات يقف بنفسه يراقب ويوجه الأمور.

- أيها الضباط الخونة، كيف تحاربون في صفوف الرجعي الخائن خوجة نياز.. ألا تعلمون أنه اختلس أموالكم وأخفى الملايين عنكم؟؟ ألا تعلمون أنه يتاجر بكم ويستغلكم وأن لديه الضياع والنساء والذهب؟؟ انظروا فضائحه..

وأخذ ينشر أمامهم بعض المطبوعات المزيفة، والأرقام الكاذبة، والصور الفوتوغرافية الملفقة، وفعل نفس الشيء بالجنرال شريف خان وغيره من كبار القادة، وبعد أن حطم روحهم المعنوية بأكاذيبه أشار إلى زبانيته فبدأ في استئناف التعذيب.. الآلات الجهنمية تعمل والوسائل الخبيثة لا حصر لها، والمساكين يبكون ويضرخون، أو يموتون صامتين، واعترافات موهومة تنتزع ويوقع عليها المتهمون الأبرياء قهرا، ثم تنشر في صحيفة "سنكيانغ" وهناك الكتيبات الصغيرة التي دبجها الخونة، أو ألفها تلامذة الجستابو، ومهروها بأسماء تركستانية، فلقد اتسع نطاق الحرب، واتخذت اتجاهات عدة، وظل الثوار يحاربون في استماتة..

وجاء يوم لا يمكن أن انساه في حياتي...

آه .. ليتني لم أعش لأرى ذلك اليوم، احتدمت المعركة وتوافد الأعداء والخونة من المنشقين، توافدوا من كل مكان، كانت المعركة ضارية.. تلفت خوجة نياز حواليه:

- أيها الإخوان ليس أماننا إلا الشهادة..

كان الجنرال شريف خان منهمكا في المعركة، والتراب يحفر وجهه المحتقن والطائرات والدبابات تصب نيرانها في عنف، والقتلى يزحمون الطريق ورائحة الدم تشبع الجو، وتمتم شريف خان:

- يبدو أننا خسرنا هذه الجولة..

وقال خوجة نياز:

- لا بد أن ننسحب إلى موقع آخر..

وتكاثر الأعداء، وأخذنا نلاقي الأهوال في انسحاب غير منظم في حرب غير متكافئة، وكنت أصعد تلا قاسيا لا أكاد أشعر بما يدخل في قدمي ويدي من الأشواك، ووقفت على تبة عالية وأنا ألهث، وأنا أنظر إلى بعيد.. يا إلهي لقد سقط خوجة نياز والجنرال شريف وغيرهما في قبضة العدو، ثم سيقوا إلى مركز المخابرات أو "ج. ب. أو".

لقد تبدد الأمل.. كل شيء في جوانحي يموت.. الحب.. الأمل.. النصر.. كما ماتت بالأمس في قلبي "نجمة الليل" .. أيام النضال تكاد تتوزارى، وتصبح مجرد ذكرى .. كذكرى منصور درغا الذي اختفى ولم أكن أعرف منه في حينها أي شيء.. آلمني أن أرى أبناء تركستان الشرقية الذين انشقوا وعادوا بكل قسوة وعبودية وعنف وسخرية بالثوار.. إن أقسى شيء على النفس أن أرى واحدا من أبناء بلدي مكتنز الجسم ضاحك العينين، عالي النبرة، ويسوق إخوانه كما تساق الشاه.. ويعاملهم كالحيوانات.

إن ما جرى لخوجة نياز والجنرال شريف خان يكاد يعتبر سرا لفترة طويلة من الزمن؛ لأنهم أخذوهما وغيرهما من الأسرى لأماكن مجهولة.. إلى جب سحيق لا يعرف عه أحد أي شيء.. في مركز المخابرات وقف خوجة نياز مهلهل الثياب، ممزق البشرة وإلى جواره الجنرال شريف خان، وكان التحقيق عنيفا شاذا وقف حاجي نياز محمر العينين عاجزا، وصاح به مدير المخابرات:

- ألا تقر بخيانتك؟

ضحك حاجي نياز، ونظر إليه بعينين يكاد يطفو منهما الدم، وقال:

- وأنت؟

- أنا ماذا؟

- أأنا الخائن أم أنت؟؟

وهوى رئيس المخابرات بصفعة على وجه رئيس الجمهورية وهز حاجي نياز يديه المقيدتين في بأس وسخرية وتمتم:

- قد تحك أنفك ذبابة على الرغم منك..

- تكلم الحقيقة..

ضحك خوجة نياز وقال:

- الحقيقة واضحة.. الذين أرادوا المحافظة على حريتهم وشرفهم أيديهم في أغلال.. والخونة والأنجاس يمسكون بمقاليد الأمور وبالسياط وبمفاتيح السجن الكبير.. والحقيقة الأخرى التي أعلمها هي أنني سأموت.. لهذا فأنا أبصق عليك..

سدد إلى رئيس المخابرات نظرات نارية وقال:

- وما قيمة جثتي.. إن الروح هناك تحلق في أعالي الجبال.. لأنها لا تموت..

وتدخل مدير تحرير الصحيفة قائلا وقد أمسك بورقة وقلم متسائلا:

- ما معنى الروح يا حاجي نياز؟

نظر إليه حاجي نياز وكان يعرفه:

- ألا تنشر شيئا في صحيفتك عن تعاليم بوذا وكونفشيوس؟؟

- حسنا .. الروح من أمر ربي..

رد مدير المخابرات:

- تلك سفسطة الرجعيين..

وابتسم نياز وتمتم بكلمات القرآن:

- قال الأولون من الكافرين: لا يهلكنا إلا الدهر.

همس للسيد حاجي:

- يجب أن تعترف بأنك غررت بجموع الشعب.

- ويجب أن تعترف أنت الآخر بأنك تآمرت ضد الشعب الذي حملني أمانة الحكم، وحارب بشرف من أجل حريته..

- ولتعترف بما اختلسته من أموال..

- ليس لدي أموال خاصة، كنت آكل وأشرب وأنام مع المحاربين الشجعان..

- وأنت تحاكم الآن كمجرم حرب.

شرف أن أحارب من أجل طرد الغزاة، لست مجرم حرب ولكني مجاهد في سبيل الله..

وقال القائد:

- القضاء على الإسلام أولا، عندئذ تتفتت كل مقاومة..

- بالطبع.

جمع دير المخابرات أوراقه وهو يقول:

- الأمر ليس في حاجة إلى اعتراف منك، فقد قبض عليك متلبسا بالجريمة في ميدان القتال.

- سجل عنك بكل فخر أنني لم أتراجع.. وكنت أتمنى أن أموت شهيدا.

أما الجنرال شريف خان فقد تدخل موجها الحديث لمدير المخابرات:

- لو كنت جنديا من جنودي لسحقتك بحذائي كحشرة.

رمقه مدير المخابرات بنظرة حانقة وقال:

- إن إعدامك لا يكفي، يجب أن تمزق قطعة قطعة، ثم يرمى لحمك للقطط..



وكان منصور درغا مسجونا في نفس المكان، ورأى بعينيه كل ما جرى، وشرب هو الآخر من كؤوس العذاب والهوان، وقد نجا من الموت بأعجوبة، فقد حدث انفجار أثناء الليل في يوم من أيام شهر أوغسطس أثار ذعرا بالقرب من مركز المخابرات، وأحدث فيه فجوة كبيرة أعطت الفرصة لثلاثة من السجناء كي يفروا، واستطاع منصور درغا أن يهرب، أما زميلاه فقد أرداهما الرصاص قتيلين، ولم ألتق بمنصور درغا إلا بعد عام وكان متخفيا في زي راع غجري أعرج رث الثياب يدعي البله..

وفي هذه الأيم العصيبة، لعب العدو بأرواح البشر وأمن البلاد وثرواتها، وعبثوا بكل مقدس وغال، قال منصور درغا:

- تصور... أنهم يستولون على إناث المواشي في التركستان ويبعثون بها إلى بلادهم ليقطعوا بذلك تناسلهم.

قلت في مرارة بائسة:

- تماما كما استولوا على النساء بالأمس.

وكانت التهم تلفق تلفيقا، ويكفي أن نلصق التهمة بأحد الأبرياء فيؤخذ جميع أقربائه بذنبه ، وضرب حصار شديد على البلاد حتى لا تتسرب الأنباء المحزنة خارجها، وعم الذعر، وانتشر الخوف وصار الإنسان الوطني لا يستطيع أن يتكلم بحرية مع ولده، فقد نجح العدو في أن يجعلوا من نصف البيت التركستاني جواسيس، وأصبح الجار لا يثق في جاره، وتحول اكثر من ثلاثة أرباع كبار موظفي الدولة إلى جواسيس، ونصف رجال الجيش والطلبة والقرويين والعمال، أصبحوا يتقاضون مرتبات من مركز المخابرات العامة، وبعضهم يمارس التجسس تحت التهديد حتى لا يزج به في معتقل، ولا يختطف أحد أبنائه، أو تنتزع ابنته، وكانت التهم التي توجه إلى بعض الناس في غاية الدهشة والغرابة، فهذا طالب يقبض عليه بحجة أنه ينوي الثورة، وهذا عامل يساق إلى التحقيق والتعذيب لأن آراءه تضر بأمن البلاد، وهذا مفكر يقبض عليه بتهمة العمل لحساب دولة أجنبية... يا إلهي.. كلما تذكرت هذه الأهوال يحيل إلي أن ما كنت أراه كان مجرد حلم رهيب لا ظل له من الحقيقة، وكيف أصدق أن مائة ألف يقتلون بوسائل شتى، وإن حوالي الربع مليون يساقون إلى المعتقلات، وأن علماء الدين الذين يعاملون معاملة مذرية حتى الموت، وأن كتب الدين والتاريخ تمزق، والمساجد تحال إلى مخازن ومسارح.. وتلقفوا النشء الجديد ليتعلم ما يدمر به تاريخه وشخصيته كي يذوب في طوفان الغزو.



***





(8)



آه يا مدينة "قومول" ما أكثر ما شهدت من فواجع وكوارث! فبعد أن فشلت محاولة حاكم قومول الصيني أن يستولي على الأميرة وثارت ثائرة العلماء واندلعت الثورة، أصبح اسم قومول على كل لسان، كان اسمها رمزا للرفض والعزيمة، وكانت قومول مثالا للكرامة والإباء، وكان الرجال يشعرون بالفخر لانتمائهم إليها.. هكذا المدن-مثل الأجداد تماما-قد تكون ذات حسب ونسب، وقد تكون من أسافل المخلوقات، أو ممن لا وزن لهم من مخلوقات الله.. غير أن الأمر لم يدم طويلا، فقد تعرضت قومول للانتقام، وكان قصر أميرها مركزا لتصويب الرصاص والنقمة والأخذ بالثأر، وكانت الأميرة داخل القصر وبعض أفراد الأسرة المالكة، وكانت نجمة الليل ما برحت تقيم فيه.. وكانت الأسرة المالكة على وشك الفرار، غير أن الضابط الصيني دهم القصر وليس معه سوى عدد قليل من الجنود..دخل شاهرا سيفه ووقعت عيناه أول ما وقعتا على فتاة جميلة تشم وردة حمراء وتداعب بها خدها، كانت نجمة الليل تبتسم وتنظر إلى الضابط نظرات ذات معنى، وقبل أن ينطق الضابط بكلمة سمع نجمة الليل تقول باسمة:

- نحن لا نؤخذ بقوة.. وأنا أحب الشجعان لكني أكره الجلادين القساة...

نظر إليها في حيرة، ما معنى كلماتها؟ ومن هي أولا؟ إن جمالها لا شك رائع، وكلما نظر إليها ازداد افتنانا، لكنه لا يثق بأحد، يشك في كل مخلوقات الله.. ويفضل أن يأخذ كل شيء بالقوة والعنف، أليس محاربا؟ والنصر في جانبه؟ وهؤلاء المسلمون رفضوا الزواج من الصينيين، وثاروا من أجل ذلك، وسمع نجمة الليل تقول:

- إذا أخذتني قهرا فلن تشعر بأدنى سعادة... اقترب منها، وقد أنزل سلاحه الذي كان مصوبا، وقال:

- أفهم من ذلك أنك لا تمانعين في جلسة قصييرة وكأس من نبيذ؟

توردت وجنتاها وقالت:

- ولم لا أيها الماجن؟ لكنين أخجل من رجالك.

- سوف أجعلهم ينتظرون بالخارج.

قالت نجمة الليل في اشمئزاز:

- يا إلهي! كيف يسعد العاشقان والعيون ترقبهما أو على الأقل يعرفان أن هناك من ينتظر.. لا...لا ليذهبا بعيدا بعيدا...

- إن بالقصر أشخاصا نريدهم..

- أنا سيدة القصر، وقد أصبحت طوع يمينك.

قالتها وهي تغمز بإحدى عينيها، فأمر رجاله بالعودة إلى ثكناتهم واستطاع أقناعهم بالانصراف الفوري وأقبل نحو نجمة الليل:

- حسنا، إن جمالك يذهب العقل..

- لا تلمسني. دع فرصة لكي أتعطر وأحضر النبيذ.

وهرولت نجمة الليل إلى الداخل، كانت الأميرة وأمها وأخواتها وباقي الخدم في ذعر شديد، والليل قد أطل على قومول بوجهه الأسود، والرعب يسود جنباته، وقالت نجمة الليل للأسرة المالكة:

- آن أن ترحلوا قبل أن تسقطوا سبايا في أيدي الصينيين، هذا أمر يؤسف له، سوف أتولى خديعة الضابط وانسلوا أنتم من الباب الخلفي، وانطلقوا صوب الجبل، العربة التي أعددناها تنتظر، والرجال يحرسون طريق الهروب، حذار أن تحدث معركة، أية معركة تنشب سوف تجمع عليكم الأعداء، وستفقدون حياتكم أو كرامتكم، إنني على استعدتاد أن أضحي بنفسي من أجلكم، لا تضيعوا الوقت عبثافالضابط في الغرفة، وأنا ذاهبة إليه بالنبيذ، ولتذهبوا أنتم.

وانهمرت الدموع، واختلطت كلمات الوداع بالتأوهات والنشيج، وعادت نجمة الليل وقليل من الدموع ما زال عالقا بأهدابها، لكنها كانت تغني أغنية صينية خليعة كانت قد حفظت بعض مقاطعها من خادمة صينية عجوز، وكانت تحمل زجاجات النبيذ، وحينما رفعت الكأس للضابط نظر إلى الكأس في شك، ثم ضربه بكفه الغليظة مما أزعجها وأثار الخوف في قلبها فقالت شاحبة الوجه:

- سأشرب أنا أولا، وليس في تاريخ القصر أحد مات مسموما، هنا لا يتصارع الرجال والنساء إلا بالسيوف.

اقترب منها وضمها إلى صدره، فدفعته في رفق قائلة:

- لقد خسرت كثيرا.

أدرك ما ترمي إليه فقال على الفور:

- أنا آسف.

- فات الأوان.

- ما معنى ذلك؟

- إن نجمة الليل لا ترهب أحدا إلا الله.

- لكننا قبل كل شيء تربطنا علاقة حب.

- الشك يقتل الحب أيها الضابط الصيني.

- الظروف المحيطة تلزمني بالحذر، إن العصابات قتلوا الكثيرين من رجالنا، وأنا أحبك، وقفت متسمرة وقالت في شجاعة:

- لا أريد أن أراك الليلة.

ما أعجب أمرها، هذا ما كان يردده بينه وبين نفسه، وكان في إمكانه أن يقبض على خصلات شعرها الذهبية ويضعها تحت حذائه الغليظ، ويفعل بها ما يشاء، لكن قلبه لم يطاوعه، إنه مأخوذ بأسلوبها وجمالها الساذج الوحشي، وكلماتها الصريحة المعبرة.

- يا نجمة الليل أنا احبك، ولن أنصرف قبل أن تعلني رضاك عني.

قالت وهي تعطيه ظهرها متوجهة صوب الداخل:

- تستطيع أن تطلق الرصاص من الخلف، أنا أعرفكم، لكني ذاهبة لأستريح في غرفتي.

قال في توسل:

- يا أميرتي الغالية.

التفتت إليه هاتفة بعنف:

- لست الأميرة، الأميرة المسكينة طفلة صغيرة وقد هربت إلى الجبال كالقطة المذعورة، أنا في الحقيقة الوصيفة الأولى، وإن شئت فأنا سيدة القصر... كان الأمير وزوجته وأفراد أسرته يأتمرون بأمري، هل عرفت الآن من أنا؟

وطال بينهما الحديث، حتى تيقنت أن الركب الملكي قد غادر القصر هاربا إلى الجبال، لقد نجحت خطتها، وأدت واجبها نحو القصر وأهله، وآن لها ان تنطلق في حرية... إن المآسي التي تدور من حولها، والقيم التي تداس أبان الحروب، وسقوط الحكم ثم قيامه، وتغير الحاكم، وتبادل النصر والهزيمة، وليالي العرق والعذاب والدموع قد أورثها الملل والضيق من الحياة، فلقد ذهب الأمير ولن يعود، وذهب مصطفى مراد حضرت، ولن يعود، أصبح العالم من حولها عالم حيوانات تركض وتنهش وتلعق الدماء، وترتكب الدنس، ولم تلتفت خلفها وهي تذهب إلى حجرة الأميرة، تلك الحجرة الفاخرة ذات الرياش والأثاث الباهر، ثم استلقت على السرير الأميري وتنهدت في يأس، الظلال الحمراء تتراقص على الجدران، والانعكاسات الذهبية تومض ومضات صفراء، والعملاق يقف بالباب ذليلا كالكلب، لقد ألهبت نجمة الليل حواسه ومشاعره:

- أتسمحين لي بالدخول؟

- أغلق الباب من الخارج.

وتصرف حسب أوامرها دون وعي، وكم كانت دهشته حينما وجد نفسه وحيدا خارج الباب، فأدرك المداعبة المخجلة، ففتح الباب مرة ثانية، ودلف إلى الداخل في هياج كالثور، لم تكترث له، أمسك بيدها فسحبتها بلطف..

- لا أريدك الليلة.

- وأين أذهب إذن؟

- لقد سقط القصر في أيديكم، تستطيع أن تتخذ لك مقرا في أية حجرة أخرى.

- وأنت؟

هبت واقفة وقالت:

- تريدني متعة عابرة؟

لم يدر بماذا يجيب:

- حسنا، إذا أردت أن تتزوجني... فـ....

وسكتت، بينما نظر إليها في دهشة وقال:

- كيف؟

- أن تكون على ديني.

- وما دينك؟

- مسلمة.

- لكني...

- أنا أحتقر الذي لا يؤمن بخالقه، إنك تقف أمام رئيسك في أدب واحترام، وكأنك في صلاة، فكيف لا تؤدي فروض الطاعة لخالقك؟

قال وهو يلقي بجثته الضخمة على أقرب مقعد مريح:

- أنا لا أعرف الإسلام.

- يجب أن تعرف.

- والقيادة ستدمرني إذا عرفت أنني أعتنق تلك الأفكار الرجعية.

- وما يدريهم؟

- نعم.

- حسنا هيا بنا.

- ماذا؟

- لنبدأ الزواج.

- هناك طقوس وكلمات يجب أن تقولها، وهناك مبادئ بسيطة يجب أن تفهمها أولا.

استبد به الضيق رآها تمعن في الهروب، وتكثر من المطالب، وتجره إلى أمور لم يكن يأبه لها بالأمس، لماذا كل هذه المتاعب؟ وكيف يصبر لهذا الحد؟ قال في ضيق:

- أستطيع أن أجرك كالشاة إلى مقري وأفعل بك ما أشاء.

هزت كتفيها في عدم اكتراث وقالت:

- تستطيع....

وبعد أن ابتعلت ريقها قالت:

- لطنك لن ترى في آنذاك الأنثى التي تسقيك رحيق الحب، سأكون مجرد وجبة شهية كطعام الشاة، الفرق كبير بين لحم الأنثى ولحم الشاة.

ركع على ركبتيه وقال:

- إنك امرأة غريبة، لقد أصدرت حكم الإعدام على المئات في هذه المدينة، وتم التنفيذ في لحظات، وقتلت نساء ورجالا، الذي يحيرني هو أنني لا أستطيع أن أفعل شيئا حيالك.

ابتسمت نجمة الليل وقالت:

- وهذا يسعدني.

- لماذا؟

- لأنك تتحول تدريجيا من حيوان مفترس إلى إنسان.

صرخ في حدة:

- ماذا تعنين؟

- القتلة والظالمون ليسوا بشرا، وماضيك يبدو كماضي قاطع الطريق، إنني أريد إنسانا شجاعا، إنسانا.. أتعرف معنى كلمة إنسان؟

الإنسان في نظره هو المخلوق الآدمي ذو الشاوارب، الذي يستطيع أن يحارب وينتصر، ويحقق ما يريد، ويقتل ويستولي على الغنائم، ويرفع الشعارات التي يرفعها سادته ورؤساؤه، ويستمتع بالنساء من أي لون وعقيدة وجنس، ماذا تريد منه هذه المرأة.

وسمعها تقول وهي تقترب منه وتقدم له كأسا من النبيذ:

- بالتأكيد هناك فرق بين الإنسان والحيوان.

- الناس جميعا يعرفون من أنا؟

- الناس بين خائف منك، أو تابع لجيشك، ولهذا لن تسمع إلا ما يرضي غرورك.

أمسك كتفيها الممتلئتين في عنف وقال:

- ماذا تريدين مني؟

- أن يكون لقاؤنا في ظل مبدأ، مبدأ غير المبادئ الخاطئة التي يضعها الأقوياء بعد أن يهزموا التعساء.

- إنني أحبك يا نجمة الليل.

- ولن نلتقي إلا إذا شهدت لا إلله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

- لأني أحبك سأنفذ ما تقولين.

- قل الشهادتين.

ولما قالها أردفت قائلة:

- ويجب أن تمنع رجالك عن القتل والسلب.

- سأفعل.

- أعرف أنكم جائعون، متعبون، وتريدون الطعام والنساء والأمان. فلتسنوا الشرائع العادلة، ولا يكون انتصاركم مبررا لتحولكم إلى حفنة من الوحوش، أسلوب الوحوش يجر إلى الكراهية والعنف، ولا تشم فيه رائحة للسعادة.

قال:

- لشد ما تعجبني كلماتك.

- إذن فأنت جدير بالاحترام، وبالقرب من القصر عالم فقيه لسمه الشيخ مولوي عبد الرازق، اذهب إليه وأحضره إلى هنا وليكن معه شاهدان، وبذلك نتزوج.

شعر ببعض الحرج، وأخذ يتلفت يمنة ويسرة ولا يدري ماذا يفعل عندما وثبت من سريرها، وارتدت عباءتهاالسوداءثم قالت:

- انتظر أنت، وسأعود به على الفور.

قال ملوحا بسبابته:

- حذاري ..الهرب معناه أن أحيل المدينة إلى حمام دم.

رمته بنظرة عاتبة وقالت:

- اجلس صامتا.



***

وفي خلال الأيام التالية رأى الناس في قومول نجمة الليل تركب عربة فخمة يجرها جوادان، إلى جوارها الضابط، وكل السائرين في الشارع يفسحون الطريق، لقد تزوجته ولم يكن زواجها بالأمر السهل في قومول، ما دام السر الكامن وراءه لميكتشف، ورماها الناس بالخسة والدناءة والدعارة، لو أن الضابط الصيني أخذها عنوة لالتمسوا لها الأعذار، لكنها - على ما يبدو- قد باعت نفسها للمستعمرين، وتنكرت لخطيبها مصطفى مراد حضرت، وسارت في ركاب المنتصرين، مما جعل الشائعات تتردد عنها في كل مكان، ولم يفكر أحد في السبب الذي من اجله توقفت المذابح في قومول إلى حين، وبدت نجمة الليل أكثر شحوبا وفتنة، وأصبحت تظهر في مجتمعات الصينيين يحوطها الاحترام مما جعل العجب والدهشة يسيطران على المواطنين والمواطنات في المقاطعة.

وعندما انتصر الثوار في البداية، وأقاموا جمهورية في "كاشغر" برئاسة خوجة نياز، وأذاقوا الصينيين الأهوال أخذت القوات الصينية تهرب في كل اتجاه قاصدة عدة أماكن، وكان من نصيب هذا الضابط أن يهرب إلى أورومجي، وأخذ معه نجمة الليل، فقد شهدها أهل قومول قبيل الهروب تفر معه، كانت اللعنات تطاردها، وكانت النسوة يبصقن وراءها، وقد تشجع بعض الأطفال وقذفوا وراءها بالأحجار، ثم ولوا مذعورين.

وبعد أن تمت الاتفاقية بين الحاكم والروس، وجاءت الطائرات والدبابات والمصفحات الروسية، تغيرت الأوضاع، وتقهقر الثوار، كما تم اعتقال رئيس الحكومة وكبار القادة، وتمت السيطرة على الأرض الإسلامية وعلى الشعب الإسلامي في تركستان الشرقية...

وعاد الضابط ذات مساء ووجدها تبكي.

- لماذا تبكين يا نجمة الليل؟

- الناس يموتون، وأنا أكره الحرب، وأخاف.

قال في ضيق:

- وماذا أفعل، إنهم يقتلون منا ونحن نقتل منهم.

قالت والدموع تنهمر في عينيها:

- تمنيت أن تعود إلى بلادك وأنا معك، وأن نعيش كما يعيش البشر في سعادة واطمئنان.

أدرك على التو أنها تبدي اعتراضها على احتلال الصينيين لبلادها بأسلوب غير مباشر، فقال دون انفعال:

- حبيبتي، هذه أمور كبار لا يحق لمثلي مناقشتها، الجيش يتحرك بأمر عال، هكذا في كل أرض، ولا عبرة- أمام السياسة- بحق أو بباطل.

ثم نفث دخان غليونه وقال والكدر يعلو وجهه:

- لشد ما أعاني من التعب.

وصمت برهة وقال:

- أتريدين العودة إلى قومول؟ إنها الآن هادئة تماما، وقد أخفق الثوار، وعادت سيطرتنا عليها.

قالت في أسى:

- لشد ما أتمنى أن أهيم على وجهي في أرض لا يعرفني فيها أحد.

قال وهو يمسح على وجهها:

- أدرك ما تعانين منه.

- أبعد يك عني.

- لماذا؟

- أشعر أنها ملوثة بدماء الرجال والنساء.

قال في شرود:

أنا في الحرب كالأعمى، ماذا نفعل؟ لقد خلقنا لنأكل، ولكي نأكل لا بد أن نحارب، ونموت، وأنت لي، أحبك يا نجمة الليل.

ثم صمت برهة وقال:

- كيف تنظرين إلي؟

قالت في توتر:

- أنت سجين، مريض، إنسان معذب على كل حال.

ابتسم في رضا وقال:

- هذا يسعدني.

التفتت إليه في دهشة:

- وكيف؟

- لأنك لا تعتبرينني عدوا.

قالت على الفور:

- إنك عدو لا شك.

بان الكدر في عينيه وهمس:

- ذلك هو قدري.

ضحكت نجمة الليل واقتربت منه وقالت:

- ماذا لو طلبت الانفصال عنك؟

هتف في رعب:

- ماذا؟

- أعني الطلاق.

- لماذا؟

- لأنك لست مسلما.

- هل تنسين؟ أنني نفذت كل ما طلبه العالم الفقيه.

- لكنك تحارب في صفوف الكفار.

- أنا لا أعرف سوى انني جندي في جيش.

ثم صرخ ودق الحائط بقبضته وقال:

- الجيوش لا تعرف الله.

- ولم لا نحاول معرفته إذن؟

هز كتفه في سخرية وقال:

- وما قيمة ذلك؟

- أن نعرف طريق السعادة.

- آهـ.. الكافرون بالملايين وهم أكثر عددا من المؤمنين، عي هذا الأمر فسوف نتعذب بلا فائدة.

وجفف عرقه:

- إذا رحلت.

ولم يكمل كلامه، فاقتربت منه وقالت:

- أنا أحبك، لكن لا أبقى لحظة واحدة معك إذا تسببت في قتل واحد من أبناء شعبي.

- اهدئي يا حبيبتي، فلم يعد لي شأن بالحرب الفعلية، فأنا الآن مشرف على نقل المواد التموينية، والأمر لم يعد في أيدي الصينيين، إن الروس قد ملكوا زمام كل شيء الآن.

ثم استطرد ساخرا:

- ثم هناك الكثيرون من أبناء تركستان باعوا أنفسهم للشيطان، إنهم يقتلون ويرتكبون أبشع الجرائم ضد مواطنيهم، ألم تعرفي؟

أغرقت عينيها في وسادة وانفجرت باكية.



* * *





(9)



تحولت بلادي الخضراء، ذات الفواكه والزروع المتنوعة والمعادن الكثيرة، أقول تحولت إلى جحيم لا يطاق، وكيف يعيش الإنسان في أرض يكمن فيها الموت، ويبث الرعب في جنباتها، ويلهو بمصائرها الأجانب الغزاة، ما أفظع أن تعيش في بلدك الحبيب، الحقيقة لم أكن أنا الغريب، بل شعرت أن تركستان هي الغريبة، هي الشاردة الهائمة على وجهها في عالك كله ابتزاز وسجون وقتل، والشيء الذي أعجب له هو أني ما ذلت حيا حتى الآن، لكنها إرادة الله، وما أقل ما بقي من المساجد، قلة من الشيوخ الطاعنين في السنين يتوجهون إلى المساجد خفية، ويرتلون الصلوات في نبرات دامعة خافتة وعيون الجواسيس تراقبهم، قد لا يصيبهم أذى، لكن بنيهم وأهليهم معرضون دائما للانتقام، وكنا نمر على المساجد التي استولوا عليها وأحالوها إلى مسارح أو أماكن لسكنى الشرطة والإدارة، ونتمسح في الجدران ونبكي في هدوء، فمن يبكي علانية يعرض نفسه لموت محقق، وكنت أتنقل من بلد إلى بلد وكنت أتخذ لنفسي في كل مرة اسما جديدا.. آهـ... إنها ذكريات قديمة، لم أعد أذكر الأسماء التي انتسبت إليها، وفي أورومجي، وجدت أن تغيير الاسم وحده لا يكفي، لقد اشتغلت حمالا، وضعت على ظهريوقاء ثقيلا من قماش الأجولة وأمسكت بمخلبين حديديين، وتركت لحيتي وشاربيينموان كيف شاء لهما، وبدت أقدامي الحافية متشققة، وكأنها عاشت في الطين عشرات السنين، ولزمت الصمت، وأحيانا إذا تلفظت بكلمات معقولة تشي بك الكلمات، وتكشف عن شخصيتك، وفي المساء ألجأ إلى حجرة قذرة صغيرة، وأعبد الله، كنت أتخيل أن الملائكة تمسح دموعي الحارة، إن حضارتنا تمحى وتذوب، الروس يأتون بعشرات الآلاف، والصينيون يأتون، وكذلك الصينيات حتى يحدث التزاوج بين أبناء تركستان وبين أبناء الغزاة الصينيين، قلت أعمل حمالا، كنت أحمل على ظهري خيرات بلادي من كل الأنواع وأضعها في السيارت الضخمة والقطارات كي تشحن إلى أرض الغزاة، كل الأشياء كانت تشحن، معادن وفواكه وبهائم ومزروعات... كان للغزاة الكبار أماكن للتجمع، هناك يرقصون ويشربون ويسهرون ويغنون، وكنت أرى العجب العجاب، ما أكثر الخونة الذين باعوا ضمائرهم ودينهم واستسلموا لرغبة الغزاة ونواياهم، وبذلك أمكنهم أن يتسلموا بعض المناصب الهامة، وبين عشية وضحاها تحولوا إلى نوع جديد من البشر، كلما نظرت إلى وجوههم خيل إلي أنهم لم يعودوا تركستانيين بالمرة، وأن طريقتهم في المأكل والمشرب والملبس، حتى أسلوبهم وسلوكهم، وكل شيء فيهم تغير، إنهم يقلدون السادة الغزاة في كل شيء، ويلوون ألسنتهم بلغة العدو، كلما نظرت إلى ملامح الوطن أصاب بالرعب، وكيف تعود تركستان الشرقية العروسالطاهرة الفاتنة ذات الطهر والنقاء.

اليأس يدب في نفسي، وأنا أدب في الأرض حزينا تثقلني الأحمال التي أنقلها إلى السيارات أو إلى السفن، وأثناء تجوالي في يوم من الأيام رأيتها... أصابني الذهول... ضرخت دون وعي:

- نجمة الليل!

وتوقفت العربة التي يقودها أحد الصينيين، ونظرت بوجهها الشاحب، أفقت إلى نفسي، أدرت وجهي إلى وجهة أخرى، وأزمعت الفرار، لكنها طارتني بعربتها حتى أمسكت بي، نظرت إلي بعيون جامدة لا تطرف. وقالت:

- أريدك أن تتبعني إلى القصر..

ارتجفت وهتفت في ضيق:

- ستأتي إلي، السيد يريد رجلا يعمل في خدمتنا، وهو غائب خارج أورومجي، لا بد أن تحضر.

وقبل أن أفيق من هول المفاجأة، كانت العربة الأنيقة قد انطلقت، وسمعتها قبل أن تنطلق تصف مكان القصر في كلمات قصار، وعدت إلى حجرتي المظلمة العفنة أصلي وأبكي، في كثير من الأحيان يبدو لي الموت أروح بكثير من الحياة، الموتى لا يشعرون بشيء، وأحيانا أخرى يملآ قلبي اليقين بأن الإسلام لا بد أن ينتصر، وأن الحرية حتما ستجئ، أنا معلق بين اليأس والأمل، راغب في الموت أحيانا، متشبث بالحياة أحيانا أخرى، أنا الممزق المعذب الضائع الذي لا يعرف له طريقا يسير فيه أو ملجأ يهنأ فيه..

البحث عن قصر السيد ليس صعبا، القصر في مكان هادئ منعزلوعليه قليل من الحرس، ولم أستطع أن أذهب بثيابي الرثة، خلعت ملابس الحمال، ولبثت شيئا يليق بالحارس القديم في قصر حاكم قومول الذي انتهى أمره وتشتت عائلته.

لم يمنعني أحد، نظر إلي حارس القصر وقال:

- أأنت القادم لمقابلتها؟

هززت رأسي في خوف، وحمدت الله على أنه لم يسألني عن اسمي، مع أن اسمي قد لا يثر خطرا ذا بال، فالعدو عندما يتمكن ويحكم قبضته يتوارى الخوف في قلبه، وينصرف بشيء من الاستهتار، ومن حسن حظي أن البيت كان خاليا، يا إلهي! لماذا أتيت، وماذا أقول لها؟ وهل أقبل العمل في خمة سيدة أصبحت من سيدات المجتمع الراقي؟ وقد كانت بالأمس مخطوبة لي، ما معنى ما أفعل؟ هي في السماء وأنا ملقي على الأوحال، والموت يطاردني كما يطارد كل ثائر قديم، لكن حب الفضول يدفعني دفعا لا هوادة فيه، كانت تجلس على كرسي من القطيفة الحمراء، وترتدي لباسا أسود يزيد من فتنتها، لشد ما تغيرت نجمة الليل، إنها تبدو حزينة وسيمة وقورة، لا أرى أثرا لطيش الشباب ونزوات الصبا، تبدو كأرملة فاتنة..

- كنت أريد أن أراك منذ زمن طويل.

نظرت إليها دون أن أجيب.

- ظننت أنك قد لقيت حتفك في الحرب.

اعتصمت بالصمت، وحاولت أن أتكلم فلم أستطع.

- واليأس يجعل الإنسان يفعل أي شيء يا مصطفى مراد حضرت.

وانتظرت أن أفتح فمي بلا فائدة، هبت من مقعدها واقفة وقالت:

- لشد ما أحترم الرجال الذين ماتوا في المعركة.

- تمنيت أن لا يموت أحد على أعواد المشانق أو في ساحات السجون يجب أن يموت المناضلون في الميدان ولا يسلموا أنفسهم للغزاة.

ووجدتني أقترب إليها في جرأة وأقول:

- ولماذا سلمت نفسك حية يا نجمة الليل؟

ضحكت في ألم:

- ها أنت تتكلم أخيرا.. حسنا...أنا لا أبرر تصرفاتي، عندما سقط القصر أردت أن أحمي سكانه، وأردت في نفس الوقت أن لا أكون مطية لكل غاز لهذا اخترت رجلا وتزوجته.

قلت في دهشة:

- وكيف تزوجت؟

- كما يتزوج الآلاف، اعتنق الإسلام وتزوجني.

وتنهدت في حسرة وقالت:

- الأمر مر ببساطة غريبة، عندما رأيته متشبثا بي، وضعت شروطي وقبلها، أعرف أن إسلامه شيء ظاهري بحت لا حرارة فيه، وأعرف أنني أخدعه وأخدع نفسي، لكني.... ماذا أقول لك... لم أكن على استعداد لأن ينهشني الذئاب، لقد تزوجني وحماني ولم يزل يحبني.

قلت في شيء من الدهشة:

- وكيف تعيشين في كنف رجل لا تحبينه.

هزت كتفيها في سخرية وقالت:

- كما تعيش بلدي تركستان تحت وطأة الاحتلال، كما تعيش أنت في أورومجي الذي يحكمه العدو، كل شيء هنا يمضي بلا روح.

غمغمت : "بلا روح".

قالت:

- نعم افتقدنا عشق الأشياء وحبها، ولهذا نأكل وننام ونشرب ونلهو بلا روح، ونتحرك كأننا تماثيل من الشمع تحتاج إلى من ينفخ فيها الروح، كاللعب اليابانية الجميلة التي تجري وتصدر أصواتا وهي من خشب أو صفيح، الحياة الحقيقية لم يعد لها وجود، نحن نضحك ونبكي وننفعل كممثلي المسرح، هل فهمت يا مصطفى مراد حضرت؟

وصفقت بيديها في عصبية فجاءت رئيسة الخدم... وقمتني إليها قائلة:

- أريد أن يتزين بأفخر الثياب، وأن يكون ممن يليقون بصر السيد.

اسمس الآن "تورسون" أتجول في قصر السيد، إنني أتحرك كالمنوم، سيد القصر امرأة تركستانية جميلة، يبدو أنها ارتاحت لمرآي، وفي غرفة الخدم الأنيقة المريحة نمت لأول مرة هادئا بعض الوقت، لم يزل ظهري يؤلمني، لكن الحمام التركي قد خفف الكثير من آلامي، وبعد أن حلقت لحيتي وشاربي ونظرت إلى المرآة، عاد الشباب إلي، إلهي ! إن عيني تطلقان صراخ الجبال الوحشيبرغم وداعتي، هأنذا أفكر في نجمة الليل.. شعوري نحوها شعور رجل اغتصبت أنثاه.. أصبحت نجمة الليل كمدينة أسيرة احتلها العدو، والمعنى الذاتي في العشق والحب تحول إلى لوثة وطنية، ها.. ها.. إنني أضحك، إن تفكيري لم يعد على ما يرام.

وفي اليوم التالي اصطحبتني في عربتها النيقة ونزلنا إلى منطقة تزحمنا الأشجار والأزهار والفواكه خاصة برجال الاحتلال، الجميع يعرفون نجمة الليل، فقد هبوا لتحيتها، وأفسحوا لها الطريق، ونزلنا ثم انطلقنا عبر الأغصان المدلاة والزهور والفواكه الشذية، ومضت أمامي ومشيت خلفها صامتا، قالت:

- قالوا عني إنني طلقت الشرف والعفاف..

وقطعت غصنا صغيرا ونظرت إلى الشمس الغاربة بوجهها الشاحب وهمست:

- أهل قومول تروج بينهم الأكاذيب بسهولة، لماذا اهتموا بقصتي ذلك الاهتمام كله؟ لم أكن سوى وصيفة تافهة في قصر الأمير.

والتفتت إلي وأمسكت بيدي:

- ألم أدعك للزواج فرفضت؟

- كان الوقت رحيلا وكنا على أعتاب الموت.

ضحكت في مرارة:

- لم نزل على أعتاب الموت، أتعرف كم عدد الذين أعدمتهم الحكومة المحتلة؟ إنهم أكثر من مائة ألف.

وقلت في دهشة:

- أما زلت تفكرين في الثوار والشهداء؟

نظرت إلي باحتقار وقالت:

- وماذا تظن؟

- مثلك لا مجال لها أن تفكر في أمر كهذا...

- ألست تركستانية مسلمة مثلك؟

وساد الصمت فترة أخرى، كان النسيم باردا، والشمس في المغيب تصب أخزانا من نوع عجيب، بعض المآذن القديمة ترقد في صفاء الأصيل كلحن عتيق ذي رنين أثري تاريخي، والقباب نائمة كسلحقاة عجوز رأيتها ذات صباح في حديقة الحيوان، والمباني تبدو تحت السفوح التي تذرعها وكأن لا يعنيها شيء... همست نجمة الليل وهي تقذف بوردة حمراء:

- فكرت في قتله.

- من؟

- زوجي الضابط.

- لماذا؟

- ظننت أن ذلك واجبي، لكني أسألك بدوري، أن أقتله أم أروضه؟

هززت كتفي متسائلا:

- وما قيمة ترويضه؟ المذابح والعذاب والعنف في كل مكان.

- وما قيمة قتله، وها أنا ذا أسألك بدوري.

- إنه الثأر المقدس.

- لكني ربحت أكثر وأنا أروضه.

وقفت بوجه صلب وقلت:

- سيدتي إن معيشة العدو أمر كله زيف كذب.

التفتت إلي في دهشة ثم قالت:

- أتظن ذلك؟ معناه أنني كنت أخدع نفسي بفلسفة عرجاء كي أنجو من العنف والضياع، وكي أحيا...ها... أتظن ذلك؟

طأطأت رأسي:

- ولهذا احتقرك أهل قومول.

انهمرت الدموع من عينيها، واقتربت مني وأخذت تهزني في عنف وتقول:

- هؤلاء المقى لا يفهمون، كان يجب أن أنقذ أسرتي الأمير، كان لا بد أن أدفع الثمن، كلنا يحب الحياة ويكره الموت.

ثم أخذت تجفف موعها وتقول:

- وأنت يا مصطفى مراد حضرت، ماذا تظنني؟

- تورسون، اسمي تورسون، لننسى الاسم القديم.

- ما رأيك؟

- أقولها صراحة، كسرة خبز جافة على سفوح الجبال مع الرجال المناضلين، أسمى لدي من مائة نعجة تنحر في قصرك الشامخ.

انسكبت قطرات من السماء، وبدأ البرد أشد مما كان، وكنا نسمع لقطرات المطر طرقعة خفيفة، شعرت أن الحذاء يكاد يخنق قدمي، وأن الياقة الخضراء تضغط على عنقي، أكاد أموت برغم إحساسي بالدفء، ذلك الإحساس الذي افتقدته منذ مدة طويلة.

- مصطفى.

- خادمك تورسون.

- إلى أين؟

- إلى حيث كسرة الخبز والرجال العظام على السفوح.

- سندبر الأمر مليا.

اختفيت حينما عاد سيد القصر من سفره لوقت قصير، لكني رأيته يدلف إلى القصر ويبحث عن نجمة الليل بعيون نهمة، عيون تتري قديم، اعتصرها بين ذراعيه وأخذ يقبلها، ويلف بها ويدور، وهي تبتسم ابتسامة صفراء وتبعث بنظراتها هنا وهناك لعلها كانت خائفة من أن يقع بصري عليها.

- هل أنت سعيدة بعودتي؟

قالت دون أن ترفع بصرها إليه:

- كل السعادة، لكن رجال المخابرات يقتلون الناس بالمئات.

- هذا أمر آخر، لماذا تفكرين فيه الآن؟ ليس لي في الأمر حيلة.

- لماذا لا يكون لك في الحياة موقف؟

- بل موقف محدد يا حبيبتي.

- ما هو؟

- طالما حادثتك، موقفي هو أن أؤدي عملي.

- الفرق كبير بين أن تؤدي عملك وتؤدي واجبك.

- عملي هو واجبي.

- أريدك إنسانا.

- أنعود للجدل العقيم يا نجمة الليل؟

- الإنسان الحقيقي هو الذي يشعر بأسى المعذبين والمضطهدين.

قال في شراسة مباغتة:

- يجب أن تفهمي أن هؤلاء المضطهدين لو ترك لهم الحبل على الغارب لقضوا على حياتي وحياتك أنت أيضا.

قالت بهدوء غريب:

- هذا لا يهم، المهم أن تؤدي واجبك.

- صاح في ثورة:

- وأنا من أكون؟ مجرد فرد في هذا الجيش الكبير، ترس صغير في آلة ضخمة، أهكذا تقابلين زوجا عائدا من سفره؟ أين حبنا القديم؟ تعالي.

ودلفا إلى حجرتهما الخاصة، قلت لنفسي هذه الملعونة تلعب بي وبه، ولو عشت إلى جوارها أكثر من ذلك لتسممت كل أفكاري، إن النقاء الحقيقي ليس هنا في المدن، بل هناك على سفوح الجبال، حيث يعيش الرجال أحرارا، وعلى أكتافهم السلاح، يجب أن أرحل في أقرب فرصة ممكنة.

نظر إلي الضابط عند الظهر أثناء طعام الغداء نظرات نافذة وقال:

- هل هذا هو الخادم الجديد؟

- نعم، إنه كفء مخلص في عمله.

- من أية مقاطعة أنت؟

- اسمي تورسون ، من مقاطعة آلتاي.

المائدة عامرة بأطيب الطعام، والشعب في الخارج يأكل أوراق الشجر ويلتقط الفتات ويتضور جوعا، والأطفال المساكين ينظرون بعيون مفتوحة على الآخر، إلى الخيرات تشحن في العربات، أو تنقل إلى بيوت الغزاة.

دارت رأسي، وأنا أنظر إلى السكاكين الموضوعة على المائدة.

- تستطيع أن تنصرف أنت يا تورسون.

قالها في رقة، وعدت إلى المطبخ أتخبط كالثمل، الثائر لا يعرف المهادنة، والكراهية تأكل قلبي كما تأكل النار الحطب، وحربهم للدين وعقائده تدفعني لأن أرتكب أية حماقة، ليس الأمر خاصا بي، ولكنه ثأر لله.



* * *



(10)



إني أعيش في بيت أحد أعدائي، إنه ليس مجرد عدو، غريم استولى على من كنت أحب، يخيل إلي لو مضى علي في هذا المكان عام لتحولت إلى آلة، إلى إنسان شبيه بنجمة الليل، فالحياة الهادئة وتوافر الطعام والملبس والهدوء والركون إلى عيش جميل كهذا يقتل في الإنسان روح الثورية والجهاد، مشكلة أخرى أنني أرى في عيني نجمة الليل أشواقا غريبة حادة، أصبحت أخجل من نظراتها، وفي أغلب الأحيان أهرب منها، وأجد نفسي في كثير من الليالي أفكر فيها، وأغار عليها، هذا البيت تسكنه شياطين من نزوات وخطايا، بالأمس أقيمت في البيت حفلة راقصة، اختلط الحابل بالنابل، كانت نجمة الليل لا شك هي نجمة الحفل، العيون تلاحقها، كل الضباط يريدون مراقصتها، وشرب زوجها حتى ثمل، لكنهم في الفجر استدعوه لمهمة عاجلة فخرج يترنح بعد أن ارتدى معطفا سميكا، الأمر يبدو عاديا، لكني وجدتها تأتي إلى غرفتي، ازداد وجهها شحوبا من كثرة السهر، أحاطتني بذراعيها ووجدت شفتيها تقتربان..

- سيدتي.. يجب أن أعد طعام الإفطار.

- لست أشتهي شيئا، وأنا لست سيدتك.

- القصر كله عيون.

- لا أستطيع الصبر.

- ما معنى ذلك؟

- ألا تفهم؟

- وأنا أكره الخيانة.

- خيانة الخائن ليست خطيئة.

- وأنا رجل مسلم أعرف الله.

هل كانت تريد الانتقام من زوجها، أم تريد أن تقدم نوعا من العطف أوالشفقة، أهو الحب القديم ثار وتمرد؟ وأمسكت بيدي في توسل، وأنا أهرب من نظراتها ولمساتها مخافة ان تضعف مقامتي، وهمست في انفعال:

- على سفوح الجبال رجال يتضورون عذابا وجوعا.

- هم رجال حقا، لكنهم يعيشون حياتهم.

- في الحدود التي أباحها الله.

نظرت كذئب جائع مفترس وقالت مهددة:

- أنت تعرف أنني أستطيع عقوبتك.

- أهذا هو الحب؟

- نعم.

- عندما يضمك سجن من سجونهم الرهيبة، ويلفك الصمت والظلام، وتهوي السياط على جسدك، عندها سوف تحلم بدقائق تقضيها إلى جواري.

قلت لها في ثقة:

- لقد نذرت نفسي للموت.

- أنت تلعب بالنار، أنت زوجي الحقيقي.

- لكنك في عصمة رجل أسلم، وإن كان إسلامه أمرا ظاهريا.

- إذن لماذا أتيت إلى هنا؟

باغتني السؤال، صحيح، لماذا أتيت؟ لقد كنت أفكر في الانتقام طوال حياتيمن هؤلاء المعتدين، لكن أين الانتقام؟ ودق قلبي، هناك حقيقة أحاول إخفاءها، لقد كنت أحب نجمة الليل، إن قبولي المجيء إلى هذا القصر يمت إليها هي الخرى بصلة،وتركتني وانصرفت، لم أرها طوال اليوم، وبقيت أفكر لماذا ساءت الحال؟ وتحكم في أرضنا الغريب، قال لي في الزمن الغابر أحد خطباء مسجد "كاشغر":

- يا بني إن الإسلام هو العزة، فمن تمسك به عز، ومن تركه ذل، وبلادنا استسلمت في نوم عميق، وغلبت عليها الدعة والاسترخاء والعبث، وأخذ الناس ينسلون عن الدين عروة عروة... يا بني لقد طغى الغنى وضاعت الحكمة ورضخ العلماء للأمراء وعم الفساد والفقر والجهل، وانتشرت المعاصي، يا بني هذا هو بداية الانهيار. وقال أيضا:

- إن في الشرق اعداء وفي الغرب أعداء، وهم يعتصمون ابلقوة والكثرة، ونحن نعتصم بأمجاد قديمة، والأمجاد القديمة لا تصمد وحدها.

وقال لي:

- يا بني، المسلمون ممزقون، تركيا تنهكها الحروب والمظالم، والعرب تحت سنابك خيل العدو صامتون، والكفر ملة واحدة، والمسلمون ملل عدة، وبذلك تستطيع أن تفسر لماذا يكون النصر، ولماذا يكون الهزيمة.

إني أتذكر هذه الكلمات جيدا، وكلمات أخرى كثيرة كان يرددها خوجة نياز والجنرال شريف خات وغيرهما، كانوا مؤمنين شجعانا، وفي ساحة الموت لقوا الله دون خوف، لا شك أن مجيئي لها القصركان نزوة من نزوات الشيطان، ويجب أن أرحل، يجب أن أرحل على الفور، لكن بعد أن أفعل شيئا، مقابل الوقت الذي أضعته هنا، وبعدها أسرع بالذهاب إلى الرجال بالجبال.

يقال إن البطل العظيم عثمان باتور أحد رجالنا الشجعان يجمع الرجال ويستعد لثورة جديدة، فلماذا أبقى هنا؟

وحاولت نجمة الليل أثناء غياب زوجها أن تطمس المعاني التي تختمر في قلبي ورأسي لكني كنت أقاوم، كان من الصعب أن أقاوم، فلنجمة الليل إغراء من وع قاتل، إن سيطرتها على الضابط هذه السيطرة العجيبة لا تعني سوى أنها امراة في غاية القوة.

وعاد الضابط بعد يومين، كان مرهقا منزعجا، سمعته يقول لها:

- إننا على أبواب متاعب جمة.

- لماذا؟

- عثمان باتور والثوار بدأوا حرب العصابات.

- وماذا يضيرك، هل تظن أنهم قادرون على هزيمتكم؟

- إنهم يداهمون المراكز الصناعية، ويخطفون الضباط، ويقتلون الكثيرين، لو كانوا في معركة مكشوفة لأمكن القضاء عليهم.

وبدا في عينيها بريق الفرح لكنها اخفته، كان منهمكا في الطعام والشراب غارقا في التفكير، وفي المساء علمت أنها خرجت معه وحدهما للتنزه في إحدى الحدائق الخاصة، وطال بقاؤهما في الخارج، لكن عند منتصف الليل عادت تصحبها ضجة كبرى، وامتلأ القصر بالضباط ورئيس الاستخبارات، ماذا جرى؟ لقد أصيب زوجها برصاصة قاتلة.. فحملوه إلى القصر، وهي تبكي وتصرخ وتشد شعرها، وتقول:

- لقد رأيت القاتل ... لقد أطلق الرصاص وركب جواده وهرول صوب النهر.. أستطيع أن أميزه من بين عشرة آلاف...

وكانت تصيح وتولول، وبان الغضب والضيق في أعين الحضور، وأخذوا يستجوبون الأرملة الحزينة وهي غارقة في دموعها، كانوا يحاولون تهدئتها، لكنها كانت تحرضهم على الثأر والانتقام، واعتقال كل المشتبه فيهم في أورومجي.

وقال رجل الاستخبارات:

- هذا هو الحادث الثالث اليوم في أورومجي، إن رجال عثمان باتور يثيرون الاضطرابات، لا حل سوى العنف، والمزيد من العنف، لقد قلت يجب أن نقتل كل تركستاني يشتبه في أمره، لكنهم يرفضون وجهة نظري أن جميع التركستانيين مشتبه في أمرهم، أنا أعرف كيف ألتقط الخونة، لن أترك هذه الأحداث تمر ون عقاب، وقد أعلنا حالة الطوارئ في أورومجي.

وكانت نجمة الليل في حالة من الحزن والألم والتعب يرثى لها، لكن الغريب أن الكثيرين من رفاق القتيل كانوا يروحون ويجيئون ويقدمون التعازي لنجمة الليل، وكنت أرى في عيونهم الفرح والأمل، الكثيرون كانوا يطمعون فيها بالرغم من أن دماء القتيل لم تجف بعد، وقررت نجمة الليل في النهاية أن تعتكف في بيتها أسبوعا لا تقابل فيه أحدا، وكثرت الإشاعات في المدينة، وسادها جو من الخوف، وكان الضباط الأجانب يعانون من ضيق شديد، وبدا الأسود والنمور كالأرانب، لقد كنت على وشك الرحيل من ذلك القصر، لكن هذا الحادث أخر رحيلي، حسنا يجب أن أنتظر، وذات مساء وجدتها تدخل غرفتي، انتفضت واقفا وأنا أهمهم:

- سيدتي.

نظرت إلي بعينين ثابتتين لا تطرفان:

- ألا تعرف القاتل؟

- من؟

- حسنا، أنا الذي قتلته.

- أنت يا نجمة؟

ضحكت في شماتة وقالت:

- نعم، أتدري لماذا؟

كانت تتحدث في توتر، وكنت مذهولا لحديثها، فلم أنطق بكلمة واستطردت وهي تقول:

- لقد قاد كمينا أوقع بعشرة من الثوار، كانت عملية رهيبة، لقد اعترف لي بنفسه، وبرر ذلك بأنه لا يستطيع مخالفة الأوامر، لقد وعدني قبل ذلك أن يتفرغ للإمدادات التموينية، وليلتها لم أنم، حاول مضاجعتي، لم يبد عليه أدنى تأثر أو انفعال، كان يمرح ويحك وكأنه لم يفعل شيئا، وتصورت.. ماذا لو كنت أنت يا مصطفى مراد حضرت أحد هؤلاء الثوار العشرة، أخذته، قلت لنحتفل بانتصارك ونشرب النخب، كان سعيدا، وروى الكثير من العمليات الناجحة، وعما أعدوه للثوار، إن عثمان باتور يسبب لهم إزعاجا كبيرا..

آه ، ونزلنا إلى الحديقة، ومررنا بجوار السور من الداخل، تناولت مسدسا، واجهته، لم أهاجمه من الخلف، قلت إنني أحاكمك، أنت خائن، والقتل جزاء الخيانة والغدر، أخذ يقهقه، كان يظن أنني أمزح، صرخت فيه كمجنونة، اثبت مكانك، الجريمة الكبرى هي الكذب، كذبت حينما زعمت أنك مسلم، فلم تصل ركعة واحدة، وكذبت حين قلت إنك تكره الحرب، أنت لم تكن سوى حيوان، وأنا بالنسبة لك كالكأس التي أدمنتها ولا يمكنك الاستغناء عنها، ..قف.. لا تتحرك، لقد شحب وجهه، ركع على ركبتيه، رأيت في عينيه الموع، تصور أنه كان يبكي، لشد ما تلذذت ببكائه، ما الذي أتى بك في بلادنا؟ أغمض عينيه وقال متوسلا:

- أنا أحبك يا نجمة، لم أحب أحدا مثلما أحببتك، أعدك بشرفي ألا أعود لمثلها لوو طردوني من الجيش، أنت كل شيء في حياتي.

ضحكت وضغطت على الزناد وأنا أقول:

- وأنا أحبك، وقتلي لك يطهرك من قاذورات وخطايا كثيرة. خذ..خذ...خذ..خمس طلقات بعدد التعساء الذين راحوا ضحيتك.

وانهمرت دموعها:

- ماذا يقول أهل قومول عني لو عرفوا ما حدث؟

ثم جرت إلى الخارج، وعادت وفي يدها كأس:

- معذرة، الملعون عودني على شرب الخمر، ولسوف نتزوج يا حبيبي، ولكن كيف؟

ورمت الكأس، ثم أخذت تقول وهي تقهقه في عصبية:

- أحد أصدقائه ألمح لي بالزواج، أحد أصدقائه المخلصين، تصور الضباط هنا قلوبهم من أحجار.

وقضينا أيما تعسة، كان رئيس الاستخبارات في أورومجي يسوق الأبرياء المشبوهين إلى المعتقل، وكل يوم كان يعدم واحدا أو اثنين بحثا عن القاتل، ومن آن لآخر كانوا يأتون إلى نجمة الليل ويعرضون عليها بعض الثوار أو المشتبه فيهم فتنكر أن أحدهم هو القاتل، وزادت عمليات القمع والسجن واشتدت حالة الطوارئ وحدها بل في كافة المدن الكبرى، كما ازداد نشاط الثوار.

وذهبت إلى نجمة الليل ذات مساء وقلت لها:

- ها قد انتهت فترة الحداد، وأرى أن تقيمي حفلا راقصا كبيرا وتدعين فيه نخبة من الكبار، بهذه الطريقة نلقي ستارا على الحادث القديم وينتهي هو وقصته، ورأيي على أن تحرصي على أن تعلني خطبتك على ذلك الصيني الذي يريدك.

قالت في غيظ:

- لقد قتلته لأني أريدك.

- وأنا أريد هذا الحفل إن كنت تحبينني حقيقة..

- لماذا؟

أمسكت بذراعيها البضة وجذبتها نحوي بشدة ثم ضممتها إلى صدري قائلا:

- حبيبتي، يجب أن ننتقم للأبرياء.

- كيف؟

- لدي شحنة ضخمة من المتفجرات أرسلها الثوار.. وعندما يكتمل الحفل سنحيل القصر إلى جحيم.

هزت رأسها:

- ونحن؟

- سنتركهم غارقين في الخمر والرقص والغناء، فإذا ما ابتعدنا عن القصر وى الانفجار.

- وإلى أين نذهب:

- إلى الجبال، هناك عثمان باتور والرجال الشجعان.

أشرق وجهها بالفرح، وأخذت تقبلني من كل مكان وأخذت أغمغم:

- الطباخة العجوز يجب ان نبعث بها بعيدا قبل الحادث، وسائق العربة ذلك المنغولي التعس يجب أن نجد له مخرجا ، والصبيان الذان يخدمان سنبعث بهما إلى الحديقة ليعدا غرفة خاصة طالما لهوت بها أنت وهو..

وفي الليلة الموعودة، كان الليل دامسا، وركبنا جوادا قويا، وانطلقنا في عتمة الليل القارس، ونظرنا خلفنا فإذا القصر كتلة من النيران المشتعلة، وإذا المكان من حوله يضئ وإذا الصراخ وصفارات الإنذار تتوالى، وبعد ساعة كنا على مشارف الجبل.

قلت وأنا أنزلها من فوق الجواد:

- الجبل يا نجمة الليل سيظل مملكة الأحرار، المناضلين.

قالت وهي ترتجف من البرد:

- لشد ما أنا سعيدة.

ضحكت قائلا:

- يجب أن تبحثي لنفسك عن ثياب خشنة.

وسألتني نجمة الليل فجأة:

- لكن لماذا فكرت في هذه العملية الجريئة في هذا الوقت بالذات؟

قلت وأنا أسحب الجواد إلى منعطف ضيق آمن:

- ليست هذه هي المرة الأولى، طوال إقامتي في أورومجي كنت أقوم بعمليات مشابهة، كنت أتحرك بأوامر عثمان باتور.

نظرت إلي ساهمة وعيناها محملقتان..

- ولو لم تفعلي ما فعلت في زوجك وفي حادث الليلة لكان مصيرك كمصير هؤلاء الذين يحترقون بنيران غدرهم وظلمهم.

صرخت قائلة:

- ماذا؟ أكنت تقتلني؟

تذكرت قصة الضابط وخاتون، وهتفت:

- أنا أبوها.

لم تفهم نجمة الليل شيئا، وانصرفنا إلى أحاديث أخرى، عن السفر الطويل ولقاء عثمان باتور قائد الثورة في الجبال...



* * *





(11)



أحسست بقدر غير قليل من الراحة وأنا أقطع مغاور الجبال، وعلى القمم يقترب الإنسان من السماء، وتصفو الآفاق، وتزيد برودة الجو، أشعر أن صدري تتفتح شعبه اكثر وأكثر، أشعر بأني طائر تنقصه الأجنحة، ونجمة الليل تمضي إلى جواريأو خلفي على ظهر الجواد، لقد لفحت الشمس وجهها الشاحب فبدا أكثر سمرة واحمرارا، ها هي تعود إلى صورتها الماضية في قصر الأمير، إنها سعيدة مرحة ولكن في شيء من القسوة، أحست في الأيام الأولى ببعض الضيق، لعدم مقدرتها في أخذ حمام ساخن كالنظام التركي، شعرت بغير قليل من الاشمئزاز حينما لم تجد أدوات الزينة إلى جوارها، وربما آلمها ألا تجد الهامات التي كانت تنحني لها صباح مساء من علية القوم، فالناس في الجبال على الفطرة، والنسوة يشاركن الرجال في كل شيء يتعلق بالعمل، كانت البيئة الجديدة التي حولها لا شك جديدة، وبرغم تلك المضايقات التي ذكرتها إلا أنها كانت متحمة للتجربة، ولا تخفى سعاتها، ومن آن لآخر تكرر القصة، كيف قتلته... نظرات الرعب في عينيه، التوسل، الرجاء، والكلمات المستعطفة التي تنسكب من بين شفتيه.

كنت أدرك أنها فخورة أيما فخر بما فعلت، وبعد رحلة شاقة بلغنا جبال آلتاي.

هنا مقر الجنرال عثمان باتور البطل الذي دوخ الأعداء والذي استطاع أن يمسك ببعض الخونة من أبناء البلاد المتشيعين للعدو، وكان عثمان باتور صارم النظرات، طويل الشارب، كث اللحية، كبير الأنف لحد ما، وكان هادئ الحركة، وسيما قليل الكلام، عميق التفكير، إنني أعرفه جيدا، وأعرف الكثيرين من الرجال الذين يناضلون إلى جواره، وكان يلبس الملابس الثقيلة أو السميكة اتقاء للبرد القارس في الجبال، ما أعجب هؤلاء الرجال، كانوا يصمدون لعواصف الطبيعةومكائد الأعداء، ويجابهون الموت والمكاره بشجاعة منقطعة النظير طوال سنوات، وكان شعارهم الذي يهز الجبال "الله أكبر... الله أكبر" وكان بالجبل العديد من مراكز الثوار، فكنت أقضي مع هذا المركز أو ذاك فترة من الوقت، وأحكي لهم تفاصيل المذابح والاضطهاد التي يرتكبها الأعداء في حق المواطنين، وأشترك في بعض الهجمات أو العمليات الخاطفة، وكان هدفي في النهاية أن أكون قريبا من عثمان باتور، حيث مجموعتي الأصلية التي أنتمي إليها، وأعمل معها، وسألتقي هناك مع مصطفى درغا...

وأخيرا نفق منا الجواد، ولجأنا إلى قرية صغيرة في الجبال يسكنها بعض المزارعين والرعاة، كان الجو قد بدأ يميل إلى الدفء قليلا، وبقينا في هذه القرية بضع ليال...

قالت نجمة الليل:

- إلى متى المسير؟

- لعائدين.

- هذا مرهق.

- تلك هي الحرب.

- لا أعني ذلك.

- ماذا تريدين.

- آن أن نتزوج، إنك دائما لا تغتنم الفرص، أتذكر آخر لقاء لنا في قصر الأمير، ليتك فعلت....

أمسكت بيدها في حنان فأخذت يدي ولصقتها بخدها، وبقينا هكذا وقتا طويلا، ونظرت بعينين تفيضان رقة وحنانا.

- إلى متى نبقى هكذا؟

- لا شك أن بالقرية أحد العلماء.

- سأجري أبحث عنه.

- دعي هذا الأمر لي.

- إنني في قمة السعادة.

- نحن نغامر.

- ولم يا مصطفى؟

- أترى سنعيش حنى ننجب أولادا ويكبرون ونسعدهم؟

- دع الأمر لله.

كان زواجنا مختصرا جميلا، شاركنا فيه أهل القرية، فرقصت الفتيات، وغنى لنا الرعاة أغانيهم الجميلة، ودقت طبولهم الحلوة التي تهز القلوب، وأكلنا وشربنا، وقضينا عشرة أيام ممتعة كأنما اختلسناها من الزمن، وباعت نجمة الليل ما تمتلك من مجوهرات، واشترينا جوادين، واستأنفنا المسير.

- هناك يا حبيبتي. الرجال الشجعان، سنعيش، إنهم مجتمع كامل بنسائه ورجاله وأطفاله، الكل لا يعرف شيئا سوى الحرب.

- الحرب هنا معناها الحياة والحرية، الحرب فريضة في سبيل الله، وعندما ننتصر ونصبح سادة في بلادنا سنبأ حياة أجمل وأروع...

ابتسمت ونظرت إلى الآفاق التي توشحها الغيوم وقالت:

- أهناك أجمل وأروع من هذه الحياة التي نحياها الآن؟

- نعم يا حبيبتي ... عندما يحل السلام، وترجع بلاد الإسلام للإسلام، ويفر الأعداء، عندذئ نستطيع أن ننعم بالحياة، ونكون سعداء حقا، إننا يجب أن نعيش لمعنى كبير، أكبر من الحب الذي بيني وبينك، ستكون تركستان كلها أغنية حب خالدة، وسنكون أنا وأنت وأمثالنا سر روعة الأغنية المقدسة، وسر خلودها، تلك هي الجنة على الأرض.



* * *





(12)





كنا على الجبال، وقال عثمان باتور في اجتماع حاشد بجبل آلتاي:

- أيها الرجال الصناديد...

"إن اليوم يوم عصيب ودقيق، ويتوقف عليه مستقبل بلادنا، ربما لأجيال، وصراعنا على هذه الأرض طويل، منذ طمع فينا قياصرة الروس، بتحريض من المتعصبين الأوروبيين ادعياء المسيحية، ومنذ امتد بصر الصينين من عشرات السنين إلى بلادنا العظيمة.. أرض البطولات.. والأمجاد .. والمعارك الإسلامية الخالدة.. منذ أن اجتزأ كل عدو قطعة من أرضنا، في غفلة من الأمراء والحكام اللاهين، لا أريد أن أتحدث أيهغا الرجال عن الماضي كثيرا، وإنما أردت أن أقول إن تحرير أرضنا لن يحققه لنا أحد، على أكتافنا وحدنا ينهض بناء الحرية، كذب علينا الروس حينما عرضوا لنا العون، وكذب علينا الصينيون حينما زوقوا لنا الأمنيات الحلوة في الحرية والاستقلال، وها أنتم ترون بلادكم تحكم بالحديد والنار، ويساق الآلاف إلى ساحات الإعدام، ويساق مئات الألوف إلى المعتقلات، لقد أبيدت أسر تركستانية بأسرها، وقادتنا العظام قادة التحرير لم يعاملوا كأسرى حرب عندما وقعوا في أيدي العدو، وإنما قتلوا أشنع قتلة، ولوثت سمعتهم وشرفهم، وهم خير من أنجبت أرضنا الطيبة، وهم الآن يحاولون خلق جيل مخدوع ضائع من أبنائنا في المقاطعات القرى والمدن، ويزعمون أنهم يريدون نشر العلم والتقدم في بلادنا."

"أيها الأبطال! إننا نحارب من أجل تحرير أرضنا، ونكره العدوان في ي صورة من صوره، وندافع عن ديننا الإسلامي الحنيف، وتراثنا الحضاري العريق.

إن حربنا اليوم جهاد في سبيل الله، وعلينا أن نضرب ضربتنا حتى تقصم ظهر العدو، وعندما نتحرر فسنكون أصدقاء للجميع، فبلادنا لا تعادي أحدا، ولا طمع في أحد، غنية بالخيرات والأمجاد يجب أن تكون لنا، ألسنا شعبا جديرا بالحرية؟ لقد يئس العدو من القضاء على حرب العصابات التي قمنا بها، قاموا بحملة فتك الأهالي وسطوا على الشعب بغيهم وانتقامهم، واليوم لا مناص من الحرب الشاملة الكبرى.."

ودوى الرجال بالهتاف والتكبير، وفي الأيام التالية أخذت الجموع تزحف زحفا كبيرا، كانت قوات العدو تتراجع في ذعر، وأصبحنا على بضعة أميال من أورومجي، فأخذت قوات الشعب تكيل الضربات لقوات العدو الباقية في التركستان الشرقية، وتراجعت تلك القوات إلى تركستان الغربية، وكشف تقهقر العدو عن حقائق عجيبة، كانت مختفية تحت وطأة الاحتلال، فقد ظهر فعلا من السجلات التي تركها العدو أثناء تقهقرهم أن هناك عائلات تركستانية بأكملها قد اختفت تماما، كما بلغ عدد المعتقلين في معسكرات الاعتقال ثلاثمائة ألف، وقد روى المعتقلون الذين أفرج عنهم بعد الانسحاب قصصا رهيبة من التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له في معسكرات الاعتقال، وكانت الصور التي رسمها هؤلاء المفرج عنهم مما تقشعر لهوله الأبدان، ولم يعثر أهل الضحايا على جثث شهدائهم فقد كانوا يخفونها ويعملون على إبادتها بوسائل عجيبة، وقد عثر بالمصادفة على جثتين في أحد المناجم المملوءة بالغازات الخانقة تبين فيما بعد أنهما للسيد خوجة نياز والجنرال شريف خان أحد قواده، كما حدث نتيجة للأمطار الشديدة أن انهارت عمارة تشغلها إدارة الاستخبارات (ج. ب. أو) والتي كان يعتمد عليها العدو في البطش بخصومهم، ووجد تحت أنقاض هذا المبنى هياكل بشرية بلغت ثلاثة آلاف هيكل، مما يدل على أنه كان يوجد تحت البناء المتهدم سجن لأفراد الشعب، وأنهم ماتوا فيه دون أن يعني أحد بأن يفتح لهم الباب أو يسأل عن مصيرهم، وخرج أبناء الشعب التركستاني من كل الطوائف ليشهدوا المأساة التي لا مثيل لها.

قالت نجمة الليل والدموع تنهمر من عينيها:

- كيف مات هؤلاء؟ إنني يا مصطفى لا أستطيع أن أستطرد في خيالاتي، أليس هذا منتهى القسوة؟ آه... الحجرات المظلمة.... الاستغاثات التي لا يلبيها أحد... الجوع.. الظمأ... السياط الخارقة... كان فيهم من يحلم بزوجة وأطفاله، وبفتاة وهبها قلبه.. يا إلهي! أيمكن أن يحدث هذا في العالم؟ لعنة الله على الأعداء، ماذا يريد منا هذا العدو؟ كيف يرجى خير من وراء قوم فعلوا هذا الفعل البشع؟ انظر الهياكل المتعانقة، إنهم ماتوا وهم يحتضنون بعضهم بعضا، وهناك هياكل ماتت ميتة القرفصاء، لا شك أن البرد كان شديدا، كانوا يتضرعون إلى الله وهم في أتعس الأوصاع، هؤلاء الذين عاشوا طلقاء في الغابات والجبال في بلادنا الجميلة يوتون على هذه الصور الرهيبة... اللعنة على الكافرين..

أمسكت بيدها قائلا:

- عندما يموت الإنسان لا يشعر بشيء بعدها، لا تعذبي نفسك.

- العذاب لنا نحن، ويجب أن نتألم، حتى تتولد في أعماقنا طاقة كراهية خالدة لكل الطغاة...

- عزيزتي، إننا نطاردهم في كل مكان..

وجففت نجمة الليل دموعها وقالت:

- يا مصطفى ، لا أستطيع الاستمرار في السير معكم.

- لماذا؟

- يبدو أن بين أحشائي جنينا.

نظرت إلى الهياكل المعثرة تحت الشمس والمطر، ونظرت إلى نجمة الليل ووجهها الشاحب المتألم، وهمست في أذنها:

- إذا رزقنا الله بولد فسوف نسميه خوجة نياز.

ابتسمت في مرارة وأخذتها غلى البيت الذي سنقيم فيه. وقلت:

سوف أرحل بعد أسبوع، إن مقاطعتي إيلي وآلتاي الغنيتين بالمعادن والثروات يجب أن ننتزعهما من أيدي العدو.

واستمرت المعارك القاسية، والأعداء يولون الأدبار، والتقى بنا عثمان باتور في لقاء خاص ضم عددا غير قليل من القادة، وقال:

- أيها الرجال! هل علمتم بما فعله الحاكم الصيني لتركستان؟

تركزت أبصارنا إليه، وقال بهدوئه المعهو:

- إنه يقبض على حلفائه.

كانت مفاجأة مذهلة وصحنا في صوت واحد:

- كيف؟

- لعبة السياسة والمصالح لعبة قذرة.

- لكنهم حلفاؤه وهم الذين أنقذوه.

- نعم أنقذوه ليملكوه، وليستغلوه ويستغلوا البلاد.. كان بملك ولا يحكم.

وكان واضحا ان الحاكم الصيني قد ضاق ذرعا بحلفائه ولم يستطع أن يفلت من أسر مستشاريهم وخبرائهم إلا بعد رحيل العدد الأكبر منهم، وبعد أن استطاعت قوات عثمان باتور أن تبدد جحافلهم وتفر هاربة، فانتهز الفرصة، واعتقل الرعايا الحلفاء، وأرسل لزعيمه يعتذر ويتأسف ويطلب منه العون ضدنا، إن الحاكم لا مبدأ له، وعلينا أن نستعد لجولة ديدة مع الصينيين بعد أن هزمنا حلفاءهم.

وأصدرت قيادتنا أمرا عاما بتكليف كل قادر على حمل السلاح بتقديم نفسه للاشتراك في تطهير البلاد من الجرذان الصينيين، ثم بعث عثمان باتور إنذارا إلى الحاكم الصيني وحدد له موعدا لمغادرة البلاد مع قواته، وإلا كان مصيرهم ميعا الهلاك المحقق.

كان الحاكم حائرا لا يدري ماذا يفعل، فقواتنا تحاصره من كل جانب ، والرسل التي أرسلها –ومنهم شقيقه- إلى عاصمتهم لم يأت عنها خبر، والشعب يتدافع إلى الموت من أجل الخلاص في ثورة عارمة تدعو إلى الفخر والإعجاب.

- ها نحن نلتقي مرة ثالثة يا مصطفى حضرت.

ونظرت فإذا بصديق العمر منصور درغا..

- آه يا منصور.. لشد ما تغيرت، إني أرى الشعرات البيضاء في رأسك، بالأحضان يا منصور.

لاحظت أن ذراعه اليسرى لا تتحرك، وأنه يدفع مدفعه بيده اليمنى، فاحتضنته في حب بالغ.

وعدت أنظر غليه، لقد ذهب الكثير من نضرة وجهه، ورأسه بدت صلعاء إلا من شعرات قليلة، لكن لحيته بقيت رمادية توحي بالإصرار العنيد، وفي عينيه حزن لا يريم...

- ما هي أخبارك يا منصور؟

- انتصرنا...

ضحكت، فلم يعد أحد يجهل هذه الحقيقة، وأدرك هو أن جوابه غير شاف.

- وحبيبتي الغجرية ماتت، ذبحوها كما تذبح الشاة في وليمة فاخرة، كانوا يتقاسمونها كالوحوش، كانت تصرخ وتدافع، الحيوانات المفترسة تعرف الرحمة، أما هم...

وأكمل وهو يلوح بسبابته:

- لا... لا... وانتشر خبر فراري من المعتقل، ليتني ما هربت، كان خيرا لي أن أكون أحد الهياكل التي عثروا عليها في مبنى المخابرات المنهار، تسألني لماذا؟ لقد بحثوا عني في كل مكان، ولأنهم فشلوا في العثور علي اختطفوا أسرتي كلها نساء ورجالا وأطفالا.. تسألني الآن مامصيرهم، فأقول بكل أسف.. ذهبوا..

ومعت عيناه:

- ذهبوا إلى من لا يظلم أحدا.

وجفف الدموع وتمتم:

- أتعتقد أني أسعد من هؤلاء الذين ذهبوا؟

أمسكت بيده وقلت:

- هيا بنا، فغن نجمة الليل كانت تريد أن تراك..

نظر إلي، كأنه يتذكر قصة قديمة عفا عليها النسيان:

- نجمة الليل؟

- نعم.. زوجتي.

- زوجتك؟...مستحيل... أنت تعرف..

ضحكت في ثقة وقلت:

- لقد اشتركت معي في عدة عمليات فدائية رائعة..

وكان يجلس إلى جوارنا صحفي جريح عاد لتوه وقال:

- أأنت مصطفى مراد حضرت؟

- نعم.

وضحك الصحفي في سعادة وقال:

- هنا منشور في أورومجي وفي آلتاي وكاشغر وقومول بخصوصكما..

- ماذا تعني؟

- مبلغ من الذهب لمن يقبض عليك أو على نجمة الليل سواء أكنتما أحياء أو أمواتا، إذا هو أنت؟ إن قصتك مادة صحفية رائعة.

ونظرت إلى كتفي، وأشرت إلى الصحفي الذي هتف مقهقها:

- نجمة الشرف الأولى.

- نعم يا صديقي من عثمان باتور.

- وحكم الحكم من الحاكم الصيني.. ما أعجب الدنيا؟

كان القمر يرسل أشعته الوانية، وإلى جواري منصور درغا.

غمغم منصور:

- مات أمير قومول، وأظنهم قتلوه، وتبدد الأمراء أو تحولوا إلى نماذج للشقاء والتعاسة، وانفرط نساؤهم في كل الأنحاء، الدنيا تموج وتفور بأحداث لا نهاية لها، لكأنما كتب علينا أن نقضي العمر محاربين..

- ليس هناك أشرف من الجهاد في سبيل الله، يا منصور..

- أعرف، لكني أحيانا أفيق إلى نفسي، واتذكر الأيام الجميلة والطفولة البريئة، والأهل والغدير، لماذا ذهب كل هذا؟ هل لا بد أن يشقى الإنسان حتى يبلغ ينابيع السعادة؟ وأين هي السعادة يا مصطفى؟ ها نحن ننتصر، لكن الأمر لكثرة الانتصارات والهزائم أصبح أمرا هينا، أحيانا ينتابني هذا الشعور... اعذرني... فقد فجعت في الإنسان كإنسان، لماذا تموت زوجتي؟ ولماذا يموت العجوز أبي؟ وتراق دماء أمي وإخوتي وعشيرتي؟ قيل لي إنهم كانوا يتمتمون ببضع آيات من القرآن، وكان أبي يعلو صوته بآية الكرسي، كان الجلادون يضحكون.. لماذا يضحكون؟ مصطفى.. أريد أن ألتقي بنجمة الليل، أريد أن أسألها كيف عاشت مع هؤلاء الوحوش؟ كيف آكلتهم وشاربتهم؟ أكانوا بشرا؟

أدركت أن منصور متألم لما أصابه وأصاب أهله، وأن نوبات الحزن التي تحل به من وقت لآخر تثير ثائرته، وتكاد تذهب بعقله.

فربت على كتفه في مودة وهمست:

- أتؤمن بالله؟

- نعم.

- انهمرت دموعه، ثم أخذ يغمغم:

- (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:156)

-



* * *







(13)





كور قبضته، وزم شفتيه، وصرخ في جنون:

- تسحقني الإرادة اليائسة.

هذا ما قاله خاكم تركستان الأكبر، واستطرد في سخط:

- كان علي أن أعتمد على خلفائنا أو على مساعدة الصين لكي أحمي سلطاني من ثورة الشعب التركستاني، ما وقفت قط وحدي واستطعت أن أنجز أي انتصار.. ما معنى ذلك؟ معناه أن أبقى طول حياتي متكئا على ذراع حليفي، لذالك لم أشعر قط بالراحة أو التنسم بيرح السعادة.

رد أحد الجنرالات الصينيين الكبار قائلا:

- لم نفكر قط في أن نتخذ شعب التركستان الشرقية صديقا.

- هذا مستحيل، الغازي والمهزوم لا يمكن أن يكونا صديقين، كل مرة كنت أحاول أن أسكت المقاومة بالعنف والقسوة... لم يكن هناك طريق آخر.. لست ساذجا، إنني أفعل ما أعتقد أنه صواب لا غير، انظر.. الجبال حولنا تمطرنا بالرصاص والرجال، بعد انهيار العون من حلفائنا، وإذا لم يف زعيمنا بوعده فستسقط أورومجي، وسنذبح هنا في أشهر مذبحة عرفتها أرض تركستان..

- وعاد الحاكم إلى استراحته الخاصة، كان ثائرا منفعلا، وجلس وحده يفكر، ولا يدري أطال به الوقت أم قصر، لكنه عندما رفع رأسه وجد فتاته تقف وفي يدها زجاجة وكأسان، وتمتم في دهشة:

- منذ متى وأنت واقفة هكذا:

- حوالي نصف ساعة.

- يا إلهي! ولماذا لم تتكلمي، لشد ما يعذبني صمتك.

كانت فتاة تركستانية مرغمة على أن تعيش مع الحاكم على الرغم منها، كانت تحمي بذلك نفسها وأسرتها، ليست هي الفتاة الأولى ولكنها هنا منذ شهور، إن الرئيس لم يكلمها بعد، هي صامتة دائما، كان المفروض أن يطردها، لكن صمتها كان يحلو له، كل النساء ثرثارات، أما هذه فلا تكاد تفتح فمها إلا لتجيب على سؤال في أقل كلمات ممكنة، وقال لها:

- إذا رحلنا من هنا فهل تبقين أم ستأتين معي؟

- إنني طوع أمرك يا سيدي.

يبدو أنها لم تفهم ما يرمي إليه.

- حسنا .. قد يهزمنا التركستانيون عندئذ...

ولم يكمل حديثه، لكنها نظرت إليه، وقالت بسذاجة:

- عندئذ ستنجو بنفسك يا سيدي، ولن تفكر بامرأة مثلي.

- لماذا؟

- النساء كثيرا على طول الطريق، وأنا من أكون؟

هز رأسه وقال:

- ستبقين هنا إذن؟

أجابت بكل هدوء:

- نعم، حتى يأتي أهلي ويأخذوني.

أطاح بالزجاج والكأسين بضربة واحدة وصرخ:

- كلكم تعيشون معي بلا قلوب.

- إنني لا أفهم ما تتكلم عنه، أتراني قصرت في واجبي؟

- أنا لا أتكلم عن الواجب يا حمقاء..

- عم تتكلم إذن يا سيدي؟

- عن الحب..

- نظرت في بلاهة ولم تتكلم...

"الحياة كلها يسودها الخوف، والناس هنا يتحركون بدافع الخوف أو المصلحة، حتى الجنود الصينيون في المعركة، عندما يشعرون أن حياتهم في خطر، يركعون على الأرض ويهتفون مستغيثين ويطلبون الشفاعة من التركستانيين، وبعضهم يهرب بحياته للإسلام، ويعتنق دين الأعداء التركستانيين، والحلفاء يعانونني ويرسلون جيوشهم بثمن.. إما أن يسيطروا على السلطة أو يستولوا علىالمواد الخام أو يكسبوا أنصارا لهم، وأنا نفسي لم يتقدموا لمساعدتي إلا بعد أن أعلنت ولائي لهم..."

والتفت مرة ثانية إلى الفتاة:

- اذهبي إلى الجحيم.

- أخرج من القصر؟

- ألا تعرفين الجحيم؟

- الجحيم... الجحيم... لا أعرف مكانه بالضبط، ولكني أستطيع أن أسأل...

قهقه في سخرية وهتف:

- انصرفي يا حمقاء..

وعندما همت بالانصراف، عادت إليه تقول:

- تذكرت يا سيدي، الجحيم هنا، في الآخرة حيث يأوي الأشرار والكفرة وأعداء الله..

استرخى على المقعد، ونظر إليها بعينين ذاهلتين وقال:

- اذهبي إلى هناك.

- لكني لم أمت بعد.

وراح في سبات عميق، كان غطيطه يدل على أنه لم ينم منذ ليلتين، وبقيت الفتاة واقفة، ثم أفاق على ضجة ونظر، فإذا بها واقفة:

- من أي داهية أتيت؟

- جئت من أقصى الشمال، من أطراف سيبريا.. هل نسيت يا سيدي ، كنت أقدم لك الكؤوس والفواكه في إحدى زياراتك .. أعجبت بي.. وبقية القصة أنت تعرفها.. إذا رحلت أنت من هنا، فسأذهب إلى الشمال، وأبحث عن أبي وأمي.

- كانت جميلة فاتنة غير متعلمة،جرها إلى المقعد، وأجلسها على ركبتيه، وأخذ يربت على شعرها في تدله، ويلامس أنفها الرقيق وشفتيها الدسمتين، وعينيها الواسعتين ثم يقبلها وكأنه في حلم وردي وتمتم:

- الحاكم لم يصلح لشيء، لقد ذهب الشباب والحب بعد أن زال السلطان والنفوذ، لقد نسيت اسمك ولم أعد أذكر إلا خيالات باهتة يحتضنها الماضي التي تختلط فيه الابتسامات بالموع.. والحرب دائما.. ولا شيء غير الحرب..

دقت دقات على الباب، فتنحني الفتاة وتخرج، ويدخل ضابط أركان حرب:

- سيدي، النجدة لم تصل، والتركستانيون المسلمون يحاصرون أورومجي، والمعارك الدامية تدور خارج المدينة ، لم نحرز أي تقدم.

- ادفعوا بالمزيد من الرجال.

- ألا تفكر في الانسحاب؟

- الانسحاب حماقة، إذا فكرنا وانسحبنا أتدريماذا تكون النتيجة؟

- ماذا؟

- سيختطفنا المسلمون من كل جانب، سيقضون علينا من كل صوب، ونخسر المعركة بكل تأكيد، وسنموت جميعا، أورومجي محصنة، وتستطيع أن تصمد لفترة طويلة، ليس هناك من وسيلة سوى الصمود حتى الموت.. أو تأتي النجدة.. اخرج وأبلغ القيادة بذلك.

- تلعثم الضابط وقال:

- إن الإنذار الذي أرسله عثمان باتور يؤكد سلامتنا إذا رحلنا.

ضحك وقال:

- أنا لا أثق في وعود المحاربين.

- لماذا؟ إنهم لا يكذبون يا سيدي.

- قهقه وقال:

- إننا خدعناهم ألف مرة.

- لكنهم...

قاطعه الحاكم قائلا:

- انصرف، المقاومة حتى النهاية، لا انسحاب ولا تسليم.

وانصرف الضابط، وبقي الحاكم وحده يعاني من ضيق ووساوس لا حد لها، وعندما يقترب القائد من حافة اليأس لا يصح أن يستسلم، بل يجب أن ينتحر، وأفضل وسيلة للانتحار أن يقذف بنفسه في أتون المعركة، هذا ما أفكر فيه، لقد أرسلت أخي إلى عاصمة الصين، ولن يعود أخي خالية الوفاض، إن الزعيم لن يترك تركستان الشرقية تفلت من أيدينا.. معنى ذلك أن يبتلعها حلفاؤنا، النجدة لا بد آتية.

وبينما هو منهمك في أفكارهإذ عادت الفتاة الصامتة مرة ثانية تحمل إليه بعض الطعام وزجاجة أخرى من الخمر، وبعد أن وضعت الطعام أمامه قالت:

- سيدي.أريد أن أرحل.

نظر إليها في دهشة وقال:

- لماذا؟

- إنني هنا خائفة، والحرب تقترب.

قهقه وقال:

- نعم.

- وما قيمة أن تموتي أو تعيشي؟

- لا أريد أن أموت.

- ألا يكفيأن تكوني في جواري؟

- أنت سيد كبير وأنا مجرد جارية أو خادمة .

نظر إليها في غيظ،كان يحبها ويلذ له وجهها وصمتها وسذاجتها، لقد ضاق ذرعا بأنواع كثيرة من النساء، لقد جرب المتعلمات، وجرب الفنانات، وعاشر وجرب الصينيات المهاجرات إلى أرضه الجديدة، مل الجميع، ولكن هذه البلهاء لم يزل لها في قلبه منزلة أسيرة، لماذا؟ لا يدري.. للقلب أحكامه الخاصة.

ونظر إليها نظرة أخرى بعد أن خف غيظه وقال:

- ماذا تتمنين من الحياة؟

- أن أعود إلى أهلي.. حيث المراعي.. و..

قاطعها قائلا:

- ألا تريدين البقاء معي؟ سأغمرك بالذهب والطعام والملابس والحماية...

أخذت تبكي وتنتحب، فصرخ فيها محتدا:

- لسوف أشوي جلدك بالسياط أيتها المتمردة.

جففت عينيها في ذعر، وقالت:

- ما فكرت في أن أسيء إليك.

- وسأسوق أهلك إلى سجن أسود لا يخرجون منه..

فانكبت على قدميه باكية وقالت:

- الرحمة، إنني أعتذر عما بدر مني خطأ.

- اذهبي.

- فخرجت ترتجف كطائر بلله المطر في ليلة باردة ليلاء..







* * *







(14)





وأخيرا أرسل الزعيم النجدة المكونة من ست فرق انتحارية مجهزة بأحدث أسلحة، وعندما حاولت الفرق الستعبور حدود تركستان تصدت لها قوات الحدود، فأرادت القوات الصينية أن تخدعها، وتقدم قائد الفرق الصينية من القائد التركستاني وقال:

- إننا لم نجئ إلا لتأديب الحاكم الذي انحاز وتشيع مع حلفائه، ولا نريد سوى تطهير بلادكم منهم.

قال القائد التركستاني ساخرا:

- فلتطهروا بلادكم أولا.

- تاكد يا سيدي أننا قادرون على تطهير أرضنامنهم ومن قائدكم أيضا، نحن نعرفه جيدا، إننا نعتصم باللإسلام وهو خير درع ضد أي غزو.

قال القائد الصيني:

- إن وقوفكم في وجه قواتي يعطي الأعداء فرصة أكبر.

- أنتم أيضا أعداء.

- لسوف يفتك بكم الحاكم.

- إنه محاصر في أورومجي، ولن يستطيع الهروب.

- حسنا.. لسوف نعود من حيث أتينا، ولنترك لكم هذا الخطر الداهم كي تعالجوه بأنفسكم.

ولم تمر أيام قليلة حتى ظهرت الخدعة، وتقدمت الفرق الانتحارية الصينية على حين غرة، وداهمت حرس الحدود، وكان عددهم قليلا جدا بالقياس على عدد القوات الصينية الزاحفة، إنها معركة غير متكافئةجعلت الصينيين يعبرون الحدود، وعانت هذه الفرق ما عانت من مقاومة الأهالي، وفقدت الكثير من القتلى واستطاعت بعد جهاد مرير أن تقترب من ؟أورومجيحيث يقيم الحاكم الصيني كالسجين، إذ كان تحاصره قوات عثمان باتور النظامية، عندئذ أعلن الحاكم الصيني عن تخليه عن حلفائه تماما، فأتت جموع صينية جديدة تزحف كالنمل، لتواجه عثمان باتور وقواته:

قال عثمان باتور:

- أيها الرجال! أنا لم أيأس بع.

- لا قبل لنا أيها الجنرال بهذه الحشود الصينية التي لا أول لها ولا آخر.

ابتسم عثمان باتور في ثقة.

- إلى القلب الحنون... إلى الجبل.

- كيف؟

- ن هناك سنبدأ من جديد يا مصطفى حضرت.

- سيدي..

- أعرف ما تقول، تريد أن تستمر المعركة حول أورومجي، في الإمكان أن نصمد حتى الموت، هذا شيء عظيم، الأعظم منه أن نبقى أحياء ونطهر أرض الإسلام منهم.. أعلن في الرجال العودة إلى الجبال.

وعدنا إلى الجبال نحمل جراحنا وقتلانا وأحزاننا، لم يستبد بنا اليأس، كنا فرحين لأننا أذقنا العدو الأمرين، وكبدناه الكثير من الضحايا، لقد دفع الثمن غاليا، ونحن لم تنكسر شوكتنا، أو تخمد عزائمنا، وأشرف الجبل من جديد بوجوه الرجال الصابرين الصامدين، وعادت صفوف الصلاة والتكبيرات تحوم في الآفاق العالية وأخذت المناورات تستأنف من جديد، الأمر المضحك أن الزعيم أصدر أمرا بعزل صديقه الحاكم الذي استنجد به، وعين مكانه صينيا آخر حاكما عاما على التركستان الشرقية، وابتسم عثمان باتور وقال:

- من لا يملك يجود على من لا يستحق، كأن بلادنا مزرعة خاصة لهم.

كان الحاكم الجديد شرسا عصبيا، وأراد أن يثبت أنه جدير بمنصبه الجديد، لقد اتخذ خطوة قمع قاسية خبيثة، وكان أبشع ما في هذه الخطة هو أنه أصدر أمرا بالقبض على الطبقة المثقفة في تركستان وخاصة الكتاب والشعراء والعلماء، حتى أولئك الذين لم يحملوا السلاح من قبل، وأقام مذبحة رهيبة ترددت أنباؤها الفظيعة في كل أنحاء البلاد.

ويومها ساد جو الجبل وجوم حزين، وقال منصور درغا:

- المجرم يحاول قتل روح الأمة.

قلت في أسى:

- حملة الفكر تذبحون كما تذبح الشاة.

- نعم، الدين والفكر الأصيل هما وجدان الشعب، الطاغية الخبيث ضرب ضربة في الصميم.

وقال منصور درغا وهو يبكي:

- أعرف شاعرا طالما تغنى بالانتثار وآمال الغد..

- وأعرف عالما فذا أفاض على الشباب أبان المعمعة بتحليلات ودراسات إسلامية مذهلة.

- حتى فتية المدارس الصغار الذين كانوا ينشدون الأشعار في المظاهرات ساقوهم إلى ساحة الموت.

وجاءت نجمة الليل تحمل على كتفيها طفلا صغيرا لا يكف عن الصياح وهي تهدهده في رقة وقالت:

- لماذا بقي هؤلاء المثقفون هناك، المثقف الذي لا يحمل السلاح ويأتي إلى الجبل لاستئناف المعركة ليس حقيقيا..

قلت في أسى:

-إن هؤلاء المثقفين لهم عذرهم، وشعبنا في كل مكان في حاجة إليهم وإلى كلماتهم، إنهم يؤدون نفس الدور الذي يؤديه حملة السلاح على سفوح الجبال، بل ربما يكون دورهم أخطر، ولهذا ترين يا عزيزتي أن العدو الصيني ساقهم إلى الموت قبل غيرهم، لأنه يعرف خطرهم.

وبدأت حرب العصابات من جديد، وبدا للصينيين أن المعركة لم تنته بعد، وفي كل ساعة ينحدر الرجال من الجبال ليقوموا بعملياتهم الانتحارية، ويختطفوا الغزاة، ويدمروا منشآتهم، ويبددوا المن الذي ظنوه حقيقة واقعة، وتحول النصر الصيني إلى آلام وتضحيات وعذابات مستمرة.

وفي الوقت نفسه ثورة شعبية أخرى في مقاطعة إيلي، يتزعمها وطني مخلص، وهو عالم إسلامي كبير اسمه علي خان الذي استطاع بعد معارك عنيفة مع الصينيين أن يستولى على مقاطعة ويحررها، وأصبح الشيخ علي خان رئيسا لجمهورية تركستان الشرقية الإسلامية، وكان الجنرال عثمان باتور قد انضم إليه هو ورجاله، وبفضل خبرة هذا القائد الهمام عثمان تم الاستيلاء على مقاطعتي آلتاي وتشوشك، وتكبد العدو الصيني خشائر فادحة في الأموال والأرواح، وأصدر رئيس الجمهورية الشيخ علي خان أمرا بتعيين الجنرال عثمان باتور واليا على مقاطعة آلتاي.

ولم يكن الشيخ علي يستطيع تحقيق هذا النصر إلا بعون كاف من السلاح الذي جاءه من الروس دون إملاء أية شروط سوى تطهير التركستان الشرقية من الغزو الصيني، لم يكن من اليسير أن يستسلم الصينيون بين يوم وليلة، بل ظلوا يقاومون في استماتة، وكثر عدد الجيش الإسلامي التركستاني، وانتعشت آمال الأمة بعد مفاح وعناء شديدين....

لكن منصور درغا قال:

- ها نحن ننتصر، ولكني خائف.

قلت في ثقة:

- لا معنى للخوف، ولقد جربنا أن النصر تصنعه سواعدنا.

قال منصور درغا ساخرا:

- وما قيمة سواعدنا بدون سلاح؟

أدركت أنه يعني معونة السلاح الذي جاءه للشيخ علي خان، إن منصور يشك، ويخاف على بلدنا الصغير أن يعود إلى اللعبة المحزنة، لعبة الكرة التي تتداولها أقدام الأقوياء.

- إن العالم يتغير يا منصور.

هز كتفيه قائلا:

- بل إن المنتصرين امتلأوا غرورا وغطرسة.

- سوف يتحول احتلال البلاد إلى شيء آخر.

- ماذا تعني يا مصطفى؟

- أني الصداقة هي بديل للاحتلال، ولا مانع من أن نكون أصدقاء للذين ساعدونا.

نظر منصور إلى الطفلي الصغير وقال:

- إنني أنظر إلى طفلك الصغير، أتعلم أنني حزين من أجله؟

- لماذا؟

- أنت تظن أننا وحدنا مارسنا حياة الأخطار والأهوال، لكني أؤكد لك أن ابنك وجيله سيكون أتعس منا.

قالت نجمة الليل وهي تلف ولدها في حب وتضمه إلى صدرها في خوف:

- لا تقل هذا الكلام عن ولدي.

وضحكت، وضحك منصور، لكنه عاد يقول:

- الصينيون المنهزمون طلبوا الصلح.

- لقد رفضناه.

استدار نحوي وقال:

- هل تعلم أن الدولة التي تمدنا بالسلاح ضغطت على رئيس الجمهورية كي يقبل الصلح والمفاوضات؟

قلت في حدة:

- على أي أساس؟

هز منصور كتفيه وقال:

- على أساس استقلالنا، وأريد أن أقول إن رغبة تلك الدولة كانت أقوى من الرغبة الشعبية، أردنا انسحابا غير مشروط للذينيين وهزيمة كاملة لهم، وأرادت تلك شيئا آخر.. المعنى لا يخفى عليك.

قالت نجمة الليل وهي تهدهد طفلها:

- لقد عاد السلام الذي طالما حلمنا به، ونحن نعود إلى مدننا وبيوتنا وننعم ببعض الراحة، إني أرى المستقبل رائع.

لوح منصور درغا بيده قائلا ثم مال على أذني هامسا:

- عثمان باتور كان رافضا للمقترحات.. إن استقلالنا استقلال ذاتي.

قلت في ضيق:

- سيرحل الصينيون، وهذا هو المهم.

هز كتفيه مرة أخرى وقال:

- من يدري.





***









(15)





ساد لغط كبير في أنحاء البلاد أبان الاستعدادات للاستفتاء الكبير وتقرير المصير، ووجدت خلافات جذرية بين السياسيين والمفكرين، لكن ثقل الحلفاء أعطى التغييرات الداخلية اتجاهات خاصة ومؤتمرات معينة، فقد طفا على السطح أولئك البرجال الذين يمتدحون موقف الحلفاء ومدهم لتركستان الشرقية بالسلاح، كانت وحدة النضال تجميع قلوب الرجال على معنى واحد هو التحرير وعودة البلاد إلى حظيرة الإسلام والحرية، ونتيجة للمفاوضات التي أجريت تقرر تعيين جانجي القائد العام لشمال غرب الصين حاكما عاما لتركستان الشرقية، يعاونه ثلاثة من التركستانيين هم: أحمد جان، وبرهان شهيدي، (نائبا للحاكم) وليومون شون سكيرتيرا للحاكم العام، وكانت مهمة هؤلاء الأربعة هي العمل علىإجراء الانتخابات التي نصت عليها المعاهدة، وتهامس الناس، إن الرجال الثلاثة من أعوان الحلفاء، لقد باعوا انفسهم للشيطان، ولكن الدعاية حاولت أن تبعد عنهم هذه الشبهات، وحاولت تصويرهم بصورة الأبطال، القوميين الذين لعبوا أدوارا من أجل تحرير البلاد أبان محنتها، كما ساعدوا على مد الثوار بالسلاح مما جعل الثورة الشعبية تحقق أهداقها على صورة رائعة، ومع ذلك فقد أخذت البلاد تستعد للانتخابات، الآن رأي الشعب هو الرأي الحاسم، ولن يستطيع أحد أن يخدع هؤلاء الثور المحاربين الذين ظلوا سنوات طويلة يتصدون للعدو، ويحطمون من محاولاته المستمرة للقضاء على استقلال البلاد، وفي هذه الأثناء فوجئنا بالدولة الحليفة تحاول السيطرة على المقاطعات الثلاث: إيلي، وآلتاي وتشوشك، كن الرئيشس علي خان وقف وأعلن على الملأ:

- إننا لن نفرط في ذرة من تراب الوطن، ولن نسمح بالتدخل في الولايات الثلاث.. ونحن على استعداد لاستئناف القتال ضدهم إذا لم ينسحبوا.

- وغرقت البلاد في جو من الدسائس والفتن.

تمتم الجنرال عثمان باتور.

فرد الرئيس عي خان قائلا:

- العالم مشغول عنا بتضميد جراح البشرية.

- انتهت حربنا ولم تنته..

اقترب الرئيس علي خان من عثمان باتور وقال:

- يا جنرال ! عد إلى قواتك.. واستعد.

أدركت ما يعتمل في الأفق السياسي من تحركات مريبة، فقلت لزوجتي:

- نجمة الليل! لقد حان الرحيل..

- إلى أورومجي...

- لا أريد الذهاب إليها، إن ذكرياتها تؤلمني.

- إذن إلى قومول..

- وقومول هي الأخرى فيها افتراءات قديمة قد تجلب لي ولك المتاعب.

- أتوافقين على الذهاب إلى كاشغر؟

- لا بأس.

- وهناك ستعيشين مع الطفل، أما أنا فذاهب إلى الجبال.

- الأيام المريرة تعود، والصديق يريد الثمن.

وكان الرئيس علي خان يجلس في قصر الرئاسة مع زوجه وذويه والليل خارج القصر ساكن هادئ، والناس في بيوتهم يسمرون ويتحدثون عن الانتخابات المقبلة والعهد الجديد، وتدهم القصر فئة من الشبيبة حاملين السلاح، تعلن عيونهم وملامحهم عن الغدر والخيانة:

- ماذا تريدون؟

- قم معنا.

- أنسيتم أنني الرئيس؟

- نحن نعرف، وليس أمامنا من وسيلة سوى إطلاق الرصاص إذا لم ترافقنا.

اختفى الشيخ علي خان، وأخذ الناس يتهامسون، لماذا لم يعد يظهر كالعهد به في صلاة الجمعة، ولماذا لم يعد يلتق برفاق السلاح الذين قادهم بالأمس وأحرز معهم الانتصارات البارعة ضد الصينيين، وكثر اللغط والجدل حول مصير الشيخ علي، لكن بيانا رسميا يصدر عن الحكومة تعلن فيه أن الحاكم الرئيس علي خان سافر للاستشفاء...

وفؤجئ الناس بالاتخبارات من جديد، لقد اندسوا في الشوارع والمزارع والمصانع، وأخذوا يعتقلون المناوئين في الولايات الثلاثة التي طمع فيها الصديق، وصدر قرار بتعيين أحمد جان التركستاني المعروف رئيسا على المقاطعات الثلاثة: إيلي وآلتاي وتشوشك.

وعندما قدمت القوات لاحتلال آلتاي برز الجنرال عثمان باتور برجاله وتصدى للقوات وبدأت الحرب..

كان العدو أكثر عدد وعدة، ومن ثم لجأ الجنرال عثمان باتور إلى منطقة غوجن واعتصم بالجبال المنيعة هناك.

عقب المعركة جاء منصور درغا يعرج، نظرت إليه وبكيت:

- ماذا جرى؟

قال في سخرية مرة:

- في كل مرة أفقد شيئا عزيزا علي، يوما ما فقدت ذراعي، ومرة فقد زوجتي الحبيبة، في أيام السلام القصيرة تزوجت أرملة في آلتاي، ترى ما مصيرها الآن؟ وقد أصيبت ساقي اليمنى برصاصة، مع أني ما زلت أحمل السلاح الذي عاونونا به... ما هذا العجب الذي نراه في دنيانا الغريبة؟

وارتمى إلى جواري يلهث، أخذ الماء وكأنه لم يشرب منذ أسبوع، ثم انحنى على ضمادة ساقه وأخذ يعيد إحكامه وينقي عنها الغبار والطين..

ثم تطلع إلى الأفق الدامي عند غروب الشمس وقال:

- كلما نظرت إلى الأصيل تذكرت الآخرة، الأصيل يوحي إلي بالنهاية...

- لم هذه الأحزان يا منصور؟

- تستطيع أن تطلق علي من الآن فصاعدا المهزوم..

ثم أخذ يغني أغنية شعبية تركستانية قديمة:

الليل يا حبيبتي مرصع بالنجوم..

ينوح كالأسير في غياهب الوجوم..

كوجه غانية..

سوداء قاتمة..

من ساحل العبيد..

حليها رخيصة..

لكنها تضئ..

عيناي لم تزالا تهمسان بالنشيد...

بوجهك المضئ..

يا حبيبتي لكنما لقاؤنا محال..

فرحتي ترف في مجاهل التلال..



قلت مازحا:

- إن حبيبتك أرملة قد تخطت الأربعين، ولا شك أنها تغط في نوم عميق الآن..

التفت إلي منصور في أسى وقال:

- ألم أقل لك؟ ها قد فعلوها وفصلوا الولايات الثلاث وهم الآن يعيشون في باقي الولايات، يبعثرون نفوذهم في كاشغر وأورومجي، وقنصلياتهم تشتري الرجال، وتخطف الرجال، لقد اشتروا حتى الذهب والفضة فارتفعت الأسعار... أتعلم ذلك؟ إنهم يفسدون الاقتصاد والسياسة والفكر والدين، وذمم المواطنين أيضا.

كانت المنطقة التي لجأنا إليها حصينة حقا، فلم يكن أحد بقادر على مداهمتنا فيها لوعورة مسالكها، وكل مجموعة دفعها العدو إلينا استطعنا أن نبيدها إبادة تامة، وأصبحت لنا اليد الطولى في تنسيق العمليات الجربية، وتنظيم حرب العصابات، وكانت سلطة العدو تحاول جاهدة أن تصدر البيانات الكاذبة.. عثمان باتور قاد عملية بارعة، وزحفنا حشودا ضخمة صوب آلتاي، واستطعنا احتلالها وطردنا العدو وفر أذنابه والخونة، وفرض الجنرال باتور سيطرته على المقاطعة مرة ثانية..

ويومها ابتسم منصور درغا وقال:

- هذا حظ أرملتي الحسناء، أوشكت أن تترمل مرتين.

ودخلنا المدينة وجرت النسوة المحجبات يستقبلن الجنرال بالأغاني وخرج الرجال بالهتافات المدوية، والأطفال بالأناشيد الحماسية، كلما حققنا شيئا من النصر يظهر وجه بلادنا الحقيقي تغمره الفرحة تضئ المآذن وينطلق منها التكبير والتسبيح لله.

أشعر أن آباءنا الأقدمين الفارابي والبيروني والبخاري وابن سينا أشعر وكأنهم يلبسون عمائمهم ويقفون على مشارف الطرق يحيون جهادنا، ويرحبون بمقدمنا..

أشعر أن المجد القديم كله يبعث من جديد، فيمتلئ بالثقة وتفيض روحي بالأمل...



* * *







(16)



تمتم منصور درغا قائلا في حزن:

- نحن كالغريق، يظل يقاوم بذراعيه قوى الموت، ويضرب ويضعف ويدفع الأمواج في وهن، ثم يغوص، وهناك في المجاهل المظلمة في أعماق البحر يودع الحياة في صمت وحزن، آه..يا مصطفى حضرت، نحن هكذا.. أترى سيذكرنا أحد بعد الموت؟

كان منصور درغا يتكلم، ويحاول أن يمثل دور الغريق وهو جالس إلى جواري، ويسبح متوهما بحماس بالغ، ثم ألقى سؤاله الأخير وهو يلهث وكأنه يقاوم الأمواج حقيقة..

ووجدتني أجيبه قائلا:

- ما قيمة أن يكرنا أحد؟

قال والجد يرتسم على وجهه:

- لذلك قيمة كبرى.

- ما هي؟

- إذا نسينا الناس فمعنى ذلك أن القضية الشريفة التي نناضل من أجلها قد ماتت..

وأخذت أهز كتفي وأقول:

- القضايا لا تموت بموت الرجال.

ضحك منصور في سخرية وقال:

- لا قضايا بدون رجال، مات خوجة نياز، ومات الجنرال شريف خان ومات أمير قومول... نحن لسنا أمراء ولا جنرالات، لكن القضية حية، انتظر لا تقاطعني، وماتت زوجتي الأولى، وتزوجت أرملة غيرها، القضية لم تزل حية، لكن وا أسفاه! ما زلنا نقاوم الأمواج، أترى سنبلغ شاطئ الأمان أو ستأتي سفينة النجاة.. أم نلاقي الموت في الأعماق السواد الصامتة؟

ومانت آلتاي في أيدينا وعثمان باتور يعد العدة، ويجند الجنود، والثوار يهرولون إلينا من كل مكان يحتله العدو أو يسيطر عليه الخونة، وأخذ ينضم إلينا التجار الذين أفلسوا والأغنياء الذين سلبهم الفقراء أموالهم، والفقراء الذين يسخرون لشق الطرق أو بناء السكك الحديدية دون أجر سوى أن يأخذوا وجبة طعام، والعلماء الذين أذيقوا العذاب والسخرية ألوانا.

وذات يوم جاؤوا بجنودهم.

هذا ما كان يتوقعه عثمان باتور، جاؤوا هذه المرة بأعداد كبيرة، زحفزا على آلتاي كالسيل الجارف، ومعهم عدد وآلات، وكانت المعركة عنيفة دامية، خسروا كثيرا وخسرنا كثيرا، لكنهم استولوا ثانية على آلتاي، وعدنا مرة ثانية إلى الجبال وشعابها، واتخذنا باريكول قاعدة لانسحابنا، وكان عثمان باتور يقول:

- النضال حتى الموت.

ابتسم منصور درغا، وكانت الدماء ينزف من رأسي، أخذ يضمد لي جراحي ويقول:

- لكأنما نموت موتا بطيئا.

- ألا تؤمن بالبعث؟

طاف منصور بنظراته الساهمة عبر الآفاق البعيدة التي يوشحها السكون البارد، وقال:

- إنني أؤمن بالبعث، لكننا نبعث في الآخرة يا صديقي، وقلوبنا صافية كالنبق الرقراق، لن يبعث معنا حقدنا، إنني أحقد على الأعداء أشد الحقد، عندما يتوارى هذا الحقد، فلسوف أفقد لذة كبرى، إنني ادعو الله أن أبعث حاقدا، هؤلاء الشياطين ارتكبوا من الموبقات ما لا يصدق، آه يا مصطفى.. قد أخذ بعض رجالنا أسرى أثناء إحدى المعارك، أتتذكر؟ ربطوهم في عجلات الدبابات .. أتذكر؟ كانوا يتبارون في تصويب الرصاص إلى آذانهم وعيونهم، أتذكر؟ كانوا يسخرون ويقولون : اشنقوا آخر ثائر بأمعاء آخر جندي، بقد شنقوا بعض العلماء الثوار فعلا بأمعاء أحد جنرالاتنا.. أيمكن أن تسمى هؤلاء بشرا؟

كانت وطأة الهويمة على أنفسنا قاسية، وكان الأصدقاء قد تحالفوا مع الحاكم الصيني الجديد، على استئصال شأفتنا، وأخذنا نتطلع يمنة ويسرة فلا نجد صديقا ولا حليفا، قال عثمان باتور وهو ينظر إلى السماء ويشير بسبابته:

- إنه معنا...

وهتف الرجال المرهقون الذين ينزفون ويتألمون : "الله أكبر".

وقال منصور درغا ذات أصيل:

- سوف نذهب إلى أعماق الجبال، وقد نرجع إلى المدينة أو لا نرجع، ما رأيك في أن نقوم بجولة صغيرة؟ أريد أن أطمئن على زوجتي، وأنت الا تريد أن رؤية ولدك وزوجتك؟

الحقيقة أنني كنت في أشد الشوق إلى رؤية نجمة الليل وطفلي الذي كبر، لكننا مطاردون...ثوار.. وإذا سقطنا في أيدي العدو فمعنى ذلك الموت لا محالة، وهتفت في قلق:

- المدينة تبدو لنا وكأنها حقل من حقول الموت.

- أتخاف الموت يا مصطفى؟ هيا بنا.. سوف نتخفى.. وسنرى الدنيا الجديدة التي شكلها المعتون، في المدينة سنرى الرايات، والشعارات، سنرى المدينة تنشد قصيدة رثاء ووداع، المدن كالبشر يا مصطفى تحزن وتتألم، وتترنم بالشعر، وتلطم خدودها، المدينة كائن حي، كائن بشري... صدقني..

ونخترق الطريق الطويل بلا هويات، أحيانا نلبس زي الرعاة وأحيانا نبدو متسولين نستجدي لقمة العيش، وفي بعض الأوقات نشترك مع عمال الشحن والبناء، أو نشترك في مظاهرة صاخبة تهتف، أو نأخذ دورنا في رجم أحد الثوار الخونة الشرفاء، لكننا لم نكن حريصين أن تسقط أحجارنا عليه، كنا في وسط الضجيج نضرب الأحجار في رؤوس الجنود سواء أكانوا أعداء أو تركستانيين خونة، اختلط الحابل بالنابل وسادت البلاد فوضى من نوع غريب، المصاحف وتفاسير القرآن، وكتب الحديث وخاصة كتاب الإمام البخاري جدنا العظيم وغيرها من كتب الفقه والتوحيد، كثير منه ممزق وملقى في الشوارع، والجنود يشعلون فيه النار ليستدفؤوا من شدة البرد..

وأخيرا وبعد ليال شاقة مضنية وصلنا إلى المنزل الذي تقيم فيه زوجة منصور درغا، كنا قبيل المغرب بقليل، وخل منصور أولا.. ووجدته يضحك بصوت عال كاد يستلقي على قفاه:

- تعال وانظر يا مصطفى.. المرأة خلعت برقع الحياء.

- وسمعتها تقول بصوت يخالطه البكاء:

- لعنة الله على الشياطين! لقد مزقوا قناعي في الشارع وفعلوا ذلك مع كل امرأة تسير محجبة، واختطفوا عباءتي، وأشعلوا فيها النار، بل أمسكوا بثوبي وأعملوا فيه المقص حتى يصير قصيرا، وتصير أكمامه أيضا قصيرة، إنهم يريدون لنا التقدم والحضارة.

كان منظر الأرملة في ثوبها القصير الأسود، وأكماما التي تقترب من إبطها، وشعرها المتهدل، يعطي انطباعا في قلبي لا أنساه، إنه مشهد يضحك ويحزن في نفس الوقت...

وأمسك منصور بزوجته وقال:

- هذه هي تركستان الجديدة.

كانت المرأة تشعر بالخجل، وتبكي ف حرارة، لكن منصور ضمها إليه في حنان وقال:

- لا تحزني يا حبيبتي، لن نبقى هنا طويلا، سنذهب إلى حيث تلبس النساء ما تشاء، وفي الجبل يا حبيبتي لا توجد مصاحف ممزقة، ولا يستطيع أحد أن يدوس صحيح البخاري.

وتركت منصور درغا على أمل اللقاء به في الغد، كنت أشعر بشوق جارف نحن نجمة الليل والطفل الحبيب، الذي يستطيع الآن أن يجري ويلعب ويناديني باسمي.. لكم أحب هذا الولد الجميل المرح..

الليل في المدينة يوحي بالخوف والخطر، والتجول ممنوع حتى الفجر، والمدينة امتلأت بوجوه كثيرة لم تكن فيها من قبل نساء ورجالا وأطفالا، صدق ما سمعناه أن الأعداء يقومون بهجرة واسعة إلى تركستان، وفي نفس الوقت يأخذون مئات اللوف من أبناء تركستان الأصليين، ويهبون بهم إلى بعيد، ويستولون على المنشآت والمتاجر والمزارع، ويبنون للمهاجرين الجدد بيوتا ومؤسسات، وأماكن للدعارة أيضا، قوافل الفتيات الصينيات ملأت البلاد باسم الحرية والتحرر، والكتب الصغيرة بمختلف اللغات تملأ المدارس والأندية والشوارع، إنها كتب خصيصا لبلادنا، وهي تتحدث عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتذكر أبطالا لم نسمع بهم قط، وتصور عثمان باتور وخوجة نياز والرئيس علي خان بصورة اللصوص وقطاع الطرق، وتجعل من الحاكم الجديد التتري المهاجر غلى بلادنا الذي أصبح مكان الرئيس علي، والذي يتغنى بمجدهم تجعل منه البطل القومي محرر الشعب، ورفيق التقدم، وأبا الأحرار ... هذه ليست المدينة التي أعرفها، لا الرجال رجالها، ولا الأطفال أطفالها، وهؤلاء النساء العاريات الكاسيات لسن نساءها...

وأخيرا ذهبت إلى الجهة التي كانت تعيش فيه زوجتي... قلبي الحزين يدق فرحا بلقاء الأم والطفل، عندما انظر إلى وجه نجمة الليل أشعر براحة كبرى، وطرقت الباب طرقات خفيفة، وسمعت وقع خطوات ثقيلة، وعندما فتح الباب كدت أصعق...

- من أنت؟

نظر إلي بعينين محتنقتين، ووجه مكتنز شديد الحمرة، وخصلات من شعر رأسه يخالطها قليل من الشيب، وبقايا حساء تبدو قطراتها عالقة بشاربه الكث، وقال:

- ألا تعرف من أنا؟ الكل يعرفني، أنا زعيم العمال الذين قبضوا على كبار الثوار.

كان واضحا انه جاهل لا يعرف شيئا من التعليم، وعلى الرغم من أنه يتكلم بلغة البلاد إلا أن وجهه كان غريبا، وسحنته كذلك، وهذه الغلظة التي فيه ، ونظرة الكراهية التي تطل من عينيه..

- يبدو أنك أخطأت الطريق.

قالها ثم صفق الباب.

آه.. والدار لو كلمتنا ذات أخبار.. واضح أنه احتلال من نوع صغير.. ودخلني رعب مبهم، أين ذهبت زوجتي وولدي؟ يجب أن اتصرف بروية وهدوء وإلا قبض علي، وعندما أساق إلى سجن أو معتقل فلن أخرج منه طوال حياتي، وبرغم القلق الذي يسيطر على روحي، والثورة العارمة التي تحرق قلبي إلا أني اعتصمت بالصبر والهدوء، وأخذت أتجول في الحي القديم الي بدا نصفه مهدما، فقراء المنطقة يعرفني بعضهم ويعرفون ولدي وزوجتي، وهناك قريب عجوز كان يعمل خادما في مسجد، والحلاق الذي يقع دكانه على ناصية الشارع أعرفه جيدا، إنه يحلق لولدي شعره الذهبي، ليته محتفظ بخصلة من شعره الحبيب، لكن المسجد مغلق، ولا أكاد أرى أحدا من المعارف، وذهبت إلى الحلاق، كان يحلق لأحد الرجال، نظر إلي من طرفه، والتقت عيناي بعينيه، وهممت أن أحييه تحية الود القديم،لكمه سرعان ما أغمض عينيه، لم يكترث لوجودي، وبدا أنه غير راغب في محادثتي، وفكرت، ماذا أفعل، حسنا، فلأجلس على هذا المقعد الخشبي العتيق، وليكن ما يكون، ولاحظت أن الحلاق يسرع في عمله، وأخيرا تقاضى أجره، وانصرف الزبون، وأشار إلي، فقد جلست مكان الرجل الي انصرف.

- ماذا جرى يا عم عبد الخالق؟

- قال وهو يزاول عمله في رأسي الكث:

ما الذي أتى بك إلى هنا؟ إن رجال عثمان باتور إذا قبض عليهم يقتلون فورا، كيف دخلت المدينة؟ يجب أن ترحل بأسرع ما يمكن وإلا فقدت حياتك.

وقلت في سخرية:

- ماذا يجري؟

- لست أدري ولكني حلاق يريد أن يعيش.

- أين ذهبت نجمة الليل؟

- هربت.

- والتفت إليه في دهشة:

- أخذت الطفل وتسللت دون أن اعرف عنها شيئا.

دارت الأرض، المقص يصدر أصواتا سريعة تزيد من توتر أعصابي، وأدرك عبد الخالق ما أعانيه من أحزان وحنق أثار جنوني.

- تصرف بحكمة يا مصطفى، نحن في زمان تعس لا يعرف الرحمة، ولا يعرف الله.

قلت بصوت كالفحيح:

- أين ذهبت زوجتي؟

- يرجح أنها اتخذت طريقها غلى قومول.

- ولماذا قومول بالذات؟

- هذا إذا بلغت قومول سالمة، الأسر تناثرت في كل مكان، البلاد امتت إليها أيدي أسطورية ضخمة تلهو بجماهير الناس وتخلطهم وتعتصرهم، وتبعثرهم يمينا وشمالا، لا أدري ماذا أقول، وكيف أعبر، خير لك أن ترحل عن هذه المقاطعة فقد سقطت نهائيا في أيدي العدو.

- مستحيل.

ساد وجهه الشحوب وارتبك وقال:

- لا ترفع صوتك يا مصطفى، نحن شعب صغير يأتيه البلاء من كل مكان، ويحاصره الرعب من جميع الجهات الأربع، قضيت فترة تحت يدي عبدالخالق، وقبل أن أنصرف من دكانه وضع على صدري شارة العدو وهو يقول:

- هذه الشارة ستوفر عليك الكثير من المتاعب.

انتزعتها من فوق صدري، ثم قذفتها وسط الشعر المتناثر المقصوص وبصقت عليها وسحقتها بحذائي، وانصرفت، أين أذهب؟ أنا في وطني كالغريب، أرض ليست لي، أصدقاء يهربون، وزوجتي غرقت في خضم الأحداث الكبار، فلأعد إلى منصور درغا لأقضي عنده الليلة.

عندما دخلت إلى بيت منصور، وجدته يجلس في ناحية وزوجته في مقابلته، والطعام لم تلمسه يد..

وهشا لمجيئي المباغت، ونظر إلي منصور في حزن فقلت له:

- لم أجد أحدا.

هز رأسه وقال:

- لقد رحلت هي وطفلها إذن؟

- نعم، ولا يدري أحد إلى أين...

- قال منصور وقد اختنق وجهه وارتجف شاربه:

- هذا أفضل.

لم أفهم ماذا يعني، لكنه قال والحسرة تتقطع قلبه:

- ألا تدري؟ لقد أفلتت زوجتي من الضياع والموت، لكنها دفعت الثمن.

- أي ثمن؟

- كانت تستضيف الأعداء، هل فهمت؟ لقد حضروا.. رأيتهم يدخلوان البيت سكارى.. هل فهمت؟

- أنا اختبأت كالفأر المذعور في أحد الأركان حتىلا يقتلني أحدهم، وهي.. هي .. زوجتي أخذت تمازحهم وتقبلهم، . من أجلي.. هكذا قالت.. تكلمي أيتها المومس الفاضلة؟

قالت وهي تتشنج عاليا:

- أردت أن اموت، لكني جبنت، اغتصبوني عنوة.. لم أكن أعرف لي مكانا آوي إليه، لماذا لا تأخذني إليك يا ربي؟ ارحمني يا منصور، إنهم فعلوا نفس الشيء ببنات العلماء الكبراء وزوجاتهم، إنني لا أتصور أنني أرى الحقيقة، يخيل إلي دائما أني أحلم.

وقال منصور درغا والدموع تبلل أهدابه، ولكنه كان يحاول أن يمزح زاحا مرعبا:

- حسنا سوف نقضي ليلتنا هنا كضيوف شرفاء، لديك أبتها المومس الفاضلة، غدا نرحل، أنت طالق... وأنت...ماذا أقول؟ على من يقع اللوم؟

وتطلع إلى الأرض والسماء وإلي، ثم أخذ يقهقه كمجنون.





***







(17)





غمغم منصور درغا ونحن في الطريق العام:

- فكرت في أن أضع حدا لحياتي، لكني رأيت الانتحار جبنا وهروبا، وهو يتنافى مع ما تعلمناه من قواعد ديننا الحنيف، لقد آلمني يا مصطفى أن أفقد المعركة... وشرفي.. في وقت واحد، تصاغرت أمام نفسي، خيل إلي أنني مسئول مسئولية مباشرة عن كل ما حدث، أنا وحدي المسئول.. هكذا يبدو لي..

كان منصور في حالة من البؤس يرثى لها، وكنت مقدرا لنا يرزح تحته من أعباء نفسية قاسية، أن كل شيء أمامه ينهار .. الثورة... الرجال الشرفاء.. المآذن والقباب، القيم الإسلامية التي عاش في ظلها، امرأته تتحول إلى مومس على الرغم منها، ومع أن آلامي وأحزاني كانت لا تقل عنه بشاعة إلا أنني قلت:

- إنك تحمل نفسك فوق ما تطيق، من أنت حتى تكون مسئولا عن كل ما جرى في هذه الأيام العصيبة؟ من أنت حتى تتصدى للأعداء؟ أنت فرد ضعيف يا منصور، وقد اديت واجبك.

تأوه وعيناه تحملقان في الطريق الواسع الطويل، وقال:

- واجبي؟ ها هنا.. الواجب في أعناقنا حتى نموت.. ما مت حيا فلا بد أن نفعل شيئا، ويوم أن تشعر أنك يئست وأنه لا جدوى من أي عمل تعمله فقد خنت الأمانة.

أدركت أن مأساة زوجته تؤثر فيه أيما تأثير فقلت:

- النساء كثيرات.

ضحك في هستيرية وقال:

- وطننا قد انتهك شرفه، لا أدري كيف نعيش ونأكل وننام وننجب الأطفال.

ووجدنا من بعيد حشدا هائلا من الناس في أيديهم المعاول والفؤوس، ورجال الشرطة يروحون ويجيئون، وسألنا أحد المارة قائلين:

- ما هذا؟

- الأعداء يريدون أن يستولوا على المسجد ويحيلوه إلى مخزن لبعض المواد الخام، وشيخ المسجد يقف بالباب معترضا، أخذوه ثم ربطوه في شجرة مقابلة للمسجد وهم الآن يسخرون منه، ويبصقون عليه ويضربونه بأفرع الأشجار، والدماء تسيل من جسده...

وتوقفنا عن السير، قال منصور:

- لماذا توقفت؟

- يجب أن ننطلق إلى طريق آخر.

ضحك منصور ضحكة مخيفة وقال:

- معي سلاحي وذخيرتي، ولن تستطيع قوة أن تمنعني من المضي في طريقي إلى الأمام.

كان يخفي غدارته، وكمية من الطلقات تحت معطفه الرث، وقبل أن أنتبه لما سيفعله، وجدته يجري ثم يقصد المسجد من الخلف ويختفي، أخذت أتابعه كي ألحق به لكني لم أجده، وبينما كان الشبيبة يضربون شيخ المسجد ويقهقهون ويسخرون انطلقت بضع رصاصات وقع ثلاثة من الشبيبة على أثرها على الأرض ينزفون إلى جوار الشيخ المربوط وصاح الشيخ المظلوم:

- الله أكبر.. هذا هو انتقام الله.

واتجه الناس بأبصارهم إلى أعلى المسجد، كان منصور درغا يقف بين القبة وقاعدة المئذنة فوق سطح المسجد، ولم أكن أرى سوى رأسه ومدفعه، وسمعته يصيح بأعلى صوته:

- أيها الكلاب.. هذا بيت الله! ولن تطأه أقدامكم النجسة .

غاص قلبي في داخلي، ودهمني خوف شديد، إن منصور يقف الآن بين يدي الموت، ويعرض نفسه لكارثة محققة، ولم أدر ماذا أفعل، وتوالت طلقاته، فأصيب عدد كبير من الشبيبة بالجراح، وتنبه رجال الشرطة ونفر من الحزب وصاحوا:

-خائن...خائن.. رجعي...رجعي..

وانصب الرصاص صوب القبة والمئذنة، وساد صمت وانفض خلق كثير ممن كانوا يقفون متفرجين، وبعد دقائق ظهرت رأس منصور درغا ثانية وأخذ يصيح:

- لن تدخلوا المسجد إلا على جثتي، هذا بيت الله أيها الأوغاد.

وعاد تبادل الرصاص من جديد، وسقط عدد آخر من المهاجمين وأخذ بعضهم يقذف بالقنابل اليدوية، فتعالى الدخان من فوق المسجد مع دوي الانفجار، إن منصور ميت لا محالة، وبعد فترة ستأتي النجدة، إنه يخوض معركة بائسة، ترى لماذا فعل ذلك؟

إن عشرات المساجد ق استولى عليها الأعداء، وتصديه لهم في هذا المكان لن يغير من الواقع المرير شيئا، ورأيت في عيون الناس في الشارع سعادة تترقرق في أعينهم، إنهم فخورون بالرجل الذي يقف خلف القبة مدافعا عن بيت الله، وفي دقائق امتلأ المكان مرة أخرى وأخذ المشاهدون يرشقون الأعداء بالأحجار والحصى واللعنات واندلعت في المكان ثورة صغيرة من أجل بيت الله..

فلم يجد الأعداء مناصا من الانسحاب، ووقف منصور لدى مقصورة صغيرة في المئذنة وأخذ ينادي بأعلى صوته: الله أكبر.. الله أكبر.. الصلاة جامعة... الصلاة جامعة..

فرأيت الموع في عيون التعساء المظلومين، ورأيت إمام المسجد يتحرر من الشجرة التي ربط فيها، ويرتدي ملابسه، ثم يقصد الماء ليتوضأ ، ونزل منصور إلى جوار المنبر وقال:

أيها الناس! لعلها صلاة الوداع.. مع ذلك فلا تتخلوا عن بيت من بيوت الله.. دافعوا عن كل شبر، كل حجر فيه.. إنه يمثل المعنى الكبير، المعنى الإلهي الذي عشنا في ظل عقيدته منذ مئات السنين، فلنصل ركعتين لله..

كان بعض المسلمين قد استولى على قطع من الأسلحة التي وقعت من أيدي القتلى أو المصابين أو الهاربين، ووجدتني أتناول مدفعا رشاشا وكمية من الذخيرة، ومن بعيد رأيتهم قادمين في سيارات الجيشذات العلامات المميزة.. وانصبت النيران على المسجد وعلى من فيه، وجرت معركة غير متكافئة بين الثوار وبينهم، وقلت لنفسي: إن عثمان باتور ينتظر هناك في باريكول، ورأيت أن أنسحب وبحثت عن منصور درغا، لكني وجدته ملقى على باب المسجد والسلاح في يمينه، ويده قد تدلت إلى جواره غارقة فيبركة الدماء، واقتربت منه، فإذا هو قد مات، وإلى جواره عدد غير قليل ممن أصابتهم الرصاصات القاتلة، وكان إمام المسجد الآخر لقي حتفه ولحيته البيضاء مصبوغة بالدماء... وأسرعت بالرحيل..

كان رحمه الله يؤمن بأن الواجب باق في عنقه حتى الموت.. وقد استشهد على عتبة المسجد، ضرب الخونة في وضح النهار وفي عقر تمركزهم، وتحرك الناس من حوله، لقد مات سعيدا دون شك، كان الطريق إلى قومول مغلفا بالأخطار، وكان الناس يتحدثون عن حادثة المسجد، وعن غدر العدو، وعن الانتخابات التي حاولوا تزييفها فأتت بالرغم من تزييفهم في صالح الشعب، فعمدوا إلى الخديعة والاغتيالات وراح الأحرار في السجون ، كل شيء يعرفه الشعب، والأكاذيب التي تنطلق في الصحف معروفة جيدا، والترهات والزيف يسود صفحات الصحف اليومية، كل هذا لا يخفى على أحد، وحفلات التكريم التي يقيمها العدو، والخطباء المفوهون والشعارات التي تلصق على الجدران، كلها تعبر عن وجه الزيف والاحتلال المكشوف والمقنع الذي اشترك فيه الأعداء...

أصبحت الولايات الثلاث: إيلي وآلتاي وتشوشك تحت سيطرة الأعداء، أما باقي الولايات السبع التي يحكمها أحد الخونة فقد أعلن هذا الخائن انضمام تركستان الشرقية للصين، عندئذ تملك الذعر الأهالي، وباتوا فكأنما في كل بيت مأتم، وأخذوا يستشرفون مستقبلا أشد حلكة وسوادا محفوفا بمزيد من الأخطار والمكاره...

وبدخول القوات الصينية مرة أخرى، أدرك الناس أن ذلك سوف يتيح فرصة أخرى للتنكيل والمظالم فما زالت الذكريات المزعجة تطوف بأذهانهم، قرر الثوار أن تستمر المقاومة بقيادة عثمان باتور، وأن تتوجه فئة أخرى للخارج بقيادة الزعيم محمد أمين بغرا نائب الحاكم العام السابق لإبلاغ العالم اعتداء الصين على التركستان، وطلب المساعدة، وخرج الوفد، ووصلوا إلىمدينة لاداخ التابعة لكشمير، وبصحبتهم عدد قليل يقل عن ربع العدد الأصلي، أما الثلاثة أرباع فقد لقوا الله شهداء في الاشتباكات الدامية على الحدود مع الجيش الصيني، وبسبب الجوع والبرد الشديد والاختناق، وبعض الأحياء تجمدت أطرافهم، إذ استغرقت سيرهم شهرين كاملين بين الطرق الثلجية القاسية والممرات الجبيلة الوعرة، وكان عليهم عبور خمسة أنهار، وعبروها مائتي مرة لعدم استقامة الطريق، والتواء المجاري، وتسلق قمم الجبال الشاهقة، حيث يقل الأوكسجين مما جعل الدم يسيل من أنوفهم، ومن خياشيم الدواب، وأخيرا وصل عدد قليل منهم إلى مدينة سريناجر عاصمة كشمير، كانت هذه الرحلة صورة مجسمة للعناء الذي لا مثيل له، العناء الذي لقيه شعبنا المسلم في سبيل الحفاظ على دينه وحريته واستقلاله..

أما انا فلم أستطع الاهتداء في قومول على نجمة الليل أو الطفل، وبدت لي قومول كالأرض الخراب التي تنضح بالمرارة والأحزان والعذاب..

كان الناس في كر وفر، وأغلب الأسر يهربون إلى الجبالأو الحدود بحثا عن مكان ىمن لا يلحقهم فيه العدو..

واتخذت طريقي إلى باريكول حيث يهسكر عثمان باتور وعشرين ألفا من رجاله الثوار بين الجبال المنيعة، وها أنا ذا أعود وحدي بعد أن تركت منصور درغا نائما نومته الأبدية على عتبة المسجد، ليروي ثراها بدمائه الزكية، في أعنف معنى لمعاني الرفض الجبار الذي يواجه الموع والسلاح والمبادئ الممرة التي تمتلك أنواع الدمار والفساد..

ولأول مرة بعد الرحلة الشاقة المضنية عبر بلادي الحبيبة أشعر بشيء من الاطمئنان، إن أحضان الجبل توحي بالسكينة والرضا، وهنا أتنسم الهواء النظيف، وأهتف من أعماق قلبي بالتسبيح والدعاء لله، ونتدرب على الأسلحة المتطورة التي جاءتنا، لكنها على الأغلي أسلحة يدوية لا تتفق وما يمله العدو من طائرات ودبابات وغيرها..

لكم كان يحلو لي أن أرى نجمة الليل، وأرى ولدي الذي كبر ونما، وأتحدث معه وألاعبه وأعلمه الرماية، آه يا قلبي، حسبتك تشبه جلمود الصخور ولا ترتجف لذكرى الأحباب ، ولا تحن لأيام اللقاء الأسري الشذي العامر بكل النعاني الحلوة .. لكنك يا قلبي من لحم وم.. ما ذنبي وما ذنبك؟ إنني أشرد ببصري إلى لآفاق الممتد إلى معيد، وأتخيل ملايين البشر في الحقول والغابات والمراعي والمصانع والجيوش، وأتأمل بخيالي وجوههم باحثا عن ولدي الوحيد.. أين أنت يا ولدي؟

وتتساقط الدموع من عيني، ويخفق قلبي خفقة اللوعة والشوق في ظل السنوات الطوال التي ينوء تحتها جسدي المنهوك..وكلمتا رأيت طفلا قبلته بنظراتي اللهفى، وأخذت أتابعه حتى يختفي، وكثيرا ما أجري خلفه، وأقدم له بعض الفواكه الطازجة، وأسأله عن فتى صغير اسمه نياز مصطفى مراد حضرت، وعن أمه نجمة الليل... آه... يا قلبي.. لشد ما تعذبني بأوهامك وذكرياتك وأشواقك الملتهبة التي لا يطفئها برد الجبال ولا تجور عليها أحداث الزمان ولا تصرفك عنها المعارك الدامية، ولم يكن عثمان باتور رجلا سائجا غير مدرك لواقع الأمور، ومجريات الأحداث، فقد كان قائدا بطلا محنكا، كان يعلم أن العشرين ألف جندي الذين يعتصمون معه بالجبال لا يستطيعون وحدهم أن يتصدوا لملايين الأعداء، لكن ثقته الكبرى كانت تتركز حول عدة معاني أهمها أن تبقى الثورة حية ومستمرة في جهادها الأسملا، وأن الشعب الذي يعيش خلف أسوار الكبت والقهر والمظالم يتلقف الأنباء عن ثورته الدائمة، بالتالي فسوف يشعل الثورة هو الآخر، ويجعل من بقاء المستعمرين جحيما لا يطاق، واستمرار الجهاد سيحرك العالم لنصرة قضايا الشعوب المظلومة..

وفوق هذا وذاك فإن الاستسلام للهزيمة أمر لم يرد على ذهن عثمان باتور ورجاله، كان يقول دائما في كل مناسبة:

- هذا قدرنا... وقد كتب علينا ألا نضع السلاح ما دمنا أحياء.. وخير لنا أن نلقى الله من أن نرضخ لحكم الأعداء، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله،

وقد توجس المستعمرون شرا من الثوار، فأرسلوا وفدا من عملائهم إلى باريكول يدعو الوطنيين إلى الكف عن القيام بالهجوم ضد الحكومة الشعبية، كما تدعوهم للحضور إلى أورومجي عاصمة البلاد لعرض مطالبهم على المسئولين.

قال عثمان باتور:

- إن ذهاب القادة إلى أورومجي يحمل في طياته خطرا كبيرا، حسنا.. نحن لا نأمن مكر الأعداء، اذهبوا إليهم في أورومجي وأعلنوا مطالبنا، ألا وهي ضمان الحريات، حرية الرأي والعبادة، والكف عن الاعتقالات، والكف عن مصادرة الممتلكات الفردية، وأن مصير الأمة يتقرر بنفسها دون تدخل من أحد..

لم يكن عثمان باتور يجهل ألاعيب الأعداء ومخططاتهم، ولهذا كنا نستعد ليل نهار للمعركة الفاصلة، ولم يعد الوفد الذي ذهب إلى أورومجي بأية نتيجة، وكنت إلى جوار الجنرال في مسيرة قصيرة لتفقد مواقع الجبل، وسمعته يغمغم:

- على الأندلس السلام..

- إنها مشيئة الله...

- أفمر كثيرا لماذا لا يعيش البشر في سلام؟

- وضحك ضحكة حزينة وقال:

أرض الصين شاسعة، والبشر هناك كالنمل، لماذا يطمعون في ثروتنا وأرضنا، هل نسوا ما عانوه على أيدي الطغاة؟ الإنسان لا يتعظ، وسادت فترة صمت قال بعدها:

- تعلمت من بين سطور القرآن أن أعيش حرا، وأن أموت مكافحا عن شرف العقيدة.

- الحياة هنا قصيرة.. ما أروع حياة الأبد، ولهذا كانت إرادة الله أن تكون الآخرة هي دار المقام والخلود، أعجب إذ تتصارع الدول والأفراد في سبيل متعة تافهة محدودة بآجال قصيرة، ولهذا ترى الموت في سبيل الله حياة.

وتطلع حواليه وهو يمسح على لحيته وشاربه الطويل وقال:

- آمنت بالله، العالم اليوم لا يعبد الله، العالم يسجد للقوة والرعب، هذا عالم العبيد، سواء الذين هزموا في برلين أو الذين انتصروا في لندن وباريس وأمريكا..



***







(18)







كل شيء من حولنا يتبدل ويتغير بسرعة، الناس والأشياء والأسلحة والمواقف وخريطة العالم، كثير من أولادنا ذابوا في خضم الهزيمة، أخذوا يلوون ألسنتهم بكلمات جديدة، وشعارات رنانة، والبنات- يا إلهي!- خرجن إلى الشوارع سافرات... تيار كاسح من المغالطات والفضائح والانحرافات يجرف كل شيء أمامه باسم التقدم، ألا يمكن أن يتقدم الناس ويتحضروا ون أن تتحيفهم المظالم، أو تسحق حرياتهم أو يساقوا سوقا كما تساق العبيد؟ ألكي يتعلموا لا بد أن يكفروا؟ لماذا لا يمشي التقدم معانقا العدالة والحرية، ولماذا لا يسير العالم يدا في يد ع الإيمان بخالق الكائنات، ولماذا لا تحدث نهضة دون أن تعري النساء أجساهن ودون أن يكثر البغايا والعابثات؟ لماذا لا تتصادق الشعوب دون أن يحاول شعب إفناء شعب آخر أو تبديده واكتساحه بالهجرة من ألوان وأجناس اخرى؟ إن ما أراه في تلك الأيام يبدو لي وكأنه من صنع الشياطين، وكنت أردد من آن لآخر لأصدقائي المحاربين أن الطهر والنقاء الثوري كل هذا يتعلق على سفوح الجبال، وكنت أنظر غلى عثمان باتور الجنرال المؤمن فيخيل إلي أنه بقية السلف الصالح.

إن هذا الرجل تتجمع فيه المعاني العريقة لجيل ينقرض، لحضارة طويلة فاضت بالخير والنبل والصفاء، وأنا وراء هذا الرجل حتى الموت، ودارت المعارك حامية الوطيس بين رجالنا والقوات الصينية المسلحة بأحدث الأسلحة، وانتصرنا في سلسلة من المعارك، ولكن هل كان انتصارنا سهلا؟... لا.. فإن مدد العدو لا ينفد وكان رجالنا دائما يتناقصون، كنا ننتصر بالتضحية التي لا مثيل لها، ويغمغم الجنرال عثمان باتور:

- رجالنا يتقمون ويندفعون إلى الموت.

- رجالنا يتقمون ويندفعون إلى الموت.

- سيدي الجنرال.. إنهم يعرفون ما يجب عمله..

- الملحة التي يسطرونها يا مصطفى حضرت بمائهم ملحمة خالدة، لكني علمت اليوم من طلائعنا المتقمة أن العدو يجهز ليوم رهيب، ولم تمر إلا أيام قليلة، وفؤجئنا بالحشد الصيني الذي توقعه عثمان باتور، وظلت المعركة محتدمة الأوار ثلاثة أشهر كاملة، وقررنا الانسحاب نحو ولاية شينهاي الصينية لجمع الشمل وجعلها مركزا للهجوم على القوات المعادية، لكن الطريق إلى شينهاي لم يكن معبدا سهلا، فقد كان الموت يترصدنا في كل جانب، وتزعف علينا أكثر من عشرة آلاف جندي صيني من مدينة "آن سي شا" الصينية إحدى مدن "قانصو" وقد سيطر علينا شعور بالتفاني، وكأننا باندفاعنا الدامي مع العدو نريد الموت، أو نهرب إليه من المصير المحتوم، وتمكنا أخيرا من الوصول إلى مدينة ماخاي التابعة لولاية شينهاي.. كنا نريد أن نستريح بعض الوقت ونلتقط أنفاسنا.. وكنت أنا شخصيا أحاول البحث عن نجمة الليل وولدي...وكانت أمنيتي أن أراها قبل أن أموت، قد يرى البعض أنها أمنية تافهة في مثل هذه الأوقات العصيبة، وقد يرميني البعض بالأنانية لأنني أفكر في زوجتي وولدي على هذه الصورة والوطن برمته متعرض للضياع والفناء... أنا لا أكترث لما يقوله البعض، فقد تعلمت الصدق مع نفسي... وأنا بشر تعرف الدموع طريقها إلى عينيه، ويعرف الخفقان سبيله إلى قلبي..

- المطاردة لم تخفت حدتها، هناك الآلاف يزحفون نحونا من مدينة "دون خان" إحدى مدن ولاية "قانصو"، وهناك آلاف آخرون يزحفون صوبنا من مدينة "شر خلق" المتاخمة لحود الصين..

وقال الجنرال عثمان باتور:

- "الليل يزحف على "ماخاي" أيها الأصدقاء.. يا من فضلتم الموت على الحياة، الذئاب تسد مسالك الطريق يا شهداء العدوان، وأرى الرايات قد لونت الأفق، في كل يوم يسوق الجزارون خرافا للذبح، هم لا يفرقون بين الخراف والبشر، والطريق الذي قطعناه أيها الرفاق من "باريكول" أو من الجبل إلى هنا، ترصفه عظام الأحرار، وترويه ماؤهم الزكية، يا طول الرحلة المرهقة!! وكثير من النساء والأطفال يفرون في كل اتجاه يبحثون عنا.. عن ذويهم.. وإذاعة أورومجي أيها الأصدقاء تردد الأناشيد الحماسية للأعداء وتسمم الأفكار، وأبناء شعبي المسجونون في الشوارع والبيوت ومصانع السخرة والمساقون إلى الحدود والمنفى وساحات الإعدام يتمتمون بأصوات خافتة، يجأرون إلى الله، ويردون ترانيم الموت، هؤلاء الشهداء الأحياء أتعس مصيرا من الذين يموتون في المعركة، أيها الأصدقاء سندخل المعركة، ومن يبقى منكم حيا فليحمل قصة جهادنا وعذابنا الطويل للأمم المسلمة النائمة في الجنوب وفي الشرق والمغرب العربي.. وفي إندونيسيا والهند وباكستان،.. وقولوا لهم إن الأندلس الثانية قد سقطت في قبضة عدو الله والإنسان.. ومن يدري لعل المسلمين يتيقظون في يوم من الأيام ويجمعون شتاتهم، وتكون لهم معركة كبرى ينتصرون فيها لله... قولوا للمسلمين في أطراف الأرض لا تصدقوا صحف العدو، ولا تثقوا في تاريخه وفلسفته ودعوته".

وتطلع عثمان باتور إلى السماء، واتجه صوب القبلة ودعانا للصلاة..

وفي اليوم التالي اندفعت جموع الأعداء صوبنا من كل حدب..

واحتدمت المعركة... واندمجنا في المعركة الأخيرة بكل ما ملك من إحساس وقوة وإيمان وانتهى كل شيء..

سقط الجنرال عثمان باتور في يد الأعداء... وشهته من فوق شرف عال يسير مرفوع الرأس، كان الأعداء يجبون أكمامه، وغطاء رأسه ومعطفه، ويداعبونه مداعبات الموت، لكنه كان صامدا يتطلع إليهم في أنفة، أو يركلهم في ازدراء..

تفرق المحاربون –أو البقية الباقية منهم- في كل اتجاه.. ثم كانت وجهة كل واحد منهم صوب الحدود أملا في الوصول إلى كشمير، وسيق الجنرال عثمان باتور إلى ساحة الإعدام.. كما سيق تسعون ألفا من التركستانيين والصينيين تحت تهديد السلاح ليشهدوا نهاية البطل.. ومات البطل عثمان باتور..

كنت مندسا بين الصفوف لا يعرفني أحد، فقد ارتديت ملابس محاربي مدينة "دون خان" إمعانا في التخفي، كنت أنظر إلى البطل الشهيد وأنا أضحك في هيستريا، وعيناي مبللتان بالدموع، وأصرخ كالمجنون: يحيا العدل!

وفي الليل الأسود القاسي القلب توجهت إلى إلى الطريق.. طريق الهاربين من الجحيم، وبعد ليال قاسية مضنية بلغت حدود كشمير.. ووجدت بقية الباقية هناك.. لم يبق من العشرين ألفا سوى ثلاثمائة... لأن العدو طوال الطريق كان يناوش الفارين وينقض عليهم، ويطاردهم بنيرانه في معارك سنكرس وكتساو وغيرهما من مدن التيبت، وخسر العدو خسائر فادحة، وأخيرا تبقى منا عند الحدود حوالي الثلاثمائة.. وخلوا كشمير.. وتوافد علينا خلق كثير من المهاجرين التركستانيين، واختلط الجميع.. كنت في أمس الحاجة إلى النوم، لم أستطع المقاومة .. وأغفيت.. ولا أدري هل طال الوقت أم قصر.. لكني تيقظت قبيل المغرب على يد حانية تهزني برفق، وفتحت عيني...

هل أنا في حلم أم يقظة.. يا إلهي! ها هي نجمة الليل ترتدي زيا مشابها لزي نساء كشمير.. وطفلي الكبير إلى جوارها ، إنني أعرفه جيدا .. هذا الفتى الجميل الذي أظهرت الشمس بشرته الشقراء..وأخذت أتحسس رأس الطفل، وأربت على وجه نمة الليل، والدموع تملأ عيني، لم أستطع الكلام فقد خنقتني الدموع، وزوجتي هي الأخرى كانت تنتفض من الانفعال، وتضمني إلى صدرها، وولدي يطوقني بكلتا يديه...

- لم أكن أتصور أن تنجو من الموت يا مصطفى.. إن الشيب قد صبغ شعرك والتجاعيد ملأت وجهك.. لكأنما مر على فراقنا مائة عام..

قبلت الطفل في حنان، وهمست بنرات راعشة:

- لكم يحزنني أن أترك شعبي المسلم السجين خلف الحدود يقتسمه الأعداء..

وهمست نجمة الليل وقد ازداد وجهها شحوبا، واكتسى بحزن وقور:

- إن أمنيتي أن نرحل إلى بيت الله الحرام.. ولنعش في مكة أو المدينة..

وتطلعت عبر الآفاق المعتمة ورائي، وتذكرت منصور درغا الذي مات على باب المسجد، وتذكرت الرفاق المؤمنين الذين قضوا حياتهم وراء القضبان، ثم الشهداء الذين سقطوا حول الجنرال عثمان باتور، ويوم المشهد العظيم حينما ساقوا الجنرال إلى ساة الموت..

وغمغمت:

- سوف نسير إلى بيت الله الحرام.. إن قطرات من ماء زمزم قد ترد روح الضائعين والمتعبين.. إني أتخيل وأنا أصرخ في جموع الحجيج مبشرا بيوم الخلاص.. وكأني بملايين المسلمين يشقون الأكفان، وينطلقون تحت راية التوحيد ليحرروا من جديد ملايين العبيد..
تلك هي قصتي...

انتهى.