هذه المناجاة تخطرت في القلب هكذا بالبيان الفارسي
يا رب! به شش جهت نظر مىكردم درد خودرا درمان نمىديدم
يا رب! لقد سرحت نظري في الجهات الست، علّني أجد دواءً لدائي، وانا مستند الى اقتداري واختياري غافلاً لا متوكلاً، ولكن وا اسفى لم استطع أن أجد دواءً لدائي.. وقيل لي معنىً: ألا يكفيك الداءُ دواءً.
در راست مي ديدم كه: دى روز مزار بدر من است
نعم! لقد نظرت ـ بغفلة ـ الى الزمان الماضي في يميني، لأجد فيه السلوان، ولكني رأيت ان الأمس قبرُ أبي، وتراءت لي الأيام الخوالي مقبرة كبيرة لأجدادي. فأورثتني هذه الجهة وحشة بدل السلوان(1).
(1) ولكن الايمان يُري تلك المقبرة الكبرى مجلساً منوراً ومجمعاً مؤنساً للأحباب.

ودر جب ديدم كه: فردا قبر من است
ثم نظرت الى المستقبل في اليسار، فلم أستطع أن أجد فيه دواءً. بل تراءى لي الغد في صورة قبري، وتراءى لي المستقبل قبراً لأمثالي ومقبرة للجيل المقبل، فاورثتني هذه الجهة الوحشة بدل السلوان(2).
(2) ولكن الايمان وما يورثه من الاطمئنان يُري تلك المقبرة العظمى دعوة رحمانية الى قصور السعادة اللطيفة.
و امروز: تابوت جسم بر اضطراب من است
وحيث لا جدوى من اليسار، نظرت الى اليوم الحاضر، فرأيت وكأن هذا اليوم تابوت يحمل جنازة جسمي الذي ينتفض انتفاضة المذبوح بين الموت والحياة.(3)
(3) ولكن الايمان يُري ذلك التابوت دار تجارة ودار ضيافة باهرة.
بر سر عمر جنازهء من ايستاده است
فلم أعثر على الدواء في هذه الجهة، ورفعت رأسي ونظرت الى قمة شجرة عمري، ورأيت أن جنازتي هي الثمرة الوحيدة لتلك الشجرة، وهي ترقبني من هناك(4)
(4) ولكن الايمان يُري ان تلك الثمرة ليست جنازة، بل هي انطلاقٌ لروحي المرشّحة للأبد من وكرها القديم لتسرح في النجوم.
در قدم: آب خاك خلقت من وخاكستر عظام من است
فيئستُ من تلك الجهة أيضاً، ،طأطأت رأسي، فرأيت ان رميم عظامي قد اختلط مع تراب مبدأ خلقتي وهو يُداس تحت الأقدام. فزادت - هذه الجهة - داءً لدائي ولم تسعفني بشئ(5).
(5) اما الايمان فقد أظهر ذلك التراب باباً للرحمة،وستاراً دون صالة الجنة.
جون در بس مىنكرم، بينم: اين دنياى بى بنياد هيج در هيج است
فصرفت نظري عن تلك الجهة مولّياً وجهي الى الوراء، ورأيت: ان دنياً فانية تتدحرج في وديان العبث وظلمات العدم. فنفثتْ هذه الجهة سمّ الوحشة والخوف في دائي بدلاً من ان تمنحني العزاء(6).
(6) اما الايمان فقد أظهر ان تلك الدنيا المتدحرجة في الظلمات ما هي الا مكاتيب صمدانية وصحائف نقوش سبحانية أنهت مهامها، وأفادت معانيها، وتركت نتائجها في الوجود بدلاً عنها.
ودر بيش: اندازهء نظر مىكنم، در قبر كشاده است و راه ابد بدورودراز به ديداراست
ولما لم أجد خيراً ايضاً في هذه الجهة رنوت بنظري الى الأمام، ورأيت ان باب القبر مفتوح في بداية طريقي، وتتراءى وراءه من بعيد طريقٌ ممتدة الى الأبد(7).
(7) أما الايمان فقد جعل باب القبر ذاك باباً الى عالم النور، وتلك الطريق طريقاً الى السعادة الخالدة، فأصبح الايمان، بحقٍ مرهماً شافياً لدائي.
مرا جز جزء اختيارى جيزى نيست در دست
وهكذا لم أعثر في هذه الجهات الست على أي سلوانٍ وعزاءٍ بل وجدت استيحاشاً وهلعاً، ولم يكن لي تجاهها مستند سوى جزء اختياري(8).
(8) اما الايمان فانه يسلّمني بدلاً من ذلك الجزء الاختياري وثيقة لأستند بها الى قدرة عظيمة مطلقة، بل الايمان هو الوثيقة نفسها.
كه او جزء هم عاجز، هم كوتاه، وهم كم عيار است
وان ذلك الجزء الاختياري الذي هو سلاح الانسان، عاجز، قاصر، ناقص، لا يمكنه الخلق وليس له الاّ الكسب(9).
(9) الاّ ان الايمان يجعل ذلك الجزء الاختياري كافياً لكل شئ اذ يستعمله في سبيل الله، كالجندي الذي إنسلك في جيش الدولة فينجز ألوف أضعاف قوته من الأعمال.
نه در ماضى مجال حلول، نه در مستقبل مدار نفوذاست
لأن ذلك الجزء الاختياري ليس له القدرة للحلول في الماضي، ولا النفوذ في المستقبل. لذا لا نفع له لآمالي وآلامي الماضية والمستقبلة(10)
(10) ولكن الايمان يأخذ زمام ذلك الجزء الاختياري من الجسم الحيواني ويسلّمه الى القلب والروح، لذا يستطيع ان يحلّ في الماضي وينفذ في المستقبل. حيث دائرة حياة القلب والروح واسعة جداً.
ميدان أو إين زمان حال، ويك آن سيّال است
ان ميدان جولان ذلك الجزء الاختياري هو الوقت الحاضر القصير وهو آن سيّال ليس الاّ.
با إين همه فقرها وضعفها، قلم قدرت تو آشكاره
نوشته است، ((در فطرت ما)): ميل ابد وامل سرمد
علاوة على جميع حاجاتي هذه، وضعفي وفقري وعجزي، وانا تحت هجمات الاستيحاش والمخاوف الواردة من هذه الجهات، فقد اُدرجتْ في ماهيتي آمال ممتدة الى الأبد، وفي فطرتي رغبات سطرت بوضوح بقلم القدرة.
بلكه هرجه هست، هست
بل كل ما في الدنيا، نماذجُه في فطرتي، فأنا على علاقة بجميع تلك الرغبات والآمال، بل أسعى لها، واُدفع الى السعي لها.
دائرهء إحتياج مانند دائرهء نظر بزركى داراست
ان دائرة الحاجة واسعة سعة دائرة النظر.
خيال كدام رسد احتياج نيزرسد، در دست هرجه نيست در إحتياج هست
حتى ان الخيال أينما ذهب، تذهب دائرة الحاجة الى هناك. فالحاجة اذاً هناك أيضاً، بل كل ما ليس في متناول اليد فهو ضمن الحاجة، وما ليس في اليد لا حدّ له.
دائرهء اقتدار همجو دائرهء دست كوتاه كوتاه است
بينما دائرة القدرة ضيقة وقاصرة بقدر ما تصل اليه يدي القاصرة
بس فقر و حاجات ما به قدر جهان است
بمعنى ان فقري وحاجاتي بقدر الدنيا كلها.
سر مايهء ما همجو: ((جزء لايتجزأ)) است
أما رأس مالي فهو شئ جزئي ضئيل.
اين جزء كدام واين كائنات حاجات كدام است؟
أين الحاجات التي بقدر هذا العالم، ولا تستحصل الاّ بالمليارات من هذا الجزء الاختياري الذي لايساوي شيئاً؟.
انه لا يمكن شراء تلك الحاجات بهذا الثمن الزهيد جداً. ولا يمكن ان تستحصل تلك بهذا!.
فلابد اذن من البحث عن وسيلة أخرى.
بس در راه تو أزين جزء نيز بازمىكذشتن جارهء من است
وتلك الوسيلة هي التبرؤ من ذلك الجزء الاختياري وتفويض أمره الى الارادة الإلهية، وتبرؤ المرء من قوة نفسه وحوله والالتجاء الى حول الله وقوته. وبذلك يكون الاعتصام بحبل التوكل.
فيا رب! لما كانت وسيلة النجاة هي هذه. فانني أتخلى عن ذلك الجزء الاختياري واتبرأ من أنانيتي، في سبيلك.
تا عنايت تو دستكير من شود، رحمت بى نهايت توبناه من است
لتأخذ عنايتك بيدي، رحمةً بعجزي وضعفي، ولتكون رحمتك مستندي، رأفة بفقري واحتياجي.. ولتفتح لي بابها.
آن كس كه بحر بى نهايت رحمت يافت، تكيه
نكند برين جزء اختيارى كه يك قطره سراب است
نعم، كل مَن وجد بحر الرحمة الذي لا ساحل له، لا يعتمد على جزئه الاختياري وهو كقطرة سراب، ولا يفوض اليه أمره، من دون تلك الرحمة.
أيواه! اين زندكانى همجو خواب است
وين عمر بى بنياد همجو باد است
يا اسفى، لقد خُدعنا، فظننا هذه الحياة الدنيا مستقرة دائمة. وأضعنا بهذا الظن كل شئ.
نعم، ان هذه الحياة غفوة قد مضت كرؤيا عابرة!
وهذا العمر الذي لا قرار له يذهب ذهاب الريح.
انسان به زوال دنيا به فنا است، آمال بى بقا آلام به بقا است
ان الانسان المغرور، المعتد بنفسه، ويحسبها أبدياً، محكوم عليه بالزوال. انه يذهب سريعاً.
اما الدنيا التي هي مأواه، فستهوي في ظلمات العدم، فتذهب الآمال أدراج الرياح وتبقى الآلام محفورة في الأرواح.
بيا أي نفس نا فرجام! وجود فانى خودرا فدا كن
خالق خودرا كه اين هستى وديعه هست
فتعالى يا نفسي المشتاقة الى الحياة، والطالبة العمر الطويل، والعاشقة للدنيا، والمبتلاة بآلام لا حدّ لها وآمال لا نهاية لها، يا نفسي الشقية انتبهي وعودي الى رشدك، ألا ترين ان اليراعة التي تعتمد على ضوئها تظل بين ظلمات الليل البهيم، بينما النحل التي لا تعتد بنفسها، تجد ضياء النهار، وتشاهد جميع صديقاتها من الأزهار مذهّبة بضوء الشمس.. كذلك أنتِ، ان اعتمدت على وجودك وعلى نفسك وعلى أنانيتك، فستكونين كاليراعة. ولكن ان ضحيت بوجودك في سبيل خالقك الكريم الذي وهبه لك سوف تكونين كالنحل. وتجدين نور وجود لا حدّ له. فضحي بنفسك، اذ هذا الوجود وديعة عندك وامانة لديك.
وملك او أوداه فنا كن تا بقا يابد، ازان
سرى كه: ((نفى النفى)) إثبات است
ثم ان الوجود ملكُه سبحانه وهو الذي وهبه لك، لذا إفديه من دون منّة ولا إحجام، وإفنيه كي يجد البقاء، لأن نفي النفي إثبات.
أي: ان كان العدم معدوماً فهو موجود، وان انعدم المعدم يكون موجوداً.
خداى بر كرم خود ملك خودرا مىخرد أزتو
بهاي بى كران داده براى تو نكهدارد
ان الله يشتري منك ملكه، ويعطيك ثمنه عظيماً، وهو الجنة. وانه يحفظ لك ذلك الملك ويرفع قيمته وثمنه وسيعيده اليك بأبقى صورة واكملها. فيا نفسي! انفذي هذه التجارة فوراً، انها تجارة رابحة في خمسة أرباح، أي تكسبين خمسة أرباح معاً في صفقة واحدة، وتنجين من خمسة خسائر معاً.


عن كتاب (الكلمات)لبديع الزمان سعيد النورسي ، ترجمة:احسان قاسم الصالحي