المرحلة الثانية


المرحلة الثانية


المرحلة الثانية

المرحلة الثانية من
(محاور في المقام العراقي)



2009



محاور في المقام العراقي
دراسة بحثية متسلسلة لمحاور تخص شأن
غناء وموسقى المقام العراقي
يـكـتبها في حلقات

مطرب المقام العراقي
حسين اسماعـيل الاعـظمي



الاردن / عمـَّان
كانون الثاني January 2009
اليكم أعزتي القراء في الصفحات التالية
المرحلة الثانية من (محاور في المقام العراقي) التي تم نشر تسعة عشر محورا في المرحلة الاولى من العام الماضي 2008 ، وها نحن نستهل عامنا الجديد 2009 بالمحور رقم (1) والمحور رقم (2) والمحور رقم (3) والمحور رقم (4) والمحور رقم (5) والمحور رقم (6) والمحور رقم (7) والمحور رقم (8) والمحور رقم (9) والمحور رقم (10) والمحور رقم (11) والمحور رقم (12) والمحور رقم (13) والمحور رقم (14) تكملة لمحاور المرحلة الاولى واستهلالاً للمرحلة الثانية .. وهذا المحور رقم (15) مذكــِّراً ، في حال فقدان أية حلقة من حلقات المحاور في مرحلتها الاولى والثانية أن تكتبوا إليَّ لأرسلها إليكم
***
أو الذهاب الى موقع كوكل google والبحث عن (محاور في المقام العراقي) او (محاور في المقام المرحلة الثانية) حيث تجدون كل المحاور منشورة في المواقع والشبكات الالكترونية مع الشكر والتقدير لكل اخوتنا واصدقائنا في هذه المواقع والشبكات


المرحلة الثانية
من المحاور المقامية


المحور رقم

(15)


Hussain_alaadhamy@yahoo.com


00962795820112


المحور رقم
(15)
********

تَحوُّلاتٌ وتَطَلُّعاتٌ جديدةٌ
إنَّ هذه المرحلة الجديدة في حقبة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، أو العقود الاولى من القرن العشرين (حقبة التحول) في سماتها التطورية ، وجدتْ التعبير عنها ، حيث إعتمدت على جذورها المتواصلة من القرن التاسع عشر لدى المواهب الذاتية لمجموعة من الفنانين من روَّاد هذه الحقب ، بنتاجاتهم الفنية المختلفة التي إتَّسمت بالتطلعات الجديدة نحو الابداع والتطور والتجديد .. ومن هذه المواهب يقف المغني جميل البغدادي في مقام السيكاه بهذه القصيدة ..

خليليَّ دمع العين قد جرَّح الخـدا
وإبيض شعري بعد ما كان مـسودا
بليت بقاسي القلب عذَّب مهـجتي
رضيت به مولاً ولم يرضَ بيَ عبدا
لاتدعني أموت فيك إشتـــياقا
فاتخذني لعبد عبدك عـــــبدا

ومقام النوى بصوت عباس كمبير بقصيدة عنترة إبن شداد ...

رَمتْ الفؤاد مليــــحة عذراء
بســــهام لحظ ما لهن دواء
مرَّت أوان العيد بـــين نواهد
مثل الشمــوس لحاظهن ظباء
فاغتالني سقمي الذي في باطنـي
أخفيته فأذاعه الاخـــــفاء
خطرت فقلت قضيب بان حركت
أعطافه بعد الجـــنوب صباء
ورنت فقلت غزالة مذعـــورة
قد راعها وســـط الفلاة بلاء
وبدت فقلت البدر ليــــلة تمِّهِ
قد قلدته نــــجومها الجوزاء
بسمت فلاح ضياء لؤلؤ ثــغرها
فيه لداء العاشقين شفـــــاء
سجدت تعظم ربها فتمـــايلت
لجلالها أربابنا العظـــــماء
يا عبل مثل هواك أو أضــعافه
عندي إذا وقع الايـــاس رجاء
إن كان يســعدني الزمان فإنني
في همتي لــــصروفه أرزاء

وفي مقاميْ الطاهر(سلَّمه جهاركاه) ومقام البنجكاه كل على حدة يغني جميل الأَعظمي (1902 – 1967م) هذه القصيدة ..

نسيم الوصل هبَّ على الندامــى
فأسكرهم وما شربوا المـــداما
ومالت منهم الاعناق مــــيلاً
لأن قلوبهم ملئـــــت غراما
فناداهم عبادي لا تنامـــــوا
ينال الوصـــل من هجر المناما
ينال الوصل من سهر الليــالي
على الاقدام واستــــحل القياما
فما قصدهم جنـــَّــات عدنٍ
ولا الحور الحـِــسان ولا الخياما
سوى نظرُ الجليل وذا مـــناهم
وهذا مقصد القوم الكـــــراما

وفي مقام الرست يُغنّي أحمد الزيدان (1832 – 1912م) هذه الأبيات الشعرية ..

يا قلب لا تشكو الصبابة بعدما
أوقعت نفسك بالهوى وهوانه
تهوى وتطمع أن تفر من الهوى
كيف الفرار وأنت رهن ضمانه
يا للرفاق ومن لمهجة مدنف
نيرانها نزعت شوى سلوانه
لم ألق قبل العشق ناراً أحرقت
جسداً وحب المصطفى بجنانه
خير النبيّين الذي نطقت به
التوراة والإنجيل قبل أوانه

رشيد القندرجي في مقام الحُجاز ديوان مثلاً ، حيثُ غنّى هذه القصيدة الصوفية لشاعر الصوفيين عمر أبن الفــارض ..

خفِّف السيرَ وأتئد ياحــــــادي
إنما أنت سائــــق بفـــؤادي
ما ترى العيش بين شوق وتــوق
لربيع الربوع غــــرني صوادي
لم تبقي لها المهـــــامة جسماً
غير جلد على عظـــــام بوادي
وتحفت أخفافها فــــهي تمشي
من جواها في مثل جـــمر الرماد
وبراها البين فحل براهــــــا
خلها ترتوي ثـــــــماد الوهاد
شفها الوجدان عدمت رواهــــا
فأسقاها الوحد من جفـــار المهاد
واستبقها واستبقها فهي ممـــا
تترامى به الى خـــــــير واد
وبلغت الخيام فابـــــلغ سلامي
عن حفاظ عريب ذاك النـــــادي
وتلطف وأذكر لهم بعض مـــابي
من غرامي ما أن لــــه من نفاد
يا أخلاي هل يعود الـــــتداني
منكم بالحمى يعـــــــود رقاد
ما أمر الفراق ياجــــيرة الحـ
ـي وأحلى التلاقي بعد البــــعاد
كيف يلتذ بالــــحياة معــنى
بين أخاه كـــــــورى الزنـاد
عمره وأصطياره في أنتــقاص
وجواه ووجــــــده في أزدياد
فغرامي القديم فيكم غرامــــــي
وودادي كما عهـــــدتم ودادي
والقلب يظمأ من مراشف ثــــغره
ظمأ السكـــــارى لإبنة العنقود
ليت الذي منع التدائي بيــــننا
وقضى علي بوحــــشة التبعـيد
بلوى فيسعفني بتقريب الخـــطى
ويفلك من أسر الفـــراق قيودي

وهكذا نشأت في هذه المرحلة من التاريخ البشري ، بصورة ثقافية محسوسة ، نهضة أو حركة إبداعية نحو التحديث وبث روح جديدة في كيان كل الماضي للإنطلاق منه نحو الحياة الحاضرة والقادمة .. أي مفهوم جديد عن التقدم .. وهكذا تعتبر هذه الحداثة في الفن والموسيقى في هذه الحقبة عنصراً من عناصر التقدم الإنساني في العراق والبلدان الأُخرى لا غنىً عنها ..
هكذا كان الأساس الفني والإبداعي للغناسيقى في العراق ، وخصوصاً التسجيلات الصوتية في المقام العراقي التي خلـَّفها لنا الكثير من المغنين المقاميين في هذه الحقبة وعلى الأخص منها تسجيلات مطرب القرن العــشرين محمد عبد الرزاق القبانجي (1901-1989) وكذلك كان شأن الغناء الريفي والبدوي والحديث وغيرها ..
لقد سار الغناء المقامي في هذه الحقبة ، في هذا المنحى التطوري بصورة عامة ، وكذلك نشأ عليه الغناء المقامي لمطرب العصور المقامية محمد القبانجي بصورة خاصة ، وهكذا توضَّحتْ بصورة جلية ، حقبة جديدة من الإبداع الفني في الإبتكار والإكتشاف والتجديد .. ليولد المقام العراقي برمَّته من جديد في القرن العشرين .. إلاّ أنَّ على المرء أن لا يفكِّرَ على أن هذه الحقبة من التطورات والتحولات من ناحية تاريخية فقط ، لأنه في النهاية لا بدَّ لنا من أن نعثر على إحتمالات مقنعة للأسباب التي أوْجَدتْ الدراما بين الطرق الادائية المقامية القديمة والظرف الغناسيقي في هذه الحقبة ، الذي وجد سبيله الى محمد القبانجي ليتسيـَّد العرش الغنائي المقامي طيلة النصف الأَوَّل من القرن العشرين .. ومن المؤكد في تقديري ، أن محمد القبانجي ، لم تكن نتاجاته في التجديد والإبداع عقلية فقط ، فلربَّما لم يكن ليُنْجزَ أيُّ إبداع بحيث يمكن أن يؤثـِّر في عصره وفي لاحقيه من المغنين ، وبذلك فإننا نعوِّل كثيراً على الموهبة الفطرية التي إمتلكها محمد القبانجي في هذا السبيل ، وكذلك على الظرف العصري الذي عاش فيه القبانجي .. حتى أمست إبداعاته وهي تسجل حضورهــــــــا في حقب تلت عصر القبانجي نفسه ..
إنني أحاولُ هنا ، أن أطرحَ المنحى العصري لهذه الحقبة كإطار عام لتلك التحولات في نواحي الحياة عموماً وفي بلدنا على وجه التخصيص ، نتيجة للظروف التي مرَّ بها العراق ، وكانت أولها التأثيرات الفكرية والجمالية والذوقية التي أفرزتها الحرب العالمية الاولى (1914-1918م) التي نحاول أن نقدم باختصار مخطّطاً لهذه التأثيرات في هذه النواحي المهمة في الحياة ، وأعتقد أن الوعي الجمالي الذي أصاب الناس في هذه الحقبة قد ألَّف الأَساس الجماهيري لشيوع الطريقة القبانجية في الغناء المقامي التي مكـَّنت مبدعَها محمد القبانجي أن يصبحَ عالـِماً بالاتجاهات الجـــــــمالية والذوقية وأساليب العــرض الفني الملائمة لذوق العصر والمستقبل ..
يصح لنا أن نقول من جانب آخر ، أنَّ القبانجي يعد من اولئك المغنين الكبار الذين يتجلَّى عمقهم بصورة رئيسة في نتاجاتهم ، وهو عمق يشوبه الغموض في معظم الأَحْيان بحيث لايفهمه حتى القبانجي نفسه في الأعم الأغلب ، لأن هذا العمق ينبع من موهبة أصيلة ، موهبة واقعية ، إمكانية كبيرة ، وبالتالي شخصية خفية ..!!

القُبّانجي وطريقتُهُ
على الرغم من أنَّ هذه الحقبة من التحولات ، تعتبر منعطفاً جديداً بكل مقاييس الحياة التي أفرزت لنا منعطفاً ضمنياً آخر في الغناء المقامي بأصوات مؤدي هذه الحقبة وبالأخص محمد القبانجي وطريقته الجديدة في الغناء ، هذه الطريقة يمكن أن تعتبرها إمتداداً مباشراً للغناء المقامي للقرن التاسع عشر ، حيث تكشف لنا طريقة القبانجي هذه ، بصورة تحليلية واستنتاجية عن حالة الغناء المقامي ومؤديه في القرن التاسع عشر ، هذه الحالة الأدائية التي يمكن أن نعتبرها إجمالاً ، ليست عميقة جداً من الناحية الإبداعية ، وليست عميقة ايضاً من حيث المعرفة الواسعة والدراسة المفصلة للناحية الفنية ، في حين يمكننا أن نقول بثقة تامة ، أن الطريقة القبانجية ، بالمقارنة مع ما أنتجه القرن التاسع عشر رغم وجود مغنين كبار فيه ، ترمز الى شىء جديد كلياً ..
إن الطريقة القبانجية في الغناء المقامي ، قد أثـَّرت في كل جانب من فنوننا الغناسيقية ، وفي كل جانب من جوانب عصرها ، وقد تبلورت قدرات المغنين حتى المبدعين منهم خلال القرن العشرين ، تحت تأثير هذه الطريقة الغنائية التي عملت على توضيح الكثير من الجوانب الفنية الأدائية التي كانت سابقاً شبه غامضة ، كوضوح الكلمة المغناة ، وتوضيح الجمل الأدائية المفيدة داخل المقام المغنى ، وتقوية البناء اللحني وتماسك علاقات العناصر المكونة للمقام بأُصوله التاريخية وقواعده التقليدية الشكلية (forms)*3 .. ومن ثم تطور الطابع الدرامي لفن الغناء والدور الجديد والمهم في تقوية وتفاعل هذا الغناء بالمتلقي الذي هو حصيلة العمل الفني بأجمعه ، وغيرها من الميـِّزات التي كانت قد بقيت حتى هذه الحقبة شبه مفقودة ومجهولة رغم وجود مغنين كبار سبقوا القبانجي في الظهور مثل أحمد الزيدان مؤسس (الطريقة الزيدانية) وخليل رباز وحمد بن جاسم أبي حميد ورشيد القندرجي مؤسس (الطريقة القندرجية) وآخرين .. ويمكننا أن نستمع الى أحد المقامات التي سجَّلها القبانجي بصوته في هذه الحقبة وهو مقام الأفشار (سلَّـمه سيكاه هزام) وإحدى قصائد أبي نؤاس ، إذ تتجسَّد قيمة الخامة الصوتية للقبانجي في هذا المقام بصورة يمكن أن نطلقَ عليها إنها خامة صوتية من المعجزات ، عجيبة في نظافتها ودقة أدائها ومساحتها الواسعة ..!

لاتبكِ ليلى ولا تطرَبْ الى هــــند
واشرب على الورد من حمراءَ كالورد
صفراء اذا إنحدرت في حلق شـاربها
أفدته حمرتها في العــــين والخد
فالخمر ياقوتةٌ والكـــــأس لؤلؤةٌ
من كفِّ جاريةٍ ممـــــشوقة القد
تُسقيكَ من يدها خمراً ومن فمها خمراً
فمالك من ســـــــكرين من بد
لي نشوتان وللندمان واحــــــدة
شئ خصصت به من قبلهم وحــدي




صورة / محمد القبانجي يتسلم وسام المجلس الآسيوي من وزير الثقافة والاعلام لطيف نصيف جاسم
يتوسطهما الفنان الكبير منير بشير نائب رئيس المجلس الدولي للموسيقى ، عام 1979



يمكن الإنتباه الى الجوانب الفنية التي أنجزها القبانجي في مقاماته وطريقته التي أفرزت هذه السمات الجديدة التي أدخلها في الغناء المقامي .. سمات وثيقة الصلة بالسمات السابقة ، على أن تحوّلها الثقافي التطوري كان منعطفاً حقيقياً ..

موقعُ العراق الثقافي
ليس من باب المصادفة أن نشأَ هذا الإتجاه الفكري والجمالي والذوقي الجديد في الغناسيقى العراقية عموماً والغناء المقامي على وجه الخصوص ، وكان لابد لهذه السمات الثقافية التطورية في العراق أن تظهر بمستوى فني تتجاوز فيه مراحلها الثقافية السابقة ، والسبب في ذلك هو أن العراق أصبح منذ هذه الحقبة مرَّة اخرى ، الأَرض النموذج للتطور الثقافي عموماً ، وفي الفن الغناسيقي خصوصاً ، بالنسبة لأكثرية المثقفين في البلاد العربية .. وإن كان ذلك بطبيعة الحال ، بمعنى مختلف عمَّا هو عليه الحال في كل قطر من الأقطار العربية نسبة للظروف الخاصة بكل قطر في القرن العشرين .. والآن وفي أعين مثقفي البلاد العربية ، يبدو العراق المثل الكلاسيكي والمثل الحديث والمعاصر للتطور الثقافي بصورة عامة ، رغم ظروف هذا البلد غير الطبيعية ، إذ كان واقع ، أن العراق قد مرَّ بظروف عصيبة في القرن العشرين ، ورغم ذلك مرَّ هذا البلد بتطور متصاعد إستمر بصورة أكثر حدوثاً إستناداً الى تطور العامل الاقتصادي الذي ساعد على تطور نواحي أُخرى مهمة بصورة عامة .. حيث ظهر العراق بمظهر المثل النموذج للتطور بأَسلوبه الإبداعي الجديد في التفسير الثقافي وبكل المجالات ، وبذلك يكون العراق قد قدم نفسه على نحو أكيد ، بوصفه مثلا يُحتذى به من قبل كل البلدان النامية في العالم الثالث ومثلا آخر للمثقفين العرب ..
على أَيّةِ حال ، فقد تحمـَّل فنانون مقاميون مخلصون ، ممن كانوا يواكبون حياتهم المعاصرة في تقدمها الثقافي وتحولاتها الجمالية في العراق ، مثل المطرب التأملي حسن خيوكة والمطرب الواقعي يوسف عمر والمطرب الحضاري ناظم الغزالي والمطرب التقني عبدالرحمن العزاوي والمطرب الصوفي جميل الاعظمي والمطرب الأُصولي عبدالهادي البياتي والمطربة الشعبية زهور حسين (1924 – 1964م) والمطربة الفنية مائدة نزهت (1937 - ....... ) والمطربة التقليدية سلطانة يوسف (1910 – 1995م) وغيرهم ... على أن يعتبروا هذه التحولات الثقافية في الفن والحياة برمتها ، المثل الأعلى لأي مفهوم تطوري نحو الثقافة الفنية في طرق وأساليب الغناء المقامي ، وكذلك فقد أيقظت هذه التحولات الثقافية الشعورَ نحو زيادة الهمَّة لإنجاز أعمال ونتاجات فنية تحسـب لهم في حقبتهم على الأَقل وربما الحقب التالية ..
إن الاستقرار النسبي في التطور الثقافي في العراق خلال حقبة إنتصاف القرن العشرين ، بالمقارنة مع إستقرار بقية بلداننا العربية ، مكـَّن من تحويل هذا الحس المستيقظ حديثاً تحويلاً فنياً الى صورة ملحمية ودرامية وموضوعية واسعة ، وتزداد هذه الموضوعية ظهوراً باتجاه المغنين المقاميين الذين ظهروا بعد أستاذهم محمد القبانجي الذين إستفادوا من إشعاعات طريقته الغنائية الفذة امثال المغنين يوسف عمر وناظم الغزالي وعبدالرحمن العزاوي وعبدالرحمن خضر (1925 – 1984م) وحمزة السعداوي (1928 – 1995م) وعبدالجبارالعباسي (1937 - ...... ) وعبدالقادر النجار وغيرهم ، فهؤلاء المغنين المبدعين مع أُستاذهم المخضرم محمد القبانجي الرجل المؤسس لهذه التَّطَلُّعات الإبداعية ، كانوا يتــَّقدون حماسة لهذه التطورات الثقافية والجمالية في الفن والغناء المقامي ، وهكذا إستمر التطور الثقافي في القرن العشرين وذابت في العراق المعاصر الكثير من تخلفات الرؤية في الفكر والجمال والذوق ، حيث إضمحلت في العقود الأخيرة من هذا القرن ، وبعد فترة طويلة من الظروف الإقتصادية الصعبة التي تحسَّنت هي الأُخرى بصورة تدريجية مستمرة ..

بعضُ المفاهيم
وهكذا أعطى مفهوم الإبداع في العراق منذ الطريقة الغنائية القبانجية ، مفهوماً وإن لم يكن واضحاً للتطور الثقافي في الجمال والذوق والفن ، نحو الرؤية المستقبلية من خلال مبدعيها بمرور الزمن ، والقبانجي ومن جاء بعده من المبدعين ، إذ نادراً ما يتحدثون عن الحاضر فقط ، حيث نرى تأكيداتهم على إقتران رؤيتهم بتماسك الماضي بالحاضر والمستقبل ، وبقدر قدرتهم على الإجابة ، على مثل هذه التساؤلات ، فهم يفعلون ذلك بصورة غير مباشرة ، بصورة قائمة على تجسيد أحاسيسهم وإدراكاتهم بقيمة الماضي والحاضر والمستقبل مجتمعين ، بواسطة نتاجاتهم المقامية ..
ومن الملاحظ ان إمكانية محمد القبانجي ، التي تجسَّدت في طريقته الغنائية ، تكمن في بنائه المحكم لمواد غنائه ، وهذه الامكانية ترتبط ايضاً إرتباطاً وثيقاً بحبكته لهذه المواد والعناصر الأُصولية والتقليدية المكونة لشكل المقام العراقي المُغنّى .. فهو يعمل على بناء مساراته اللحنية بصورة دقيقة ، ومن ثم يسعى ليعرضَ نتاجاته الغنائية بأُسلوب ذوقي ملائم .. فهو ينشد النجاح والتفوق بين معاصريه ، وهو يهدف الى تنمية الأساس الحسِّي والتعبيري لطريقته الغنائية التي يبني بها حبكته وصياغته لمكونات المقام المُغَنّى ، والمُهَيْمِنْ على كل ذلك .. صوته الكبير ، صوته القوي ، صوته الجميل ، الذي يتمتع بإستقرار واضح يكاد أن يخلُ من العيوب تماماً...
إنَّ ما يجري التعبير عنه هنا ، قبل كل شىء ، تطوُّر للتقليدية أو إخضاعها للنَّزعات الجديدة في التفكير والجمال والذوق ، وتطوير أعلى لمضمون التعابير المقامية انسجاماً مع تحولات الحقبة ، والفنان الناجح يفرض حضوره حتى في أوساط من الناس لاتميل الى تذوق الموسيقى التراثية بصورة عامة ، يعتبروا وإن لم يكن ذلك بحق ، أن التراث ماض قد إنتهى ..! ولا داعي للعودة اليه ..!! إلاّ أن الإقرار بالجذور التاريخية لهذا التراث الغناسيقي ، ومن ثم الإنطلاق منه كقاعدة أساسية لبناء أصالة جديدة تعبـِّر عن حقبتــنا .. أمرٌ لا بدَّ منه .. أما جعله شيئاً ذا صفة بالية مطلقة وجامدة ، فذلك شىء مرفوض ..
إنَّ علينا أن نعي مدلولات حقبتنا الزمنية ، ونحاول التعبير عنها من خلال ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا ، وهو أمرٌ صحيح ، وإستناداً الى هذا الأساس .. لا يمكن أن تُبْنى أي موسيقى موضوعية بدون أن تكون لها جذوراً وتراكمات تجريبية ، بل هو ضرباً من المستحيل .. فقد تغلـَّب المؤدون المبدعون الذين جاؤوا بعد أُستاذهم القبانجي ، ممن صوَّروا هذا النمط الصحيح في بناء ألحان غنائهم وموسيقاهم المقامية أمثال حسن خيوكة ويوسف عمر وناظم الغزالي وعبدالرحمن العزاوي وزهور حسين وسليمة مراد (1905 – 1974م) وسلطانة يوسف وغيرهم .. بأساليب أَدائية مغايرة لأُسلوب أُستاذهم القبانجي .. وقد فسَّروا بقوة بنائهم الغناسيقي هذا ، صحَّة الإعتماد على الجذور الأصيلة لمادتهم الغنائية ومن ثم صياغتهم لأصالة غناسيقية جديدة تعبـِّر عن واقعهم المقامي وروح عصرهم ومستقبلهم والتعبير عن هموم جمهورهم العاطفية .. أي أنهم أدركوا الحاضر والمستقبل من الناحية التاريخية وكشفوا عن جميع الكوامن الأَصيلة الخاصة بجذور غنائنا وموسيقانا وقدموها كمادة حية تعتبر جديدة بحق من حيث مضامينها التعبيرية وأشكالها المهذبة ..
ولهذا السبب وحده إِذن ، من الخطأ تماماً أن يعتبرَ الفنان مبدعاً ومجدداً ما لم يعتمد في نتاجاته الفنية على هذا المفهوم من البناء الفني الغناسيقي لأعماله ، بحيث يحتضن كل ما يحيط بمادته الفنية المعاصرة من جذورها حتى آفاقها المستقبلية .. وهكذا تأخذ هذه النتاجات الغناسيقية مسارها الصحيح ، وتصبح وثيقة الروابط فيما بينها ، وبالتالي وثيقة الصلة بالحياة المعاصرة ..

المفرداتُ والأَلفاظُ الأَعْجميةُ
بعد سقوط العباسيين (656هـ 1258م)*4 ومن ثم تعدُّد الأقوام الغازية والحاكمة والمحتلة للعراق طيلة سبعة قرون بالكمال والتمام ، أي من سنة 1258 الى 1958م تاريخ ثورة 14 تموز July ، هذه القرون السبعة أطلق عليها المؤرخون (الفترة المظلمة) (*5) حيث مرَّ العراق فيها بكل ظروف الجهل والظلم والإستبداد والمآسي المريعة تحت حكم الغزاة المتوحشين ..! ونتيجة لهذه الفترة التاريخية الطويلة ، فقد تأثرت الحياة برمّـَتها لدى العراقيين والأقوام الأُخرى ، وعلى الأَخص تركيا وايران ببعضها، تأثراً وتأثيراً ، وعلى هذا الأساس دخلت في صلب غنائنا مفردات وألفاظ أعجمية غريبة من لغات هذه الأقوام ، وأمست هذه المفردات والأَلفاظ الأَعجمية تؤدى بجانب النص الشعري العربي المُغنّى ، هذا على الرغم من وجود المفردات العربية في لغات هذه الأَقوام أَصلا ًبصورة أكثر من وجود مفردات من لغات هذه الاقوام في لغتنا*6 (بحث د.حسين علي محفوظ) عن طريق الدين الإِسلامي ولغة العرب التي جسَّدها القرآن الكريم .. ولكون العراق كان حتى سقوط العباسيين مركز الحكم العربي والدولة العربية الإِسلامية التي بناها الرسول الأَعظم محمد  .. فقد إِنتشرت هذه الأَلفاظ والمفردات الأَعجمية في كل البلاد العربية ودخلت في كل شيئ من حياتهم ..! ولأجل إعطاء فكرة للقارئ الكريم عمَّن حكم العراق في ظل قرون الفترة المظلمة ، أنقل اليكم أعزتي القُرّاء ما ذكره خبير المقام العراقي الأَول في القرن العشرين الحاج هاشم محمد الرجب في كتابه المهم (المقام العراقي) المطبوع ببغداد عام 1961 في طبعته الاولى وعام 1983 في طبعته الثانية وفي صفحات 94 و 97 و 98 و 99 حيث يقول ، (إن العراق مرّ بنكبات عديدة من جرَّاء الغزوات والإحتلالات المتتالية من قبل أقوام هم ليسوا بعرب) ، ويحصر هذه النكبات ما بين عام 656هـ وهو تاريخ سقوط العباسيين بعد قتل آخر خليفة من بني العباس هو المستعصم بالله ، الى سنة 1335هـ وهو تاريخ إحتلال الانكليز لبغداد عام 1917 بالتاريخ الميلادي في خضم الحرب العالمية الاولى (1914 – 1918) .. أي من عام 1258 الى عام 1917م .. وهذا هو التسلسل التاريخي لحكم الاقوام الغازية للعراق في ظل هذه الفترة المنقول من كتاب المرحوم الرجب ..
- في عام 656هـ 1258م إحتلَّ بغداد هولاكو المغولي بعد أن قتل آخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله
- في عام 838هـ 1338م إِحتلَّ بغداد السلطان حسن الجلائري
- في عام 795هـ 1392م إِحتلَّ بغداد تيمور لنك المغولي
- في عام 797هـ 1394م إحتلَّ بغداد السلطان احمد الجلائري
- في عام 803هـ 1400م إِحتلَّ بغداد تيمور لنك مرة ثانية
- في عام 814هـ 1411م إِحتلَّ بغداد الشاه محمد (دولة الخروف الاسود – القرة قوينلو ، الباراتيون)
- في عام 874هـ 1468م إِحتلَّ بغداد السلطان حسن الطويل (دولة الخروف الابيض – الآق قوينلو ، البايتدريون)
- في عام 914هـ 1508م إِحتلَّ بغداد الشاه إِسماعيل الصفوي (الدولة الصفوية)
- في عام 941هـ 1534م إِحتلَّ بغداد السلطان سليمان القانوني (الدولة العثمانية)
- في عام 1032هـ 1622م إِحتلَّ بغداد الشاه عباس الصفوي (الدولة الصفوية) مرة ثانية
- في عام 1048هـ 1638 إِحتلَّ بغداد السلطان مراد الرابع (الدولة العثمانية)مرة ثانية
- في عام 1335هـ 1917م إِحتلَّ بغداد الجنرال مود (الاستعمار الانكليزي)
واستمر الانكليز في العراق حتى عام 1958م بعد ثورة 14/7/1958 ، إذ حصل العراق على إستقلاله لأول مرَّة وأُعلنت الجمهورية ..

من خلال هذا السرد التاريخي ، يتبيـَّن لنا عمق التأثيرات وتنوعها ، وعليه إلتصقت بغناء المقامات العراقية الكثير من المفردات والأَلفاظ الأَعجمية وأَصبحت بمرور الزمن أحد مكوناته المتوارثة ، حتى وصل الأَمر الى أَنَّ بعض المقامات تغنى بنصوص شعرية فارسية او تركية إرضاءاً للولاة والوزراء والأُمراء لجهلهم اللغة العربية كما يقول الرجب ..

القُّبّانجي والطُّرقُ الغنائيةُ
إِنَّ هذا ينطبق على المغنين المقاميين المبدعين ممن ظهروا عند إِنتصاف القرن العشرين ، وتأثروا بالطريقة القبانجية ، واستقوا إبداعاتهم الأَدائية من إشعاعاتها ، فهم لا يجارون في تصويرهم السمات التأملية الحالمة الجذابة ، في تعبيراتهم الأَدائية في اللحن والكلمة ، بوصفهم مغنون مواكبون لتفاصيل حياتهم المعاصرة ، فهم يقدمون أداة لطريقة أُستاذهم المخضرم محمد القبانجي ، في عرض كلية مراحل انتقالية تاريخ المادة المقامية المغناة ، كتراث غناسيقي متسلسل الجذور والنشأة منذ أنْ عاش الإِنسان على هذه الأِرض لأوَّل مرَّة دون إِنقطاع الى يوم الناس هذا .. وأَنَّ نتاجات القبانجي بكل أبعاد طريقته الفنية ، ليست بحال من الاحوال مجرَّد محاولات عصرية لأضفاء حياة جديدة على مادة غناسيقية قديمة ، بل إن هذه الانجازات الفنية للقبانجي ، واقعية وأَصيلة تعبـِّر عن روح نضج الوعي المعاصر بحقيقة التَّحَوُّل هذه ..
إنَّ الأُسلوب الأَدائي للمغنين المقاميين وخاصة منهم المبدعين في حقبة بداية القرن العشرين أو في النصف الاول منه ، ليس حصيلة الاهتمام والبحث عن الشكل المقامي التقليدي ، أي عن الأُصول المقامية التقليدية التاريخية ، أو مجرَّد مهارة مبتكرة بشيىء من الإِبداع .. بل أَنَّ هذا الأُسلوب ينبع في الحقيقة ، من جوانب قوى عديدة لثقافة المجتمع زمنذاك ، ومن المحدوديات التي تنطوي عليها شخصية المغنين المبدعين الفنية ، وقبل كل شىء ، فإن مفهوم هؤلاء الإِبداعيين وعلى رأسهم محمد القبانجي ، عن الأداء المقامي ، هو كما رأينا ، مفهوم إبداعي تجديدي تطوري يؤكـِّد نفسه عبر صراع الطرق الأَدائية السابقة التي قادها المطرب الكبير رشيد القندرجي ، الذي سبق القبانجي في الظهور .. إضافة الى أن القبانجي ، الإِبداعي الكبير ، يدرك على أَيَّةِ حال ، بأنَّ ما من صراع وتنافس فني كان قد مرَّ او يمرُّ في حقبته بخصوص بناء أو زعزعة شكل ومضمون الغناء المقامي بهذا المستوى من التفاعل والتنافس ، من تقاليده القديمة حتى أُسسه الجديدة الإِبداعية ، وكان الأَمر قد وصل فعلاً الى درجة بحيث تحوَّل كامل الجمهور المقامي بلا إستثناء ، الى أنصارمتعصبين لهذا أو ذاك من الطرفين أو الأَطراف المتنافسة .. الطرق القديمة وقائدها رشيد القندرجي بواسطة طريقته (الطريقة القندرجية) وأساليب الحداثة الجديدة التي يقودها محمد القبانجي بواسطة طريقته (الطريقة القبانجية) التي أعلن عنها بكلِّ ثقة على أنها التطور الأمثل للغناء المقامي في ظل ظروفه المحيطة ..
وطبيعي وقفت أقسامٌ أُخرى من الجمهور دائماً بين الطرفين بعواطف متقلبة غير واضحة ، مرَّة مع هذا الطرف وأُخرى مع ذاك .. وقد لعبت هذه المواقف المتذبذبة في معظم الأَحيان دوراً حاسماً في تاريخ الأَزمة الفعلي ، وقد إنطبق ذلك تماماً على المغنين الذين عاصروا هذه الحقبة والذين إستفادوا نسبياً من هذا الصراع المحتدم بين الطرق الغنائية جميعاً , وتكونت لديهم شبه طريقة خاصة بهم تميزوا بها مثل سليم شبث وحسن خيوكة وعبدالهادي البياتي ومجيد رشيد *(7) إضافة الى هذا فما تزال حالة تطور الأَداء المقامي في صراعاتها الإِبداعية الدرامية .. منذ أن إستتب الأَمر للطريقة القبانجية .. سائرة وسط أقسى الظروف الفنية التي مرَّت على العراق خلال القرن العشرين ، ومن الطبيعي أن تستمر بالمعنى الفني الصرف ، وإن لم يحدث ذلك ، فإنه يعني أن الحياة تمرُّ بركود وجمود ثقافي بكل جوانبها من شأنهما أن يؤخرا مسيرة التطور الفني للأَداء المقامي .. فلا بُدَّ من الإِستمرار الإِبداعي لأنَّهُ الأَساسُ المهم في التطور الثقافي ، فالإِستمرار في العمل يعني النمو الدائم ، بيد أن نتائج أُخرى مهمة نجمت عن هذا الإِستمرار الثقافي والإِبداعي في الأَداء المقامي التي كان أساسها قدرة القبانجي التي لاتُضاهى في إعادة صياغة المقامات العراقية كبيرها وصغيرها بأُسلوبٍ جديدٍ ذي بناءٍ لحنيٍّ محكم ومنسجم العلاقات ، كان مردُّها بالضبط هذا الجانب من الفطرة الإِبداعية في أداء القبانجي .. وفي نتاجاته المقامية التي إستغرقت كامل حياته الفنية ..
يمكننا أن نستمعَ الى الكثير من مقاماته بصوته الفذ وأُسلوبه المحكم مثل مقام المنصوري ومقام الإِبراهيمي ومقام السيكاه ومقام الرست ومقام الحجاز ديوان ومقام البيات وغيرها ..
وفيما يلي بعض القصائد والمقامات التي غناها القبانجي وهذا مقام الرست الذي وصل فيه الى ذروة كبيرة في التعبير المقامي والأَداء الفنّي ..

بوصال إِليك هل من وصـــول لك أَشكو ما شفني من نحــول
خنت عهدي حفظا لعهــد عذول بابي انت مـن خلـــيل ملول
لم يدم عهده اذا الــــظل دامــا
***********
حول خديك عذب الله قومــــا تصطلي كالـفراش في النار دوما
يا حياتي وما ســــلوتك يوما ان للناس حـول خديــك حوما
كالفراش الذي على النــار حامــا

وندرك ذلك ايضا عندما نستمع اليه في مقام السيكاه مثلاً الذي يغنيه بإحدى القصائد الصوفية الشَّهيرة لعُمرإِبن الفارض..

أعد ذكر من أهوى ولو بمــــلامي
فإن أحاديث الحبــــــيب مدامي
ليشهد سمعي من احـــب وإن نأى
بطيف ملام لا بطيــــــف منام
فلي ذكرها يحلو على كل صيـــــغة
ولو مزجوه عذَّلي بخصـــــــــام
كأن عذولي بالوصال مبشـــــري
وإن كنت لم أطمع بردِّ ســــــلامي
بروحي من أتلفــــت روحي بحبها
فحان حمامي قبــــل يوم حمامي
ومن أجلها طاب إفتضاحي ولذَّلي أطرا
حي وذلِّي بعد عزِّ مقـــــــامي
وفيها حلا لي بعد نســكي ، تهتكي ،
وخلع عذاري وارتكــــاب اثامي
اصلّي فاشدو ، حين أتلو بذكـــرها
وأطرب في المحـــراب وهي امامي
وبالحج إن أحرمت ، لبَّيت باســمها
وعنها أرى الامســاك فطر صيامي
وشأني ، بشأني ، معرب ، وبما جرى
جرى ، وانتحـــابي معرب بهيامي
أروح بقـــــــلب بالصبابة هائم
وأغدو بطرف بالـــــكآبة هام
فقلبي وطرفي ، ذا بمعــــنى جمالها
معنى ، وذا مغرى بليــــن قوام
ونومي مفقود ، وصبحي ، لك الــبقا
، وسهدي موجود ، وشـــوقي نام
وعقدي وعهدي ، لم يحل ولم يــحل
ووجدي وجدي ، والغــرام غرامي
يشف عن الاسرار جسمي من الضنى ،
فيغدو بها معنى ، نحول عـــظامي
طريح جوى حب ، جريح جوانــح
قريح جفون ، بالـــــدوام دوامي
صريح هوى ، جاريت من لطفي الهوا
سحيرا ، فأنفاس النـــــسيم لمامي
صحيح ، عليل ، فاطلبوني من الصبا
ففيها ، كما شاء النــــحول مقامي
خفيت ضنى ،حتى خفيت عن الضنى
وعن برد أســــقامي ، وبرد أوامي
ولم يبق مني الحب غير كآبــــة
وحزن ، وتبـــــريح ، وفرط سقام
فأما غرامي وإصطباري وســـلوتي
فلم يبق لي مــــــنهن غير أسامي
وفي وصلها عام لديَّ كلحـــظةٍ
وساعة هجرانٍ علــيَّ كــــــعام
ولما تلاقينا عشاء وضمــــنا
سواء ســبيلي دارها وخيـــــامي
فرشت لها خدي وطاء ، على الثـــرى
فقالت لك البشـــــرى بلثم لثامي
وبتنا كما شاء إقتراحي على المنـــى
أرى الملك ملكي والزمان غلامـــي

وهذا مقام البنجكاه (سلَّمه رست) وإِحدى قصائد الشاعر الكبير عبد الغفار الأَخرس ..

ألا هل للمتيم من مُجير
كئيب ذي فؤادٍ مستطيرِ
يعالج بالهوى دمعاً طليقاً
يصوب للوعةِ القلبِ الأَسير
وكنتُ على قديم الدهر أَصبو
بأَشواقي الى ربـَّات الخدور
فأغدو لا الى خِلٍّ أَنيس
وما لي غير همِّي من سميري
تشبَّهتْ الأسافلُ بالأعالي
وقد تاه الصغير على الكبير
وكم في الحي من ليث هصور
صريع لواحظ الرشأ الغرير
ومن حط القضاء الى حضيض
وكان محله فوق الأثير
أصون عن الاراذل عـِزَّ نفسي
وصون النفس من شِيَمِ الغيور

وهذا مقام الأَوْج بقصيدة للشاعر عبد الرحمن البنّاء ..

يقولون لكن لا عهود لقولهم
ورُبَّ كلام للقلوب كِلامُ
فللاقوياء الحق في كل موقف
وليس على ما يفعلون مَلام
وما هي إلا قوة ثم قوة
وكل ضعيف للقوي طعام
تطالب بالحق الشعوب وترتجي
وما الحق إلا مدفع وحُسام
بني العُرب لا تلووا عنان جهادكم
الى ان تنالوا الحق وهو تمام
فلا تذكروا كنـَّا وكانت جدودنا
فذلك فِعلٌ قد مضى وكلام
ولا تأمنوا كيد الغريب ولينه
فذاك له قصد بكم ومرام

وهذا مقام الأَورفة (سلَّمه بيات حسيني) وقصيدة الشاعر أَحمد عبد الرحمن الموصلي ..

اهل ودي لهم مكاناً قصيـَّا
صرتُ للحزن وارثاً ووصيـَّا
كلما قلت للمدامع كفِّى
فتقول الجفون للدمع هيـَّا
يا جفوني فابكوا على من جفوْني
تركوا بالغرام قلبي شقيـَّا
ونسوني من بعد ما آنسوني
ليتني قبل نسيهم منسيـَّا
فاسألوا العاشقين عن حفظ ودي
لم اكن للغرام قط نسيـَّا

وهذا ايضا مقام عَجَمْ عُشَيْران بقصيدة أُخرى للشاعر عبد الغفار الأَخرس ..

سقانيها معتـَّقة عقارا
وقد ألقت يد الفجر الازارا
ودار بها مشعشعة علينا
فدار الانس فينا حيث دارا
اذا ما زفَّها الساقي بليل
أعاد الليل حينئذ نهارا
جلاها في الكؤوس لنا عروساً
وقد جعل الجمان لها نثارا
فقبل المزج تحسبها عقيقاً
وبعد المزج تحسبها نضارا
وما أهنى المُدام بكفِّ ساقٍ
كمثل البدر أشرق وإستنارا
بروحي ذلك الرشأ المُفدى
وان ألـِفَ التجنب والنفارا

ويُذْكر أَنَّ القبانجي كان قد سجل مقام المنصوري (سلَّمه صبا) أكثر من مرَّة وبقصائد مختلفة وإن تكن متشابهة .. فهذا منـصوري بقصيدة لعبد الغفار الأَخرس ..

من لصبٍّ متيَّمٍ مستهام
دنف ذي صبابة وغرام
لامه اللائمون في الحب جهلا
وهو في معزل عن اللوام
لاتلوما على الهوى دنف القلـ
ب فما للهوى وما للملام
كيف يصحو من خمرة الوجد صب
تاه في سكره بغير مدام
ورمته فغادته صريعا
يا لقومي لواحظ الآرام
جردت أعين الظباء سيوفاً
ورمتنا ألحاظها بسهام
لست أنسى منازل اللهو كانت
مشرقات بكل بدر تمام
تنجلي أكؤس من الراح فيها
يضحك الروض من بكاء الغمام
بين آس ونرجس وبهار
وهزار وبلبل ويمام

وهذا منصوري آخر بهذه الأَبياتِ المُخَمَّسة ..

اذا زاد بي وجد وزاد غرام وشوقني دهري بهم وهيام
فاسأل من أهوى ولست ألام بأية أرض يمموا وأقاموا
هم حلـَّلوا التفريق وهو حرام
فهل من وثاق البين في الناس منقذي لقد أحرموني بالفراق تلذذي
أعود بذكراهم وخاب تعوذي وساروا وشحوا بالفراق وما الذي
يضرهم التوديع وهو كلام

وفي قصيدة أُخرى مُخَمَّسة لكاظم الأَزري والتخميس لراضي القزويني يغني القبانجي مقام منصوري آخر .. وهو أشهر منصوري ، بل هو أَعظم ما غناه محمد القبانجي ..

صح قلبي وجداً وجسمي سقاما فإلى ما الام فيك الاما
ليت شعري الى من بك القلب هاما أي عذر لمن رآك ولاما
عميت عنك عينه ام تعاما
كيف يقوى على الجفا مستهام عنك لم يلهه نديم وجام
بك أقسمت والهوى أقسام إي وعينيك ما المدام مدام
يوم تجفو ولا النداما نداما
كيف يسلو يا مخجل الغصن قدا مغرم هام في غرامك وجدا
اذ يرى منك كالشقائق خدا او يرى ذلك القوام المفدى
خيزرانا يقلُّ بدراً تماما
أين من خمرة الحلال التي في أكؤس الطلا بذوق نزيف
ياغني اللمى عن التعريف ما لمن يترك المدامة في
فيك حلالا ويستحلُّ الحراما

وهذا مقام رست آخر يغنيه محمد القـبانجي بقصيدة محمد سعيد الحبوبي (لح كوكبا) والمُخَمَّسة من قبل جعفر الحلي وهي من روائع الشعر8* ومن أَروع ما خلــَّفه لنا أُستاذنا القبانجي غناءاً ..

يايوسف الحسن فيك الصبُّ9* قد ليما فلو رأوْك هووْا للأَرض تعـــظيما
بمن حباك10* فنون الحســن تتميما (لح كوكبا وامش غصنا والتفت ريما
( فان عداك11* اسمها لم تعدك الســـيما)
شهد12* بثـــغرك لم تبرد به كبد عقارب الصدغ في حافـــاته رصد
تبدي ثلاثا ولكن لم تنـــــلك يد (وجها اغرا 13* , وجــيد زانه جيـد
(وقامة تخـــــجل الخطي14* تقويمــا)
سفرت فالبدر لا تحكــيك غرته15* والخشــف دونك عيناه ونـظرته
دعاك صبك اذ حارت بصيـرته (يا من تجل عن التمثــــيل صورته
أأنت مثــلت روح الحـــسن تجسيما)
عهدتني16* لم أَجد لي في النسـيب يدا ولم اكن لنضــــار الشعر منتقدا
ويوم لي بابلي17* اللحـــظ منك بدا (نطقت بالشعر سحرا فيك حين غـدا
هاروت18* طرفــك ينشي السـحر تعليما)
عناصر أَنت معدود كخامســها 19* ومن حواسي معدود كسادســـها
يا صورةَ الحسن جَلَّت عن مجانسها (فلو راتك النصارى في كنائــسها
مصورا ربعت فيك الاقانيمـــــا 20*)
أَضحى محبوك في دين الهوى أُمما وكم سفكـــت لهم في مقلتيك دما
فلم تزل فاتنا ، طورا ، ومنتقــما (اذا سفرت تولى21* المتقي صـنما
وان نظرت توقى الضيغـــم 22* الريما)
هواك راحة قلبي في متاعــــبه والقلــــب يبرد من ابراد لاهبـه
يا للرجال الا عون لصــــاحبه (من لي بألمى23*؟ نعيمي بالعذاب به
والحب ان تجد التعذيــــب تنعيما)
قد اتبعناه ، والتهــــــيام سنته وكوثر الريق للعـــــشاق منته
رضوانه الخال والخــــدان جنته (لو لم تكن جنة الفردوس24* وجنته
لم يسقني الريق سلسالا وتسنيما 25*)
اهدي لك الفلــــك الدوار انجمه صبا فوشـحه26* ، فيها ، وختمه
فاعجب له ومليـل الحســن علمه (القى الوشاح على خصـر توهمه
فكيف وشح بالمرئي موهــــــوما)
دم الشقيق مراق في اناملـــــه والخيزران عليل من تــمايله27*
يا حسنه حين تباهى في شمـــائله (ورج احقاف28* رمل في غلائـله
يكاد ينقد عنها الكشح 29* مهـــــضوما)
غصن تنوء ، به، من ردفه هضـب ينوشها 30* من اعالي فرعها عذب
يمشي وفي ساقه من حجــله ندب (ان الم الحجل ساقـيه فلا عجب
فقد شكا من دقيــــــق الدرز 31* تاليما)
نشاط صبوته يمشيه مبتـــــدرا وثقل اردافه يثنيه منهـــصرا 32*
فان مشى جائلا 33* حجـــلا ومؤتزرا (الردف والساق ردا مشـيه بهرا
والدرع 34* منقدة ، والحــــجل مفصوما)
براه رب قدير في تصـــــرفه فكان ابدع شكــــل في تكيفه
نبي حسن امنا من تحــــــرفه (في وجهه رسمت آيات مصـحفه
تتـــــلى ولم يخشى قاريهن تاثيما 35*)
فآية السحر فيها عينه اكتحــــلت وآية النمل في طرس36* العذار حلت
وعينه هي صاد حولها اكتـــملت (ذي37* نون حاجبه لو حاؤه اتصلت
في ميم مبــــــسمه لم تعد حاميما)
تعلم اللحن (ابراهيم)38 * من فـــمه ونال علم (الاغاني) في تعلـــمه
فعود( اسحق)39* ملغى في ترنمــه (ولحن معـــبد يجري في تكلمه
ان ادمج اللفـــــظ ترقيقا وترخيما)
كم بت ألثمه شوقا ويلثمـــــني واجتني الدر غضـــا اذ يكلمني
فان تبسم لي والشوق يؤلمــــني (اشيم برق 40* ثناياه فيـــوهمني
تالق البرق نجـــــــديا إِذا شيما)
يا حبَّذا ماءٌ واد منه شـــــربكم يردن سرب المها فيه وســربكم
سقاكم الغيث كي يخضر شعبكم41* (يا نازلي الرمل من نجد احــبكم
وان هجرتم ففـــــيما هجركم فيما 42*)
نسيتم بزرود43* طيب مجلـــسنا ؟ واذ حمــيا الهوى مالت بارؤسنا
فما دنا غير رياكم لمعطـــــسنا (الستــــــم انتم ريحان أَنفسنا
دون الرياحـين مجنـــــيا ومشموما)
إِني – وإِن كنت نائي الجسم – ضيفكم والقلب مأْواه واديـــكم وخيفكم44*
فلوا 45* غرار الجفا – لا فل سيفـكم (ان ينأ شخصــــكم فليدن طيفكم
لو أَنَّ للعــــــــين إِغفاء وتهويما)
عهدتكم نجعة 46* الصادي بمـوئلكم وتنقـــــعون الظما في سلسلكم
فها أَنا حائم حول مــــــنزلكم (هل توردون ظمــاءا عذب منهلكم
أَم تصدرون الأَمــــاني حوما47* هيما ؟)
حتى متى يتقاضى الصب48* ديـنكم وكم أُكابد في التــــرحال أَينكم ؟
كأنما القلب مني ضاع بيـــــنكم ( لي بينكم – لا اطـال الله بينكم 49*–
غضيض طرف 50* بر الطرف مســجوما)
رضعت قبل اللبا51* من در الفــته وما ترعرعــــت الا في محبته
هيهات أَن تفطموني عن مودتـــه (انا رضـــــيع هواه منذ نشأته
ونشأتي . لن تروني عنه مفـــطوما)
كم ذا تجور على العاني 52*وتظلمه كأنه حل في شـــرع الهوى دمـه
رضيت يامن له رقي اسلـــــمه (يا جائرا – وعلى عمد احكـــمه
اعدل , وجر بالذي ولاك تحكــــيما)





صورة / صورة تاريخية يظهر فيها فنانون كبار يتوسطهم محمد القبانجي وفي يمينه
عميد المسرح العراقي حقي الشبلي وعن يساره يوسف عمر


التعريف بالمقــام العـــراقي
لنأخذَ على سبيلِ المثال كتاب الحاج هاشم الرجب ( المقام العراقي ) في طبعته الاولى 1961 وطبعته الثانية عام 1983 وهو في صدد تعريف المقام العراقي حيث يقول ( هو مجموعة أَنغام منسجمة مع بعضها ، لها إِبتداء يسمى التحرير ، وإِنتهاء يسمى التسليم ، وما بين التحرير والتسليم مجموعة من الأَوصال والميانات والقرارات يرتلها البارع من المغنين دون الخروج على ذلك الإِنسجام المطبوع) 55*.
ينبغي الاشارة إلى ان التعريف يرتبط بطبيعة الكتاب المتعلقة بالدراسة الموزيكولوجية 56* للمقام العراقي حيث يهتم المؤلف بشرح أَشكال forms المقامات العراقية أكثر من اهتمامه بالمضامين التعبيرية التي لم يتحدث عنها الكتاب في الأَعمّ الأَغلب أَو لم يتحدث عنها أبداً ..! وعليه فإنَّ مفهوم هذا التعريف يتعلق بالمعمار الهيــــكلي للبناء المقامي التقليدي ، ولا يشمل ماهية المقام العراقي كشكل ومضمون فهو لايبعث على الرضا نسبياً .. اذ لا يوضح هذا التعريف ، البناء الحقيقي لغناء المقامات بصورة تفي بالغرض للتعبير عن مضامين البناء الغناسيقي المقامي شكلاً ومضموناً ...
أَمّا تعريف المرحوم شعوبي إِبراهيم خليل الوارد في كتابه (دليل الأَنغام لطلاب المقام) الذي يَنصُّ على (هو مؤلفة غنائية له قواعد محدودة لإنتقال المُغنّي من نغم إلى آخر ويكون للإِرتجال الغنائي نصيب فيه)57 * فهذا التعريف شبيه بالذات لما يخطر في ذهنك من المفهوم الإِعتيادي لمعنى أي لون غناسيقي تراثي تود تعريفه ، فهو تعريف عام لا يدلُّنا على خصوصية هذا التراث الغناسيقي بصورة مباشرة .. أما التعريف الذي ورد على لسان جلال الحنفي (المقام العراقي هو نمط من الغناء عرف في بغداد والمحافظات الشمالية ومنها الموصل وكركوك على إِختلاف يسير بين مغنّي هذه المُدن في تعاطيه وفي بعض تسمياته ، وكيان هذا النَّمط من الغناء في تجمعات نغمية يتحقق تجمعها وتأليفها وفق قواعد وأُسس إِصْطُلِحَ عليها أَصحاب هذه الصناعة بحيث تبدو سليمة المنحى وذات محتوىً مستساغ واطار جامع )58 * إِنَّ هذا التعريف يبدو لنا غير واضح المضمون ومربكاً بعض الشيء فضلاً عن كونه تعريفا مُطَوَّلاً دون كثافة ..! إنَّ بغدادَ ليست جذْراً جغرافياً للمقامات ، وإِنَّما تأثرت بالبلدان القريبة من غرب وأَواسط آسيا ، ويعود السبب في تأثر بغداد بصورة عميقة دون غيرها من المحافظات الأُخرى القريبة من بغداد هو لكون بغداد هي العاصمة وبقيت عاصمة منذ تأسيسها وإِلى يومنا هذا حتى في ظروف الإِنحطاط التي مرَّ بها العراق ، في حين أَنَّ محافظات شمال العراق ، الموصل وكركوك وأَربيل والسُّلَيْمانية ودهوك تمثل الجذور الجغرافية لهذه الممارسات الغنائية المقامية الموجودة كُلَّما إِتَّجَهْنا نحو الغرب الآسيوي وإِلى أَواسط آسيا ..
على كلِّ حال .. أَنَّ هناك من الحديث ما يكثُر ويطول ، وأَنَّ هناك تعاريف كثيرة لجمهرة من المتخصصين في الشَّأْن المقامي ، يتضح من خلالها ، أَنَّهُ لا يمكن الإِعتمادُ على تعريفٍ واحدٍ فقط ليُعطيَ مفهوماً كاملاً عن المعنى الإجمالي للمقام العراقي او معنىً كاملاً لشكله ومضمونه .. فكل تعريف يعبِّر عن جزء معين لمعنى المقام العراقي ومن مجموع هذه التعاريف ربما يمكن لنا ان نصلَ إلى المفهوم الواضح لماهيَّةِ المقام العراقي ومن ثم نصلَ إلى نصٍّ تعريفيٍّ شاملٍ مقنعٍ .. فغناءُ المقام العراقي وموسيقاه ، كيانٌ كبيرٌ وواسعٌ ، لهُ جذورٌ تاريخيةٌ عريقةٌ وتراكماتٌ حضاريةٌ وتجاربٌ تعبيريةٌ وشكليةٌ متعددةٌ لا يمكن تحديدُها بسهولة ..
أَصبحَ الآنَ واضحاً بجلاء ، وعملاً مهمَّاً للغاية ، أَنَّ التعاريف تلعب دوراً رئيسياً في سبيل كشف المفهوم المقامي وكشف فلسفة الغناء المقامي ، فالتعاريف تساعد على إزالة الغموض والإِبهام عن معرفة مكنونات هذا التراث الغناسيقي التراثي ، فهي تكشف المنطقَ الداخلي للعلاقات اللحنية القائمة بين المواد الأَوَّليَّة المكونة للمقامات ، بإِعتبارها مواداً أساسية ثابتة الوجود في كل مقام على حدة ، وبالتالي ومن خلال هذه المكونات ، يصبح المقام العراقي فورماً غناسيقياً تراثياً يتميَّز بشكل ومضمون خاص عن باقي الاقاليم الأُخرى التي تتشابهُ في مظهرها العام بأَداءات المقامات العراقية ...
وفي كتاباتي الكثيرة عن المقام العراقي ، أوْرَدْتُ عدةَ تعاريفٍ ، جاءت متنوعة حسب متطلبات موضوع الكتابة ، فمنها ما هو وظيفي أو إِجتماعي أو علمي ، وفيما يأتي بعض من هذه التعاريف التي أَوْرَدْتُها (يعتبر المقامُ العراقيُّ نمطاً معيناً من النظام الدقيق ذي الأُصول الأَدائية الرصينة ، وهو عملٌ حسِّيُّ تمتزج مكوناته جميعاً للحصول على الوحدة المتكاملة في بنائه وقابل للتطوير) 59*
وهذا تعريفٌ آخرٌ (هو مؤلف غناسيقي تراثي عراقي خاص يَسْرِدُ في صورٍ شاملةٍ متعددةِ الجوانب من الأَشكال والمضامين الأَدائية .. حياة العراق بكل تاريخه وحضارته وثقافته وظواهره وهو يعكسُ هويةَ أَبنائه وشخصيَّتَهم ، و يوضِّحَ أّيْضاً تطورَ حياةِ هذا البلد العريق في تفاعله المتبادل بدائرة الحياة الطويلة المعقدة والممتدة لآلاف السنين من التاريخ) 60* ويمكن أَن نقـــــولَ أَيضاً.. (هومجموعة من الأَنغام الموسيقية ذات صيغ متقاربة غالباً وتختلف بعض الأَحيان) .. ويمكنُنا أَيضا أَن نُعرِّفَ المقام العراقي الآن بهذه الكلمات (هو فورم فني غناسيقي كلاسيكي تاريخي، ذو شكل ومضمون خاص بالعراق تمييزاً عن باقي الأَقاليم في غرب وأَواسط آسيا والوطن العربي ، عمق كيانه عراقي عربي وتأثيراته آسيوية)61.. وعلى هذا الأَساس لا يمكنُنا الإِكتفاءُ بتعريفٍ واحدٍ ، ولا نستطيعُ التحديدَ ..
{ومن ناحيةٍ أُخرى تعني شكله ومكوناته وعناصره ، فإنه يتكوَّن بصورة عامة من خمسةِ عناصرَ أَساسيةٍ يعتمد عليها كلُّ مقام على حده في بنائه اللَّحني والموسيقي وهذه العناصر هي :
1- التحـــرير – يقصد بهذه المفردة ، البداية او الإِستهلال لغناء أَحدِ المقامات ، ويأتي هذا الاستهلال غالباً بكلماتٍ أَو الفاظٍ خارجةٍ عن النص الشعري المُغنّى مثل أَمان .. أَمان.. أَو ويلاه .. ويلاه .. إِلخ ، ويعتبر التحرير نموذجاً لحنياً متكاملاً لروحية وتعابير وثيمة 62* المقام المُغنّى .
2- القـِطَعْ والأَوْصال – ويقصد بهاتين المفردتين إِصطلاحا , بالتنوع السلَّمي أي التحولات السُّلَّمية أَو الأَجناس الموسيقية ضمن علاقات لحنية متماسكة والعودة دائما الى سلَّم المقام المُغنّى (السلَّم الأَساس _ الميلودي) وهذه التحولات أو القطع ذات أشكال ثابتة ومحدده في مساراتها اللحنية في غالب الأَحيان.
3- الجلـــسة – وهي النزول الى الدرجات الموسيقية المنخفضة بأُسلوب القرار ، ولكن بمسار لحني محدد ذي شكل معين يكاد أَن يكون ثابتاً ، أي ليس أي نزول او أي قرار يعني الجلسة بالضرورة ، حيث تشير هذه الجلسة للموسيقيين أَو توحي للمستمعين أَيضا على انه ستأتي طبقات عالية من الغناء أي الجواب أَو أَكثر من الجواب .. مثل - فعل ورد الفعل – أي لابد من حدوث هذه الجوابات التي تأتي أَيضا بمساراتٍ لحنيةٍ محدَّدَةٍ وبشكل معين ليس أي جواب أَيضا .. وتسمى هذه الجوابات بـ - الميانة – وهي العنصر الرابع.
4- الميـــانة – ويأتي غناؤها بطبقةٍ صوتيةٍ عاليةٍ بعد الجلسة مباشرة ذات شكل ومسار لحني معين ثابت ، على أَنَّ هذه الجوابات أَو هذه الميانات ليس من الضروري دائما تسبقها جلسة من حيث هي عنصر من عناصر شكل المقام العراقي ، فقد تأتي صيحات غنائية عالية لها مقومات الميانة وأَهمُّ هذه المقومات ثبات هذه الصيحة في المقام المُغنّى دون الحاجةِ الى أَن تسبقَها جلسة ، في حين أَنَّ النزولَ الى الجلسة في العنصر الثالث يجب ان تتبعها ميانة في كلِّ الأَحوال ، إِضافة الى أَنَّ هناك صيحات عالية من الغناء حرة يستسيغُها المُغَنّي حسب مزاجه الآني لا علاقة لها بموضوع الميانة خلال غنائه للمقام لأَنَّها لا تمتلكُ مقوماتِ الميانة .
5- التَّســليم – وهو نهاية المقام ويأتي غالبا بألفاظٍ أَو كلماتٍ غنائيةٍ خارج النص الشعري ، شــــــأنُه في ذلك شأن ما يحدثُ في العنصر الأَوَّل ( التحرير ) ..

ومن هذه الناحية يختلفُ المقامُ العراقيُّ عن الأُغنية المقصودة أو التي نُسمّيها الأُغنية الحديثة التي تعكس ثقافة الفرد في المجتمع .. لأَنَّها تجاربٌ محدودةٌ لاتتعدى حدودَها الفرديةَ ، وفي حيِّزٍ زمنيٍّ محدَّدٍ .. سواء أكانَ شاعراً للأُغنية أو مُلَحِّناً أم مؤدياً لها.. فَكُلُّهم معلومون في المجتمع .. في حين أن التراث إِنعكاس لثقافة المجتمع وعلى مدى التاريخ وهو ما تعوِّل عليه كل الدراسات الأَكاديمية لمعرفةِ قيمةِ هذا البلد أو ذاك .. فمهما كانت قيمة الفرد الثقافية فإنَّها تبقى ضمن حدودها التأثيرية ويبقى المجتمع صاحب كلمة الحسم في أيَّةِ دراسةٍ بحثيةٍ أكاديمية .

ليس في الحياة ، أو في أي فن من الفنون .. جانبٌ يستطيعُ أن يمتلكَ شموليةَ التَّعبيرِ عن كوامنَ المشاعرِ الإِنسانية بهذا الشكل اللاّنهائي ، بمثل الشمول الذي يعكسُه الغناء والموسيقى – فالغناسيقى- التراثية لها الإِمكانيةُ الواسعةُ بالتَّصويرِ المُتَّسع عن كوامنِ الإِنسانية للجماعات والأَفراد ، وهو ما يُطلق عليه - عبقريةُ الشُُّعوب – فهي تسمحُ بالمزج بين مختلف أَنواع التعبير الروحي والمضامين السامية ووسائل التصوير المتنوعة من جهة ، وبين تصوير الجوانب العادية للحياة من جانب آخر.

وعلى هذا الأَساس فالغناسيقى التراثية تعتبر أَكثر أَنواع الفنون التي تبرز حياة الإِنسان في ظروفه المُحدَّدَة كإِنعكاسٍ لتصويرِ حِقْبَِته الزمنية التي يعيش فيها .. والغناسيقى التراثية تختلفُ تبعاً لإِختلاف بيئاتِها وموضوعاتِها وأَشكالها ومضامينها .. فهناك الغناسيقى المدنية والرّيفية والبدوية والصَّحراوية والجَبلية والسَّهلية وغيرها ..63 *
*******************
هناك ملاحظة لابُدَّ من ذكرِها ، هي أَنَّ كلَّ المغنين الذين ظهروا بعد القبانجي بصورة عامة قد تأثَّروا بصورةٍ أو بأُخرى بالطريقة القبانجية ، بالرَّغمِ من وجود أَساليب أدائية تبدو مغايرة فيما بين المغنين ، إلاّ أنَّ مرجعَهم جميعاً هو الطريقة القبانجية ، ونظراً لصدور كتابي الموسوم (الأَربعة الكبار في المقام العراقي) عن طريق وزارة الثقافة الجزائرية ، وأَعني بالأَربعة ، حسن خيوكة ويوسف عمر وناظم الغزالي وعبد الرحمن العزاوي ، فقد إرتأَيْت أن لا أُقحم هؤلاء الأَربعة في هذا الكتاب ، سوى المطرب الكبير عبد الرحمن العزاوي ، حيث لم يأخذ حقه من الإِهتمام طيلة حياته الفنية ..
كذلك ، نظراً لكثرة أتباع الطريقة القبانجية من مطربي المقام العراقي ، فقد إقتصرتُ في هذا الكتاب على ذكر أهمهم ، عبد الرحمن خضر وحمزة السعداوي وعبد الرحمن العزاوي ومحمد العاشق وعبد الرحيم الاعظمي وعبد الجبار العباسي وعلي إرزوقي ..
وملاحظة أُخرى ، هي أَنَّني وضعتُ عدد أبيات معظم القصائد المغناة بعددها الأَصلي أو أقل من ذلك حسب ما أحفظه أو ما أمتلكه من مصادر كتب الشعر العربي ، في حين أن المُغنّي لم يغنِّ كلَّ هذه الأَبيات بالتَّأكيد ، حيث لم يتعدَ المُغنّي غناءَ أكثر من سبعة أو ثمانية أبيات في أكثر عدد للأبيات المغناة ، ولكنني وجدت أَنهُ من المناسب تكملة هذه القصائد المغناة لجمال وعمق معانيها ، وبالتالي لفائدة القاريء الكريم ، أرجو أن أكون مصيباً في ملاحظتي هذه ، كما أرجو من القاريء الكريم أن يتعمق فيها ليجد كنوز المعاني العظيمة الموجودة في أغلبها وخاصة منها القصائد الصوفية ..


ملاحظة / كل الاغاني ونوطاتها التي وردت في هذا المحور موجودة في كتابي الموسوم (المقام العراقي باصوات النساء) الصادر في كانون الثاني January 2005 في بيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر .. وكتابي (الطريقة القبانجية في المقام العراقي واتباعها) الصادر في بيروت عن نفس المؤسسة مطلع عام 2009