الخطابي ومعركة أنوال

الكاتب الأستاذ محمد القاضي عن مجلة " الجندي المسلم " العدد 110

ولد محمد عبد الكريم الخطابي سنة 1882م بقرية أجدير الواقعة في (بني ورياغل) إحدى قبائل الريف الشهيرة بشمال المغرب. كان أبوه من الرؤساء المرموقين في الريف، فرباه تربية إسلامية. و بعد أن حفظ القرآن الكريم تلقى مبادئ الدين و اللغة العربية في قريته؛ أرسله والده إلى مدينة فاس حيث التحق بجامعة القرويين بقصد تعميق المعارف التي تلقاها في قبيلته، وبعد ثلاث سنوات رجع إلى مسقط رأسه وقد تسلح بالفكر السلفي، وتبحر في العلوم الفقهية و اللغوية .
بعد ذلك التحق بمدينة مليلية ليشتغل بالتدريس أولاً، ثم بالقضاء الشرعي .
مكنته إقامته بمليلية من التعرف على خبايا السياسة الأسبانية، ومن خلال احتكاكه بالموظفين الأسبان استطاع أن يسبر غور النوايا الاستعمارية تجاه منطقة الريف، فلم يكن ينظر بعين الارتياح إلى مطامع الأسبان الرامية إلى احتلال جزء من بلاده، ولم تخنه الشجاعة يوماً في مواجهة رجال السلطة الأسبانية . بموقفه ضد أي احتلال عسكري أو سياسي لبلاده .
وفي سنة 1915م أدت به جرأته وشجاعته إلى المثول أمام المحكمة العسكرية بتهمة التعاطف مع الدولة العثمانية ضد الحلفاء، و سجن في مدينة مليلية .
لم تمض مدة طويلة على إطلاق سراحه ورجوعه إلى قبيلته (أجدير) حين توفي والده في سبتمبر 1920م، وظل هو وأخوه محمد و عمهما عبد السلام يكونون الثلاثي الذي تكفل بمهمة جمع شمل العشائر، ووضع حد للضغائن الدموية التي كانت تفرق بينهم، و توحيد كلمة رؤساء القبائل، وتنظيم الفلاحين؛ لمواجهة الغزو الأسباني. ولم يكن مؤتمر رؤساء القبائل في مكان يدعى (القامت) بتمسمان (إقليم الناظور حالياً) سوى تتويجاً لمجهودات مضنية استغرقت شهوراً كاملة، و تعاهد الجميع على تنظيم المقاومة واعترفوا بالقيادة الفعلية لمحمد عبد الكريم الخطابي .
الاحتلال الأسباني و المقاومة الريفية :
حظيت الحروب الريفية التي ترأسها محمد عبدالكريم الخطابي من أول يوليو 1920م إلى 27ماي 1926م باهتمام المؤرخين المغاربة و الأجانب ؛ لأنه لم يسبق لأي مستعمر في أي زمان و مكان أن ذاق هزيمة تماثل هزيمة الجيش الأسباني على يد المغاربة في معركة أنوال الخالدة، كما أنه لم يسجل تاريخ أية مقاومة مسلحة في أي بلد ولا في أي وقت من الأوقات انتصاراً باهراً يماثل الانتصار الذي أحرزه المجاهدون ضد دولة استعمارية هي دولة أسبانيا في معركة أنوال الفاصلة، وهو ما أدهش العالم كله؛ لأن الانتصار كان على يد جماعة من المغاربة لا يفوق عددهم ألف رجل أمام جيش لم يقل عددهم عن ثلاثين ألف جندي، زيادة على الأمكانات المادية المتوفرة لهذا الجيش. " والربائد الأسبانية تزخر بمئات الوثائق السرية التي تشهد بالأعمال البطولية الخالدة التي قام بها المغاربة في هذه الملحمة العظيمة دفاعاً عن دينهم ووطنهم".(1)
كان الأسبان يقدرون جسامة المهمة التي يقدمون عليها، و لهذا ظلوا مدة طويلة يبذلون جهوداً سياسية وعسكرية باهظة الثمن في الأموال والرجال؛ لبسط نفوذهم على المناطق الممنوحة لهم بمقتضى اتفاقية فرنسا، فيما بين سنة1912م وحتى 1921م وهو موعد انطلاق الثورة التي قادها محمد عبد الكريم الخطابي .
كان الأسبان يتقدمون ببطء وحذر وبصعوبة شديدة بسبب المقاومة الشعبية القوية التي كانوا يلقونها، وخصوصاً أنهم كانوا يقدرون الصعاب التي هم مقدمون عليها، نظراً لخبرتهم بالمنطقة منذ حرب الريف الأولى التي قادها محمد أفريان سنة 1909م والتي ذاقوا فيها الأمرين .
و استطاعوا في سنة1921م أن يجمعوا حوالي (25700) رجل منهم، وحوالي (5100) من المجندين الأهالي، في مواقع منتشرة بين قبائل (الدريوش)، و (بويميان)، و (أنوال).
ولم يتمكن قائد القوات المتقدمة الجنرال (سيلفستري) من فهم حركة محمد عبد الكريم الخطابي ببعدها الديني وزعامتها الناضجة،وطاقتها النضالية، و أعتقد أن تحطيم تلك الحركة في متناول يده . وقد تميز هذا الجنرال بقوة الشخصية العنيدة، وشدة الشكيمة، فنظر إلى الريف نظرة كلها تطلع إلى فرض سيطرته المطلقة عليها، سالكاً سياسة جائرة حياله، متخذاً إجراءات رادعة ضده، فكان يتحين بدوره الفرصة للمسيرة نحو الساحل الريفي الأوسط، متعطشاً للحروب الاستعمارية بعد هزائمه في (كوبا) سنة 1898م .
وفي 31من شهر ماي 1921م اتخذ الجنرال سيلفستري الترتيبات اللازمة استعداداً للزحف نحو مركز (ظهر أبران) بقبيلة (تمسمان) وفي يونيو عند الساعة الثانية صباحاً خرجت من أنوال القوات الأسبانية متوجهة نحو المركز ليكونوا قريبين من مركز المجاهدين (بالقامت) بينما ظل الجنرال سيلفستري بأنوال .
وتمت عملية الاحتلال دون أن يتعرضوا لأي هجوم من طرف المجاهدين وتم تحصينه، و رجع الجيش الأسباني إلى أنوال بعد أن أبقى في المركز المذكور حامية تتكون من ثلاثمئة جندي يترأسهم قبطان، وما أن وصلت القوات الأسبانية إلى منتصف الطريق بين (ظهر أبران) و (أنوال) حتى وجدت أمامها الحركة مستعدة للوقوف في وجهها للحيلولة دون السماح لها بالعودة إلى المركز الرئيسي، فجرت معركة لم تسفر عن أية نتيجة، وعندئذ توجه المجاهدون بهجومهم نحو مركز (ظهر أبران) فاقتحموه وقتلوا جميع من كان به من ضباط و جنود إلا عدداً قليلاً استطاع الهروب، و استولى المجاهدون على العتاد الحربي بأكمله، وتشهد الوثائق الأسبانية "أن الهجوم الذي قام به المجاهدون ضد المركز المذكور قاده الزعيم الخطابي بنفسه، وشعر سيلفستري لأول مرة بالهزيمة في المغرب".(2)
لقد كان استرجاع مركز (ظهر أبران) من يد الجيش الأسباني هو الانتصار الأول الذي أحرزه الخطابي في تحديه للجنرال سيلفستري . وفي خضم الحماس الجماهيري الناتج عن نشوة الانتصار، انضمت قبائل جديدة إلى صفوف المقاومة . ونقل الزعيم الخطابي مركزه الحربي إلى قاعدة قريبة من أنوال .
أنوال 00 المعركة الفاصلة :
كان أول عمل قام به سيلفستري بعد سقوط (ظهر أبران) هو تعزيز المراكز الأمامية بوحدات عسكرية إضافية تفوق حاجيات كل مركز مما نتج عنه مشاكل كثيرة أهمها : مشكلة الإيواء، ونظراً لصعوبة تنقل القوافل من مركز إلى مركز، أمرت الحكومة الأسبانية الجنرال سيلفستري بأن يقوم باحتلال أكبر عدد ممكن من المراكز الثانوية حتى يتمكن من القضاء على المشاكل، ولكن بدون جدوى .
استمرت المناوشات الحربية بين الأسبان و المجاهدين في مناطق مختلفة من الريف كانت أهمها معركة (إغريبن) الفاصلة و التي انهزم فيها الأسبان، و على إثره أبرق الجنرال سيلفستري إلى المقيم العام يوم 21 يونيو 1921م ما يلي : "لقد قمت اليوم بالعملية التي أخبرتكم بها من أجل إغاثة (إغريبن) ولكن العدو حال دون ذلك رغم أنني استعملت في تلك العملية جميع القوات التي توجد تحت تصرفي، و أخيراً أصدرت أوامري بوجوب مغادرة المركز المذكور، فكانت عملية جلاء دامية، و الآن أنا موجود بأنوال و الثوار يحاصرونني من كل جهة، فالحالة خطيرة، بل جد خطيرة و سوف أحاول الخروج من هذا المأزق، وإنني غير واثق من التمكن من ذلك، لأن العدو استطاع قطع جميع المواصلات و المراكز المجاورة ..."(3)
كان الجنرال سيلفستري يعتقد أن المجاهدين سوف يقتحمون عليه المركز حسب ما يتضح من البرقية الثانية التي وجهها إلى نفس المقيم العام ليلة يوم 21 يوليو 1921م، ولكنه لم يكن يعلم أي شيء عن خبرة الخطابي في تكتيكية الحرب، فقد أمر هذا الأخير رجاله بتشديد الحصار على أنوال و المراكز المجاورة له بدلاً من القيام بهجوم يكون الغرض منه اقتحام المركز الرئيسي لعلمه بوجود الجنرال و جميع أركانه الحربية، و أنه لا وجود لمسؤول آخر في المراكز الخلفية يكون في وسعه القيام بمد يد المساعدة إلى رئيسه المحاصر، فالقضية قضية وقت و المراكز المحاصرة ساقطة لا محالة دون إلقاء المجاهدين إلى التهلكة. و هكذا وجد الجنرال نفسه في المصيدة التي نصبها له الزعيم الخطابي، و التي كان يصعب التخلص منها بأي حال من الأحوال، فالمركز محاصر وأسلاك الهاتف مقطعة، فما العمل ؟!! .
و في يوم الخميس 21يوليو 1921م هجم العدو بجميع ما يملك من القوة التي وردت عليه من أسبانيا و تطوان ورجال القبائل التي استحضرها المسماة (بالحركة) وتقدر بأربعين ألف جندي وعشرين ألف مقاتل من رجال القبائل (الحركة) فدارت معركة شديدة لم يسبق لها مثيل في جميع المعارك التي خاضتها أسبانيا منذ دخولها للتراب المغربي دون أن يستطيع الجيش الأسباني اختراق صفوف المجاهدين رغم الأسلحة الثقيلة و الخفيفة وبعض الطائرات التي ظهرت لأول مرة في الميدان الحربي بالريف غير أنها لم تسقط أية قنبلة منها . عمت الفوضى معسكر أنوال، الكل يفكر في طريقة يحافظ بها على حياته ولم يستطع أحد أن يضع حداً لتلك الفوضى، وفي صباح يوم الجمعة خرج الجنرال سيلفستري من أنوال بالجيش الذي كان معه تاركًا جميع معداته الحربية الثقيلة متجهاً إلى مليلية في وضعية تشبه الفرار، ولكن الزعيم الخطابي كان قد أمر المجاهدين بالدخول ليلاً ليقطعوا الطريق على العدو إذا ما أراد الانسحاب فكان لهم ذلك . لقد دامت المعركة يومين قضى فيها المجاهدون على جميع الجيوش التي كانت بأنوال مات من مات، و أسر من أسر . أما الجنرال فلم يعد له وجود بعد المعركة. هكذا استطاع الزعيم الخطابي أن يحرر جميع مناطق الريف من الاحتلال الأسباني.
لقد تركت ملحمة أنوال جروحاً غائرة في الوجدان الشعبي الأسباني.
الذي اهتز اهتزازاً عنيفاً، و أخذت مشاعره تتراوح بين الإحباط الشديد، و الدهشة لهذه النكسة المروعة، والهزائم المأساوية .

الهوامش:
1 انظر كتاب "معركة أنوال" محمد بن عزوز حكيم - ص (13) .
2 نفس المرجع - ص (40) .
3 نفس المرجع - ص (98) .