الاقتصاد الإسلامي نظام رباني ارتضاه الله تعالى طريقاً ومسلكاً للمسلمين في سائر معاملاتهم، ومشى المسلمون عليه قرونا طويلة، ثم دب الضعف في الأمة الإسلامية فأخذت تعتمد تارة على الشرق وأخرى على الغرب ونسيت معينها الذي لا ينضب وكنزها العظيم، حتى جاء رجال كرام أخذوا على عاتقهم مسؤولية اعتماد هذا المنهج الرباني في المعاملات الاقتصادية من خلال البنوك والمؤسسات وسائر المعاملات، وتحويل فقة المعاملات إلى واقع ملموس ونجاح مبدع، ومن بين هؤلاء الدكتور عيسى عبده ابراهيم الذي نتعرف إلى سيرته من خلال السطور التالية... مشاركته في إنشاء بنك دبي الإسلامي عام 1974م: عندما كان د. عسيى عبده ابراهيم يقوم بالتدريس بجامعة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية السعودية انتدب من الجامعة كمستشار لبنك دبي الإسلامي، حيث استغرق الإعداد والتحضير طوال عام 1974م، حتى قام بنك دبي الإسلامي عام 1975م بمؤازرة الحاج سعيد لوتاه، فكان أول بنك في الساحة الإسلامية بمنطقة الخليج. إن الدكتور عيسى عبده هو رائد البنوك الإسلامية بحق، وله الفضل ـ بعد الله ـ في قيامها وانتشارها في العالم العربي والإسلامي، وإن المحاضرات التي كان يلقيها، والأحاديث الإذاعية والتلفازية التي كان يقدمها في الكويت ودول الخليج، والمملكة العربية السعودية، كان لها الدور الكبير والأثر العظيم في تغيير بعض المفاهيم في الاقتصاد الإسلامي، حيث كان البعض من رجال الأعمال، يظن أن التجارة والاقتصاد لا يقومان إلا بالبنوك، وأن البنوك لا يمكن أن تقوم بدون الربا، وأن هذا نظام عالمي لا بد من التعامل معه، بحكم الضرورة، غير أن الله تعالى أبطل هذه المقولة ودحض هذه الفرية بتوفيقه في قيام البنوك الإسلامية "اللا ربوية"، كما صدرت دراسات كثيرة من تلامذة د.عيسى عبده، كلها في الاقتصاد الإسلامي وأعمال البنوك الإسلامية، بل وتأسست معاهد وكليات ومراكز تدريب للاقتصاد الإسلامي والعاملين فيه في مختلف أنحاء العالم. لقد وهب الله عز وجل أستاذنا ذكاءً وقادا وبديهة حاضرة، وفكرا ناضجا، وأسلوبا حكيما، في عرض وجهة نظره. ورغم أن القضايا الاقتصادية، وبخاصة عمل البنوك تحتاج إلى الاختصاصيين لاستيعابها والإحاطة بجوانبها، ومتابعة تطوراتها العالمية، إلا أن الدكتور عيسى عبده له قدرة على تبسيط الموضوع في عرضه السهل بحيث يستوعبه حتى العامة من الناس، الذي يحضرون ندواته ويغشون محاضراته، ويخرجون وهم لديهم الرغبة في الإسهام والمشاركة في تأسيس البنك الإسلامي، كي يتخلصوا من أوزار البنوك الربوية التي عمت البلوى بها أرجاء العالم بما فيها العالم العربي والإسلامي، وصار التاجر المسلم يعيش في حرج كبير نتيجة تشابك المعاملات المالية المعاصرة مع النظم الربوية التي تسير عليها البنوك في شتى أنحاء المعمورة، لأن الأساس الذي قامت عليه هو أساس ربوي، صنعته يهود .... الذين كانوا يتاجرون بالعملة ويحترفون مجال الصرافة، قبل قيام البنوك، والتي بدأت أعمالها بالإقراض الربوي للأفراد ثم المؤسسات ثم الدول، فكانت الأزمات تلو الأزمات، مما كان سببا مباشر ا في قيام الحروب المدمرة وانهيار الدول وإفلاسها. إن الدكتور عيسى ابراهيم من الصفوة التي نافحت عن مفهوم الإسلام الأصيل في الاقتصاد خلال خمسين عاما متصلة، لم يتوقف خلالها عن العمل بالكلمة المكتوبة والمسموعة والمرئية، وبالرحلة في آفاق الأرض، بحثا عن التجربة الاقتصادية الغربية، ومقاتلها وأخطائها وبالرحلة في آفاق العالم الإسلامي، داعيا إلى إنشاء المصارف الإسلامية، وحيثما وجد تقبلا لدعوته فقد كان يمكث ويتريث ويقيم، حتى يحقق خطوة على ذلك الطريق الشاق. فكانت له رحلات إلى السعودية والكويت ولبنان والعراق ودبي وكانت له مشاركة في إنشاء أقسام الاقتصاد الإسلامي بالجامعات العربية والكليات والمختلفة، من اقتصاد وقانون وإدارة، واشتراكه في مختلف مؤتمرات الاقتصاد التي عقدت بأبحاث ناضجة تكشف عن خبرة وافرة ... وقد انطلق من نقطة واحدة عاش حياته كلها لها، وهي الكشف عن فساد النظام الربوي، وآثاره الخطيرة على الاقتصاد الإسلامي، منذ تمكن النفوذ الأجنبي من التسلط على بلاد الإسلام. ودعا إلى تأسيس بيوتات مالية تنتهج النهج الإسلامي في معاملاتها، وبدأ منفذاً لذلك في مصر حيث أسس أول بيت إسلامي في (ميت غمر) ثم باشر في تنفيذ بنك دبي الإسلامي مستشارا ومؤسسا. وهو يدعو إلى الكشف عن مخاطر الربا من غير تكلف التأويل لإرضاء الحاكم أو فزعا من أن يقال إن الإسلام قد توقف عن مسيرة الحضارة المادية .. ويقول الدكتور عيسى عبده: إن الربا كان مصدر تمزق أرض الإسلام ونهب مواردها، وسببا لما هي فيه من ذلة وهوان، حتى أصبح المال الذي هو مالنا غريبا عنا وهو في أرضنا، وحربا علينا والأصل أن يكون عدة لنا. درس د.عيسى عبده في مدرسة التجارة العليا ومضى إلى انكلترا ليدرس في جامعة مانشستر ولما كانت أسئلة الاقتصاد تدور حول الفائدة، فقد كتب بحثا عن تحريم الفائدة لأهنها ربا، وأيد أقواله بأحكام الدين. ورفضت ورقة الإجابة بجملتها، واستدعته إدارة الكلية لتبين له أن الجامعة ليست مكانا لإظهار التعصب لدين أو آخر، وأن المطلوب منه أن يضع على الورق ما عرف من النظرية العلمية دون التأثر بنزعة أو عاطفة. ومضى الدكتور عيسى عبده يعمل على إنشاء كلية للاقتصاد الإسلامي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تكون نموذجا للعالم الإسلامي كله، وقد وفقه الله لذلك، والحمد لله رب العالمين. ثمار الجهود المخلصة إن علم الاقتصاد الإسلامي المعاصر، الذي أرسى قواعده د.عيسى عبده، ود.محمود أبو السعود، ود.محمد عبدالله العربي، ود.يوسف القرضاوي، ود.أحمد النجار، ود.نجاة الله صديقي، د.محمد عزير، ود.محمد حميد الله، ود.محمد شابرا وغيرهم ممن ساروا على نهجهم وأسهموا بجهودهم... كان من ثمرة هذا أن أصبح الاقتصاد الإسلامي مادة تدرس في كثير من الجامعات، داخل الوطن العربي والإسلامي، وخارجه أيضا، بل إن الكثير من الباحثين قدموا رسائل في الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي وفروعه المختلفة ومنها أعمال البنوك الإسلامية المعاصرة. وإن الظاهرة المبشرة بالخير، هي انتشار البنوك الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي، بل وفي بعض البلاد الأوروبية، حيث أثبتت نجاحا باهرا، وحققت أرباحا من المال الحلال المستثمر بالطرق الشرعية البعيدة عن الربا المحرم، كما أن هناك العديد من المجلات والدوريات العملية المتخصصة الصادرة عن البنوك الإسلامية المعاصرة، والتي يسهم في تحريرها أساطين علم الاقتصاد الإسلامي، فضلا عن قيام الهيئات واللجان الشرعية للبنوك الإسلامية بتصحيح مسار البنوك، ومراقبة سير العمل فيها، وفق القواعد الشرعية وضبط معاملاتها وترشيدها كي تكون في الإطار الإسلامي المنشود، وهذا كله أدعى لبث طمأنينة في نفوس الشعوب المسلمة بأن الإسلام هو الحل لكافة مشكلاتها ومعضلاتها الاقتصادية، وهو الذي يوفر لها الأمن والاستقرار لتزدهر الحياة على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي ضوء ذلك أخذت الشعوب الإسلامية تتسابق في إنشاء هذه البنوك رغم بعض العقبات والعراقيل التي يضعها أعداء الإسلام. مؤلفات د.عيسى عبده لأستاذنا د.عيسى عبده، بحوث ومقالات وكتب ودراسات ومحاضرات وندوات يضيق المجال عن حصرها، ولكن نكتفي بذكر بعض نماذج كتبه على سبيل المثال: > بنوك بلا فوائد. > لماذا حرم الله الربا؟ > وضع الربا في البناء الاقتصادي. > الفائدة على رأس المال: صورة من صور الربا. > الربا ودوره في استغلال موارد الشعوب. > مشروع قيام بنك إسلامي. > العقود الشرعية الحاكمة للمعاملات المالية المعاصرة. > الاقتصاد الإسلامي مدخل ومناهج. > بترول المسلمين ومخططات الغاصبين. > دراسات في الاقتصاد السياسي. > التأمين بين الحل والتحريم. > حديث الفجر. > أثر تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي في المجتمع (بالإشتراك). بالإضافة إلى سلسلة من المقالات في العديد من المجلات والدوريات الإسلامية والمتخصصة، خاصة مجلة "المسلمون" الشهرية، والتي كان يصدرها الدكتور سعيد رمضان في سويسرا، وتمثل هذه المقالات ثروة عظيمة في هذا المجال من حيث الموضوع والسبق فيه. سيرة من حياته وحياة أسرته نقل الاستاذ عرفات العشى في كتابه القيم " رجال ونساء أسلموا: الجزء الأول" مارواه د.عيسى عبده ابراهيم على لسان أبيه بشأن تسميته "عيسى" حيث قال : (إن بيني وبين ربي عهدا لا يعلمه إلا هو، وإني أسير على الدرب لا أحيد، إنني حين تمسكت بالاسم الذي اختاره أبي وهو "عبده" تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل حتى أتزوج وأن أرزق مولودا أدعوه "عيسى"، وعاهدت ربي على تنشئته تنشئةً صالحة، ولأدعون له بطول العمر والتوفيق إلى مافيه رضا الله وبأن يكون له في حياته ومن بعد حياته أحسن الذكر على ألسنة العباد، ولذا جعلت من وجود هذا الولد شهادة تنبض بالحياء بأن "عيسى " "عبده" وما هو بولده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.....فكلما ذكره الذاكرون غائبا أو حاضرا .. حيا أو ميتا .. كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل بأن عيسى عبده..) ويقول الأستاذ محيي الدين عطية في مجلة " المسلم المعاصر" بعددها لشهر ربيع الآخر 1404هـ: (لقد نشأ عيسى عبده في بيت أسس على اعتناق الإسلام عن قناعة وإيمان، وقد لاقى والده في سبيل ذلك مقاطعة الأهل. لقد حقق الله على يدي د.عيسى عبده ابراهيم إنشاء البنوك الإسلامية التي كانت أملا يراود نفوس الكثير من المسلمين، وتلك هي الثمرة اليانعة لجهوده وجهود إخوانه وتلامذته ومحبيه في العالم الإسلامي كله، وهي في محصلتها مظهر من مظاهر الصحوة الإسلامية المباركة.إن من الوفاء لهذا الرجل أن يعرف هذا الجيل بعض هذه الجهود التي بذلها الدكتور عيسى عبده، وإخوانه، كي ينطلق شباب الصحوة الإسلامية لإكمال المسيرة في كل الميادين، فكل ميسر لما خُلق له. وفاته كانت وفاة أستاذنا في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية يوم 9/1/1980مـ، وقد تم نقل جثمانه إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام "المدينة المنورة" حيث دفن بالبقيع حسب أمنيته. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.



=====
======= مجلة المستثمرون ======