كلام في أدب الرعب
دراسة لقصة دراكولا مصاص الدماء
بقلم: إبراهيم كامل أحمد

أنا إنسان إذن أنا أعشق الرعب!!!
تعددت تعريفات الإنسان عبر العصور فقال البعض : إنه "حيوان ناطق"، ورأي البعض أنه "حيوان مفكر"، وذهب فريق ثالث إلى القول بأنه "حيوان ضاحك"، وقال آخرون إنه "حيوان له تاريخ"، وأري أنا أن يضاف إلى هذه التعريفات أن الإنسان "حيوان يعشق الرعب".
انظر في الكتب التي تتناول المعتقدات والتراث الشعبي عند كل شعوب العالم ستجد عدداً لا يستهان به من الكائنات المرعبة المفزعة التي يجمد الدم في العروق لمجرد ذكرها تستوي في ذلك كل الشعوب سواء التي تتربع على قمة التحضر والمدنية أو تلك التي مازلت تخوض في مستنقع التخلف والبدائية، وهذه الكائنات المرعبة أشكال وأنواع منها: العفاريت والمردة والشياطين والغيلان والجان والقرين ومصاص الدماء ... وهذه الكائنات المرعبة قديمة قدم الإنسان ، ويعتقد فيها أصحاب الديانات الوثنية وأتباع الديانات السماوية الكتابية.
ولعل من أشهر تلك الكائنات المفزعة المرعبة مصاص الدماء ، ولكن من هو مصاص الدماء؟
مصاص الدماء (Vampire)
كائن أسطوري هو جسد ميت تقمصته روح شريرة فهو يجول بالليل وينقض على الأحياء من البشر ويمتص دمائهم، ويطلق على الروح الشريرة مصاصة الدماء الذئب والوطواط، وترجع تسمية مصاص الدماء بالذئب إلى الاعتقاد الشائع في بلاد اليونان أن "الرجل الذئب" أصلاً يصبح مصاصاً للدماء بعد وفاته ودفنه، والرجل الذئب إنسان تحول إلى ذئب بفعل السحر، أو إنسان له القدرة على اتخاذ شكل ذئب، وعندما يتحول هذا الإنسان إلى ذئب وينطلق ليلاً لينقض على من يوقعه سوء حظه في طريقه ويلتهم لحمه ويشرب دمه، ومن المعتقدات الشائعة أن الرجل الذئب يعود إلى صورته البشرية عند طلوع الفجر وهو يفعل ذلك بخلع جلد الذئب وإخفائه، وهكذا فهناك علاقة بين "الرجل الذئب" (Wolf man) ومصاص الدماء، ولمصاص الدماء سلطان على الذئاب وهو يفهم لغتهم ويأمرها فتطيعه، أما تسمية مصاص الدماء بالخفاش أو الوطواط فتعود إلى وجود نوع من الوطاويط يطلق عليها "النزافة أو المصاصة" (Vampire) تمتص دماء الحيوانات وتتغذى عليها، وكذلك لأن الخفافيش تنام نهاراً وتنشط ليلاً، ويشابهها في ذلك مصاص الدماء.
صفات مصاص الدماء:
عينا مصاص الدماء براقتان تلتمعان بشكل غريب كأنما ترميان بالشرر، جسده شفاف فإذا وقف أمام لهب النيران يمكن رؤية النيران من خلال جسده، وهناك اعتقاد بأن صورته لا تنعكس في المرآة، يعرف لغة الذئاب، وله عليها سلطان، جسده بارد متثلج كأجساد الأموات، حاجباه كثيفان ومتصلان بأعلى الأنف، وجهه شديد الشحوب وفي صفرة وجوه الموتى، لا يأكل طعاماً ولا يشرب شراباً، يطرب لعواء الذئاب، يهتاج لمرأى الدم، ويندفع نحو الجريح ليمتص دمه، يكمن أثناء النهار في نعش ميت ممداً على ظهره، وعيناه مفتوحتان تنظران، ولكنه لا يتحرك، أما من تمتص دماؤه، ويموت من جراء ذلك فهو يتحول بدوره إلى مصاص دماء.
يمكن أن يتحول مصاص الدماء إلى ضباب ثم يعود فيتشكل في صورة إنسان، لا تتحلل أجساد مصاصي الدماء، لمصاص الدماء القدرة على التشكل في صورة وطواط أو ذئب، وللجن أيضاً القدرة على التشكل في صور مختلفة ربما بتلاوة كلمات علمها الله لهم كما قال الإمام " ابن القيم " رحمه الله.
كيف يمكن اتقاء شر مصاصي الدماء؟
في المعتقدات الشعبية الأوربية أنه يمكن اتقاء شر مصاصي الدماء بتعليق الصليب حول الرقبة، أو بتعليق باقة من زهور الثوم حول الرقبة، أو بدهان النوافذ والأبواب بعصير الثوم ليمنع ذلك دخول مصاص الدماء.
هل يمكن القضاء على مصاص الدماء؟
يمكن القضاء على مصاص الدماء بغرز سيخ من الحديد في قلبه أو وتد من الخشب فيتحول جسده إلى ذرات من الغبار تتناثر في الهواء، أو بوخز جسده وحرقه ورشه برذاذ من سائل ممتزج بعصير الثوم، أو بفصل رأسه عن جسده.
هذا هو مصاص الدماء أحد الاعتقادات الشائعة لدي الكثير من الشعوب الأوروبية وغيرها، ويبدو أن لهذا المعتقد صلة بشعيرة بدائية تقوم على شرب الدماء. وتمتد جذور هذا المعتقد إلى الثقافة الإغريقية في عصر "هوميروس" صاحب الإلياذة ( يرجح أنه عاش في القرن 8 ق.م.) التي يظهر فيها مصاص الدماء مختلفاً في سلوكه عن الشبح. ولقد ظل الاعتقاد في مصاصي الدماء ينتقل من جيل إلى جيل حتى القرن التاسع عشر حين ازدهرت بإنجلترا "رواية الرعب" (Tale of terror) التي تنحصر أغلب عناصرها في مطاردات عنيفة يوشك البطل أو البطلة أن ييئس من النجاة منها، وأشباح مخيفة ومتاهات في أدغال مليئة بالأخطار وما إلى ذلك من العناصر المخيفة. وكان من بين الذين كتبوا رواية الرعب "برام ستوكر" “Bram Stoker" الذي تلقف الاعتقاد في مصاصي الدماء وكان شائعاً أكثر في ترانسلفينيا في المجر، ومزجه ببعض الحوادث والحقائق التاريخية، وصهر هذا المزيج في بوتقة فنه ليخرج للعالم رواية الرعب الخالدة "دراكولا"، وأصبح الكونت دراكولا مصاص الدماء شخصية معروفة في العالم كله من أقصاه إلى أدناه يستوي في معرفته الكبير والصغير والقارئ والأمي، وقد ألف "دين أوين" رواية جعل عنوانها "عرائس دراكولا" ترجمها إلى العربية "محمود مسعود" وحتى الآن هناك من يعتقدون اعتقاداً لا يتحول بوجود مصاص الدماء، وقد تناولت الكتب والأفلام السينمائية موضوع مصاص الدماء وما زالت تتناوله، ومن الطريف أن المسئولين في رومانيا حولوا "قلعة الكونت دراكولا" وما حولها إلى ما يشبه "ديزني لاند"، وقد قصدت بهذه الدراسة الموجزة إلقاء الضوء على المناخ الأدبي الذي أفرز رواية "دراكولا" والعناصر التي استوحى منها الكاتب شخصيات وأحداث روايته وأماكن وقوع تلك الأحداث.
دراكولا بين الحقيقة والخيال
"دراكولا" ياله من اسم، ويالها من صور مخيفة يستحضرها الذهن عند مجرد ذكر هذا الاسم المرعب. لقد مر وقت طويل منذ نشر "برام ستوكر" (1847-1912) قصته عن نبيل مخيف يدعى "الكونت دراكولا" كان يجول في ضوء القمر باحثاً عن ضحية تعسة يُغرس أنيابه في عنقها ليمتص دمائها. وما زالت تلك القصة المخيفة المرعبة تأخذ باللب وتسيطر على الخيال بنفس التأثير الذي كان لها عندما ظهرت أول مرة، وقد أسهمت الأفلام والأعمال الإذاعية وعروض التليفزيون والمسرح المأخوذة عن هذه القصة والكتابات التي كان محورها مصاص الدماء في إذاعة شهرتها، وشهرة "دراكولا" كعلم من أعلام الرعب في العالم كله.
وقد تعدد ظهور "دراكولا" في الأفلام السينمائية، ولكن لا يزال المرء يذكر على وجه الخصوص تصوير الممثل "بلا لوجوزي" “Bela Lugosi" الرائع لشخصية "الكونت دراكولا" مصاص الدماء في فيلم انتج في عام 1931.
لقد تضافر تمثيل "لوجوزي" الرائع وزميله" "دانك دنجيونز" “Dank Dungeons" بمصاحبة الظلال المقبضة وصرير الأبواب وتأرجح المصابيح والخفافيش الطائرة المهومة، كل هذا إلى جانب الذئاب التي تعوي عن بعد في جعل المشاهدين على حافة كراسيهم، وقد سرى الرعب في دمائهم، والفزع يعربد في خيالهم، وكذلك يذكر المرء "جوهاثان هاركر" “Johnathan Harker" المنكود وحيداً حائراً في تلك القلعة المروعة التي تجري فيها الأحداث المرعبة، وهي مكان يصلح فقط للموتى فهم فيها "يشعرون" أنهم حقاً في بيتهم ، وكان "هاركر" المسكين حياً يعاني أهوالاً غير مرئية ومرئية، ويقاسي رعباً يجسده له الخيال ويضخمه، وأولئك اللذين "أسعدهم الحظ" بمشاهدة الفيلم يذكرون "لوجوزي" وهو لابس قبعة سوداء، وينزل على سلم القصر الكبير، وقده الطويل وغرابة ملامحه التي زاد فيها شحوب مميز، وتردده لحظة ثم تحديقه بتمعن في القادم الجديد (هاركر) ثم إلقائه لما يعد بالتأكيد اشأم تقديم شخص لنفسه في كل التاريخ السينمائي: "مساء الخير. . أنا الكونت دراكولا"، ومن تلك اللحظة حتى موت "دراكولا" بسيخ دفع في قلبه الشرير كان الفيلم عبارة عن فزع متواصل ورعب متصل جعل القشعريرة تسرى في أبدان المشاهدين والرجفة تتلاعب بهم.

ولعلنا نتساءل : ما هي الخلفية الأدبية لقصة "برام ستوكر" "دراكولا"؟
ولكي نحصل على الإجابة فلنعد في الزمن إلى أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حيث فتن الشعب البريطاني المزهو بإمبراطوريته التي لا تغيب عنها الشمس بالروايات التي تحكي عن أماكن بعيدة لها أسماء غريبة مثل "روريتانيا" “Ruritania” "وشانجري لا" “Shangri la” ولم تكن مثل هذه الأماكن بالضرورة حقيقية أولها وجود على خريطة العالم. لقد كان هذا النوع من الروايات ينتسب إلى "أدب الهروب من الواقع إلى الخيال" “Escapist Literature” وهو أدب يقوم على نزعة الغرض منها الابتعاد عن كل ما هو مألوف، والالتجاء إلى ما هو غريب أو أبهج أو أنقي من واقع الحياة. وذلك بقصد الترفيه والتسلية، وكان من نتاج تلك النزعة الأدبية مؤلفات قصد بها أن تنسى القارئ هموم حياته وأن تدخله في عالم خيالي لا وجود له في الواقع. ولم يكن هذا نسبياً بالشيء الضار أو المؤذي.
ويمكن القول إنه في عام (1897م) اتخذت تلك النزعة الهروبية "طابعاً مخيفاً" مرعباً عند إصدار قصة "دراكولا" "لبرام ستوكر" “Bram Stoker" ، والتي تعد بحق أشهر مثال كلاسيكي لقصة الرعب في الروايات القوطية (Gothic) والتي ازدهرت بإنجلترا من عام 1762م، وتميزت بالإثارة المبنية على بث الخوف أو التشويق في القارئ لما فيها من أشباح وحوادث خارقة للعادة، ووصف قصور خربة، وريف عامر بقطاع الطرق، وعواصف مدمرة وسحر، وما إلى ذلك من المثيرات. لقد فاقت قصة "دراكولا" الكل حتى قصة "فرانكنشتاين" “Frankenstein” التي أصدرتها "ماري شلي" “Mary Shelley” (1797-1851م) في عام 1817م. كانت قصة "دراكولا" نجاحاً سريعاً ومذهلاً، وأصبح الاسم متداولاً على كل لسان في العالم لا فرق في ذلك بين الصغير والكبير والقارئ والأمي.

"دراكولا" الحقيقي:
ظن الكثيرون أن "دراكولا" شخصية انبثقت من خيال "ستوكر" الخصيب، وتفتق عنها ذهنه الخلاق، وأن البيئة الترانسفالينية( ) ما هي إلا توأم أدبي للبيئة الروريتانية عند الروائي الإنجليزي (انتوني هوب) (Anthony Hope) (1863-1933م) أي أنها مختلقة ولا وجود لها على الخريطة، ولقد كان هؤلاء مخطئين في كلا الظنين، ذلك لأن "ترانسلفانيا" “Transylvania” النائية المنعزلة والتي تجرى فيها أحداث قصة "دراكولا" حقيقة واقعة تماماً، فهي إقليم موحش يتكون من 24.000 من الأميال المربعة، وهي الآن جزء من رومانيا رغم أن في الماضي كانت المجر تشاركها فيها، وجبال الألب الترانسفالينية بوهادها وغاباتها الكثيفة وقممها المغطاة بالثلوج موطن جماعات من الرعاة البدائيين اللذين يتكلمون بلهجة العارف عن أناس مسخوا ذئاباً وعن مصاصي الدماء وتتردد بين هؤلاء الرعاة حكايات عن "فلاد دراكولا" “Vlad Dracula" ولكن من هو "فلاد دراكولا" بطل هذه الحكايات؟
لقد كان "فلاد دراكولا" (1448-1476م) حاكماً لترانسلفانيا، وطبقاً للتواريخ المعاصرة له فهو شخصية شيطانية شريرة إلى الحد الذي تتضاءل معه شخصية "دراكولا" في قصة "ستوكر" ففي أحد التقارير يذكر أن الإقليم الذي حكمه الأمير "دراكولا" كان عدد سكانه يقدر بـ 500.000نسمة عند تولى الأمير، وعند نهاية حكمه قدر عدد الرعايا اللذين قتلوا بـ100.000فرد أي فرد من كل خمسة، وكلهم ماتوا بأوامر من الأمير وبصفة رئيسية بوسيلة بشعة وهي (الخوزقة) فقد كان الضحايا يُجلسون على (خازوق) مرتفع يدخل في جسمهم ويتركون ليفترسهم الموت ببطء وبغاية الإيلام. وقد أكسب هذا الشكل من الإعدام الأمير اسمه الذي عرف به فيما بعد وهو فلاد "الُمخوزق" أي فلاد الذي يجلس ضحاياه على الخوازيق ولربما كان "دراكولا" القرن الخامس عشر شخصية تعاني من (البارانويا) أي جنون الإرتياب وهو نزعة عند الأفراد تجعلهم شديدي الشك والإرتياب في الآخرين ، فقد كان "دراكولا" يري مؤامرة تحاك ضده وراء كل شجرة أو في كل حديث يجري بين اثنين، وكانت "خوزقة" التعساء اللذين يدخلون في دائرة شكه إجراء روتيني يشمل نسائهم وأطفالهم ولم تكن لفلاد دراكولا فائدة تذكر أو يد بيضاء على الفقراء والعجزة، ففي إحدى المناسبات وقعت في يده مجموعة من الفقراء والعجزة فساقهم إلى قلعة وأغلق الأبواب وأضرم النار في المكان، وكانت تلك هي نهاية المشكلة بالنسبة لهؤلاء المساكين.
وبالإضافة إلى تلك الاهتمامات "المحلية" فقد كان على الأمير "دراكولا" أن يناضل الأتراك المنتهكين للحدود والمتعدين على الأملاك ، ففي تلك الأيام كان يجثم شبح الأتراك على كل أوربا الوسطى ، ومن قاعدته الجبلية كان "دراكولا" يندفع خارجاً لمحاربة الأتراك، وأثبت جدارة في ذلك وحقق لنفسه مكانة بين المحاربين والعسكريين ولم تكن خاتمة حياته بمستغربة فقد أسره الأتراك وجزوا رأسه وأرسل إلى "القسطنطينية" ليعرض على الملأ.
وبعد استعراض هذا التاريخ الدامي البشع فإن أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو هل كان الأمير "دراكولا" مصاصاً للدماء "كدراكولا" في قصة "ستوكر"؟
والإجابة كلا على الإطلاق ، ولكن من الجلي أن الكاتب "ستوكر" كان يعرف أن شعيرة مص الدماء لها تاريخ طويل في "ترانسلفانيا" وأنها تمثل جزءاً حقيقياً من المعتقدات الشعبية في الإقليم ، وقد ساعد على نمو ورسوخ تلك المعتقدات أن هؤلاء الناس البدائيين القريبين من الطبيعة ينظرون إلى الدم نظرة خاصة، ويؤمنون أن له دوراً ذا أهمية أولي في الحياة، فالدم عندهم هو الحياة من يفقده يفقد الحياة، وكم هو منطقي أن يخطوا خطوة أبعد فيتصورون وجود كائنات رهيبة تجوس ليلاً بحثاً عن السائل الثمين (الدم) ويحصلون عليه خلال استغراق الشخص في النوم بغرز أنيابهم في عروق عنق النائم. وقد نمت تلك المعتقدات وضربت جذورها في العقلية الشعبية، وكانت من المسلمات، وكان من معتقداتهم أيضاً أن وجود صليب أو ثوم معلق حول رقبة النائم يبعد مصاص الدماء، وأن مصاص الدماء لا يمكن قتله إلا بدفع حربة أو سيخ في قلبه أو إذا قطع رأسه تماماً ويعتقد المصريون في وجود كائن مرعب هو "غول القرافة" الذي يتغذى على لحوم ضحاياه من البشر ، وهناك تعبير مصري شعبي هو "زي غول القرافة"، ويستخدم هذا التعبير لوصف شخص أكول نهم، ويكاد غول القرافة يتشابه تماماً مع مصاص الدماء.
تلك كانت بعض المعتقدات المصدقة على نطاق واسع في "ترانسلفانيا" وهي تدفعنا للتساؤل عما إذا كان الناس قد استلهموا تلك المعتقدات من الحياة الحقيقية لمصاص للدماء عاش مرة في الإقليم؟ وهنا يقفز اسم "الكونتيسة اليزابث باثوري" “Elizabeth Bathory”، أو كونتيسة الدماء كما أصبحت تعرف فيما بعد، أن قصتها تشبه قصص الرعب الخيالية ولكن حقيقية تماماً، وذلك طبقاً لسجلات البلاط الملكي في عصرها، ولدت "اليزابيث باثوري" عام "1560م" وكانت تنتسب إلى عائلة "باثوري" الغنية واسعة النفوذ ، وفي سن الخامسة عشرة عندما اكتمل نضجها وأينع جمالها الخلاب تم تزويجها من "الكونت فرنسيز ناداسدي" “Ferencz Nadasdy” الذي كان يكبرها بأحد عشر عاماً وكان العريس قد أكتسب مقدماً شهرة عريضة كرجل عسكري ، وفي الحقيقة كان معروفاً باسم "بطل المجر الأسود" وربما ترجع هذه التسمية إلى لون بشرته السمراء، وتعبيراً عن سعادته بارتباطه بآل "باثوري" المعروفين سمح الكونت لعروسته الصغيرة بأن تستمر في حمل اسم عائلتها، وقد ذهب هو نفسه خطوة أبعد فأضاف اسم "باثوري" إلى اسمه هو.
ولأن الكونت "ناداسدي" كان غالباً متغيباً يتابع أعماله العسكرية كانت الكونتيسة حديثة الزواج تجد نفسها وحيدة في القلعة الكبيرة الكئيبة وحولها زمرة من الخدم غريبي الأطوار، وقد أنشأت "اليزابيث" التي لم يقر لها قرار، وقد أنهكها السأم علاقة غرامية مع زائر جذاب ، ولكن سرعان ما أخفقت هذه العلاقة في إشباع شغفها وتطلعها إلى الإثارة.
وبمرور الوقت قدم أحد الخدم الذكور وكان يدعى "ثوركو" “Thorko” من الذين يؤمنون بالخرافات الكونتيسة التي يسهل التأثير عليها إلى "عالم القوي الخفية"، ولكن في آخر الأمر انقلبت المتعة البريئة التي أرادتها الكونتيسة لكسر الملل إلى شكل مشؤوم من الإثارة ألا وهو تعذيب الخدم من البنات الصغيرات ، ويمكن القول أن الدافع النفسي وراء هذا الإنقلاب هو خوف الكونتيسة باثوري المرضي من أن تطعن في السن وتفقد جمالها، وكانت البنات الصغيرات يرمزن إلى التهديد الذي كانت تحس وطأته بشدة.
وفي عام (1600م) توفي الكونت ناداسدي ، وكانت أرملته الشابة "باثوري" مازالت جميلة، ولكن العمر يتقدم بسرعة مما دفعها إلى مواصلة البحث عن ضالتها المنشودة وهي الشباب والجمال الدائم، وقد انتهي بها هذا البحث إلى خاتمة رهيبة جعلتها واحدة من أكثر الشخصيات إثارة للرعب في التاريخ، وقد بدأت قصة الكونتيسة مع الدماء بصفعة ، فقد صفعت إحدى خادماتها الصغيرات صفعة قوية ، كانت من القوة إلى الحد الذي فجر الدماء من وجه الخادمة المسكينة، ولقد أوحى منظر الدماء الساخنة ولونها الأحمر القاني إلى الكونتيسة بالفكرة فجأة.. لما لا يكون الدم هو العنصر المفقود في التركيبة السحرية للشباب الدائم والتي كان يؤرقها البحث عنها؟
وبناءاً على أوامر الكونتيسة أمسك خادمان من الذكور بالفتاة المسكينة واحنياها فوق وعاء كبير وتم اختراق جسدها في أماكن حساسة قابلة للجرح وتم استصفاء دمها في الوعاء، وطردت الكونتيسة الخدم وتقدمت إلى الوعاء لتستحم في دم الفتاة القتيل الساخن مغطية جسدها كله بالسائل الأحمر القاني، ومن هنا ولد تعبير "حَمَام الدم" “Bloodbath” من تلك اللحظة، وبهذا أقرت الكونتيسة نظاماً مخيفاً ، فكانت تصدر الأمر "أحضروا لي فتاة صغيرة" ولمدة حوالي العشر سنوات تم قتل العشرات من الخادمات الصغيرات اللواتي في سن الزواج من أجل استصفاء دمائهن ، وكان يتم إغراؤهن على الحضور بوعود العمل في قصر كبير محترم.
ولسوء حظ الكونتيسة عرفت واحدة من الفتيات المعدات "لحلب" دمائهن بالمصادفة البحتة ما كان يجري في القصر ، وقد نجحت تلك الفتاة في الهرب ، ولم تضع الفرصة فقد هرعت إلى السلطات وأخبرت عن كل ما رأته في القصر، وعندما وصل الخبر إلى علم الملك "مثياس" “Mathias” أمر بإجراء تحقيق على وجه السرعة ، ولسخرية الأقدار فقد قام قريب للكونتيسة "باثوري" بقيادة الجماعة التي قامت بالهجوم المفاجئ على القصر معضداً بثلة من الجنود ، وعندما دخلوا القصر ذهل الجميع حتى الجنود الأشداء من هول ما رأوا، فقد رقدت فتاة ميتة في القاعة الرئيسية بينما كان يُستصفي دم أخرى، وفي زنزانة أرضية ، اكتشفوا "اسطبل" فتيات صغيرات على قيد الحياة ، ولكن كان من الواضح أنه قد تم "حلب" دمائهن على فترات ، وخارج القصر وجدت حوالي خمسون جثة مدفونة لفتيات من القرويات.
وأمر الملك بمحاكمة عاجلة، ورفضت الكونتيسة "باثوري" بترفع أن تظهر ، ولكن تحت وطأة العذاب أقر شركاؤها في الجريمة بكل ما كان يجري في القصر، وعند انتهاء المحاكمة ضرب عنق كل المتورطين في هذه الجريمة ما عدا اثنتين من النساء أحرقتا وهما على الخازوق وهو عقاب الساحرات. أما الكونتيسة الدموية فعلي الرغم من كل الصرخات بموتها فقد تدخل أصحاب نفوذ قوي لإنقاذها من هذا المصير، وتم الاكتفاء بوضعها في مخدعها، وسد عليها بالحجارة تاركين كوة صغيرة لإدخال الطعام والماء لها، وكان هذا هو الاتصال الوحيد بالعالم الخارجي الذي سمح لها به، ولقد ظلت حبيسة سجنها هذا لمدة أربعة أعوام متروكة في عزلة تامة من الجميع حتى أهلها، وأخيراً ماتت غير مأسوف عليها مشيعة باللعنات.
****