السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يسرني موافاتكم بهذا العمل والسلام عليكم.


ترجمات تربوية


التَّربِيةُ بَينَ المَعرفيّ والقِيَميّ

ترجمة: محمد فاضل رضوان



في سياق انهماكنا بموضوعات التربية، وأسئلة الثقافة والمجتمع، وفي أثناء محاولتنا الاطلاع على تجارب الآخرين ومساءلتهم الدائمة للمعرفة ومدارسها، نقدم هذه المواد الثلاث لخبراء وأساتذة في الجامعات الكندية، جمعها وترجمها الزميل محمد فاضل بحكم تواجده في كندا لغاية استكمال الدراسة، ما يمكّنه من الاطلاع على ما يجري فيها من بحوث ودراسات وتجارب تطبيقية، نرى معه أهمية ترجمتها للغتنا وتقديمها للتربويين الفلسطينيين والعرب، لنوفر أساسات معرفية نعيد على هديها مساءلة معرفتنا والتأمل في ممارساتنا التربوية. وبحكم انشغالنا بالمعرفة كمعرفة أولاً، إلا أننا نقدمها هنا في سياق أن نعرف أولاً، ولكن نعرف لنسأل ونختبر ونبحث، فما نقدمه في هذا السياق هو مساحة إضافية لتعميق الحوار وتنمية فضاء الممارسة، ولذلك كانت هذه الترجمات متداخلة ومتنامية تبدأ من النظرية البنائية كخلفية معرفية، تبحث في التعلم كنسق بنائي مشروط بمقولات المعايشة والاختبار والحوار بين ما نعرف وما نختبر، ما يؤسس لحوار آخر حول إشكاليات التعليم كبناء للمعنى ومفاوضة دائمة له، لجعل التعلم سيرورة من المحاججة والنماء، ومن هذا الربط بين بناء المعنى ونمو الشخص جاء البحث الأخير عن مكانة القيم ودورها الوظيفي في الفعل التربوي.
النظرية البنائية بمصطلحات بسيطة
دمينيكو ماسكيوترا1
إن الرؤية البنائية كوضعية إبستمولوجية تبين إمكانية أن يطور الشخص ذكاءه ويبني معارفه عن طريق الانخراط في الحركة ونتائجها. في هذه الحالة سيدمج الشخص المعني ويفهم الوضعيات الجديدة من خلال ما كان يعرفه سابقاً، كما يقوم بتعديل معارفه الداخلية من أجل التكيف مع المعارف الجديدة. هذا التكيف مع الوضعيات الجديدة من شأنه توسيع شبكة المعارف الداخلية التي يملكها الشخص وإثراؤها. كما أن النمو المتواصل لشبكة معارفه سيمكنه من معالجة الوضعيات الأكثر تعقيداً. إن البنائية هي نظرية الـ "أن نعرف" (connaître) الفاعلة والإيجابية أكثر مما هي نظرية المعرفة (la connaissance) السالبة والعدمية، فهي نظرية لا في كيفية المعرفة بشكل عام، بل هي في الكيفية الفاعلة والإيجابية لعملية "أن نعرف"، من منطلق أن الحركة هي ما يقف وراء التطور المعرفي. بهذا المعنى، فإن البنائية تهتم بالمعرفة ضمن الحركة (action) وبفعل الـ "أن نعرف" (connaître). وعن سؤال: ما معنى أن نعرف؟ فإن البنائية تجيب كالآتي: أن نعرف معناه أن نتكيف مع الجديد، إنها مسألة ذكاء الوضعيات الجديدة، لأن وظيفة الذكاء هي تحقيق التكيف مع هذه الوضعيات الجديدة، فشخص ما يتكيف حين يعيش التجربة الفاعلة والإيجابية لبيئته.
أهمية التجربة الفاعلة
هناك دراسة شهيرة لهايلد وهين أنجزت العام 1958 توضح بشكل جيد الفرق بين التجربة الفاعلة للبيئة والتصور العدمي لهذه الأخيرة. لقد قام الباحثان بوضع مجموعة من القطط الحديثة الولادة في الظلام لأسابيع عدة، بعد ذلك تم إخضاعها لتجربة بصرية في ظروف مراقبة. تم تقسيم القطط الصغيرة إلى مجموعتين، سمح للأولى بالتحرك بحرية، فقامت بإنجاز التجربة البصرية في البيئة بفعالية كبيرة، بينما تم وضع المجموعة الثانية في عربة ونقلها في الفضاء نفسه، بحيث لم تستطع سوى المشاهدة السلبية لهذا الفضاء. بعد التجربة تمت إعادة المجموعتين إلى الفضاء نفسه، وأجبرتا على التحرك، تصرفت قطط المجموعة الثانية كما لو كانت عمياء، فلم تكن قادرة على التحرك في الفضاء، إذ كانت تصطدم بمختلف الحواجز والعراقيل وتسقط، بعكس المجموعة الأولى التي عبرت الفضاء بسهولة. حسب فاريلا (1993): "هذه التجربة تعتمد الأطروحة التي تقول إن الإدراك البصري لا يتم بفضل التقاط المعلومة من الوسط الخارجي بقدر ما يتم بفضل القيادة البصرية الذاتية للحركة"، فلأن قطط المجموعة الأولى تحركت في الفضاء بالاعتماد على إدراكها البصري، فقد استطاعت بناء هذا الفضاء وتعلمت كيف تتنقل فيه، أما قطط المجموعة الثانية العدمية فإنها ظلت حبيسة نظرة جامدة لم تساعدها على التنقل في الفضاء. في هذه التجربة، يمر كل شيء كما لو كنا نطلب من القطط العدمية أن تعرف الوسط الخارجي وأن تلاحظ بصرياً بيئتها وأن تتمثلها، ثم بعد ذلك نطلب منها أن تطبق ما تعلمته في الواقع. الشيء نفسه كان يطبق على الإنسان حين كان يتم تعليمه السباحة أولاً خارج الماء، إذ يتم ربط المتعلم فوق مستوى الماء برباط وعدم السماح له بالنزول إلى الماء إلا بعد أن يُتم بشكل سليم الحركة التقنية المصاحبة للسباحة. في هذه الحالة، يكون فيها هذا المتعلم في حالة مشابهة للقطط المنقولة في العربة. في بعض التطبيقات البيداغوجية يكون المتعلم بشكل ما عدمياً، ومن نماذج هذه البيداغوجيا العدمية أنه من أجل تدريس التبادلية (la commutativité) في الرياضيات، فإننا نباشر القيام بتمارين روتينية من هذا النوع (3+2=5 إذن 2+3=؟) و (5+4=9 إذن 4+5=؟) ... وهكذا دواليك. يتم تكرار نماذج من هذه التمارين لفترة من الوقت، بعدها يخبر المدرس المتعلم أن الترتيب الذي تجري في إطاره عملية الجمع لا يلعب أي دور، وأن هذا الأمر يسمى تبادلية الجمع، كما أن الراشدين قد يتعلمون تبادلية الجمع من خلال التعليم المبرمج (انظر الجدول التالي):
الرقم المسألة الإجابة
1 2+4= 6 إذن 4+2 = ؟ 6
2 5+4= 9 إذن 9- 5 = ؟ 4
3 أ+ب = ج إذن ب+أ =؟ ج
4 س= ي+ز إذن س= ز+؟ ي
5 الترتيب الذي يتم فيه الجمع لا يلعب أي دور. هذا قانون تبادلية الجمع. هذا القانون يقول إن ب+ أ = أ+ ؟ ب
6 معطى أن س+ي=ي+س يسمى قانون تبادلية ........ الجمع
7 معطى أن س+ي=ي+س يسمى قانون ....... الجمع تبادلية
8 مجموع ثلاثة عناصر أو أكثر هو نفسه مهما كانت الطريقة التي تم جمعها بها. 3+4+6=(3+4)+؟ 6

تعلم التبادلية بواسطة التعلم المبرمج الخطي
في هذا النوع من التعلم، لا يرى المتعلم الإجابة التي تقدم له في السطر الموالي (تكون النتيجة مخبأة بشكل ما على سبيل المثال بواسطة قطعة من الورق...). بما أن النتيجة مضمنة سلفاً في المعلومة التي نقدمها له قبل طرح السؤال، فإن الأمر يتعلق إذن بأجوبة يتم حفظها دون أن تكون ناتجة عن تجربة فاعلة. في هذا المثال الأخير، يكون المتعلم بشكل ما عدمياً، فكل ما هو مطلوب منه هو أن يستدمج نتيجة ما في كل واحد من زوجي التجميعات، كما أن النتيجة تقدم له سلفاً في التجميعة الأولى، بعدها عليه حفظ تعريف التبادلية الذي قدم له هو الآخر بشكل مباشر. إن التعليم بهذا الشكل لا يقدم ضمن تجربة فاعلة في وضعية تفرض على المتعلم أن يستعمل من خلالها معارفه الحسابية. تجربته تشبه إلى حد كبير تجربة القطط العدمية أو السباحين المربوطين أعلى الماء. خلاصة القول، فإن فعل التعلم يتم عن طريق حفظ معلومة معينة، وحين يتحقق التعلم، فإننا ننتظر من المتعلم أن يعيد ما تم حفظه خلال الامتحانات، ثم تطبيقه في مختلف الوضعيات الحياتية فيما بعد! يحكي بياجيه (1977) كيف اكتشف عالم رياضيات مفهوم التبادلية من خلال تجربة فاعلة قام بها حين كان طفلاً: ككل طفل صغير، كان يعد مجموعة من الأحجار، إذ يقوم بوضعها في خط مستقيم، ثم يعدها انطلاقاً من جهة اليسار إلى اليمين، فيجد أن عددها عشرة، بعد ذلك ومن أجل التسلية يقوم بعدها من اليمين إلى اليسار، فيفاجأ بأن النتيجة هي أيضا عشرة. بعد هذا يكوّن دائرة بواسطة الأحجار، ثم يبدأ العد من جديد، فيحصل دائماً على العدد عشرة، ثم يقوم بالعد في إطار الدائرة من الجهة الأخرى، فيكون العدد أيضاً عشرة. هكذا سيصل في جميع الحالات إلى العدد نفسه. انطلاقاً من هذا، استنتج أنه في الجمع الرياضي توجد تبادلية: أي أن المجموع مستقل عن الترتيب. في هذا المثال، تم فهم التبادلية ضمن الحركة والوضعية، فالمتعلم قد تعلم عن طريق تطبيق معارفه الداخلية (العد، ترتيب الأحجار، وضعها في إطار دائرة...). إن فعل التعلم ليس هو نفسه المتعلق بالحفظ، فحين يتم تعلم معرفة ما في إطار الحركة، فإنها تأخذ معناها لدى الشخص المتعلم بشكل طبيعي كما لا تتطلب بالضرورة جهداً من أجل استحضارها. إن بيداغوجيا تستلهم النظرية البنائية تقترح على المتعلمين وضعيات مشابهة لتلك المتعلقة بالطفل الذي يعد الأحجار، أو بالقطط الفاعلة. لدى الطفل المذكور، يؤدي الإدراك البصري إلى أفعال الترتيب والعد. إن البيداغوجيا المذكورة لا تستخلص معلوماتها من الخارج، وتعالج نتائج الحركة الخالصة، فالأحجار نفسها ليست سوى دعامة للفكر البنائي. بهذا المعنى، يقوم المتعلم بأفعال، بعدها يفكر في أفعاله ونتائجها وتداعياتها، ثم فيما بعد يعود إلى الفعل وهكذا دواليك، إلى أن يتمكن من بناء مفهوم التبادلية.
أن نتعلم، معناه أن نطبق معارفنا الداخلية
الـ "أن نعرف" هي سيرورة فاعلة: معناها أن نفعل وأن نطبق معارفنا الداخلية، فمعرفة الجديد تتم دوماً انطلاقا مما نعرفه من خلال الحركة، لأن المعرفة تعاش وتؤخذ في شكل حركة. إننا نقدم معنى للوضعيات ليس من خلال معالجة المعلومات فقط، بل ومن خلال تنشيط معارفنا الداخلية. دون هذا التنشيط، فإن الوضعية التي نوجد فيها وكل ما تحتويه (موضوعات، أشخاص...) ليس لها أي معنى. إن الطفل الذي يدخل التعليم للمرة الأولى لا يأتي فارغاً من كل المعارف، فلديه قدر معرفي كبير، من هذا المنطلق سيكون من الحمق أن نعتقد أنه لا يعرف أي شيء في النحو ما دام قادراً على تركيب ما لا حصر له من الجمل شفوياً بشكل صحيح على المستوى النحوي، من هنا يعلن أحد أهم مبادئ البنائية عن نفسه: إن كل تعلم لا يتحقق إلا انطلاقاً من معارفنا الداخلية. حين أعلم الأطفال كيفية اللعب بالكرة، فأنا أعلّمهم ما أستطيع أنا أن أفعله، رمي الكرة في الهواء وإعادة التقاطها، لكنني سرعان ما أنتبه إلى أنني لا أستطيع أن أحدد لهم مسارات مضبوطة لرمي الكرة، وأنني أنا نفسي لا أربط بشكل دقيق بين رميي الكرة والتقاطي لها. عليّ إذن في هذه الحالة تحويل حركاتي عن طريق تصفيتها وضبطها بشكل جيد، مبدأ ثانٍ أساسي من مبادئ البنائية يعلن عن نفسه هنا: كل تعلم يقوم على تحويل المعارف الداخلية. المبدآن المعلنان هنا يستجيبان للوظيفيتين المعرفيتين المعرفتين من قبل بياجيه: الاستيعاب (assimilation) والملاءمة (accommodation). التماثل مع عملية الهضم سيمكن من الإعلان عن هاتين الوظيفيتين اللتين يستعيرهما بياجيه من حقل البيولوجيا.
المماثلة مع الهضم
إن بث العناصر الغذائية في نظام جسمي ما، يتطلب تحولاً مزدوجاً: الأول يتعلق بالعناصر الغذائية فيما يتعلق الثاني بالنظام الجسمي نفسه.
تحول العناصر الغذائية
يجب أن تتجزأ العناصر الغذائية الصلبة إلى عناصر غذائية دقيقة من أجل أن تندمج في النظام الجسمي، فلن يتم بث جميع هذه العناصر في هذا الجهاز، بل بعض من مكوناتها الدقيقة فقط. هكذا فإن المفهوم البيولوجي للاستيعاب يحيل بشكل دقيق على السيرورة التي تمكن من بث العناصر الغذائية الدقيقة في التركيبة الفيزيولوجية للنظام الجسمي، دون أن يحدث ذلك تعديلاً ذا معنى على هذه التركيبة.
تحول النظام الجسمي
شخص ما لا يتناول أبداً فواكه البحر، والمأكولات المتبلة، والمشروبات الكحولية، قد يتعرض لمشاكل هضمية في المرات الأولى التي قد يتناول فيها هذه العناصر الغذائية، وحتى شرب ماء الحنفية أو تناول أغذية في بلدان غريبة، قد يحدث اختلالات معدية أو معوية. حين يمتص النظام الجسمي أغذية غير اعتيادية، فإنه يصبح على جهازه الهضمي أن يتحول وأن يعيد ضبط ذاته مع هذه العناصر الجديدة كأن يقوم مثلاً بإفراز أنزيمات معدية تقوي مقاومة هذا الجهاز للتوابل والكحول. هكذا فالمفهوم البيولوجي للملاءمة يحيل على تحول الجهاز الهضمي من أجل أن يتكيف مع العناصر الغذائية الجديدة. حين نقوم بتغذية رضيع ما، فإنا نقدم له التغذية المناسبة لنمو جهازه الهضمي وتطوره، بشكل مطرد عبر المرور من التغذية بالسوائل إلى أنواع جديدة من الغذاء الرخو إلى الصلب. هكذا تتم ملاءمة الغذاء مع جهازه الهضمي الذي يتحول باستمرار. هذا التحول الداخلي يحدث ارتباطاً بنمو الجهاز، لكنه يتم أيضاً بفعل قدرة هذا الجهاز على استيعاب العناصر الغذائية وملاءمتها. نسجل هنا محدودية التدخل الخارجي، فنحن نستطيع أن نغذي الرضيع، لكننا لا نستطيع أن نمنحه جهازاً هضمياً، ولا أن نقوم عوضاً عنه بعمليتي الاستيعاب والملاءمة، هذا الأمر نفسه يحدث على المستوى المعرفي. من وجهة نظر البنائية، فإن للجهاز المعرفي لشخص ما، وظيفة مشابهة لوظيفة جهازه الهضمي.
أن نتعلم يعني أن نستوعب ونلائم
لمفهومي الاستيعاب والملاءمة وظائف معرفية أيضاً: فمن خلالهما نفهم كيف تشتغل المعارف من أجل ولوج المجهول انطلاقاً من المعلوم. من وجهة نظر هاتين الوظيفتين، أن نتعلم أمر معناه أن نكون فاعلين بشكل مزدوج، فمن أجل أن يتعلم شخص ما شيئاً جديداً، فإن الأمر يتطلب استيعاب معارف داخلية من جهة، وإحداث تحول على معارفه من جهة أخرى عن طريق الملاءمة.
الاستيعاب
في البدء، لا يستطيع شخص ما استيعاب معارف جديدة إلا ضمن شبكة المعارف التي يحصل عليها سلفاً. أن نستوعب، معناه أن نجعل الأمر مشابهاً، فمفهوم استيعاب المهاجرين معناه أن نجعلهم مشابهين لأفراد المجتمع الذي استقبلهم. الدلالة نفسها نجدها على المستوى المعرفي، استيعاب معارف جديدة، معناه جعلها مشابهة لتلك التي نحصل عليها. إن الأمر يتعلق بشكل أو بآخر بتحويلها إلى معارف قديمة. على سبيل المثال، نأخذ تعلم نطق الكلمات حسب اللغة التي يتكلمها كل شخص: استيعاب نطق كلمة تنتمي إلى لغة أخرى سيفرض على الشخص نطقها وفق لغته الخاصة، فكلمة (هل تحتاج إلى ت) تنطق في الفرنسية بيزا، لكن شخصاً إيطالياً سينطق الكلمة نفسها كما هي مكتوبة، بيتزا. الاستيعاب معناه تحويل المعارف الجديدة إلى معارف قديمة. إن الاستيعاب بهذا المعنى عنصر مشوِّه (بكسر الواو)، بياجيه يعجبه أن يقول إنه عندما تأكل المعزة الملفوف، فليست المعزة هي من يتحول إلى ملفوف، بل إن الملفوف هو الذي يتحول إلى معزة، أن نستوعب إذن معناه أن نحول ما هو جديد ونقوم بتبيئته وفق مفاهيمنا الخاصة ... من هنا تأتي أهمية أن نطلب من المتعلمين عدم التكرار الحرفي للمادة التي نقدمها لهم ونحاول التعبير عنها بمفرداتهم الخاصة، من أجل أن نتعلم ينبغي أولاً تحويل ما هو جديد والتعبير عنه بمفرداتنا الخاصة. غالباً ما نقول إن التعلم معناه استيعاب المادة؛ أي أننا نعتقد أن المادة كما هي، يتم ترسيخها في الذهن دون أي تحويل. هذا الفهم للاستيعاب لا يتوافق مع الفهم الذي تقدمه البنائية. إن الاستيعاب في المعنى البنائي يفرض دائماً نوعاً من التحويل (تحويل الملفوف إلى معزة كما في المثال). وفق منطق الهضم ينبغي تحويل العناصر الغذائية الصلبة إلى عناصر غذائية دقيقة، من أجل أن يتم استيعابها. هذا المثال يسري على المعارف أيضاً، إذ ينبغي تحويل المعارف المستقبَلة (بفتح الباء) من الخارج إلى عناصر معرفية دقيقة يتم استيعابها من قبل الجهاز المعرفي للشخص. هناك نقطة مهمة لا يمكن تجاوزها، إذا كان بإمكان متعلم أن يستوعب المعرفة التي نقدمها له حرفياً دون أي تحويل، فهذا الأمر معناه أنه لن يتعلم إلا الأشياء التي يعلمها سلفاً، بمعنى آخر أنه لن يتعلم أي شيء جديد مما ندرسه له. إننا حين نستوعب حرفياً، فنحن لا نتعلم شيئاً جديداً لأننا لا نحول أي شيء. بعض نظريات التعلم لا تأخذ الاستيعاب بعين الاعتبار. فالنظرية السلوكية تتحدث عن تعديل للسلوك ضمن البيئة الخارجية: أي أن كل شيء يمر كما لو كان الأمر لا يتعلق إلا بملاءمات (يتم وصفها بتعديل السلوك) من أجل التعلم. بالمقابل، وبما أن النشاط الاستيعابي يأتي بمبادرة داخلية من الشخص، والنشاط الملاءماتي يفرض من خارج الشخص، فإن المقاربة السلوكية لا تبدو منسجمة إلا حين تقترح أن يتعلم الشخص بشكل سلبي. إن السلوكية تهمش دور الاستيعاب ضمن سيرورة التعلم وتتعلق بالملاءمة المختزلة في تعديل سلبي عدمي للسلوك. من وجهة نظر البنائية، فإن الاستيعاب الخالص للجديد يشكل بمعنى ما نوعاً من التشويه لهذا الجديد. إن فعل الاستيعاب لا يقود إلى الجديد إلا إذا، وفقط إلا إذا، ترافق بملاءمة أي تحويل لمعارف قديمة.
الملاءمة
حين يستوعب شخص شيئاً ما، فإن هذا الشيء يفرض عليه معارفه: في مثالنا السابق، فإن الشخص يقرأ كلمة بيزا عوض بيتزا. في هذه الحالة، ليس هناك تعلم جديد، بل على العكس، حين يحول هذا الشخص طريقة نطقه بالمرور من كلمة بيزا إلى كلمة بيتزا، فإنه يكون بصدد ملاءمة طريقة نطقه. ببساطة، على مستوى النطق، فإن تعلم لغة جديدة يتطلب مجموعة كبيرة من الملاءمات، ومن أجل أن نتواصل داخل لغة ما فإنه يبدو من الضروري أن نقوم بتعديل لكنتنا وطريقة نطقنا، لهذا يجد الفرنسيون صعوبة كبيرة في فهم كلام الكيبيكيين الذين يتكلمون الفرنسية أيضاً. لكن تغيير اللكنة ليس بالبساطة التي يظهر بها، فهو يتطلب ملاءمات متنوعة. فأن نلائم معناه أن نحول معارفنا القديمة إلى معارف جديدة. الملاءمة تعني أن نحول معارفنا القديمة إلى اختلافات، على سبيل المثال نستطيع أن ننطق لفظ (table) بالفرنسية والإنجليزية، في كل حالة يتم توقيع تعديلات معينة، أثر هذه التعديلات يطال معارف الشخص المعني. خلاصة القول، تتجدد المعارف في كل مرة تفعل فيها. ومن أجل أن نتعلم شيئاً جديداً ينبغي الجمع بين الاستيعاب والملاءمة، فالمعارف القديمة تستوعب المعارف الجديدة ثم تتلاءم الاثنتان فيما بينهما.
كل تعلم فهو ناتج عن سيرورة موازنة بين الملاءمة والاستيعاب
تحويل المعارف يبدو في بعض الأحيان أكثر أهمية، ويصل مداه إلى تعديل حتى نظام هذه المعارف. هكذا فتعلم اللغة الإنجليزية كلغة ثانية يفرض تعديلاً لبنية المعارف، لأن لكل لغة بنية خاصة، فبالنسبة لشخص ناطق بالفرنسية، أن يتكلم بالإنجليزية أمر معناه أن يعيد تنظيم معارفه.
أن نقوم بالملاءمة أمر معناه أن نقوم بتنويع معارفنا الداخلية وإعادة ترتيبها
إن البيئة هي التي تقوي الملاءمة، فحين أتكلم مع شخص باريسي غير متعود على لكنتي الكيبيكية للغة الفرنسية، فإنني أجد نفسي أبذل جهداً كبيراً من أجل ضبط لكنتي إذا كان يعنيني أن يفهم ما أقوله. معيار نجاح ملاءمتي يتحدد بمدى فهم الشخص الباريسي لما أقول، بمعنى أكثر تجرداً فإن قبولي بأن أ < ب، وأن ب < ج، سيقودني مع الوقت بالتأكيد إلى أن أفهم أن أ < ج. إن أي معرفة لا توجد أبداً معزولة، فهي دائماً مرتبطة بمعارف أخرى، فليس بإمكاني معرفة اللون الأصفر ما لم تكن هناك ألوان أخرى أقارنه معها. إن اللون يمثل بنية معرفية (معرفة عامة) تمكن من إدماج التنوع الكبير للألوان والتفريق بينها (معرفة خاصة). إن الجانب المعرفي لدى شخص ما سيصبح بهذا المعنى منظماً وفق بنيات متشابهة، بنيات متسعة قليلاً أو كثيراً ومدمجة لمعارف بعينها. هذا الشخص لن يستطيع أن يقدم معنى ما لحالة أو لموضوع إلا عن طريق استيعابه لهذه أو ذاك أو لمجموعة من البنيات المعرفية. فالقدرة على الاستيعاب لدى شخص ما، تقوم على مدى تنوع معارفه الداخلية وبنينتها. بالمقابل، فإن المعارف التي يمتلكها قد تم بناؤها عند الملاءمات الداخلية. أن نستوعب إذن أمر معناه أن نطبق معارفنا الداخلية مع الاهتمام بالملاءمات التي في وسعنا القيام بها. إن كل ملاءمة جديدة توسع من هامش إمكانات تطبيق معارف شخص ما، وأهمية هذا الاتساع تزيد أو تقل بحسب ما إذا كانت معارف محددة (spécifiques)، مبنينة (structurales)، أو مفاهيمية (conceptuelles). على سبيل المثال، فتعلم تجميعات جديدة (1+1=2، 1+2=3 ...)، يوسع بشكل نسبي القدرة على استيعاب المعارف. على العكس من ذلك، فإن فهم مفهوم العدد مثلاً يضاعف هذه القدرة عشرات المرات، هكذا فإن فهم بنية الأعداد الموجبة من شأنه أن يمكن من تصور كل عمليات التجميع والضرب الممكنة والقيام بها، لكن ليس كل عمليات الطرح ولا كل عمليات القسمة. حين نوسع هذه البنية لتشمل الأعداد السالبة، فإن هذا الأمر سيمكن من تصور كل عمليات الطرح الممكنة والقيام بها، أما إذا وسعنا البنية لتشمل الأعداد الكسرية، فإننا سنتمكن حينها من القيام بكل عمليات القسمة الممكنة. إن العدد ليس سوى مثال يوضح أن المعرفة المبنينة تمكن من إدماج كل المعارف المحددة وتفعيلها. فحفظ التجميعات من أجل ذاتها عن طريق ترسيخها في الذهن، لن يؤدي بالضرورة إلى بناء معارف مبنينة، هذه الأخيرة تكتسب بشكل أفضل من الطريقة التي يبني من خلالها الطفل الذي يلعب بأحجاره مفهوم التبادلية. لكل هذا، فكلما استدمج مفهوم اللون عند شخص ما ألوان متعددة ومختلفة، زادت قدرته على الاستيعاب، هكذا نفهم أن نطاق اللون عند رسام محترف هو أكثر تنوعاً منه لدى مبتدئ، فالأول يستطيع تخيل تنوع أكبر للون الأصفر أكثر من الثاني.
أن نستوعب ونلائم، معناه أن نتكيف
حين يجد شخص ما نفسه في مواجهة وضعية جديدة، حيث الاستيعاب ليس متبوعاً بملاءمة، فإن هذا الأمر يخلق بعض اللاتوازن. بالمقابل، ما إن يتمكن هذا الشخص من القيام بالملاءمة حتى يعيد التوازن الذي يحقق التكيف مع الوضعية الجديدة. بناء التبادلية من قبل عالم رياضيات يقدم مثالاً لا توازن متبوعاً بإعادة توازن. حين يقوم الطفل في المرة الأولى بعدّ الأحجار الممتدة من اليسار إلى اليمين، فإن التوازن يبدو متحققاً، لأن لا شيء يشوش على طريقة رؤيته. بالمقابل، حين يعدّ الأحجار مرة ثانية من اليمين إلى اليسار، فإنه يتفاجأ بالحصول على النتيجة نفسها الشيء الذي يحدث لا توازناً على طريقته في الرؤية. بالنسبة إليه، فإن العدَّ في اتجاه معين لا ينبغي أن يقود إلى النتيجة نفسها التي نحصل عليها حين نعد انطلاقاً من الاتجاه المعاكس، وذلك لأنه لم يبنِ بعد مفهوم التبادلية. من أجل تحييد هذا اللاتوازن، فإنه يقوم بتجربة فعالة حين ينظم الأحجار في اتجاهات مختلفة، مع التأكد مما إذا ما كانت النتيجة هي نفسها في كل الحالات. بالتفكير في تجربته سيستخلص الطفل أن النظام الذي يعد من خلاله أحجاره لا يلعب أي دور في تحديد نتيجة العد. هكذا سيستعيد التوازن عن طريق الربط بين فكرة الملاءمة ومعطيات التجربة. الأمر الأساسي أن هذا الطفل لا يعرف بعد مفهوم التبادلية، لكنه تمكن مع ذلك من بناء المفهوم، ذلك أن كل شخص يقوم بالتجربة انطلاقاً من فكرة توجد في رأسه لا يستطيع ترجمتها إلى كلمات. إن الفكرة توجد حتماً، لذلك فإن البنائية تسلم إلى أن المعرفة تأتي من الحركة ومن التجربة النشيطة والفاعلة والتفكير حول الحركة في إطار وضعية معينة، وليس بالضرورة من اللغة على الرغم من أهمية هذه الأخيرة في التطور الذهني. إن بإمكان شخص ما بناء مفهوم دون معرفة اللفظ الذي يحدده، فالمفاهيم تخرج من رحم التجربة الفاعلة (الحركة والتفكير حول الحركة...). أن نعرف وأن نفعل: أن نفعل معناه أن نقوم بتطبيق معرفة أو شبكة معارف، فالمعرفة تؤدي دوماً إلى حركات قد تكون خارجية حين يتعلق الأمر مثلاً بالكتابة أو القراءة أو الكلام أو اللعب بالكرة أو السباحة ... أو داخلية عقلية حين يتعلق الأمر مثلا بالتخيل أو التفكير... .
ليست هناك معارف ميتة أو جامدة في البنائية
أن نعرف معناه أن نتموقع على الأقل في ثلاثة مستويات: الأول يتعلق بالحركة (ما أقوم به في الواقع)، والثاني يتعلق بالفكر (ما أعتقد أني أفعله والفهم الذي أحصل عليه)، أما الثالث فيتعلق بالانعكاس (ما أعتقد به حول أفكاري وفهمي). الحركة والفكر والانعكاس ليست في الترتيب نفسه، لكنها معاً تشكل أهم الأنشطة المعرفية.
لقاء مفتوح مع الباحثة التربوية بريت ميري بارث من أجل تعليم ينهض على مفاوضة المعنى وبنائه
هذه الورقة هي محاولة تغطية للقاء مفتوح تم بين الباحثة التربوية المعروفة بريت ميري بارث (Britt- Marie Barth) ومجموعة من الفاعلين التربويين من مختلف المفوضيات المدرسية بمدينة مونتريال الكندية، اعتماداً على النص الأصلي للقاء كما نشرته دورية الحياة البيداغوجية (Vie pédagogique) في عددها رقم 143 الخاص بشهري نيسان وأيار 2007. أهمية هذا اللقاء من وجهة نظري، تكمن في أهمية الأسئلة المطروحة فيه وبعدها عن التنظير الأجوف باعتبار صدورها عن فاعلين تربويين يمارسون فعل التعليم والتعلم الميداني، كما أنها قد تكون مفيدة لإدراك بعض من انشغالات المدرسين في منظومة تعليمية تعد من بين أرقى المنظومات في العالم. في افتتاح اللقاء عبرت الباحثة عن أن الهاجس المحرك لأعمالها وأبحاثها التربوية هو البحث في صيغ التفاعل التي تنتج نقاشات قد تساهم في حل القضايا والإشكالات التي يواجهها المعلمون باستمرار داخل فصولهم. إنها سيرورة مبنية في الآن نفسه على بناء المعرفة وتطوير الشخصية. في هذه السيرورة تتداخل وتتفاعل ثلاثة أبعاد بشكل جدلي: أداتية منهجية يعبر عنها سؤال: كيف نقوم بالأمر؟ إطار تفسيري بيداغوجي يعبر عنه سؤال: لماذا تسير الأمور على النحو التالي؟ اختيار لأسس نظرية بينمنهاجية (interdisciplinaire) من خلال طرح السؤال: وفق ماذا نقوم بالأمر؟ إن الأمر يتعلق بدراسة سيرورة التعليم و التعلم و تعريف مختلف العوامل المؤثرة في سير و عمل هذه السيرورة. ماذا يعني التعلم؟ ما هو دور المدرس؟ وفق مقاربتنا، تقول بارث: من أجل أن يحصل المتعلم على المعارف الضرورية فهو بحاجة لتعلم آليات التفكير التي تمكنه من بناء معنى المعارف وضبطها، وبالتالي الاستفادة منها. هكذا يكون دور المدرس هو تسليح المتعلم من أجل أن يكون مهيئاً لمشاركة تقوده إلى مستوى معين من الفهم، مع منحه الثقة الكافية من أجل خلق الرغبة لديه للقيام بهذا الأمر. كل هذا يتطلب خلق ثقافة بالمدرسة تضمن تحقيق هذا التحدي. وفي عمق السيرورة التي أقترحها هناك مفاوضة المعنى (négociation du sens)، من أجل أن نفاوض معنى ما ونحاججه ينبغي على المتعلم أن يعرف ويميز بين مختلف المصادر التي تمثل إطاراً مناسبا للقيام بهذا الأمر على نحو جيد. إن المعرفة تبنى باطراد من خلال تجربة المحاججة (argumentation) المصاحبة لمفاوضة المعنى وتثبيته.
السؤال الأول: استخدمت طريقتك في المفهمة (conceptualisation)، ولكني لاحظت أنه من الصعب المحافظة على الانتباه، وبخاصة لدى المتعلمين ذوي الصعوبات، وتحقيق التفاعل الجماعي على امتداد فترة طويلة .. كيف أستطيع أن أبعث الحركة في من هو جامد؟ والانتباه في من هو غير منتبه؟ هل يجب المرور دوماً عبر الاشتغال بالمجموعات؟ مساهمة الجميع في التفاعل أمر مهم للغاية، فهو يؤدي إلى تطوير مدارك كل فرد على حدة، كما يمكّن هذا الأمر في الوقت نفسه المعلم من تكوين فكرة عما يفهمه المتعلمون. إن النشاط الذهني للمتعلم يمر عبر الأنشطة الفكرية للآخرين. فأحياناً، نلاحظ أن متعلماً ما قد انزوى بعيداً عن الآخرين وأصبح قليل الانتباه، لأن البنيات التفاعلية المنتهجة لا تمكن الجميع من المساهمة بالقدر نفسه. وحتى لو حاول، فهو في الكثير من الحالات لا يملك الأدوات اللازمة للقيام بذلك. من جهة أخرى، ينبغي عدم الخلط بين اللاحركة واللاانتباه، فمتعلم ما قد يظهر قليل الحركة، لكنه قد يكون مع ذلك حركياً على المستوى المعرفي، إذ ليست الأنشطة الملاحظة هي ما يجعلنا نفهم المشاركة الذهنية للمتعلمين بشكل منصف، فالمشاركة الفكرية والذهنية تتطلب أيضاً ممارسة فعل الاستماع وهو ما قد يقوم به بشكل جيد متعلم يصنف بأنه لاحركي. من الضروري إذن تنويع أشكال التدخل البيداغوجي وممارسة توزيع المهام والمسؤوليات، حتى نستطيع تعديل البنيات التنظيمية، لكننا نستطيع أيضاً ممارسة الوضعيات الأساسية التي نقترحها على المتعلمين. حين تعرف قواعد اللعبة، فمن الأفضل ترك المتعلمين يعملون في مجموعات صغيرة، حيث يستطيع كل واحد التعبير. كما يجب أن نعطي الأمر الوقت الذي يستحقه، وترك المكان المناسب لكل التفسيرات، وتنويع خصائص كل مفهوم ومميزاته، والانفتاح على تعريف أكثر تعقيداً ... حين نكون بصدد الاشتغال، فإنه من الأسهل أن نكون حركيين، والحركية تعني أن نبحث مع الآخرين، أن نفكر أكثر ... إن على المدرس أن يضع في رأسه ما هو أساسي وأن يتفادى فعل كل شيء وإعطاء كل شيء في الآن نفسه. السؤال الثاني: من أجل بناء مفهوم هل هناك من سبيل آخر غير اللغة الشفوية؟ من أجل بناء مفهوم ينبغي دائماً توفر لغة نعبر من خلالها عن المعنى، واحدة من طالباتي مثلاً بصدد القيام ببحث حول الأطفال الصم في إطار رسالتها لنيل الدكتوراه. من أجل ضمان تحقق التجريد لدى هؤلاء الأطفال، ينبغي تزويدهم بلغة تمكنهم من فهم الأفكار والتواصل معها ومن خلالها. قد أعلمنا هوارد غيردنر (Howard Gardner) بضرورة اللغات الرمزية من أجل تمكين أكبر عدد ممكن من الأطفال من الدخول في عالم التجريد (abstraction). أن نجرد معناه أن نختزل واقعاً معقداً في لفظ واحد أو في رمز واحد. حين ينطق الطفل الصغير لفظ "ماما" للمرة الأولى يكون قد دخل في مستوى التجريد. مهما كانت الكلمة، الحركة، الرمز ... فينبغي الحصول على لغة بإمكانها تحقيق فعل التواصل بين الأفراد. بالنسبة للمتعلم، فأن يستطيع الدفاع عن وجهة نظره عن طريق المحاججة، وأن يعبر عما يحس به، هي طريقة فعالة للدخول في محتوى المادة التي يدرسها. أما بالنسبة للمدرس فمن الضروري أن يعرف بشكل دقيق ما يدرسه من أجل النحو بانتباه متعلميه في اتجاه هذا المضمون أو ذاك. إن التعلم هو شيء آخر غير حفظ الأجوبة الجيدة للأسئلة المطروحة، يجب أن نعرف لماذا ... . السؤال الثالث: هل بالإمكان تطبيق طريقتك على كل المتعلمين حتى الذين لديهم صعوبات أو إعاقات ذهنية؟ إنه سؤال البحث عن المعنى، وهو مهم جداً بالنسبة للمتعلمين ذوي الصعوبات، فعن طريق البحث عن الأمثلة والأمثلة المضادة يستطيع المتعلم إيجاد معنى للفظ الذي يستعمله. إذا لم يجد الكلمات المناسبة علينا مساعدته عن طريق ربطها بوضعيات يعيشها في حياته اليومية، إن الـ "في الآن نفسه" مهم جداً في هذه الحالة، فنحن عادة ما نقوم بالفصل بين اللفظ والمعنى، هذه الطريقة من الممكن تطبيقها في أي مكان ومن طرف أي كان. أن نقوم بالمفهمة (conceptualisation) والتصنيف (catégorisation) أمر معناه أن الألفاظ ستحيل على تمثيلات تختلف باختلاف الأفراد والثقافات. أنا لم أبتكر منهجاً في التفكير، لكني حاولت أن أترجم بطريقة عملية وجيدة ما يقوم به الفلاسفة والمفكرون. هل هذا الأمر قابل للتعلم؟ أعتقد أن الأمر يتعلق بطرق عقلية مكتسبة ثقافياً. من أجل أن نكون مسلحين بشكل جيد ينبغي تعلم طرق التفكير هذه، كما ينبغي أن تكون القدرة على ضبط آليات التفكير، ذلك أننا من خلالها نفكر. في المدرسة تكمن المشكلة في كوننا لا نقوم بالمفهمة ... على نحو مناسب. كل واحد يضع معنى خلف كل لفظ، كما أننا نتواصل في الأغلب عن طريق ألفاظ، كما أن سوء الفهم بيننا لا ينكشف بسرعة. هكذا نصنع بسهولة مفاهيم خاطئة قد تصبح متداولة بشكل كبير، وبمرور الزمن يصبح من الصعوبة حتى تصحيحها. البعض يردّ بأن الأطفال ما زالوا صغاراً للقيام بالمفهمة، تنقصهم المفاهيم نفسها، لكن هذه السيرورة هي ما يمنحهم هذه التعابير. إن الكلمات صائبة ما دمنا قادرين على ربطها بما نفعل وكلما بدأنا الاشتغال باكراً حول معاني الألفاظ، فإننا نيسر الدخول إلى اللغة، مع مرور الزمن، فإن الفرد يحتل مكانه ضمن مداركه، خاطئة كانت أم صائبة، فإن هذا يتعلق به وبما يعتقده. كلما انطلقنا من وضعيات تعلم، فإننا نمكن المتعلمين من تثبيت المعنى الذي يعطونه لألفاظهم وتغييره إذا لزم الأمر ذلك، وبشكل جماعي نقرر مدى صدقية الألفاظ وجودتها حسب المهام المنجزة. لهذا، على المدرس توجيه الأسئلة بشكل جيد، وتقديم الأمثلة والأمثلة المضادة ليتأكد من أن كل المتعلمين يميزون الأهم والأساسي. من أجل هذا، فإن الوضعيات والأمثلة المنوعة تمكن كل فرد من توجيه المعنى كل بحسب وتيرته الشخصية, ويتطلب هذا الأمر الكثير من الصبر وتفادي الغرق في دوامة ما ينبغي فعله. شيئاً فشيئاً نقوم بتنويع الاختلاف عن طريق تقديم الأمثلة المضادة من أجل تفكيك المعلومات الخاطئة. إننا نقوم بمعنى ما بتربية الرؤية من أجل أن يستطيع أي فرد ممارسة حكمه الشخصي ضمن وضعيات مختلفة. بهذا المعنى، يصبح الطفل أكثر انتباها إلى أفكاره ومساراتها والأدوات التي يستخدمها من أجل خلق معانيه؛ أي أنه يتعلم الحكم على الأشياء. السؤال الرابع: ما الذي ينبغي أن يقود المدرس في اختياره للمفاهيم التي ينبغي شرحها؟ إن ما يقودني في اختيار المفاهيم التي علي بناؤها هو معرفة ما يحتاجه طلبتي من أجل إتمام مهمة ما أو ممارسة مهارة بعينها. إن النقل المبحوث عنه (transfert recherché) هو ما ينبغي أن يقود عمل المدرس على هذا المستوى. عليّ أن أتعلم الاختزال وعدم فعل كل شيء في الآن نفسه، والانتباه للأشياء الأكثر أهمية. إذ إنه علينا أن نحدد سلفاً ما علينا تقاسمه مع متعلمينا. وليس المضمون وحده ما يهم، بل أيضاً الطريقة التي من خلالها يتشكل هذا المضمون في الذهن من أجل أن يشتغل لاحقاً. ينبغي إذن أن نمنح معنى لهذا المضمون من أجل أن يكون مفيداً في وضعيات أخرى. من المهم أن تأخذ المدرسة كل وقتها من أجل تحديد ما هو أساسي لمتابعة التعلم من سنة لأخرى وتفادي مراكمة المحتويات فوق بعضها البعض؛ أي أن تكون لدينا رؤية بعيدة الأمد وإدراك تام لما نروم تحقيقه. السؤال الخامس: ما هي المكانة التي تضعون فيها التذكير بالمعارف السابقة؟ من يذكر؟ كيف يتم التذكير؟ لصالح من يتم التذكير؟ التذكير بالمعارف السابقة لا يقدم الضمانة الكافية للدخول في معارف جديدة. في رأيي، يجب أن نسارع إلى الزج بالمتعلمين في وضعيات والانتباه إلى ردود أفعالهم، وسيظهر بعض الخلط على مستوى توظيف الكلمات. وفي هذه الحالة، يستطيع المدرس توقع هذا الخلط واستباقه بتوفير مصادر جيدة يقترحها على متعلميه، بهذا فقط يتفادى بناء المعارف الخاطئة. يطلب من الطلبة القيام بتصنيفات مرتبطة بألفاظ، وستكون التنظيمات متعددة بما يسمح بالمحاججة والمفاوضة. كل هذا سيسمح بالاستهداف الجيد للخلط المفاهيمي الموجود لدى المتعلمين وإشعارهم بالأسس التي على أساسها قمنا بتقويم معارفهم. السؤال السادس: في التكوين المستمر، كيف بالإمكان مساعدة المدرسين على إدراك دورهم في نقل التعلمات؟ ما الذي ينبغي فعله مع المتعلمين للتيقن من أن ما درّسناه لهم قد تم استخدامه وأصبح بالفعل أدوات ذهنية بواسطتها يفكرون؟ المشكل نفسه يطرح على مستوى تكوين المدرسين. النقل هو استخدام معارف معينة في سياق آخر غير الذي تم تعلمها فيه. ومن أجل إنجاح النقل ينبغي أولا استخدام المعارف في إطارها الأصلي، ثم في المرحلة الثانية نجعل المتعلم مهما كان عمره يحس بإمكانية نقل هذه المعارف في اتجاه سياقات أخرى عن طريق التذكير بالسياقات الممكنة وتقديم أمثلة. هذه المهمة تدخل دوماً في إطار التخطيط الذي يضعه المدرس أو المكون؛ أي تحديد: كيف ومتى نقوم بنقل للمعارف؟ بالنسبة لتغيير العادات لدى المتعلمين، فإن هذا الأمر يشكل تحدياً حقيقياً، فالعادات مترسخة، ودور المدرس في الغالب شكلي. ينبغي من غير شك البدء بالاشتغال على المدرسين الشباب وجعلهم يعيشون تعلمات معبرة، وشيئاً فشيئاً ستتغير العادات، فحين تكون التجربة حقيقية وفعالة يتغير تمثلنا لما تعلمناه، وهذا يفتح المجال لتأمل ما ينبغي تدريسه وتدبره. السؤال السابع: هل هناك تراتبية في نقل المعارف؟ نعم، يمكن أن نقول ذلك، فمن الأفضل البدء بالمعارف القريبة مما ندرسه، أما المعارف البعيدة فتتطلب الكثير من الجهد والوقت، كما لا يمكن أن يتم نقلها بشكل تلقائي أو اعتباطي. حين يدخل المتعلم وسطاً معرفياً جديداً، يجد نفسه محاطاً بمعارف جديدة تعيق إمكانية استخدام معارفه المكتسبة من سياقاته السابقة ... في هذه الحالة تكون مهمة المدرس هي مساعدته على توظيف هذه المكتسبات والاستفادة منها، وإذا كان الأمر بالغ التعقيد فينبغي خلق وضعيات متعددة ومتنوعة لتمكين المتعلمين من توسيع دائرة إحساسهم بالأشياء المحيطة بهم، وهو أمر يتطلب الكثير من الجهد ومن الصبر أيضاً. من جهة أخرى، على المدرس الاهتمام بترويج التعابير التي تترجم هذه الوضعيات بشكل أفضل، مع إدماج طرق التقويم ضمن هذه الأنشطة، لكنه مطالب أيضاً بالانتقال شيئاً فشيئاً من التدخل لفائدة المتعلم إلى مساعدته على تحقيق استقلاليته. السؤال الثامن: في كثير من الحالات نجد أنفسنا أمام أشخاص مقهورين في أوساطهم الخاصة، كيف بالإمكان زرع الثقة في شخص مقهور ونيل ثقته؟ الشخص المقهور أكثر قدرة من الآخرين على تقدير الثقة بالنفس، حين يشعر متعلم من هذا القبيل بأن المدرس يسعى لأن يضع معارفه بين يديه من أجل مساعدته على النجاح فسيمنحه ثقته، ذلك أننا لا نمنح ثقتنا للآخرين حين لا تكون لدينا الضمانات الكافية بأن الأمر متبادل بين الطرفين. إن المعرفي متداخل إلى حد كبير مع الوجداني، فلا يعمل أحدهما خارج دائرة تأثير الآخر، لهذا تكون مهمة المدرس الأساسية هي العمل على خلق جو ثقة متبادل، أو ما أسميه العقد البينذاتي (le contrat intersubjectivité)، والدخول في مجال تفاهم متبادل حول منتظرات كل طرف وتمثل الطرف الآخر وفهمه لها ... يجب أن يدرك المتعلم أن هناك شخصاً ما يؤمن بقدراته وهو هنا من أجل مساعدته، هكذا فقط تولد لديه الرغبة في منحنا ثقته ... بعض التفاصيل الصغيرة بإمكانها أن تقلب المعادلة رأساً على عقب، بالنسبة للمتعلمين فإن الأمر يتعلق بهويتهم، والصورة التي يملكونها حول ذواتهم، أما فيما يتعلق بما وراء المعرفة، فإن الأمر يهم المكانة التي يحتلها المتعلمون داخل مجتمعهم، والطريقة التي من خلالها يساهمون في تطوره، لكل هذا أندهش كثيراً حين أجد أن مهنة المدرس لا تلقى التقدير الذي تستحقه. السؤال التاسع: كيف بإمكان المدرس لعب دور الوسيط بين المتعلمين داخل الفصل؟ الوساطة (médiation) بين المتعلمين هو أحد الأدوار المعقدة التي من المفترض أن يمارسها المدرس داخل الفصل، فمفهوم الوساطة بالنسبة لي مرادف لمفهوم البيداغوجيا. وإذا كنا عادة ما نربط هذا المفهوم بحل الخلافات التي تنشأ بين المتعلمين ما يحيل على مفهوم آخر هو المصالحة (réconciliation) فإن المدرس يلعب دور الوسيط أيضاً بين هؤلاء المتعلمين من جهة، والمعرفة من جهة أخرى؛ أي أنه يقوم بمصالحة المتعلمين مع المعرفة عبر خلق المناخ المناسب للتعلم. من أجل توضيح هذا الأمر، أقول إننا لا نتعلم عادة إلا ما هو مألوف ومقبول ثقافياً من قبل البيئة التي نعيش فيها، لهذا على المدرس تكييف المعرفة مع بيئة متعلميه. ومن أجل القيام بعملية الوساطة والمصالحة هذه، ينبغي الالتزام بشروط معينة، يأتي في مستهلها أن تكون هذه المعرفة في متناول الجميع، مع استحضار أن أي معرفة مهما كانت فإننا لا نتعلمها من أجل ذاتها، بل من أجل توظيفها في مختلف عملياتنا العقلية كالفهم، والتفكير، والتحليل. لهذا، يرى أينشتاين أن التعلم ليس واجباً لكنه فرصة نادرة من أجل الوعي بالقدرة التحريرية للمعرفة وإغناء حياتنا الخاصة والمجتمع الذي ننتمي إليه. هناك أناس استثنوا من المدرسة أو استثنوا أنفسهم بأنفسهم. لقد فقدوا الرغبة في تعلم معارف جديدة والقيام بأشياء مهمة، ففقدوا مكانهم داخل المدرسة. إن المدرسة ليست بالضرورة المستقبل، إنها الحياة نفسها، الهنا والآن. من أجل هذا، ينبغي أن تمنح المدرسة روادها معنى الحياة ... علينا البحث عن كيفية إقناع التلاميذ الذين لا يبدون اهتماماً لما نقوله بالالتحاق بنا عن طريق زرع الأسئلة وخلق التحديات ... في يوم ما، وبعد أن أنهيت ورشة قمت بها مع تلاميذ صغار السن، قال لي أحدهم: لقد أحببت ما قمنا به لأنه كان مبنياً على سؤال أردنا جميعاً العثور على جواب له، الجميع شارك في البحث عن الجواب وقلنا ما نريد دون شعور بالخوف. الأمر نفسه يحدث مع الراشدين، إنه الخوف من ألا نكون في المستوى المطلوب والمرغوب فيه ... إنها رغبتنا جميعاً في الحصول على مكان ما داخل النسق، وإمكانية أن يقول المرء كلمته دون أن يحاكم من قبل الآخرين.

مكانة القيم ووظيفتها في السياق التربوي
فرانس جوتراس2
عادة ما تشكل القيم أو القواعد إطاراً مرجعياً لما نفعله، إنها بمثابة المبدأ المتحكم في ردود أفعالنا والمحدد لطبيعة الردود التي نقدمها كأجوبة على الأسئلة التي تعترض طريقنا. حين نطرح سؤالاً من قبيل ما الذي يتحكم في رد فعلك وفي صياغتك لقرارك؟ على شخص ما من جهة، وعلى مشتغل بالحقل التربوي من جهة أخرى، فقد يجيب الأول انطلاقاً من قيمه الذاتية، لكن هل على الثاني أن يقدم الجواب نفسه؟ من جهة أخرى، ما الذي يميز القيم (valeurs) عن القواعد (normes)؟ لماذا تقدم المؤسسة التربوية على أنها مجال مخترق من قبل أنساق قيمية متعددة؟ للجواب عن هذه الأسئلة، سنحاول رسم مجموعة من المسارات نعرف من خلالها مفهوم القيم وعلاقتها بالقواعد، وعلاقة التربية بالتنشئة الاجتماعية في المؤسسة التربوية، إضافة إلى تحليل وظيفة المدرسة التي تعتبر منذ القدم فضاء مميزاً للتشبع بالقيم، وكل هذا يمر عبر تحديد مميزات القيم ومكانتها ووظيفتها في السياق التربوي.
مفهوم القيم
بالنسبة للبعض، يحيل مفهوم القيم على المجال الاقتصادي، إذ عادة ما ترتبط القيمة بملكية خاصة أو ببورصة القيم، كما قد تحضر كوحدة للقياس كقيمة البيضاء أو ذات السن في النوتة الموسيقية، أما بالنسبة للبعض الآخر، فقد يتعلق الأمر بالحكم الذي نطلقه على شخص معين حين نقول إن هذا الرجل ذو قيمة كبيرة نظراً لخصائصه ومميزاته. هذه الأمثلة المأخوذة من الأحاديث اليومية المألوفة تعبر عن جزء من مفهوم القيمة الذي يرتبط بحكم أساسي يتعلق بتقدير جودة الشيء وقيمته، ولعل هذا ما جعل فيلسوفاً كأوليفي روبول يكتب العام 1992 أنه ليست لكل القيم القيمة نفسها، الشيء الذي يحيل على مبدأ تراتبية القيم، فقيمة إحداها بالتأكيد تفوق قيمة الأخرى، لكن كيف بالإمكان تعريف القيمة؟ حسب الفلاسفة، فإن التفكير في شيء ما يحيل على قيمته، بينما التفكير في الواجب (devoir) أو الضرورة (obligation) يقودنا إلى التعاطي مع مفهوم القواعد (normes). إن القواعد تحيل على ما ينبغي فعله، بينما القيم تحيل على ما هو مثالي (idéal)، في مجال الأخلاق (éthique)، نعتبر أن القيم والقواعد تنتمي إلى مجال رد الفعل، لأنها تراقب قراراتنا وتوجهها كما أنها توجهنا وتقدم لنا أسباباً كافية حتى نعبر في هذا الاتجاه أو ذاك. قد يتعلق الأمر في بعض الأحيان بالمراقبة الداخلية، أما في أحيان أخرى فهو يحيل على المراقبة الخارجية لسلوكاتنا. لكل هذا، فإن علماء الاجتماع يقولون بارتباط القواعد والقيم بنماذج اجتماعية تقوم على أساس ارتباط بعضها بالبعض الآخر. إن قواعد مجتمع ما مندمجة في تشريعاته وقوانينه التي من السهل العودة إليها، لكونها مكتوبة ومسطرة بشكل واضح، لهذا نقول لا عذر لمن يجهل القانون. أما القيم، فتتموقع في مستوى أكثر عفوية واعتباطية من القواعد، وعلى الرغم من طابعها العفوي، فهي أكثر تجذّراً، لهذا كثيراً ما نتحدث عن صدامات القيم وصراعاتها. هذه القيم لا نعيرها كثير انتباه، لأنها تنبع من داخلنا، لكننا قد نجد أنفسنا وبالصدفة أمام حدث أو سلوك قد يؤدي إلى خلخلة كل شيء. في هذه الحالة يأخذ الصدام طابعاً ثقافياً، نفسياً وأيديولوجيا أكثر منه اجتماعياً.
لماذا إذن نعيش صدمة القيم هذه؟
عالم الاجتماع جوي روتشر (Guy rocher) يجيب عن السؤال بكون القيم تحيل على النظام الرمزي (l’ordre symbolique)؛ أي على مجموعة من العناصر التي تدعو إلى الاحترام وتعبر عن الانتماء بشكل شديد، هذا الجواب يعبر عنه تعريفه لمفهوم القيم كالتالي: القيمة هي وسيلة للعيش أو التصرف يعتبرها شخص ما مثالية، وهي تجعل المساقات التي ترتبط بها محببة ومرغوباً فيها. إن اعتبار القيمة مثالية وموزعة بشكل مثالي بين أفراد مجتمع ما، أمر يوضح بشكل جيد المكونات الاجتماعية الأساسية للعيش المشترك. حسب روشي دائماً: الانتماء إلى قيمة ما لا ينتج بالضرورة عن تفكير عقلاني ومنطقي بقدر ما ينتج عن خليط من الحدوس التلقائية والمباشرة التي يلعب فيه الجانب الوجداني دوراً أساسياً، فالحمولة الوجدانية للقيم تمثل مصدراً مهماً للتحفيز والاستجابة. في هذا السياق، يتحدث كلاودي بكيوت (Claude paquette) عن القيم التفضيلية (les valeurs de préférence) والقيم المرجعية (les valeurs de référence)، ويعني بالأولى تلك التي تقال، فيما الثانية تلك التي تمارس، بالنسبة لبكيوت، فإن رهان المدرس هو تقليص الهوة بين القيم التي تسكن الخطاب، وتلك التي تتمظهر على مستوى الممارسة ... لقد حاول كثير من مجالات العلوم الإنسانية تحديد ما الذي نعنيه بالقيمة، ما يبين بوضوح طابع التعقيد الذي يهيمن على هذا الموضوع ذي الأهمية الخاصة بالنسبة للجنس البشري. وقد أفاد التعاطي مع هذا المفهوم في تحديد مدى فعالية القيم وعزله في توجيه السلوك الإنساني وقيادته على المستويين الفردي والجماعي.
القيم في المؤسسات التربوية وعلاقتها بالتنشئة الاجتماعية
لنبدأ بإزاحة سوء فهم أساسي: المؤسسات التربوية التي نتشبع فيها بالقيم لا ينبغي اختزالها في المدرسة. من خلال التعاريف التي قدمناها لمفهوم القيم، فإن العلاقة تبدو قوية بين القيم والانتماء إلى الثقافة والجماعة. والمكان الأول لتطوير ثقافة الانتماء هذه هو الأسرة وهو أمر معروف ومؤطر في مجتمعاتنا ... كما أن السوسيولوجيا تقدم أجوبة جيدة حول تطوير الانتماء في الإطار التربوي الأسري. حاملو القيم في الفضاء الأسري هم الأبوان والأقارب والعائلة الكبرى، إنهم هم الذين يقدمون التربية الأولى على القيم من خلال مواجهتهم للحياة اليومية، هكذا إذن تتحقق التربية على أساس استدماج مختلف مكونات الحياة اليومية وتعلم اللغة التي تقدم رؤية حول العالم وبنينة السلوكات المنتظرة من قبل الوسط المعيش. هذه السلوكات المكتسبة داخل الوسط الأصلي هي متجذرة، بحيث لا يسمح حتى بالاحتجاج عليها كما يحدث في حالة المراهقة مثلاً. حين يتحدث علماء الاجتماع عن التربية، فإنهم يستخدمون مفهوم التنشئة الاجتماعية (Socialisation)، باعتبارها سيرورة متواصلة تروم إدماج قيم المجتمع وقواعده واستدماجها، هكذا سيرددون أن التربية الأسرية تحدث تنشئة أولية، لهذا فإن الأطفال الصغار يعتقدون أن وسطهم المعيش هو العالم. إلا أن الأسرة في العصر الحديث لا تشكل المجال الوحيد الذي يطبع بتأثيره تنشئة الأطفال الاجتماعية، فهم ومنذ صغر سنهم في علاقة مع تعددية وسطية يفرضها مثلاً تنوع سياقات الحضانة والأشخاص المكلفين بالإشراف على الأطفال في غياب الأبوين. لهذا، تستخدم السوسيولوجيا لفظ التنشئة الاجتماعية الأولية الجماعية (socialisation primaire plurielle) للتعبير عن هذه المرحلة. هذا التعبير يعني أن بعض مكونات التنشئة الأولية المروجة من قبل الأسرة يتم استدماجها، وأخرى لا تتوفر لها الشروط نفسها، أو أن بعض ما يتشبع به الأطفال في هذه السن منحدر من أوساط أخرى غير وسط الأسرة الضيق. في السياق نفسه، لا ينبغي أن نهمل مختلف الخطابات المروجة من قبل وسائل الإعلام التي تخترق حميمية المنزل الأسري، وإن كان علماء الاجتماع يصنفون تأثيرها في إطار التنشئة الاجتماعية الثانوية (socialisation secondaire)، كما هو الأمر بتلك الناتجة عن الدولة، والمدرسة، والصناعة الثقافية، ووسط الشغل، والتجمعات السياسية والدينية والجمعوية. إن التنشئة الاجتماعية الأولية تسجل في عموميتها ضمن سياق وجداني خاص محمل بالعواطف، بينما التنشئة الاجتماعية الثانوية المرتبطة بالمدرسة تنفتح على فضاء اجتماعي أكثر عمومية يتجاوز ما ترغب فيه الجماعة الضيقة. هذا النمط من التنشئة لا يكتمل أبداً، فهو يبدأ من سلسلة التعلمات داخل فضاء المدرسة، ويستمر عبر وسط الشغل. وإذا كانت التنشئة الاجتماعية الأولية تنفتح على قيم بعينها خاصة بتصنيف انتمائي معين، فإن التنشئة الثانوية تنفتح على قيم مركزية يتقاسمها مجموع ساكنة معينة.
قيم المدرسة
نقول عن القيم إنها حاضرة بقوة في المدرسة، لكننا لا نحدد بالضبط أين توجد. بإمكاننا أن نعتقد أن شأنها في ذلك شأن القواعد، توفر معالم من أجل التنظيم المدرسي كما هو. فهناك قيم تؤسس للتربية، كأن نقول مثلاً أن المعرفة مرغوب فيها أكثر من الجهل. لكن، وحتى في هذه الحالة، فإن الأجوبة عن سؤال من نربي؟ تختلف باختلاف الزمن. في الوقت الحاضر، نعتبر أن كل فرد هو بحاجة إلى قدر أدنى من المعرفة والتشبع بالقيم من أجل أن يحيا حياة طبيعة مع نفسه ومع الآخرين، تحت هذا المعطى تتأسس الضرورة المدرسية وتتحدد مهمتها (التثقيف، التنشئة، التأهيل...) في إضفاء معنى مشترك على مختلف تدخلات المؤسسات التعليمية، حيث النتائج المرجوة والمنتظرات معلن عنها سلفاً، ومن أجل تحقيقها، فإن الغايات الكبرى منها مدمجة في برامج تكوين المدرسين، كما أن هؤلاء المدرسين يوظفون هذه الغايات نفسها لمساعدة متعلميهم على التطور وفق هذه الغايات التي تثير نقاشات كثيرة ... إن الأفكار السابقة توضح أن هذه البنيات والمسارات ترسل مجموعة كبيرة من القيم التربوية والاجتماعية. ومع ذلك، فبالإمكان النظر إلى الأمر من زاوية مختلفة؛ أي انطلاقاً من الأشخاص الذين يرتادون المدرسة. بالنسبة للشباب الصغار، فإن مجموعة الأقران لها أهمية كبرى، وعن طريقها يتم اكتساب مجموعة من التعلمات الاجتماعية المرتبطة بمجال قيم الأجيال التي أنتجتها، هكذا يتطور لديهم الإحساس بالانتماء بدرجة كبيرة. من جهة أخرى، فإن للمدرسين دوراً معلناً في العملية التربوية، ومهما كان هذا الدور خاضعاً إلى قوانين التربية العمومية، فإن المدرسين يملكون لا محالة هامشاً موسعاً من القدرة على الحركة والتصرف في اشتغالهم من أجل تحقيق مهامهم. لكنهم ملزمون مع ذلك بالعودة باستمرار إلى غايات التربية وأهدافها بموازاة مع اتخاذ قرارات تهم الوسائل المنتهجة، والتصرف إزاء المواقف غير المنتظرة. بهذا المعنى، فإن قيمهم الشخصية والعملية والاجتماعية دائماً حاضرة. إن المدرسة بعيدة عن أن تكون معفاة من النقد، فنحن نحاسبها على أنها لم تقم بما يكفي أو قامت بأكثر مما يكفي من هذا الأمر أو ذاك. خلاصة القول، إنها لا تعبر دوماً عن المثاليات التي ننتمي إلى مجالها، وهذا ما يوضح إلى أي حد هي رهان اجتماعي مهم لا يتوقف مدى تأثيره عند جانب التطور المعرفي المهاري. إن إسقاطات ما تحقق وما لم يتحقق ارتباطاً بوظيفة المدرسة، تترك بصمات لا تمحى أبداً. إن مكانة القيم ووظيفتها في السياق المدرسي توضحان المعنى الحقيقي للمدرسة، والرهان الاجتماعي الذي تخوضه، إنها المكان الذي نتعلم فيه، وبعكس مجال الشغل الذي تعدّنا من أجله، إنها المكان الذي يسمح لنا فيه بارتكاب الأخطاء، ومعرفة الفشل مع القدرة على الانطلاق من جديد ... إن قيم المدرسة ليست فقط نسخة من قيم المجتمع المركزية، فهي كثيراً ما تقترح قيماً عالية ومثالية، فإذا كانت المدرسة ترسخ قيم التعاون والتكافل، فإن المنافسة شرط أساسي من أجل النجاح الاجتماعي، كما أن القيمة الأساسية لمجتمع ما بعد الحداثة هي الفردانية التي تمنح كل الأولوية للأنا في مقابل الآخر. من هنا، نفهم أهمية إدماج مكون التربية على المواطنة في المنظومة التعليمية من أجل تطوير وجودنا الاجتماعي.

محمد فاضل رضوان

باحث فسيولوجي من المغرب


الهوامش

1 دمينيكو ماسكيوترا (Dominico Masciotra) خبير في التربية وباحث بمرصد الإصلاحات في التربية (ORE) في جامعة كيبيك بمونتريال. 2 فرانس جوتراس (France Jutras)، أستاذة البيداغوجيا، كلية علوم التربية، جامعة شربروك – كندا.