أحداث
نيفاريا

ويليام أ. كوك



ترجمة - سعاد عبد الرؤوف قرمان




نيفاريا
أيضاً للمؤلف ويليام أ. كوك
زمن للمعرفة
مزامير للقرن الواحد والعشرين
ملاحقة الخداع: سياسة بوش الشرق أوسطية
قناع عدم المنطق
آلام كولن باول
ألأمل المحطم؛ العدالة المحرومة: إغتصاب فلسطين










أحداث
نيفاريا

ويليام أ.كوك

هذا الكتاب قصة خيالية. كل الأسماء، والشخصيات، والحوادث،والأماكن هي من نتاج مخيلة المؤلف. وقد استعملت، عن قصد، خيالياً. أي تشابه لحوادث حقيقية، أو أشخاص احياء أو أموات، ما عدا التقديم المجازي فهو من محض الصدفة.
جميع الحقوق محفوظة، بمافيها حق إعادة إنتاج كامل أو جزئي بأي شكل كان، بدون إذن المؤلف أو الناشر.
تسجيل حقوق الطبع الأصلي
259658980
مسجّـلة مع مكتب حقوق براءة التسجيل تحت عنوان:
مدفون حيّـاً: قصة أخلاقية
خدمات تسجيل الحقوق المحفوظة
بتاريخ: 5 أغسطس- آب 2007 بالساعة: 20:38
رقم: 204685934
10\01\2007

ISBN 978-90-79778-01-0


نيفاريا

قصة أخلاقية


إقرارات


أدين بشكري الجزيل لرئيس قسمي الجامعي،بروفيسور دافيد وارنر،لإطلاعه على النسخة.لإهتمامه الذكي بالتفاصيل مزدوجاً ببصيرته السردية مما أضاف الكثير في هذا الكتاب إلى رؤيتي المحدودة. ولكن بالإضافة، عليّ أن أٌقدم شكري لملاحظات قُدمت لي عندما قضيت يومين أصغي لنقد بناء بينما كنت أحفر "قرعة جانوس"مع حفيدتي في جنوب فيرمونت، وأستمع أيضاً للأوز في رحلته الى الجنوب. كذلك طلبت ومنحت فرصة التوجه إلى كريس كوك، محرر"باسيفيك فري برِس"(Pacific Free Press) في كولومبيا البريطانية، إذ راجع النسخة النهائية باهتمام وعناية، فله فائق الشكر. وأخيراً شكري وإحترامي لزوجتي -التي بتفهمها الغـريزي لما يعطي الحياة إلى كل الأشياء في مواسمها- منحت الحياة لهذه القصة.







إهداء

إلى جميع الذين تعذبوا ويتعذبون على أيدي المخادعين والقساة والمخبولين.








المحتويات
(ص. رقم: )
مقدمة .................................................. ..............
استهلال .................................................. ...........
اليوم الأول، التيقظ .................................................
اليوم الثاني، التواضع ..............................................
اليوم الثالث، الندم ..................................................
اليوم الرابع، الإعتراف ............................................
اليوم الخامس، الكفـّـارة ...........................................
اليوم السادس، العفو ...............................................
اليوم السابع، الثواب والعقاب ......................................




مقدمة
كريس كوك

شتاء قاس يستقبل الموسم السنوي المقدس، المغفرة والعقاب، في كتاب ويليام أ. كوك الخيالي "نيفاريا".
بين الصحو والضياع، معلق بين الحياة والعدم، يستلقي قائد البلاد السابق، القوي، في غيبوبة، يتفاعل جسمه بمساعدة أحدث الآلات الطبية.
أضعف من أن يصحو، وأشد لؤماً من أن يموت، يذكّر الشخص الراقد تحت المشمع، ببطل جرين"هاري لايم"الشخص الذي رُفض دفنه، "كأن الطبيعة عملت كل ما في وسعها لرفضه."في هذه الحالة، وضع القائد المتجمد ينكر عليه الحياة. بينما طبيعته البغيضة، وثقل وزن جرائمه، يفوق احتمال جهنم. إنه وحيد الآن. لا يعلم أحد عن لحظات وعيه، أو يهتم لمصيره. مهمل من زملائه السابقين، ومُعتبر كحالة خاسرة من أطبائه المشهورين، فقط ممرضته، شخصية بسيطة منالطبقة الوضيعة المحتقرة،تبقى لترعى "أبو الشعب".
تقع قصة كوك في عالم مألوف للأسف،من الظلم، والوحشية، والشقاء البشري. وكما في العالم الحقيقي، يتحمل معظم العذاب شعب يعيش تحت نعال الإحتلال العسكري، الذي يسيطر على حياته اليومية. وشبيه أيضاً بعالمنا، فيحدد الخط الفاصل بين المحتل وضحيته، الدين والعنصرية، مدعوماً بقوة السلاح والحواجز والأسلاك الشائكة. خلق المحتلون في نيفاريا الخيالية، لسكان البلاد الأصليين، غيتو مسوّرة تعتمد فيها كل نواحي حياتهم على رغبات سجانيهم المتقلبة. ففي البقية المجزاة مما كان يوماً وطنهم، تقدم الأرض مجازاً للوجود غير الطبيعي للسكان على جانبي الحواجز المذكورة والتي تقطع المنطقة.
نيفاريا أيضاً، قصة عوالم شخصية متوازية. القائد المبتلى، محكوم عليه بالرقود في غيبوبة، منسيّ في مشفى يصارع شياطينه، والممرضة "الملاك"، التي تمثل خدمتها للرجل المسؤول عن الشقاء الذي حل بشعبها، أسلوبها في النضال لتحافظ على إنسانيتها. عالق في هذا الشرك، الرجل الذي خطط ونفذ المحو البطيء لأمة، لا يملك سوى حياته وإبتهالاته الدينية حول إنتهاكاته على الحياة ليشغل باله، وبين الخدمة اللطيفة لممرضة ترفض أن تستسلم للكراهية.
تتذبذب الحقيقة والخيال في هذا السرد للأحوال البائسة التي أوجدها إحتلال مجتمع إستيطاني يعذب ويعتمد على المواطنين الذين يقيدهم تحت أقدامه ويسحقهم بدباباته وجرافاته. ماعلينا سوى الإستماع لنشرة الأخبار المسائية لنشهد الحقيقة المؤسفة التي ترويها قصة كوك الخيالية: حرب، وإشاعات حرب، وأسوأ ما في الأمر القسوة اليومية التي تسحق الروح والتي يفرضها إحتلال لا نهاية متوقعة له.
نيفاريا سرد ملائم للخديعة المرة لوعد هذا الكوكب في بداية القرن، وعد خيّب الآمال بحرب واحتلالات؛ كما حدث مع الذين علقوا في شراك القطاعات الحقيقية المصابة حيث تتجلى عادة أسواأ ما في الطبيعة البشرية .إنه يقص بالتفصيل عذاب الذل لإحتلال جيلي، يقتل يومياً دون أن يعاقَب بينما هو يعاقب ويلاحق بقصاص جماعي شعباً كاملاً، ويسعى لمحوه محواً نهائياً لا مفر منه. يقاوم ضحايا المحو المقصود بالبنادق والقنابل والصواريخ والحجارة، ولكن المعركة الحقيقية هي في الحفاظ على "ملائكةالطبيعة الأفضل"في نفسية كل منهم. وإذ ترفض الوقوع في الكراهية اللامنطقية التي تؤدي إلى دولاب لا نهائي من الكراهية، تكرس الممرضة الشابة إخلاصها لطبيعتهاالسامية كخارطة طريق لها للخروج من الدوامة. إنها مثالية في مقاومتها، وهي الأمل الوحيد لمستقبلنا ومستقبل نيفاريا.
مع اقتراب فصل الشتاء ونهاية رئاسة ج.و. بوش المشؤومة، تتبارى حروب جديدة وإقتتالات لإحتلال عناوين الصحف البارزة، فتتبارى مع الفظائع السابقة التي تعودنا عليها . هذه الإعتداءات ا ليومية على الإنسانية واستمرارها سنة بعد أخرى، والإبن بعد الأب لا يمكن نسيانها، كما لا يمكن أن نخففها لبساطة مواقف المعارضة المطلقة.
هذه ليست مأساة شكسبيرية، مع ممثلين إعتياديين على المسرح :الشرير والضحية، مرتبطين بمسرحية عاطفية تحدد شخىصية كل منهما وتحطمهما معاً. كتاب وليم كوك خلق إنعكاساً لحقيقة تلسع الإهتمامت السطحية للسياسيين وقراء الأخبار. إنه أكثر من نداء من القلب للمسحوقين في العراق وأفغانستان وفلسطين، والكثيرين من المعذبين بشكل دائم في أماكن أخرى. إنه نداء ملح للدفاع عن الإنسانية، وصلاة. إنه كما يتمثل في ملاك الممرضة، ليس متأخراً لإنقاذروح الجميع، والإتجاه أخيراً نحو التنفيذ المراوغ لوعد الإنسانية.
أما بالنسبة للحكام الظالمين وأعوانهم، يقترح كوك:"أن ندع ظلالهم تقع على أراضي البور التي خلقوها بعجرفتهم، وأن نتعلم ونحلم ثانيةً."


احداث نيفاريا

قصة أخلاقية

إستهلال

لم يتوقع احد البرد القارس الذى اجتاح البلاد فى موسم عيد الغفران والعقاب في نهاية السنة، جاء فجاةً، حتى الآن لا تزال الثلوج الخفيفة تتساقط من السماء الداكنة، وتتناثر كغشاءٍ صامتٍ يغشى المستشفى.
في الداخل، كان المريض يرقد على سريره بدون حراك؛ كان وجهه شاحباً كالرخام، وقد تكورت ملاءة السرير كمشمع مشدود تحت جسده الهامد، وبدا كناووس القرون الوسطى الذي أعد للبابا ألكسندر الرابع عام 1261.غير أن هذا ليس القرن الثالث عشر. إنه الآن؛ مع أن الآن هذه لا تعني شيئاً للمريض وهو يرقد في غيبوبته التي سببها سرطانٌ زحف في جسمه خلال سنوات حتى استقر في دماغه وأطبق على جسمه كله. ومع هذا، فهو يتنفس دون شعورٍ وإدراك بواسطة جهاز التنفس الصامت. إنه يرقد منذ ثلاثة عشر شهراً بلا حراك كجثة أُعدت للنظرة الأخيرة في بيت الموتى، لا شيء يتحرك. صمت كئيب يغمر الغرفة كغطاء نعش. عتمة المساء تلقي بظلالها القاتمة على الأشجار العارية، ولا صوت سوى أنين الرياح ينعي سقوط البطل الذي لا يزال يعيش متجاوزاًالموت نفسه.
يميّز عيد الغفران والعقاب نهاية الحياة كما وردت في"كتاب الأحكام"، النص القديم لدين"نيفاريا"، هذه النهاية التي يحتفلون بها في نهاية السنة القمرية، والتي تدعو المؤمنين لأن يتذكروا ويفكروا بخطاياهم التي اقترفوها على جيرانهم واصدقائهم وأقربائهم.
بدأت مراسيم الأيام المقدسة منذ تأسيس ولاية "نيفاريا"، ولو أنّ قلائلَ عرفوا أصلها ولم يتساءل أحد عنها. توجد "نيفاريا"من قرون في عقول أولئك الهائمين في تلال ووديان "الممالك الوسطى"، ذاكرين حضارات قديمة لمعت لفترة تحت الشمس الحارقة، ثم تلاشت عن الأنظار وقد غمرتها رمال الطمي والنسيان. ولكن من وقت لآخر كانت هذه الرياح ألتي اطاحت بسطوة وحكمة حضارة ما في عصور قديمة، كانت هذه الرياح تكشف عن بقاياها وقد إندثرت عميقاً في الرمال، وتميط اللثام عن جرارها المغلقة على أصوات أنبيائها الذين تنبأوا بنهايتها التي لا مفر منها. ولكن قلما تؤدي التحذيرات إلى التعقل، بل غالباً ما تُحرك بذرةَ الأمل في محاولة لإسترجاع المجد، ورغبةٍ يائسة لبسط مبادئَ جديدةٍ على معتقدات قديمة قبل أن تدفنها الرياح بدورها في تلال النسيان، منتظرة البعث مرة أخرى على يدي طامح جديد للقوة والعظمة.
************
تبدأ التحضيرات للعيد في الخريف الباكر. فتنتشرالتوجيهات من قاعة العبادة حيث مركز تجمع الكنيسة في مدينة "دسبيريا"المقدسة، إلى جميع الكنائس تحمل مقاطع جديدة من "كتاب الأحكام"ليرتلها الحجاج خلال الموسم، ومعها اللحن لكل يوم من أيام الأسبوع، وقد حملت موافقة الرئيس الأعلى الذي يحكم الكنيسة العليا في هذه السنة، وكلفتة تعاطف مع الوضع الصحي المتدهور لقائد البلاد المبجل، وهو يرقد في غيبوبة في مستشفى الحكومة بدل أن يترأس الحكومة، يتركز موضوع الأناشيد حول إنجازاته التي قادت نيفاريا خلال الخمسين سنة الأخيرة إلى مركز مرموق في العالم، بفضل صفاته وفضائله. لقد جسّد فضائل نيفاريا وقيمها، وأصبح رمزاً لأخلاقها.
من الطبيعي أنه لا يعرف شيئاً عن هذه التطورات، إذ أصيب بالغيبوبة قبل عدة أشهر، ولكنه إحتفل بالموسم طيلة حياته ويعرف أن على كل فرد أن يراجع بجدّية كل خطاياه والأذى الذي ألحقه بالآخرين. فعلاً يجهل الجميع سخرية وضعه وهو يرقد في غيبوبته، أو يصحو منها أحياناً فيسمع ويتذكر ويتأمل بكل ما حدث في حياته، ولكنه لا يستطيع التواصل مع أحد.
آه، لقد وصلت ملاكي. حقاً ملاكٌ. فهذه المهمة التي تقوم بها، فترفع جثة سمينة ليتم تغيير الشراشف تحتها. أنا لا أشعر بها ولكنه نظام المستشفى. يعلم الله أني تجولت في هذه الأماكن طويلاً. حمِّموا المريض، غيِّروا الشراشف، إفحصوا الأجهزة! إنه النظام. ولكني أسمعها، أسمع الباب يُفتح، خطواتها، صوت الفوطة وهي تُغمس في الماء؛ لماذا لا أشعر بالماء أو أي شيء لعين؟ لا شيء يتحرك. أنا دفينٌ حي، أسمع أصواتاً وسخفاء..
ذاك الصوت... شخص آخر هنا. من؟ أي أبله يأتي الآن؟ أنا اسمع...وهم لا يعرفون. يفتح الجهل أفواههم، ويصبون سخافاتهم في الهواء. "يجب أن نقطع، الضغوطات كبيرة، ولا خيار لدينا. قد يساعد، إن لم يساعد لن يتغير شيء ". بُلهاء ! حمقى ! ما أغرب أن أسمع أفكاراً يهمسونها عني، أن يحفر شخص ما في جمجمتي بلا موافقتي أو يهزأوا بي ويسبونني وأنا لا أقدر على الحركة. أنا أسمع ولكني لا أحيا، لا يفيض حولي سوى الصوت :
الصمت، الهواء الدافئ من فتحة المدفأة، صوت سيارة تتحرك على الحصى، ضجيج محرك طائرة، رياح خارج النافذة، أصوات، أصوات كثيرة، منها المرتفع من آخر القاعة وأصوات ناعمة كصوت "هوميليا"، أصوات خشنة تطلب منها القيام بأعمال مختلفة، أصوات أود لو أخنقها. صوت، صوت، فقط صوت. أية حقيقة هذه؟ لا تجاوب ! لا يمكنني أن أتجاوب. أنا وحيد.. وحيد، آه لو تمكنت من الرؤية ! أو أن أحرك أصبعاً، ألفظ صوتاً، أي شيء يشعرهم أني هنا،حي، واعٍ... لألمس الاخرين.

قلائل أساءوا الكلام عن المريض أثناء إجراء العمليات المتلاحقة في محاولة يائسة لإيقاظه. ولكن بينما تمكن الجراحون من قطع الإلتهابات الملوثة ومنع انتشار الخلايا السرطانية، كانت الجلطات والنوبات القلبية تتركه مشلولاً، عديم الحركة. لم يتمكن الأطباء او الممرضون والمساعدون الذين اعتنوا به من معرفة ما إذا كان مدركاً لحالته أو حتى قادراً على سماع الأصوات المحيطة به. عرفوا أنه لا يقدر أن يرى أو يلمس أو يشم. لم تظهر عليه أية دلالة تشير إلى حيويته.فقط صوت نبضات قلبه المتلاحقة على الأجهزة. ولكن بقي السمع والوعي مجهولين لهم. خيّم الغموض على السرير و جسد المريض الملقى عليه، وتسلل إلى وعي كل من يدخل الغرفة فارضاً غطاءً من الصمت كيلا يستيقظ من قبره الرخامي ويلعن كل من تجرأ على ألإساءة إليه. لقد إفترض الجميع أنه لا يملك إحساساً أو إدراكاً مميزاً، ومع مرور الوقت تصرفوا جميعاً على هذا الأساس.
ولكن تشوق المريض وعذابه النفسي لم يصل آذانهم؛ فهو مجرد شيء في الغرفة، بلا حياة، كالسريرأ والكرسي. شيء يحركونه وقت اللزوم لينظفوا البلا ط أو يعيدوا تنظيم جهازه.
سمع المريض قدوم فتاة التنظيف، صديقة هوميليا وإبنة حارتها داخل السور. كانت كاريتا صغيرة الجسم لا يزيد "طولها عتى خمسة أقدام،يحيط وجهها وشاح أسود يصل إلى كتفيها ويتضارب مع ثوبها الرمادي الطويل المنسدل على قدميها. عند دخولها أومأت برأسها تحييّ هوميليا وتشير إلى النافذة البعيدة عن السرير.
"ما الأمر كاريتا، ما الخطب؟ "كان صوت هوميليا مختنقاً كصوت الأطفال الذين ولدوا تحت الإحتلال عند شعورهم بالمشاكل، إذ يتوقعون إذلالاً أو ما هو أسوأ....
"لا مشاكل، فقط أردت أن أعرف إن كنت رأيت الححاج في شارع "يبوكريزس"وهم في طريقهم إلى قاعة العبادة؟ كان هناك المئات منهم، يهزون رؤوسهم ويرتلون بصوت منخفض، شيء غريب، ما الأمر؟ كل شيء مظلم ولكن لا أعرف لماذا؟ "تشعر كاريتا بالقلق في صوت هوميليا،وتقترب لتهدّئ روعها. كان هناك غموض يفصل هؤلاء الحجاج عن أولئك الذين عرفتهم في طفولتها، يوجد طعم كريه يرافق غطرستهم ومظهر التواضع الذي يعرضونه في الشارع."إنه موسمهم المقدس. عليهم أن يذهبوا إلى قاعة العبادة لطلب المغفرة، هذا كل ما اعرفه. أنا لم أرهم ولم أقترب من شارع"يبوكريزيس"فقد تأخرت بسبب البوابه."
يا للبراءة والبساطة. ما أجهلهم. لقد أُمسك بهم فلا يستطيعون التقدم. كلهم كذلك. لا حافز لديهم ولا رغبات. فقط يتسكعون ويتكلمون. أية حياة هذه؟ لا فرق بين سكان الأكواخ والبيوت العريقة المهملة. لا مال... لا ذوق... فقط وضع مستور ولكنهم راضون، بل سعداء، قبل الإحتلال على كل حال؛ إنهم يعيشون الآن في سجن، يحرسهم الحجاج الذين رأتهم كاريتا. أوه، طبعاً يذهبون إلى القاعة؛ عليهم أن يزحفوا إليها فلديهم الكثير مما يطلبون عليه الغفران.
إنها لا تعرف، لا تعرف. أناس من جميع الآنحاء يأتون بهم ليزيدوا عدد السكان. طفيليون، يعيشون على أموال الغير متعصبون قذرون يسيطرون على المسؤولين بحشو جيوبهم. ولكن لماذا ألعنهم؟ ألم أفعل مثلهم؟ مهنتي بأكملها قامت على هؤلاء الحيوانات. أعرفهم وأفهم ما لن تعرفه كاريتا وهوميليا أبداً، أنا احدهم بل أسوأهم.
ماذا قالت؟ شيء لفتني. آه، "كل شيء مظلم"نعم، كل شيء مظلم. ظلام الإيمان بإقصاء الجميع ما عدا الذات. أن تكون من النخبة المختارة... ذاك هو الظلام. أن تعيش وحيداً في الشك الذي يلهبه إيمان لا مبرر له ولا يمكن تفسيره. أن تعرف كل شائبة تنهش أحشاءك الملتوية المعقدة بسرطان الشك الذي يقتل اليقين. السم البطيء الصامت الذي يدل على ضعف يمزق الثقة... كل هذا يجب أن يظل خفياً لا يطلع عليه الآخرون. ذاك سجن أسوأ من الجدران. تلك حياتي. وأنا أعرف أين أبدأ، ذلك اليوم، أعرف اليوم...
مع مرور الشهور تناقص عدد أطباء المستشفى الذين رعوا المريض. نقلوه من جناح الشخصيات الهامة بمدخله الخاص وصالة الزوار بمقاعدها الفخمه، ولوحات رؤساء الدولة السابقين إلى الطابق الثالث حيث يتواجد الآن مع آخرين في قسم المعالجة بالمسكنات بإنتظار الموت.
كانت وظيفة هوميليا في الرعاية اليومية، تفحص أجهزة المريض وتحافظ على استمرار السوائل التي يعيش عليها، تغيّر ملاءة السرير يومياً وتحمم المريض. كان عملها يتطلب منها لبس مريول الممرضات الأخضرالواسع الذي يمنحها حرية الحركة. أما حجاب رأسها فتخلعه في عملها و تستبدله بغطاء رأس الممرضات الصغير، تضعه فوق شعرها البني الملتف. مضى عليها في هذه الوظيفة ثمانية أشهر وستستمر طالما هو في غيبوبته. ولكن العناية بالمريض أصبحت بالنسبة لها مسؤولية مقدسة، خصوصاً وأن الآخرين هجروه.
كان مرور الزمن يعني قليلاً للمريض. وبالتدريج أصبح إهمال المسؤولين في الحكومة وزملائه في الحرب ورؤساء الأديان وحتى عائلته لا يهمه. مرت أسابيع قبل أن يلاحظ تناقص عدد زواره، أسابيع كان خلالها يظن انه لا يزال في الحكم وأن عودته للسلطه وشيكة..
وفي أحد الأيام سمع ملاحظة من الطبيب إلى مساعده، فأدرك أن العناية به قد إنتقلت من الأطباء الكبار في المستشفى إلى ممرض "إليوسي"، فانفجر بغضب داخلي ضد هوميليا و مساعدتها كاريتا. لكن أحداً لم يتجاوب مع إحباطاته؛ لقد انتقلت رعايته إلى أيدي من يحتقرهم.. ومنذ ذلك اليوم أصبح يقابل إذلاله بإتهامات لئيمه لهوميليا، يُتبعها بأسف عميق إذ أدرك أنها وحدها تهتم به.
تدربت هوميليا في هذا المستشفى منذ ثلاث سنوات. إذ انتقلت للعيش مع جدتها في بيتها في البلده القديمة حيث عاشت منذ ستين عاماً. كان والدا هوميلي ا يعيشان في إليوسيا، وهي منطقه تتاخم نيفاريا ويحتلها الجيش النيفاري.
كان بيت جدتها يقع داخل أسوار البلدة القديمة، ويشرف سطحه على السورالشرقي. من الشمال يرتفع أقدم مسجد في البلدة القديمة وراء الخطوط الكهربائية والأسلاك الشائكه التي تحيط به،ونقاط التفتيش التي تحرس مدخله. تسيرهوميليا يومياً نفس الطريق التي تقطعها هذا المساء. إنها تفكر بمريضها وتتساء ل عن أية حياة له داخل جسده الهامد.
"ماذا لو كان يفكر، ماذا لوأنه يسمع ويفهم ما يدور حوله، كيف تراه يتجاوب لو أنه تمكن من ذلك؟"
لكن الواقع يقطع حبل أفكارها وقد تجاوزت نقطة التفتيش. تسير ببطء بين الجموع التي تتحرك بإتجاهين متعاكسين في الزقاق الضيق وقد إرتفعت على جانبيه جدران من الصوان بأبوابها التي صدأ حديدها، ونوافذها ذات الأطر الخضراء والمشبكات الفولاذية. ملصقات قديمة ممزقة لا تزال تلتصق بالجدران، وعلى الأرض تتناثر علب الخضار الفارغة وأكياس النفايات السوداء؛أوراق ممزقة وقطع من الخشب ملقاة على الدرج الذي عليها صعوده وهي تتجنب الحجارة الملساء التي أُضيفت للدرج لتتمكن العربات من إرتقائه، وكاميرا الحراسة اللابدة فوق القوس المعتم. فإذا تجاوزت الظلال، واجهتها وهجة من الضوء البرتقالي تغمر الساحة الصغيرة خارج المسجد التي تملؤها ألواح محطمة من الفولاذ الأخضر ودلاء ضخمة من الإسمنت المحشو بأكياس الرمل البنية، وأبنية صغيرة من المعدن والشوادر البالية التي تحيط بالحرس المتمركز في المنطقة. فوق رأسها تتشابك خطوط الهاتف والأسلاك الكهربائية الممتدة من الجدران العالية إلى أعمدة أُقيمت دون ترتيب مقابل المسجد كخربشات بالقلم الأسود.
"ما أبشع هذا "تتمتم،"أشرطة وأسلاك تحيط بالمسجد، ثياب الجيش البنية البشعة، بنادق، إنهم يهزأون بديننا – ماذا يهمهم؟ "
بعد بضعة خطوات تدخل من باب ضيق مُقوّس إلى ردهة رمادية إلى يسارها بابان لشقتين صغيرتين تقطنهما عائلات كبيرة، وإلى اليمين درجات حجرية ضيقة تتعرج صاعدة إلى فسحة فيها باب شقة الجدة نانيا. يقع باب الشقة إلى يسار الفسحة. مدخل صغير ذو طاقة زجاجية مغطاة بستارة. وإلى اليمين فجوة صغيرة وضع فيها مقعد خشبي وكرسيان، ملجأ من شمس الصيف ولكنه الآن متروك في الفصل البارد.
تدخل هوميليا وتنزع معطفها وخمارها وتنادي جدتها في طريقها إلى المطبخ. إنه مظلم لا ينيره سوى ضوء المساء المتسلل من النافذه الصغيرة. السقف منخفض والغرف صغيرة. لا أحد في الشقة. تسرع هوميليا إلى الخارج وتنادي : "نانيا، نانيا "ولكن صوتها يضيع في الهواء. تتجه للدرج المؤدي إلى السطح. حبال غسيل ومواسير وأنتينات تلفزيون وقباب مستديرة هي ما يبدو من السقف المقنطر الذي يعلودرج البيت.
"ماذا تعملين على السطح يا نانيا؟ لقد دخل أوان منع التجول ومن الخطر عليك الوقوف هنا. الجميع في الداخل منذ ساعة، والجنود امامنا عبر الشارع
"لماذا أتيت مبكرة؟"
"لأنه لا يوجد ما أعمله له. لم يتغير شيء. إنه راقد بلا حراك. حتى تنفسه لا أراه بدون الجهاز، كأنه ميت."
"كيف لايمكنك رؤية تنفسه؟ إنه رجل ضخم، كرش كبير ووجه سمين. لقد رأيته ! "
"كوني لطيفة يا نانيا، إنه يموت ويجب أن نكون لطفاء".
تخاطب هوميليا جدتها برقة فهي تدرك أن جدتها شهدت في حياتها التحول الذي طرأ على إليوسيا وشعبها.نانيا تعرف من تجربتها أنه لا فائدة من الآحلام.
"سامحيني يا ابنتي.أعرف أن علينا أن نغفر؛ ولكن معرفتي أنك مسؤولة عن العناية بهذا الرجل، هذا الوحش الذي سبّب شلل والدك وكل آلام قريتك، لا يسهل علي الصفح..."
كان في صوتها نبرة حزن أثارتها الذكريات الأليمة حين دُمرت آمال العائلة في أقل من خمس دقائق. إنها مجبرة على إحتواء غضبها والكره الذي يلتهب في داخلها، كنمو سرطاني ينكمش وينتفخ كلما رأت ( ن،و.ف) قوات الإحتلال النيفاري يوماً بعد يوم.
تقف الإثنتان على سطح الشقة الصغيرة. تناولت نانيا بعض الملاءات عن حبل الغسيل وألقتها في سلة عند قدميها.تمر هوميليا وراء الجدة العجوز بجسمها الضئيل المحني وجلبابها البني وتحمل سلة الغسيل. تقف كلتاهما للحظة وتنظران عبر الأسطحة إلى التلال البعيدة التي يبدو خط أُفقها على السماء. ومن بعيد تبدو الشمس وهي تحبو بهدوء وراء الأسطحة البعيدة . كل شيء هادئ الآن
لا يوجد مارة في الشوارع والأزقة وما من حركة حول المسجد. يبدو الوضع وكأنه كما كان قبل الإحتلال، قبل صفارات الإنذار وقبل الجنود ببنادقهم وخوذهم. قبل أن تتغير الحياة في إليوسيا.


اليوم الأول

التيقظ

تغلق الباب وراءها فتلطم رياح الصباح الباردة وجهها كاشفة وشاحها فتمسك به وهي تهبط الدرج، فإذا ما وصلت الزقاق، تتوقف الرياح، إذ تعترضها الأبنية والسور. ولكن صفيرها لا ينقطع، بل يتخلل الأزقة المتعرجة في البلدة القديمة. تمر هوميليا عبر الأبواب القديمة للدكاكين المغلقة في شارع "ديسبوندا"، بسبب منع التجول لليوم الخامس.
تعرف هوميليا أن عليها أن تحترس؛ فالجنود يراقبون منع التجول. عليها أن تسير بثقة وتصميم وإلاّ ظنوا أنها تنوي القيام بأمر ما، فهم يرونها بوضوح من أماكنهم.
عندما تدخل ساحة "المسجد"ترى بنادقهم المغطاة بالشباك العسكرية ألمقامة على أسطحة بيوت كانت ملكاً للإليوسيين ولكنها الآن أصبحت لحجاج نيفاريا. تنظر إلى السماء فتلاحظ أن غيوم الخريف تتسارع فوق رأسها.
تدخل زقاقاً في نهاية الساحة فترى الشريط المشبك الذي يغطي الممر، وقد ملأته القاذورات التي يرميها الحجاج على المارة. فاكهة ولحوم متعفنة تنشر روائحها الكريهة في كل صوب، وقد إحتجزتها جدران البيوت العالية المحيطة بالممر. نور خريفي ضئيل يتسرب من ثقوب المشبك فوق رأسها. في نهاية الشارع ترى نقطة الحراسة في مدخل البلدة القديمة. طابور من الناس، أقل من المعتاد بسبب منع التجول، ينتظرون تحت سقف الممر الضيق المغطى بألواح التنك . تأخذ مكانها في الصف. "لا شيء يتغير"تفكر.
"يوماً بعد يوم نقف في الصف. نغادر بيوتنا باكراً، فقط لنقف في الصف، ونضيع وقتاً كثيراً. لماذا؟ لنمرعبر سورنا إذا حصلنا على تصريح. يا للسخرية، فأنا أذهب للعناية بإبنهم الحبيب شهراَ بعد شهر."
عندما تقطع منطقة إليوسيا تدخل هوميليا عالماً جديداً. أرصفة نظيفة لدكاكين دائمة التجديد، وقد عرضت واجهاتها ثياباً غالية أنيقةـ أحذية جلدحية خمرية اللون، وجزم سوداء مبطنة بالفراء الأبيض، وقد صممها مشاهير عالم الأزياء. بذلات من التويد الأخضر الرمادي والصوف الكحلي المقلّم، قمصان مخرّمة وتنانير حريرية مثنّاة. نظارات بألوان مختلفة توقعاً لأزياء الربيع، وقد زخرف بعضها بالفضة والحليّ. علب مبطنة بالمخمل الخمري تضم أدوات لمائدة الطعام، وقطع فنية قديمة لجذب السواح الذين يزورون هذه المدينة المقدسة خلال العام، ولكن خاصةً في هذه الفترة حيث تُلقي أيام عيد الغفران بظلالها على كل شيء في نهاية السنة القمرية.
تخدم الأيام المقدسة كغشاء لنهاية العام، يدعو جمهور المؤمنين ليتذكروا خطاياهم، خاصة تلك التي تؤذي الآخرين، للتكفير عنها علناً. فيحجوا مع رفاقهم إلى قاعلت التجمع في كل أنحاء المدينة. أو ليتجهوا إلى قراهم ويسيروا مع أهلهم إلى القاعة هناك. ودائماً يقف أمامهم رجال القداسة الذين يحذرون التائبين من العقاب الذي يقع على الذين لا يغفرون. هوميليا لا تعرف الكثير عن هذه العادات القديمة؛ فقد علقت بين عالمين، واحد تعيشه كل يوم وهو منقسم إلى قسمين : أحدهما الممرات التي تركتها الآن، والآخر الشارع الذي تسير فيه. أما العالم الآخر فهو في روحها حيث تعاليم شيوخها تتعارك مع الواقع الذي يضغط عليها.
تزين أيقونات الأيام المقدسة الرايات المدلاّة من أعمدة النور في الشوارع، والأعلام المتطايرة في الهواء بين العمارات والبضائع المعروضة في واجهات الدكاكين. في كل مكان الدائرة الفضية والسهمان برأسيهما المتواجهين، الرموز الظاهرة للغفران والعقاب، أربعة شموع ملتصقة بدائرة تمثل الفصول الأربعة لحياة أولئك الذن عليهم أن يتأملوا بذنوبهم، ودائرة ملتهبة بالنيران لتذكر الجميع بالعقاب الذي سيتبع. هذه الأيام تمتد من تشرين الثاني إلى أواسط كانون الأول، أيام للتذكر والتأمل والعفو والخوف. تصدح الموسيقى من مكبرات الصوت فوق الجموع المتدفقة في الشوارع، تندب بوقار وتأمل يناسب الأيام المقدسة. بالرغم من أناقة شارع يبوكريزيس، بأبنيته المرتفعة وزجاجها الأزرق، يسود جو من الإستبطان في الهواء، تقبّل صامت لضعف الإنسان الذي يواجه ويحكم عليه.
لم يلزم هوميليا وقت طويل لقطع الشارع والوصول إلى المستشفى بمدخله المهيب يكتنفه من الجانبين عامودان رخاميان يتوجهما قوس من الحديدالمزخرف، يعلوه رمز الدوله. تدخل البوابة وتتجه الى المدخل الجانبي، حيث تظهر تصريحها وهويتها على الباب. تبهرها عظمة البناية كالمعتاد، وقد نُظف حجرها الجرانيتي حديثاً فبدا يلمع بنور الشمس.
"ما أروع هذه البناية، بيضاء وناعمة كالثلج النتساقط حولها. ولكنني أشعر بالذنب لإعجابي بها. كم تختلف عن داخل السور حيث تغطي الجدران، حتى الأبواب والشبابيك، راقة من السخام اللزج... والزبالة... والروائح."
تصاحب هذه الأفكار هوميليا إذ تتجه إلى المدخل الجانبي. إنها تعرف هذا المكان وتعرف الغاية منه. إنه يؤمن العناية الراقية لموظفي الحكومة، والطبقة الغنية، والأجانب المحترمين. يستطيع خريجوه من الممرضين الحصول على عمل في أي منطقة من البلاد، ولكنهم يبقون هنا، خصوصاً الإليوسيون، إذ لا يوجد مثيلاً له في الأراضي المحتلة. كذلك هناك حاجة لمن يتكلمون الإليوسية أن يعملوا في المستشفى. وهذا سبب إستخدام هوميليا فكثير من طاقم العمل لا يحسنون لغة نيفاريا فتستطيع أن تترجم.
"في كل صباح ينتابني نفس الشعور عندما افتح هذا الباب. أشعر بحضوره وكأنه يعرف أني هنا، مع أن لا شيء يتغير. لاشيء يتحرك. فقط ضوء الجهازالأحمر،إنه يتنفس. كيف يمكنه أن يعيش ولا يعرف شيئاً ما. يعرف أني في الغرفة معه. أحس انه يشعر بوجودي. ما أغرب أن تظن أنه يستطيع أن يسمعني ولا يقول شيئاً، أو يحاول أن يلمسني. أشعر أني أعتني بشبح يفهم ولكنه معزول عن عالمه، بل اسوأ، إنه مغلق داخل هذاالجسد الذي أهمله الجميع. حجاب كثيف من عدم الإهتمام يغمر هذه الغرفة، لقد هجره ناسه، فلا زوار ولا عائلة، فقط أنا واحدة من الشعب المحتقر".
ليس معروفاً لهوميليا أن المريض يشعر بوجودها. ربما لأن الباب يغلق بلطف. ينتظر كعادته منذ أشهرفي ظلام دامس متوقعاً حضورها. لقد أصبحت همزة الوصل التي تربطه بالواقع . يريد أن يسمع صوتها، الصوت الحاني المرتعش الذي يحييه معلناً كرسول ملكي مرور الزمن. كم يختلف حضورها الآن عما كان في الشهر الأول أو الثاني. كم كان يكره وجودها، لهجتها الحانية وصوتها الناعم يتحدث إليه، وإتكاله على فتاة إليوسية. ولكن الزمن يغير شعور المريض نحو هذه البنت التي لا يعرفها.

تدخل أشعة شمس الصباح من النافذة عند مؤخرة السرير ملقية ضوءاً خافتاً على الشراشف االمشدودة وعلى وجه المريض. تبدو الزوايا الحادة لإنعكاس الشمس، كمجسم قوطي منحوت، مبرزة جمود جسده. في آخر السرير ترتفع قدماه الجامدتان لأعلى، مرخية الملاءة بلطف على جسده حتى ذقنه. يرتفع وجهه الرخامي قليلاً فوق الوسادة، ويلمع في الضوء الخافت، جاعلاً شدقيه مرتخيين بنعومة وإستدارة وجفنيه بارزين ضخمين. تقف هوميليا بصمت عند الباب وتنظر إلى هذا الشكل الجامد قبل أن تنزع معطفها ووشاحها، وتبدأ روتينها اليومي بحمام المريض وتغيير الملاءات. تلاحظ إرتفاع منطقة البطن وضمور الذقن تحت أنفه المعقوف ورأسه الأصلع. الشكل المنحوت لا يخفي الشخص السمين والقصير المنتفخ، الذي سيطر على شؤون الشعب منذ بل قبل ولادتها. تقترب منه حيث يقوى الضوء، فيكشف الخطوط المحززة حول العينين والفم، والشقوق بجانب الأنف، والبقع الداكنة على خديه وجبينه.
"ياإلهي"...تقول.
تشعر هوميليا بإشمئزاز لهذا الرجل المتمدد بلا حراك، معتمداً على رعايتها وغافلاً عن وجودها؛ تحارب هذه المشاعر، إذ أن إيمانها لا يسمح بالكراهية، حتى تلك التي تنمو كجنين في أحشائها تم تلقيحها في طفولتها، عندما شاهدت الجنود يضربون أباها على رأسه ويجرونه من المطبخ ويهشمون ركبتيه وهم يلعنونه ويضربونه بلا شفقة . منذ ذلك اليوم أصبح أبوها رجلاً منكسراً، مقعداً ملازماً لكرسيه المتحرك، عاجزاً عن العناية بعائلته، صورة صامتة للرجل المتكبر، الواثق بنفسه، الذي عرفته يوماً. هذا المنظر الذي أزاحته إلى مؤخرة رأسها، يعود إلى وعيها كلما مرت بالبوابة وقدمت تصريحها وهويتها للجنود.
ولكن المريض يسمع هتافها؛ النبرة الخائفة المنبعثة منها دون توقع. إنه يعرف الشعور الكامن وراء اللفظ، الخوف الممتزج بالكره. مع أنه لا يعرف شيئاً عن ماضي هوميليا وما سبب هذا التعبير. هاتان الكلمتان المعبرتان، تعيدان إليه ذكريات طمرها منذ زمن بعيد، ذكريات تحجرت في وعيه ولا يمكن نسيانها؛ لكنها تحث كراهيته للإليوسيين بنقمة لا نهاية لها لكل من يقاومه...
منذ زمن بعيد، قبل إستلامه السلطه في نيفاريا، كان يقف عند نقطة تفتيش منتظراً إبنه وهو يعود بالحافلة المحلية من المدرسة الى البيت. رأى الحافلة تنفجر في جحيم من اللهب والشظايا المتناثرة. خلال لحظات كان قد أزاح الحديد الملتوي وحطام الزجاج ويصل إلى الولد وينتزعه من الحطام ويضمه بين ذراعيه. "يا إلهي، يا إلهي"صرخ في السماء بصوت مختنق بالكراهية للإليوسي الذي بلحظة أزال دم "ديماس"مزيلاً إسمه من الوجود. حينئذ أقسم أنه سينفي هؤلاء البرابرة من حياته، ويسعى بكل طريقة ممكنة لطردهم من نيفاريا. ذلك القسم كان وراء كل أعماله اللاحقة أثناء تدرجه في جيش نيفاريا، مظهرا قوة وشراسة مدمرة ضد أعدائه.
ذاك الغضب والكره دفع بأخ هوميليا للإنضمام إلى المقاومة في إليوسيا. إنها تذكر رسالته الأخيرة قبل ستة أيام إذ يخبرها أنه سيعود إلى"جويا "في يوم الغفران. إنه يوم عطلتها وتأمل أن تذهب فيه إلى البيت، ولكن السفر أصبح شاقاً بسبب نقاط التفتيش وإنعدام الطرق الصالحة في وجه الأليوسيين. سيتوجب عليها أن تركب الحافلة التي تقطع التلال الخلفية فتقصر الطريق، ولكنها لا تخلو من الخطر إذا ما إعترضها الجنود. ولكنها تريد أن ترى إسماعيل فقد مضت خمس سنوات منذ أن رأته، ولديها يوم واحد. حين ترك البيت حزمت له أمه بعض الخبز والماء على حمارهم الصغير، ورافقته إلى الجبال في أشد طرق الجنوب صعوبة. مر أسبوعان قبل أن تعود أمها. ولكن لو أرادت هوميليا أن تراه فسيكون ذلك في يوم الغفران، بعد أربعة أيام، لأن عليها أن تعود للمريض في اليوم الأخير من الموسم المقدس، "يوم الجزاء".




اليوم الثاني

التواضع


أستيقظ ثانية. كيف أستيقظ إن كنت لا أقدر أن أرى أو ألمس أو أكلم أحداً؟ ما هي اليقظة؟ عالمي كله منطوٍ على نفسه؛ أنا كل عالمي. لا وجود لشيء سوى ذكرياتي وما أسمعه أحياناً. كيف تصبح هذه الأشياء حقيقة طالما لا شيء يكون بدون إرادتي. وحتى حينها لا معنى لها، إذ لا أحد يعرف ما أفكر به. أطوف في لاشيء سوى السواد... هذا الفراغ المطلق؛ اليوم الذي قبل الخليقة... قبل وجود أي شيء ولا شيء يتحرك على وجه البسيطة. أنا اللاشيء الضائع في الأعماق... أي تضارب... غايتي الوحيدة إشباع رغباتي طالما أنا من أنا. عندما أنسى أتوقف... كل شيء يتوقف.
ليل لا نهائي. بدون شكل، كثيف... وقت بلا شمس، حتى بدون نجوم، وبلا ظلال،وبلا غيوم... ‘الغموض المحسوس‘ الذي حيّا إبليس. أنا الآن... أستلقي وراء الزمن غير معروف ولا عارف. لماذا؟ لماذا أستلقي هنا أتذبذب داخل وخارج الوعي، معذب بما أسمع، مروع بأمل غير صادق، أن أتخلّص من هذا التابوت وأدع عقلي يتجوّل فوق الأرض التي لا أقدر أن أراها وأصمم خططاً أفرضها لو قدرت... مجرور، معلق ومقطع في هذا الدماغ الذي تجلده أحلام وأماني معزولة في جثة ميتة... ماذا عملت لأستحق هذا المصير؟
ما الوقت الآن؟ أي يوم، وما الساعة؟ وما الفرق في ذلك؟ لا صوت يعكّر أفكاري... أستلقي هنا أنتظر، أنتظرالمجهول بينما الآخرون ينطلقون في عالمهم المعلوم وكأنه وحده أعطاهم وجوداً ومعنى؛ ولكن كيف يكون لهم معنى إن كانوا لا يعرفون أن هناك حياة تستلقي بجانبهم،تتحرّق لأن يعترفوا بوجودها؟ هل الحياة هي ما تعرفه فقط؟ هل الحيوات المتواجدة في الظلال بعيداً عن وهج الأنظار، هل هي أشباح بلا شكل أو وجود أوغاية؟
كم من الأشخاص صادفتهم دون أن أعرفهم أو أهتم بمعرفتهم؟... هل يجب التخلص من العقول المفكرة لأنني لا أعرف أنها تفكر؟
هل الحقيقة مفهومي أنا فقط، سلعة أستطيع تشكيلها حسب أهوائي؟ هل قدّر علي أن أنام هنا في هذه الزنزانة المظلمة لأفكر في الأمور المرعبة التي سبّبتها، لأرى ما لم أره عندما كنت أتجوّل في التلال والوديان في هذه الأرض المعدمة، ولأفهم معنى الأسى الذي ألحقته بهذه الأرض البائسة؟
أي سخرية هذه... أن أعرف ما لا يمكن مشاركته، أن أقاسي من عقاب لا أحد يشاهده، أن أموت في كل لحظة أستيقظ بها. لماذا تطاردني هذه الأفكار الآن؟ ما التغييرات التي تجتاحني في هذا القبر الصامت؟ أفكاري لم تعد تسرع لتدافع عن أعمالي؛ حتى أني ما عدت أشعر بموجة الكره التي كانت تهاجمني كلما رأيت إليوسياً، قتلة إبني. كسلهم،قذارتهم، ورائحتهم لم تعد تنفرني. أين قسمي الآن؟ إنهم حثالة منبوذون، وربي، ولكن هوميليا تدخل بكل هدوء، تغني بنعومة وتحدثني مع أني مُلقى هنا، لا أقدر أن أتحرك،أن أنطق بكلمة أو أتواصل، لاشيء... مجرد لا شيء. كم احتقرت هذه الفتاة، كم كرهت مجرد التفكير أنها ستلمسني، انا النيفاري. آه لو سمعتني حينها، ولكن أين الآخرين؟ لماذا فقط هوميليا؟ لماذا؟... لماذا؟...لماذا...
كانت هذه الأفكار تعذب المريض قبل دخول هوميليا بلحظات. عندما أغلقت الباب كان قد غرق في نوم عميق.كل يوم كالسابق؛ يستيقظ ليسمع أصواتاً تقطع نومه، وفجأة يعود لغيبوبته. لا إستمرارية لديه، لا يمكنه ملاحقة حديث لدقائق، أو أن يتأمل بحادثة أو فكرة تقفز إلى عقله. إنه يعيش في عالم مرقّع بأ فكار حاليّة وذكريات من الماضي.
تتحرك هوميليا وكاريتا في الغرفة التي تسطع بياضاً بإضاءة فلورسنت تنبعث من الجدران وتنعكس عن الرفوف المعدنية والكراسي. كل شيء يلمع. تلقيان الشراشف القذرة في زاوية الغرفة، وبينما ترفع إحداهما جسده ممسكة بظهره، تفرش الثانية الشرشف النظيف تحته. تمسح هوميليا جسمه بقطع قماش ناعمة ومعطرة، بينما تأخذ كاريتا الغسيل القذر إلى المغسلة. لقد رتبتا نظاماً بينهما، فكل منهما تعرف ما على الأخرى عمله. يحمل اليوم توقعات أكثر من المعتاد، إذ من المخطط ان يزوره اليوم طبيب "جراحة الأعصاب"ليقيّم تقدم المريض، والإجراءات التي يجب عملها لإنقاذ حياته.
"سيأتي الأطباء خلال ساعة. دعينا نذهب لتناول غداءنا. أين حقيبتك؟ لقد تركت حقيبتي في الخزانة."
"غدائي خارج الباب الجانبي، أردت أن يحتفظ ببرودته، يا هوميليا، فأنا أكره الخبز المبلل. يسرني أننا أنجزنا عملنا الآن. لنذهب."
تحملان غداءهما وتنزلان إلى مقهى المستشفى،منطقة عامة تقدم بعض الوجبات الدافئة، وتشكيلة من السندويتشات، غالباً للزوار والموظفين. يمتد طابور المنتظرين لأخذ الصواني حتى القاعة. ولكن الفتاتين بحاجة فقط لطاولة منزوية تجلسان إليها بعيداً عن الآخرين. هذا وقتهما الخاص للراحة، وبالرغم من أنهما من الموظفين، فهما تعلمان أن الآخرين يتحملون وجودهما دون ترحيب بهما كمساوين، فتجلسان للأكل والحديث.
تعود هوميليا للإجابة على سؤال كاريتا عند وصولها في الصباح:"تذكرين سؤالك في الصباح عن الحجاج ومسيرتهم إلى المعبد؟"
"نعم، ولكنه ليس ضرورياً. كنت أشعر بالفضول إذ بدا شكلهم غريباً في الشارع."
"لا،لا، فأنا أعرف القليل،"قاطعتها هوميليا.
"لقد شرحت لي فاطمة في العام الماضي عنهم. لا أذكر كل ما قالته لي، ولكنه طقس سنوي."تشعر هوميليا أنها تعرف قليلاً عن الموسم المقدس لأنها تعيش في دسبيريا منذ ثلاث سنوات، ولو أنها مهمشة من قبل النيفاريين الذين تعمل معهم، إلاّ أن جيران جدتها من الأصدقاء شرحوا لها عن التصرفات الغريبة التي شهدتها في هذا الجزء من المدينة والذي يحكمه النيفاريون.
"من المفروض أن يكون كالحجاج المسيحيين الذين يحجون إلى مكان مقدس يجددون فيه إلتزامهم بالمسيح، ولكنه في الربيع. على كلٍ هذا ما شرحته لي فاطمة، وهي مسيحية".
"ما الفرق بين الإلتزام والثواب والعقاب؟ لا أفهم ذلك."بدا على صوت كاريتا الإمتعاض.
"إنهم يحجون ليطلبوا الغفران على أعمالهم في السنة الماضية؛ لهذا السبب يقع العيد في الخريف قبل نهاية السنة القمرية. فالأمرمختلف، إذ يحج المسيحيون في الربيع أي للتجديد.أما هؤلاء الحجاج فيطلبون المغفرة من ربهم"
"ولكن هؤلاء هم الذين يهاجموننا."يعكس صوت كاريتا غضبها."لقد أوقفوا أختي الصغيرة وهي في طريقها إلى المدرسة وشتموها ورموها بالبندورة.وهي فقط إبنة ثمانية أعوام. يرمون النفايات علينا، هل يطلبون الغفران على ذلك؟"
تشرب هوميليا من زجاجتها قبل أن تجيب."لا أعلم من يعطيهم الغفران. فهم لا يرمون إلههم بالبندورة ولا يسألوننا."
"لاأظن ذلك ولهذا أنا مرتبكة."تجيب كاريتا،"والآن هم مصطفون على رصيف الشارع بمعاطفهم الطويلة السوداء، وشيء كالخمار الأسود على رؤوسهم وأكتافهم. يبدون كفرسان المعبد في الكتب القديمة عن الصليبيين. يحمل كل منهم راية ذات لون بنفسجي كالشرايين في ذراعي جدتي ويديها، وعلى الرايات نفس الرسمة، حلقة ذهبية وفيها سهمان متعاكسان. إنهم يبدون متواضعين،ولكني لا أقدر إلا أن أفكر بما عملوه لأختي وللعجوز سبيا."لا شعورياً يطغى جو سوداوي على الحديث الذي تتبادل فيه الفتاتان رد فعلهما حول الحجاج الذين يبدون لهما شريرين متعالين وخطرين.
"لا ادري يا كاريتا،"تجيبها هوميليا بتفكير،"يبدو لي أنهم لا يظنون انهم مخطئون. فمعظم العائلات التي أعرفها، ضرب أطفالها وأهينوا. وهذا ليس أسوأ ما يقومون به. أنظري ما فعلوا بأبي منذ سنوات. لقد اقتلعت أشجار لأبناء عمي عندما بنوا السور، والآن لا يستطيعون الوصول إلى حقولهم دون المرور بنقطة التفتيش."
"هذا ما حدث لأخي وعائلته. لقد صادروا أرضه، ‘لأسباب عسكرية ’ كما ادعوا... أكاذيب."
"ربما يحتاجون للغفران لأنهم لا يسيئون بما فيه الكفاية."همست هوميليا بسخرية مريرة، وأضافت"لا أفهم."
"ما الذي تريدين فهمه، هوميليا؟ لقد صادروا بيوتنا في شارع ديسبوندا. جاءوا مع الجيش ببنادقهم، وأمروا السكان بإخلاء البيوت، وهكذا كان. إنهم يذهبون حيث يشاءون ويعملون مايريدون. يغلقون دكاكيننا، يضايقون أطفالنا، يحطمون عربات الفاكهة، ويستهزءون بأصحاب الحوانيت... ولا أحد يقاومهم. والجيش يحيط بكل شيء."يرتفع صوت كاريتا وهي تتذكر الإهانات والآلام التي شهدتها. يلفت إرتفاع صوتها بعض الجالسين في المطعم لتناول طعامهم. تلاحظ هوميليا تعابير وجوههم، ولكنها تفشل في إسكات كاريتا التي تندفع "إسمعي، أنت تذكرين سبيا العجوز المسكين الذي يبيع البندورة على عربته في شارع ديسبندا قبل الميدان؟"
"إهدأي كاريتا، إنهم ينظرون إلينا."
"دعيهم ينظروا، لعلهم يتعلمون شيئاً. على كل، كان سبيا العجوز يجلس على صندوق في مدخل بيته يوم الجمعة الماضي، وعربات البندورة بجانبه. كنت هناك، عندما أتى طفل من الحجاج، عمره حوالي 9 سنوات، إلى دكانه وبدأ يرميه بحبات البندورة. لم يصدق المارة عيونهم، ولكنهم لم يستطيعوا إيقافه. كان الجنود هناك ينظرون ولا يعملون شيئاً... ثم قلب الطفل إحدى العربات، وتبعثرت البندورة في الشارع .ومضى الطفل في سبيله وهو يضحك. وهنا تساءل سبيا العجوز"من سيعلمه احترام كبار السن؟"
"هذا غلط "تقول كاريتا بإحباط وغضب، وقد ارتفع صوتها، وتهيج جسمها، واسودت عيناها، وتغضن جبينها. "أنت تعرفين هذا، مثلي، والكل يعرفه، ولكن لا أحد يوقفه. إنهم لا يسيرون في شارعنا طالبين المغفرة، لايرتلون، ويهزون رؤوسهم، ودموع الحزن في عيونهم. ممن يطلبون المغفرة؟ من بيلزيباب؟"
"لا أعرف يا كاريتا، فأنا أجهل دينهم. إنه غريب. يبدوأنهم يؤمنون أنهم فوق الجميع، ولا يحاسبهم أحد. كنت دائماً أظن أن الدين يقرب الناس إلى بعض ليتعاونوا. ظننت أنه يعلمهم ان يحترموا الآخر وأن يحميهم من اللصوص والمخادعين والكاذبين. ولكن الحجاج يتصرفون عكس ذلك، ولا يهتم أحد. لماذا؟"يتحول الحديث لمشاعر الفتاتين، إذ تعبران عن القلق والخوف الذي تكتمانه ولا تعترفان به، ولكنه ينفجر عندما تضطران إلى مواجهة الجو الذي يحيط ببيئتهما، والذي يضرب فجأة بدون إنذار.
"آه يا كاريتا، غاب عن ذهني حديثي ليلة البارحة مع جدتي عن الحجاج. لقد بكت عندما ذكرتُ إسمه فقط . غطت وجهها بطرف خمارها. وبعد فترة، أخبرتني عن ذلك الصباح عندما ضربوا أبي، ثم واصلت كلامها عن المرات الأخرى عندما جاءوا إلى ديسبيريا، أمام بيتها. كانوا ملثمين يحملون قضباناً حديدية. حطموا زجاج بابها، وأمطروها بالسباب والتهديد. فهربت واختبأت في خزانة ثيابها."
"ولماذا يقومون بهذه الأمور؟ إنها عجوز ضعيفة ؛ لا تستطيع إيذاءهم."تجيب كاريتا وهي تمسك بعطف يدي هوميليا.
"سأصل لهذا"تجيب هوميليا."لقد كسروا الأطباق، وقلعوا النباتات وانصرفوا. بعدئذ علمت جدتي من الجيران، أنهم حطموا أبواب الكثيرين في شارع ديسبوندا لإخافة الناس، وحملهم على الرحيل. هذا ما يريدون، إرغامنا على الرحيل ليستولوا على البيوت."
"يا للفظاعة."
"لقد أخبرتني أيضاً عن أمر غريب عندما كانت في جويوا. كان الحجاج ينثرون كرات صغيرة مسمومة، في التلال حيث ترعى أغنامنا، فيتسمموا دون أن نعرف السبب. عندما تخبرني هذه الأمور، أشعر بالعجز. لماذا لا نقدر على عمل شيء ما؟ أين جيراننا؟ لماذا لا يساعدوننا؟ أين الدول الكبرى التي تتكلم عن الحرية للجميع؟ لم لا يهتم أحد؟ أخبروني ."
لاتنتظران جواباً، بل تجمعان الأوراق والأكياس وقناني الماء، وتخرجان. فعليهما أن تكونا في مواقع العمل قبل زيارة الطبيب مع معاونيه.

************


كثير من الأطباء يهتمون بوضع المريض. إذ تقع العناية الصحية به تحت رعاية الحزب الحاكم. حتى في حالته هذه،لا يجرؤ أحد على إيذاء هذا الرجل. ولكن زيارة جراح الأعصاب المتوقعة، ترفع الإهتمام بحالته إلى مستوى آخر. أيمكن أن يصدر تكهن قد يشير إلى إمكانية شفائه؟ هل هناك فرصة في عالم الطب الضبابي، لإمكانية عودته لقدرته السابقة؟ أموركثيرة في الميزان، وأرواح كثيرة ستتأثر، وأمور كثيرة مجهولة، قد تقلق الوضع الذي استقر منذ دخوله في الغيبوبة.
يقترب وفد من الدرج المركزي إلى غرف المريض. البعض في بزات عسكرية، وآخرون في بذلات رسمية، والطبيب في لباس الجراحين الأزرق. تحدق هوميليا وكاريتا في هذا الجمع المهيب. لقد نسيتا مدى أهمية مريضهما لأهل نيفاريا، فقد مضى وقت طويل مذ زاره أحد، حتى من الأطباء. ولكن ها هم قادمون، مع ضجة من الأصوات. ولكن صوتاً يبرز بينهم، قد يكون ذلك لأهمية مركزه كجراح للأعصاب، وقد يكون لأنه يفرض سلطته بقوة وإقتضاب أوامره. ينتبه الجميع لتوجيهاته لهم في وقوفهم حول سرير المريض. ثم ينطلق في محاضرته لهم، كما يبدو لهوميليا عندما التفتت لصوته، وتبين لها أنه يتكلم دون أن يكون قد فحص مريضها سابقاً.
أي صوت هذا؟ آه، أعرف..."هيه، طج، إركع على ركبتيك، هيا يا كرة الشحم... إستعطفني...يا إلهي ذاك الصوت... إنه يحرك... ماذا؟ أعرف! يا إلهي...هذه النبرة العالية، وهذا العبوس، ذاك الزنديق من الأكاديمية.
ماذا تفعل هنا؟ أي كابوس يصيبني يا إلهي... أنت فوقي أيها الشيطان...أي مصاب يأتي بك هنا وأنا مخصي... لا صوت، ولا نظر، ولا قوة أرميك بها، يا شيطان الجحيم! فأنا هيكل بلا حراك تحت رحمة أي كان ممن يحدقون أو يهزءون أو يسخرون من هيكلي الفارغ. أية إهانة! وجهي الميت المنتفخ، وجلدي المبقع، أمور للهزء والإحتقار... عاجز... عاجز.
أتهزأ مني الآن أيها اللعين؟ أتتسلى وأنت تدعوني ‘بكرة الشحم’ و’السمين’و‘المنتفخ’هذه اللعنات المخزية التي تجرح حتى الآن... القرعة الريفية. كنت جاهزاً لإستخفافك وسخريتك. لقد غرست سكاكين ألفاظك عميقاً، جعلتني أكره نفسي، وأتوق للإنتقام... لأن أجرحك عميقاً، وأراك تبكي، وتتلوى،وتركض بعيداً عني... ولكن ذلك لن يكون أبداً.
لقد عبثتت بي، الأحمق وحيد ينتظر،وينتظر ولكن لا ينتخب أبداً. سرقت ثيابي وأنا أستحم، أخفيت طعامي، وضحكت عندما عجزت عن إجابة الأسئلة. كتلة الشحم، رمز الغباء، الأبله والأخير دائماً على مائدة الطعام، المهرج يضحك الآخرين، كاريكاتور محتقر، مهزأ وحثالة المهرجين.
أكرهك. أية سخرية الآن... كراهية تضطرم داخل شكل عاجز أبكم. السخرية الأخيرة التي ترميني بهاـ تخرجني عارياً من الحمام، وتحبسني داخل الخزانة المعدنية... وصوت الضحك خارج قفصي يرن بالهزء، والإستخفاف، الطرق بالقبضات والقناني على الخزانة المعدنية يصم أذني... أبكي، ومن خلال دموعي، انظر من الشقوق خارجاً، فأرى الطلاب يتلوون بالضحك ووجوههم تسخر متشفية. وكلهم... كلهم يضحكون علي... القرد السمين في القفص... منتهى العار، أللاشيء... الصورة المسحوقة بالأقدام للخنوع الذليل.
أقسم... أقسم لنفسي ... ألعن الرب الذي خلقني... وأؤمن بتلك اللعنة...لن أخضع لمخلوق ولن أحترم مخلوقاً.سأخفي احتقاري لمن هم دوني وراء ابتسامتي الصفراء... سأسير في هذه الأرض القاحلة نبتة كراهية مشتعلة، لا أخضع لإنسان، ولا أطيع إلا طموحي وغضبي، التوأمان اللذان يأخذان بيدي إلى السلطة... هكذا كانت حياتي منذ تلك اللحظة.


بينما تقف هوميليا منصتة للطبيب، تمرالدقائق، وتشعر بأمعائها تتقلص، ويغمرها شعور بعدم الراحة. تتراجع صوب الباب، آملةً بالهرب من الجو الخانق. تشعر بعجز المريض، وتعرف أنه يتوق للحرية. لا معنى لمشاعرها. ما مصدر هذا الأسى ؛ أية علاقة تربط هذين الإثنين، وتربطها به؟
"أيتها الممرضة، أين تذهبين؟ سأحتاج للائحة المريض، لاتتركي الغرفة. أتسمعين؟"
"نعم، أسمعك، سيدي، ولكني ظننت أنك لا تحتاجني إذ بدأت تشخيصك دون أن تلزمك اللائحات."
"لا تسائلي سلطتي، أيتها السيدة. سأخبرك متى يمكنك الخروج، أتفهمين؟
"نعم، سيدي."
كان رد هوميليا غريزياً، إذ تتكلم باسم مريضها، بتكافل غير مفهوم، هذا الرجل الذي لم تره سابقاً أو تتكلم معه. إنها تعرف وتشعر في أعماقها طبيعة هذا الطبيب الهدامة التي بشكل ما كوّنت شخصية المريض الذي تعتني به، وقد أصبح عاجزاً ووحيداً في العالم الذي خططه وأوجده.
لا تفهم هوميليا مشاعرها؛ ولكنها تدرك فقط الشفقة التي تهزها لمريضها في حضور هذا الطبيب. شيء في داخلها يرد على سلوكه الشرير المتعالي والأناني. إنها تعرف أنه لا يعرف غيره. العالم موجود له وحده. إنه يقف هناك، يتدفق بالكلام لهؤلاء المتملقين، وهم يبتسمون له وكأن حياتهم مرهونة برضاه. ولو أتيح لهم الإستغناء عنه لما منحوه لحظة من إهتمامهم. كم تتوق للذهاب إلى البيت حيث أحباؤها، تحتسي الشاي معهم، وتمازحهم بحب ومرح. كم تمقت عالم هؤلاء الحجاج والنفاريين الذين يتسلقون أكتاف بعضهم في سبيل التقدم.
تدرك هوميليا ببديهتها العلاقة بين الطبيب ومريضها. شيء في لهجته، نغمتها الحادة الفياضة بالإحتقار والإزدراء، تشير إلى شعوره بالإنتصار على هذا الشخص المنبطح المهزوم. لم يأت ليشفيه، بل ليتفاخر على الرجل الذي حكم البلاد فترة طويلة، رجل إحتقره وحسده منذ أيام الدراسة قبل أن يتوجه إلى كلية الطب، وعدوه إلى الحربية. سارت حياتهما في دوائر مختلفة، ولو أن كلاً منهما تتبع أخبار الآخر، ولاحق خطوات حياته ومهنته، لدرجة الرغبة في الإجتماع بعدوه بغية تحقيره أمام الجميع.
آه يا هوميليا، إنك تقفين في ظل الشر المجسم، ولكنك يا بريئتي لا تعرفين ذلك. ما أشجع مجابهتك له، وأنت مجرد ممرضة من إليوسيا... إنها ليست شجاعة، إذ ما مدى معرفتك بالشجاعة؟ إنها شخصيتك. إنها أنت... قدرتك على الإحساس بالناس، تعرفين الطيبة، وترين الشر يرتدي ثوب الطبيب الأزرق. إنك تحترمين الشخص وليس رداؤه أو لقبه. فالحمار حمار مهما ارتدى... ها! ألبسوا الخنزير وشاحاً وتاجاً وتظل رائحته منتنه. أنت تعرفين ولا تنحنين. النيفاريون ينحنون. لعنهم الله، إنهم يزحفون إذا لزم الأمر،فالنجاح يتطلب ذلك. ليس في إليوسيا. سعادتكم في البيت وليس في العمل. تتمتعون مع بعض ولا تسحقون بعضكم. إنه أسلوب لم أفهمه أبداً. يا للجحيم، كنت أكره ذلك وأهزأ به. كنت أهزأ بك لأنك تتركين بلدك جويا للعنايه بي. أية متعة... كنت أحد الجنود، أحد الوحوش الذين سببوا الكساح لأبيك! كسحته؟ لقد شرحت للحجاج كيف يفعلون ذلك. أية إهانة، وأنت حتى لا تعرفين بمن تعتنين وما فعلت لعائلتك. هل كنت تظلين بهذا اللطف لو عرفت؟
ألآن... الآن في بيت الموتى الصامت هذا أشعر بما لم أفكر به سابقاً—فعجرفتي هي دليلي. أعرف طباع النفاريين ودوافعهم،أي خوف وراء طموحهم. أي ثقل يحملون خلال قرون من العذاب والعنف. يحملون أسلافهم على ظهورهم مثقلين بآلامهم وذنوبهم... وأية رغبة في الإنتقام تضطرم في أرواحهم. أي شعور بالنقص يدفعهم لتدمير ودفن شعورهم بالذنب.أعرف هذا وأعمله لأني نيفاري. لقد غمرني الخوف الذي يتملك من يتعرضون بالأذى والقتل والتشريد من بلد لأخرى محتقرين من الجميع، أعرف تأثير هذا على النفس... ألإنتقام يتغلب على الرحمة والشفقة. ولكني لا أعرف الإليوسيين. كنت أظن أني أعرفهم... كانت غطرستي توهمني بذلك."
"أريد اللائحات الآن، أيتها الممرضة، بسرعة، بسرعة، فليس لدينا وقت كثير. هؤلاء الناس مهمون؛ لا نقدر أن نجعلهم ينتظروا فعليهم أعمال أخرى."
تسلمه هوميليا اللوحة بإزدراء ظاهر، يشعر الطبيب بذلك ولكنه يتجاهله، ويشير للمجموعة بالدخول لغرفة مجاورة حيث وضعت حاسبات أمام الحائط المقابل. يجلس على كرسي عجلات أملم الشاشة.
"دعوني أريكم أحدث تخطيط لجمجمته؛ فهو يشرح وجهة نظري.هذه صورة من أعلى لأسفل، لاحظوا المناطق البيضاء داخل الجمجمة... الدم. ذاك يخلق ضغطاً على الدماغ، ويمنع الحركة الطبيعية. لم يعد الدماغ يعمل ليسيطر على دوافع الحركة. هذه حالة صعبة. لاحركة بالمرة . لقد تحول إلى كائن يتنفس بدون منطق ورد فعل أي كان. لا لزوم لإبقائه على قيد الحياة، إلا إحتراماً لمركزه السابق. إهدار للمال والجهد. ولكن هذه ليست مسؤوليتي. فالسياسيون يحصلون على حق وجودهم.
بهذا التلخيص المختصر ينهض الطبيب عن كرسيه، وبلهجة روتينية يسأل المجموعة إذا كان لديهم أسئلة، وهو يدرك أنهم لن يفعلوا. ينحني لهم ويخرج من الغرفة وهو يناول هوميليا اللائحات التي لم ينظر إليها.
إستخفاف الطبيب الواضح بمريضه الملقى، وإشمئزازه وقرفه من إضطراره أن يظهر إهتماماً به، يعكس العجرفة المسيطرة على طبقة المهنيين في نيفاريا؛ من السخرية أنها من صفات المريض البارزة.
كلا الرجلين لا يكنان أي إحترام للحجاج بالثياب السوداء، الذين يسيرون في الشوارع مظهرين توبتهم، ولكنهما لا يبديان علناً كرههما لهم، لأنهما بصراحة إستغلا معتقداتهم الخرافية لمصلحتهما.
يترسخ في أعماق هؤلاء الرجال إعتقاد مطلق أنهم يتفوقون داخلياً على الجماهير، ليس لأن دينهم يبيح هذا التفوق، فكلاهما لا يؤمنان بدين آبائهم. ولكن لأنهما يؤمنان بتفوق متأ صل لديهم على العامة.كلاهما يتقبلان ضرورة وجود طبقة حاكمة، حتى لو فرض هذا الحكم بالقوة، فالإستقرار يتطلب ذلك. لهذه الغاية يصبح إستغلال الجماعات وخاصة المتدينين، جزءاً طبيعياً من الحكم. هذا الإعتقاد يجيز السيطرة بالتحايل والقوة،لمن لديهم من العجرفة ما يمكنهم من الإستيلاء على السلطة، ناسين تحذير الأنبياء القدامى من الهلاك المحتوم.


اليوم الثالث


الندم


بعد مغادرة الطبيب ثم هوميليا وكاريتا، وقد إنتهى يوم عملهم، يستلقي المريض بهدوء، وقد غفل عما حصل بعد نومه أو غيبوبته. في المساء تطفأ الأنوار في أنحاء المستشفى ما عدا نور القاعة الخافت؛ يغمر المكان هدوء تدريجي، كما لو أن الحياة توقفت، وطغا سكون على الجو ترقباً لدخول أمر مجهول. يمر الوقت هادئاً حول الشخص اللاحراكي وقد إنبثق فجر يوم جديد. ما أغرب أنه وسط هذا السلام الظاهر، يصحو دماغ في محاولته للتيقظ، وحيداً في عالمه الأسود، وعقله يترنح على هاوية من الفراغ.
أنا الطريق إلى العذاب الأبدي. ‘دانتي’ بنفسه ما كان ليقدر أن يخطط مصيري. من كان يمكنه التفكير بزمن لانهائي مملوء بعقاب الذات على كل أعمال الغدر والخيانة للجار والصديق وحتى القريب؟... ‘إفقدوا كل أمل يا من تدخلون هنا’ نحتها دانتي بنفسه على باب جهنم. ولكنه لم يدخل جحيمه.إنه فقط تألم لعذاب الآخرين، لأن لديه ضمير حي. أنا أواجه نفسي وعقلي الذي خطط الخيانة. جحيمي الذي لا مفر منه... لا أملك الحياة ولكن أفكاراً، وذاكرة متهيجة تدفعني إلى زنزانة اليأس هذه، وتجلد روحي العارية بلا شفقة.
لم هذا العذاب؟ فأنا لا أؤمن إلا بإحتياجاتي وملذاتي وطموحي. لا يحاكمني رب ولا جهنم تنتظر دخولي. لا خوف من لعنة أبدية تحيلني إلى أحمق مأفون.أحتقر الضعف وخرافات المجاذيب السخيفة ... فما الذي يحيل أفكاري إلى أشواك تنغرس في ليلي المظلم كحد الخناجر عميقاً في هذا العقل الذي لا يهدأ ولا يجد سلاماً؟
هل علي أن أدرك الآن أني لم أقدر أن أتحكم بمصيري؟ هل لبقية علاقة تربط هذا المهرج المنتفخ بأولئك الذين أحتقرهم بالرغم من كل رغبة بالتخلص من كل المشاعر؟ أتراني أواجه إلهاً شريراً يجلس صامتاً وهو يستمع ويضحك على أفكاري المتمردة؟ هل رسم لي هذا القبر الجهنمي الذي يحيطني بظلام مُطبق ليجبرني على مواجهة أفكاري،العذاب الوحيد المتروك لي ؟ هل علي أن أنظر إلى الوراء، وأتذكر وحشيتي، وأحاسب نفسي؟
حتى الآن تجثم تلك المذبحة في هذا الظلام. لاتبدو بعيدة مع أنها حدثت منذ زمن بعيد، خمسين عاماً على الأقل. راقبتهم... بل لم أغالط نفسي، أناالذي أمرتهم بذبح أولئك الأبرياء... مجرد نساء وأطفال محتجزين في مخيم للاجئين
حاصرته بالمصفحات كيلا يهربوا. كنت أنظر في عيونهم الطافحة بالشهوة وهم يمسكون بالفتاة،فيغتصبها أحدهم، ثم يدفعها إلى جندي آخر. لم أرَ في حياتي وحشية كهذه. ولكنني كنت أسوأ... فقد إبتهجت بوحشيتهم وإستمتعت بها. لماذا؟ من أكون حتى أنغمس في الدماء، وأستمع بفرح إلى صراخ القتلى وأضحك لبكاء الأطفال؟ لم أهتم ولم أشعر بالخجل... فقط عنف، الشراسة والعنف. أهذا مصيري النهائي؟ هل سأبقى في هذا الظلام الأبدي يغمرني الندم،حبيساً لإنتقام إله ماكر خبيث؟
فليكن. لا أملك ‘فيرجيل’ ليقودني في هذا المجهول... إذاً، يا ديماس، لنذهب معاً نقابل الشياطين التي سنقابلها، نُعرّي أرواحنا، فليس لدينا ما نخافه، فلا مهرب من هنا...

ولكن المريض لايسيطر على وعيه. فجأة يتملكه هبوط في دماغه فيصمت. ولكن في لحظات صحوه عندما تخترق الأصوات ظلامه، يتجاوب بغضب ويأس كرد فعل تلقائي لعجزه. يدخل الآن متحدياً، بعد كل شهور العزلة والعذاب، تلك المرحلة الأخيرة، ليل الروح المظلم. فالمريض في جسمه، والغرفه التي يستلقي بها، والمستشفى كله، والمدينة القديمة المبعوثة دسبيريا يبدون منغرسين في الزمن، كقبورتعكس وعي الإنسانية الحبيس والإدراك المندثر إلى الأبد عاجزاً عن الخروج من ظلامه والإنزلاق إلى النور. دسبيريا المدينة القديمة بكنوزها الوفيرة الممتدة منذ آلاف السنين، تبدو وكأنها تضم أحلام البشرية في عهدها العظيم كمصباح للعلم يتوج الإنسانية. من ذلك الماضي تنبعث المعرفه والإدراك لمن يريدها ويبحث عنها.

على الخريطة، تبدو نيفاريا كقلامة ظفر في إبهام ممتد من يد مضمومة، تحيطها من ثلاث جهات شعوب مجاورة، ومن الغرب البحر.إنها أرض تكسوها التلال والوديان المغطاة بالصخور والرمال، مقر حضارات قديمة إندثرت تحت الأراضي القاحلة .يتلظى أهلها بالحرارة المرتفعة صيفاً وتلسعهم الرياح الباردة والثلوج شتاءً. بالرغم من الطقس القاسي، عاشت شعوبها ألوف السنين يتقاتلون أو يتعايشون برضى وإن لم يكن بسلام.

كان معظم المعتدين شعوب أجنبية، إحتلت البلاد لأنها تقع بجوار شعوب أخرى أخضعت للإحتلال. تعكس دسبيريا تاريخ نيفاريا؛ كانت المدينة القديمة المحاطة بسور موطناً لشعوب مختلفة بلغات وعادات مختلفة، وهم بدورهم حاربوا بعضهم على مر العصور. كان النبي العظيم ‘ثورثانا’ قد لاحظ أن دسبيريا تعكس الكرة الزرقاء الضخمة السابحة وحدها في الفضاء؛ يراها الناظر إليها من بعيد رائعة في تفردها، ولكنها من القرب تبدو كحطام مرآة بآلاف الألوان تعكس أحلاماً مؤجلة وعدالة محرومة.

نتجت مقاطعة نيفاريا من إنهيار إستعمار ترك البلاد مقطعة إلى قسمين بشعبين مختلفين عرقياً. الأليوسيون ثلثا سكان البلاد الأصليين، رفضوا التقسيم الذي فرض عليهم، ونتيجة لذلك، خسروا أرضهم ما عدا قسم صغير، للنفاريين المتفوقين عليهم عسكرياً. ولا تزال إليوسيا محتلة حتى اليوم.
لهذا السبب يخلق وجودالحجاج بهذه الكثرة في الأماكن العامة توتراً لدى الإليوسيين الذين يعيشون ويعملون في البلدة القديمة. وجودهم العلني في اليوم الثالث، من الموسم المقدس،"يوم الندم"، يتخذ صفة تطفلية إذ يتجمهرون جماعات في زوايا شارع يبوكريسز بطولهِ، حيث تعرض خطاياهم في دائرة من أربع شمعات مشتعلة على علم قرمزي يرفرف على كل أعمدة الكهرباء، وقد إنحنوا بثيابهم السوداء، يصلون ويهمسون ندمهم كما جاء في نبوءات كتاب الحكم. لقد إستوعبوا العقاب الذي يلحق بمن يتجاهلون أيام الإعتراف والعقاب وها هم يطلقون ترانيمهم الجنائزية الحزينة على ما إقترفوا من أخطاء،
"إسمعوا صوت البوق الذي يرن فوق العاصفة،
يدعو للإنتباه هذا الجمع الحاشد؛
ينتشر الخوف كغيمة سوداء فوق هذه القبيلة
التي تنتظر الحكم الذي سيصدره الإله القدير."

هذه الترنيمة الجنائزية تعلو على صوت السيارات والشاحنات التي حشرت تحت الغيوم الثقيلة التي جللت المدينة خلال موسم الإعتراف بالخطيئة والعقاب المنتظر. والأغرب في الأمر هي الصور الإباحية لخطايا قديمة عرضت على لوحات ضخمة علقت على البنايات، نساء عرايا مضطجعات على مناشف استحمام، وهن يدلكن سيقانهن بالمرطبات، نساءمرحات ورجال يحتسون الخمر، مجلات دعارة تعرض معلومات جنسية. ولكن للإليوسيين كهوميليا وكاريتا، الندم الظاهر يقنّع حقيقة أعمالهم ويهزئ الموسم الذي يعرضونه على العالم.

أهل إليوسيا، بعكس النيفاريين، يعيشون حياة فقر وحرمان، عاجزين عن التغيير بسبب فقر البلاد وإعتماد حياتهم على نزوات السلطة المحتلة. لا يستطيع أحد التنقل في إليوسيا بلا إذن من "ٌق.إ.ن"التي تتحكم بمئات الحواجز في جميع أنحاء البلاد. لا أحد يدخلها دون إذن "ق.إ.ن"كذلك لا أحد يغادر بيته دون هوية، ولا يمكنه قيادة سيارته دون اللوحة المرخصة، ولا يسمح لأحد بالسفر في الطرقات الجديدة التي شُقت للحجاج القاطنين في مناطق من إليوسيا بمستوطنات يحرسها "ق.إ.ن". تنحدر الحياة في إليوسيا إنحداراً يتعذر إجتنابه نحو السلبية اليائسة والتغريب، وبين الحين والأخر تنفجر الكراهية التي تأصلت في نفوسهم نحو مضطهديهم في أعمال بربرية شائنة.

يجد المؤمنون من النفاريين عزاءً في كثافة شعائرهم الدينية خلال قرون من الإلتزام بمعتقداتهم القديمة. ألأولوية والتقاليد يستمران في توحيد الناس بغض النظر عن التغييرات التاريخية والتقدم العلمي. إعادة قيام الوطن في إليوسيا يستند إلى سلطة الأنبياء الذين تنبأوا بعودة النفاريين إلى البلاد المتفق عليها بمواثيق منذ قرون.
يجد الأليوسيون أنفسهم كسلف للشعوب المقهورة في الحضارات القديمة، الذين إستعبدوا وأجبروا على التنازل عن حقوقهم لمحتليهم. بالرغم من كونهم ضحايا، يعتقد النفاريون أنهم قوة تهدد وجود نيفاريا، وتقوي الحكومة هذا الإعتقاد ليغرسوا في قلوب الشعب الخوف والإذعان للسلطة.
لهذا لاتتوانى السلطة الدينية وخاصةً "المقدسون"من إنتهاز الفرص لغرس عدم الإستخفاف بقوة التنبؤات في نفوس المؤمنين، بما فيها القيام بزيارات للرجل المسؤول عن تسلم نيفاريا زمام الحكم، الجنرال ديماس. في هذه اللحظة بالذات جمع الكاهن المقدس مجموعة صغيرة من الحجاج حول سرير المريض.
"بهدوء، أريدكم أن تحيطوا بالسرير، لا تقتربوا كثيراً، أتركوا مسافة محترمة من فضلكم."
يذكر الكاهن المقدس الجماعة، أنهم جاءوا ليصلوا للمريض. يقترب إثنا عشر حاجاً متلفعين بثيابهم السوداء من السرير، وقد احنوا رؤوسهم، وهم يهزونها بصمت، وقد تدلت لحاهم على صدورهم، وأسندوا كتب الصلاة إلى بطونهم.
"كما تعلمون، لقد مضى على رئيسنا في هذه الغيبوبة ثلاثة عشر شهراً. قلائل يتوقعون له الشفاء ولو أن هناك من يعلمون أنه تُرك في ساحة المعركة كميت وإذا به يعود لقيادة جيوشه للنصر. إنه رجل قوي ذو إرادة. لم يظهر أحد في تاريخنا الحديث أكثر ولاءً منه لهدفنا... عودة بلادنا لأصحابها الشرعيين. إنه قدوة في قيادته، إنه الإيمان مجسداً.فهو يعرف كيف ينجح في مقاومة الإليوسيين.وهو يعرف أن على العالم أن يفهم أننا لا نريد شراً بأحد. فنحن أكثر من يريد السلام. نحن بطبيعتنا شعب مسالم.ولا نريد سوى نشر حكمتنا ونمط حياتنا الروحاني السامي في هذه البلاد. إننا ننفذ أوامر أنبيائنا ولسنا سوى خدم متواضعين في طاعة الرب . وهذا الرجل هو المصدر المقدس لقوتنا. يجب أن نصلي لشفائه.
علينا أن نتذكر جميعاً كيف أحضرنا إلى أرض الميعاد وتمكن من إعادة موسم الغفران والثواب. نحن ندين له بالشكر.صلوا بقلوبكم لروحه لتمحى خطاياه حتى لا يقع في الثواب والعقاب. لقد أعطى الكثير للبلاد. أرجوكم أن تصلوا بصمت. وسنغادر الآن."
أعلن مجلس الكهنوت الأعلى أن الموسم المقدس في هذه السنة يتميز بصورة إستثنائية لأن الجنرال الذي دشنه ليكون ذا دلالة خاصة للنفاريين، على ضوء إعلان النبي أن يوم الدينونة وشيك الوقوع، يستلقي مصعوقاً في وقت تحقيق النبوءة وعودة النفاريين لأرضهم المقدسة. ولا بد أن القدير عرف عن إلتقاء هذين الحدثين معاً، وهكذا أعلن هذا الموسم كتحقيق للنبوءة، بمجهود هذا الرجل العظيم. إن دمجهم النبوءة المقدسة بالسلطة العلمانية والحكم العسكري على أرض إليوسيا، يبرر توسعهم على حساب حقوق ومطالب الإليوسيين.

ما أسخفهم! تأتون للصلاة من أجلي؛ يا للسخف؛ صلوا للإله الذي إخترعه آباؤنا لنسيطر على الشعب خلال القرون الماضية... أي إنقلاب. أنتم تؤمنون كي تتمكن الأقلية من الحكم. ألأمور لا تتغير.(فئران وقادة)؛ هكذا كانت الأمور دائماً. القساة يحكمون؛ والبلهاء يتبعون. تعلمت ذلك باكراً؛ علمني إياه ‘أبوليون’. دع الرب يحب الأغنام؛ يعتني بأرواحهم ويهيئهم للإستعمال. لا يحتاجون سوى الإيمان بوجود ثواب لعذابهم. حتى الآن في العصر الحديث، تزحفون نحو هذا السراب...
أيها الحجاج، أنتم خليقتي... كعشب يغذي خطتي لمصادرة المزيد من الأراضي، دائماًعلينا أن نسرق أراض أكثر، ولم تعرفوا أبداً... يا إله السماء... تأخذون تخطيطي وتتوسعون به. تبدون تعصباً لم أعلم بوجوده، إيمان يعميكم عن الزمن، والمنطق وحتى القانون... تدعون أنه لا حاجة لأن تكون هناك شرعية لإسترجاع بلادنا... لقد وعدنا بها الله بمواثيق قبل ألوف السنين. أنا ببساطة أستند إلى حماسكم وتعصبكم. التهديد والقوة... لا تحاربوا حسب الأصول... المفاجأة، الإندفاع... يغلب الجميع.
أيها المجانين، أنتم تعيشون في عالمي... المستوطنات. أنا أسكنكم على أرض إليوسيا... وأمنحكم صفقات مربحة... كل ما عليكم فعله هو مهاجمة الإليوسيين،إحرقوا محاصيلهم، إقلبوا حقولهم، واهدموا بياراتهم وبيوتهم، صعبوا حياتهم كي يرحلوا.
كنت أعلم أن الإليوسيين سيقاومون ويجعلون السلام مستحيلاً. أنا الملك الجديد أغري الشعب بتقبل إرادة الله الحتمية، يرددون نبوءة الأنبياء كحقيقة لا تقبل المصالحة، وما علي سوى قيادة المسيرة. والآن أنا ملقى هنا بلا حياة، ولا قدرة لأخبركم كيف إستعملتكم... ولماذا أفكر بهذا... فأنا لن أكشفه.أنتم مكملات آدمية لتحقيق نيفاريا، وأنا لا أهتم بكم أكثر من الإليوسيين... كما أن لديكم موسم الندم والغفران ليغسل حماسكم وتعصبكم الذي سبب وحشيتكم...لقد لفقت هذا الموسم من مخطوطات قديمة ليوافق معتقداتكم... وطاعتكم تقوي إحتياجاتي السياسية. هذا الغش يؤكد لي أن لقب "شعب الله المختار"يضمن طاعتكم العمياء ونجاحي المطلق...ألحاجة تدفع الطموح.
لقد ذهبوا... الصمت فقط وظلام الكهوف، أنا وحدي الآن... أفكر بصورة مختلفة عندما أكون وحيداً...
شيء ما يصطخب في نفسي عندما أسمع أعدائي القدامى أو السخفاء الذين إستعملتهم...أو هوميليا.
إنهم يحركون إتجاه تفكيري... أتمتع بالدفاع عن أعمالي، إنه سهل مع الحمقى والأبرياء... ولكن عندما يحل السكوت، عندما علي أن أواجه نفسي، عندما تتراجع لذة الإيذاء... عندها يتدخل شيطان الشك ليهدم ثقتي... ثقة بنيتها للدفاع عن الوحشية التي وجهتها للإليوسيين، الذين ككل من وقعوا تحت أقدام الإحتلال،يجب أن يموتوا... ولكنني الآن أتفتت وأنهار أمام هذه القوة الشيطانية التي دفنتها مدى سبعين عاماً، طيلة عمري التوراتي الذي عشته ما وراء نطاق اللعنة، يلاحقني الآن... لأني وحدي... القاضي والمحلفون والشاهد الوحيد على هذا العذاب الموجع، هذا الألم الذي يهاجمني في مدفني داخل لحمي المتعفن...


بعد مغادرة الحجاج يسود الصمت قاعات المستشفى، وسرعان ما تصبح البناية كلها صامتة كقبر المريض. الصمت هو ليله، فترات طويلة من الوقت بلا تدخل يشغل عقله، الذي يستيقظ ولكن لا يتجاوب بدون صوت، صفارة إنذار، أو إنفجار بعيد. لهؤلاء يتجاوب تلقائياً. يصبحون كمنجنيق لأعمال سابقة أو قرارات إتخذها ونتائج تسبب بها.
لقد أوجد موسم الثواب والعقاب المقدس بمساعدة الكهنة ومجلس الآثار. يشعل الموسم توهجاً دينياً يمنح الكهنة سلطة مباشرة في حياة الحجاج اليومية. إنه يحمل تهديد الثواب والعقاب للجميع بما فيهم الذين يستخفون بسلطة كهنة الدولة. لقد ارتفع مقامه لدى السلطات الدينية منذ عمل على بعثها من نبوءات ثورثونا، نبي عاش قبل 3500 عام.
تحمل نبوءات ثورثانا معانٍ وجودية للنفاريين إذ تنادي بتحقيقها في الحاضر، في سنوات غير معينة في بداية القرن. ويخدم الخوف من الثواب والعقاب المطلق غايات السلطة الدينية والحكومة.
توجد نبوءات ثورثانا في مخطوطة بالية من البردى إكتشفت صدفة قبل ستين عام. وبما أن النبوءة تلعب دوراً هاماً في حياة المريض فقد أحضرت ليفهم الجميع مغزاها.

كتاب الدينونة

للنبي ثورثانا


في تلك الأيام لم يعرف أحد دينونة الله رب السماوات، مع أنهم عرفوا غضبه وخافوا من ثوابه وعقابه. لم يعرف أحد على أي أساس من العدالة تقوم قاعة الحكم الإلهية، ولا في أية ساعة سيكون يوم الدينونة. ولكن الجميع إعتقدوا أن ذلك اليوم سيقع. فليسمع كل من يستطيع نبوءة ثورثانا لأنه يتمتع بصوت الله ويرى ما سيكون:

بينما كنت نائماً رأيت غضب الله ينكشف،
منظراً مريعاً، مخيفاً للناظرين،
عن المصائب التي حلّت بكلاب الحروب الشريرة
لجرائم إقترفوها على أبناء جنسهم لا تتجاهلها العدالة.
رأيتهم متجمعين أمام العرش الذهبي،
وجوههم يملأها الرعب لمصيرهم المجهول؛
وحولهم إرتفعت ترنيمة جنائزية مؤلمة،
مناحة حزينة، أبكتني على هذا الحشد البائس.
ولكنهم لا يستحقون الشفقة، كما علمت،
لأنهم في حياتهم المليئة بالجشع إستخفوا
بالقانون الرئيسي الذي يهب الحياة للجميع،
ويعلم المحبة للجميع، ليتعلموا كيف يسامحون.
ثم رأيت أمام عيني منظراً عميقاً،
وقفت مع هذا الجمع صامتاً مسحوراً،
إذ في الأعالي إندفع طائر فضي عبر السماء،
ممزقاً زرقتها البراقة بصراخه المخيف.
وما أن سمعنا تلك الصيحة، حتى رأينا
إنفجاراً من اللهب الأحمر يحطم الزرقة وينفخ
مندفعاً، كأنما من فرن أعدّه شيطان مجهول
متحدياً الإله الجالس على عرشه.
ثم، ودون إنذار،تحولت السماء إلى رماد منصهر
يسقط من قبتها، حاجباً شمس الصباح ويتحطم
كرغوة حارقة، ويلقي حجاباً قاتماً مخيفاً
على جميع السائرين ويغطيهم بوشاح مروع.
هذا المنظر القاتم يزداد كثافة، إذ إنكشف
في دوامات حول الأقدام المغطاة
تاركاً لوحة مخيفة قد يحييها الموت.

ثم انبعث صوت بوق فوق العاصفة
يدعو الجميع إلى الإنتباه؛
وانتشر الخوف كغيمة قاتمة على الجمع
بانتظارالحكم الذي سيصدره القدير.

**********

يوم الدينونة هذا الذي أصفه سيتحقق،
في الوقت المناسب قبل نهاية ثلاثة آلاف عام.
وسيخاف كل الأحياء حينها من الإنتقام،
لأن أعمالنا غير الإنسانية ستصبح خطايا يسمعها الجميع.
وهؤلاء الواقفين للحكم هنا قد قزموا في حياتهم،
بأعمالهم غير المعقولة، ما أراده العقل،
بينما يقف شهود سلوكهم الشرير،الذين ماتوا،
ضحايا شقية لمذابح وحشية إقترفها أولئك الكاذبون.

*********

ألأجزاء الباقية من المخطوطة معطوبة، وبينما يظهر أنها تكملة للنبوءة، لا يمكن تقديمها في شعر يتكيف مع البداية


فجأة وقفت وحيداً، غير مرئي في المساحة الشاسعة
ويرفرف الشعور بقوة حضور يوم الثواب والعقاب
الذي يظلل سماء الليل كمصير وشيك الحدوث
حجاب كثيف من العار المتواصل سيهبط على هذا المكان
وعلى الذين بلا ندم ذبحوا أقرباءهم.
عندها أدركت أن علي أن أسجل ما سيغرسه الثواب والعقاب
في عقول وأرواح الذين غدروا في حياتهم بأقربائهم
ليعرفوا عظم مقدار غضب يوم اللعنة.
وبينما كنت أرتجف تحت المظلة السوداء
المرصعة بنقط دقيقة لا تحصى من الضوء،
سمعت ضجة مخيفة من فوق،
وإلتفّت القبة بشكل جداول من الشرق إلى الغرب،
وانقضت على الأرض موجة متلاحقة من الغربان السود.
ثم شق سيف الله المظلة،
وصب نور الشمس الأبيض المتلألئ،
على التلال المظلمة في الأسفل.
سمعت أصوات الدينونة تقرع
من خلال إشراق ذلك النور.


هناك وقفت شاهداً على يوم الدينونة،
بينما إرهابيو الإنسانية، في تلك الأيام القادمة،
واجهوا غضب يوم الثواب والعقاب الحق
ليدخلوا في أبدية من العقاب اللانهائي.
وتحرك من أطراف التلال البعيدة المظلمة،
جماعات من الرجال البائسين إلى مصيرهم المحتوم.
واخترق نور الشمس الظلام ليكشف
صحراء من الرمال البيضاء حيث أولئك الملعونون
سيسمعون الحكم عليهم، بينما ضحاياهم يتدفقون
حولهم بكثافة كالجراد ليسمعوا قصف الرعود
التي نطقت بجرائمهم وعقابهم.


ومن بين تلك الجموع من الرجال المقرفين، المتلفعين بالظلام
ظهرت مجموعة من المخلوقات البشعة يئنون بتوجع وحزن
وهم يتحركون بتصلّب داخل النور المميز لهم .
وهناك وقفوا جماعة تتمايل وقد اكتست بالأقذار
يغطيهم غشاء مخاطي متعفن، من الرأس إلى القدم،
كالمشمع يلف أولئك المحكومين باللعنة الأبدية.
ومن تلك المجموعة إنطلق نواحٌ مخنوق بصوت مشوّش،كالضجيج المتواصل
من البحر اللانهائي، لعنة مروعة إلى الأبد.


هذه النبوءة تعمل حفّازة للأيام السبعة من الموسم المقدس؛ إنها تخدم لفرض الإذعان قبل غضب وانتقام الإله الوشيك.










اليوم الرابع

الإعتراف


عندما تصل هوميليا في البرد القارس إلى المستشفى، تلاحظ مجموعة من سيارات الجيش تحيط بالمدخل الرئيس ذو الأعمدة المحززة والطنف (الكورنيش). تشعر أن شخصيات هامة لا بد تزور مريضها، طالما يقف الجنود في حراسة كل سيارة، وجنديان لدى الباب. هذا الأمر سيصعب عليها وعلى كاريتا مهمتهما اليومية، أو يفرض تأجيلها.هذا يزعجها. يبدو في عينيها أن العناية به ذات أهمية أولية، فهو على عتبة الموت، ويجب أن يحترموا أيامه الأخيرة. ولكن هؤلاء الزوار لا يظهرون اهتماماً لوضعه، سوى الإحترام اللازم لمقامه السابق. خلال الأشهر الثمانية في وظيفتها، كان على هوميليا أن تصغي إلى تكلف المديح من البعض، وتأبين متذلل من آخرين، وكراهية خبيثة من أعدائه المعروفين.
قبل أن تدخل من الباب الجانبي، تعرف أن اليوم سيكون يوماً صامتاً ومشؤوماً.
كان خمسة أشخاص يقفون حول سرير المريض، أجنبيان بثياب رسمية وثلاثة من العسكريين بكل نياشينهم. تذهب هوميليا إلى أجهزة المريض وبيدها اللوحة، تسجل الأرقام ثم تعود إلى ركنها في طرف الغرفة، إذ لا تجرؤ أن تقحم نفسها بين المريض وزواره.
"لقد مضى عليه عدة أشهر في هذه الحالة. لا تغيير."يلبس المتكلم بذلة من قوة الطيران النيفاري بجاكيته الكحلي وسرواله الأزرق ذو الخطوط الذهبية، طويل نحيف بشعر وشارب يشوبه البياض، ويحمل طاقيته تحت ذراعه الأيسر. "لقد بذلوا كل ما في وسعهم بما فيه الجراحة في الجمجمة ليسهلوا نزف الدم الفائض، بلا فائدة. إنه كالميت ولكنه يحظى بكثير من الأتباع،فيتوجب على الإدارة المحافظة على حياته."الصوت سلطوي ومباشر.
"ولكن هل من المتوقع أن يصحو من غيبوبته؟ أود أن أرجع للبلاد ومعي تقرير وافٍ أقدمه للإمبراطور."هذه الكلمات بصوت سفير الولايات الإشتراكية المتحدة، رجل أنيق محترم، قصير القامة ممتلئ، أصلع الرأس، نطقها بتردد وبلهجة قلقة.
"لا أحد يعرف. وإن صحا فمن يدري كيف تكون حالة دماغه؛ وهل سيكون له سيطرة على يديه وساقيه؟ بصراحة، البلد بحاجة أن يستمر في حياته بعد الجنرال.لقد مضى عهده؛ ونحن في مرحلة متقدمة وعلى الشعب أن يرضى بهذا."
"أفهم موقفك سيدي، ولكن بلادي إستثمرت ثمناً باهظاً في هذا الرجل. فهو يمثل نيفاريا بنظر إمبراطورنا. لقد أعطي صلاحيات واسعة لإدارة الأمور كما يجب. لقد حظي بحمايتنا، ولو أن هناك الكثيرين عندنا ممن يدعون أنه سبب الكثير من الأذى الذي لحق ببلادنا. إن سياسة بلدكم ضد الإليوسيين تسبب الكراهية لنا. ولكننا لم نخبر شعبنا بأعماله، فالكل يتأملون أن يتحسن وضعه."
"دعني أتدخل هنا،سيدي السفير."قال موظف كان يرافق المريض لعدة سنوات في مناوشات حربه في شمال نيفاريا ضد بلدان مجاورة. مع هذا كان موضع سخرية من المريض الذي سماه "سائق العربة"لأنه أراد أن يحذر المدنيين من عمليات متوقعة، وهذا أثار استهزاء ديماس."لماذا لا يعرف شعبك أي نذل هذا الرجل؟ الأمر معروف في نيفاريا منذ 50 عاماً. حافزه السلطة، وأن يكون في القيادة. لا مبادئ لديه، مجرد مهمة بلا رحمة للعقاب بهدم البيوت وقتل مئات النساء والأطفال والشيوخ في سبيل تقدمه. إنه يراوغ، يكذب، ويدين من يعاكسه."
"لو انتشر تقريرك هذا في بلادي، لتوقف دعم نيفاريا حالاً وتوقف نفوذ( جمعية دعم نيفاريا في ولايات الإتحادالإشتراكي)."
"إن جمعية دعم نيفاريا يديرها في بلادكم مجموعة من المتعصبين الذين موّلوا مشاريع لإجبار مُشّرعيكم أن يذعنوا لطلباتهم. يا إلهي، إنهم يضعون تشريعكم. إنهم يمتلكونكم."
"هذه ليست أخباراً جديدة لدي، سيدي. ولكن هم الذين صنعوا له هذا المركز في بلادنا، وجعلوا منه ملاكاً في نظر مجلس نوابنا. أن تحوله إلى شيطان لن يلاقي إستحساناً لدى الإمبراطور."
كان هذا الحوار يدور بين الشخصيات الأجنبية والعسكريين حول سرير المريض. تبكي هوميليا في زاويتها بصمت، وتعلم أن روح المريض تبكي مثلها من هذه الإتهامات الخبيثة، ولكنها لا تستطيع إيقافها.
أنا أكذب؟ ماذا تظنون أن علي عمله عندما يضع المجانين خططاً عسكرية فاشلة؟ طبعاً، فالا، جنرال بالإسم فقط، أيها السخفاء. لماذا تهربون من القتل؟ إنها الحرب... أنا أقتل... أقتل نساءً وأطفالاً وقت اللزوم... الحاضر لا يهم، المستقبل هو المهم. وإذا سيطرنا على المستقبل بالقتل فليكن. أنا أكتب الأخبار، عليكم اللعنة، أنا أصنعها، أنا أبني نيفاريا بينما تجلسون على أقفيتكم وتبكون. أخرج من هنا أيها الجبان... إذا أزعجك قتل النساء والأطفال، إتخذ وظيفة مكتبية. لماذا تخاف مما يجب عمله.؟

يندفع هذا الإنفجار الصامت من جثمانه على معاونه،ويعيده إلى الوراء في رؤية متحدية قبل عدة سنوات. كان قد تلقى أوامر بإخلاء قرية وهدم منازلها. بعد أسبوع من هذه المعركة المزعومة، نشرت الصحف تقارير عن مدنيين وجدوا تحت انقاض بيوتهم. أحضر المريض أمام هيئة من المراقبين ليشرح ما حدث. في حلمه يعيش ذلك اليوم.

الزناديق!... ماذا تريدون مني؟ لا وقت لدي للسخف، لأن ألعب دور الشرطي اللطيف لهذه الحشرات. هل علي أن أرافقهم خارج البلدة؟ أين أضعهم؟ من سيحرسهم؟ لا، أيتهاالصقور الجبانة البلهاء... أنا في الحكم... وأنا سأجعل من هذه البلدة مثلاً ينتشر... لا يهمني ما سيعمله الرجال... يغتصبون النساء، يقطعونهن... يقتلون الأطفال والشيوخ. ينادون، أهناك أحد في البيت؟ ثم يفجرون القنبلة ولا ينتظرون جواباً. سأترأس مسيرة العربات التي تحمل الجثث المرصوصة فوق بعض كالخنازير المذبوحة، سيقانهم منفرجة ليرى الجميع ما عملنا بهم. من بلدة لأخرى سنري الزناديق مصير المقاومين. لتجري الدماء كالأنهار. ستصبح جالاريا كلها لنا... وسنخبر السياسيين ما يريدون سماعه.لقد أُخليت البلدة... هذا كل ما سيعلمونه.كل هذا لأجل نيفاريا وأمنها... إنه مبرّر... ولا يهم ما يظنون في الخارج. لن يتمكنوا من إيقافنا بعد أن نمتلك القرية. أنا أدفن قرى... أدفن الناس تحت أنقاض بيوتهم... وأطرد من يتبقى. هذا ما يجب عمله.

يسترجع عقله الماضي، يستعيد قراراته ويبرر أعماله وسخريته ممن عارضوه. لقد خضّ عقله هذه الأفكار مراراً وأعاد خضها في الأيام والليالي التالية، كنفق لا نهائي من الشهور المتعاقبة.

فالا، أيها الجبان، عندما كنت طالباً في الكلية العسكرية كنت أشجع منك الآن. يا إلهي القدير، لقد جعلوا مني مرشداً قبل سن 15. أين كنت؟ متى قدمت حياتك لنيفاريا. لقد فعلت ذلك قبل أن توجد نيفاريا، عندما كانت حلماً في رؤوس مؤسسيها. ولكن حتى حينئذٍ عرفت ما الذي يجب عمله. أية قسوة يجب أن تعامل بها الحشرات الزاحفة على أرضنا. يا إلهي، فالا، لقد كنت رائعاً حتى في تلك السن، كان يمكنني أن أنضم إلى فرقة من الإرهابيين الأوغاد لنخيف الإليوسيين ونطهرهم من بلدنا... نطهرهم؟ لقد طردناهم بالقوة المجردة. هذا ما تعنيه القوة، أيها الأبله.

لا تنازل. لا رحمة لأحد. لا شفقة على الأبرياء. لست بريئاً إذا كنت ضد نيفاريا. أذكر الليلة التي نسفنا فيها الفندق... ليس أي فندق، بل فندقاً كان يقيم حفلة زفاف حافلة بالمدعوين، فندقاً يمتلكه الأجانب الذين حكموا بلادنا قبل ان نطردهم. كان هناك بعض النيفاريين ولكن لا يهم. إن ضخامة السخط، والجرأة اللازمة لتدمير مكان كهذا... هذا ما استحق عناوين بارزة في الجرائد. وهذا ما يغير الأمور. هل كنتُ أعرف من كان هناك؟ وهل همني ذلك؟ هل نزفت؟ يا للجحيم، واحد وتسعين شخصاً ماتوا بما فيهم العروس والعريس.

بعد سنوات، بعد قيام نيفاريا، ساعد في تحويل المكان من ذكرى مذبحة الأبرياء، إلى إعلان الإرهابيين كأبطال إستقلال نيفاريا. لقد فهم أن الحق يتبلور في نفاذ البصيرة وليس في الحقيقة.

لقد كان تدمير الفندق تعميدي. بعدها قتلوا إبني... آه يا إلهي ما أفظع ذلك... ذاك حدد شخصيتي. يوماً بعد يوم، وليلة بعد ليلة فكرت في طرق معاقبتهم"الإنتقام يقول الرب"كانت الكراهية وراء كل الأعمال. لقد سهّل الأمور عندما أصبحت رئيساً للحكومة. فقد خططت المحو التدريجي للإليوسيين... شيء يشعرونه، يعيشونه، يتألمون ويقنطون بسببه؛هذا ما خططت، إذلالاً مراً، ممضاً ومهيناً في هزيمتهم. فرضت هدم البيوت، آلافاً كل عام، وطرد الناس للشوارع وهم ينتحبون، عقاباً جماعياً متزايداً. استوليت على مصادرالمياه وأعطيتها للحجاج، وتركت لهم النزر اليسير يتصارعون عليه. رأيت أولادهم واقفين لساعات في طوابير ليملأوا دلاءهم بالماء، بينما حجاجنا يلعبون في بركهم. وضعت قوانين لمصادرة أراضيهم، قطاعات ضخمة منها، ولم أدفع لهم مقابل. كل ما كان علي عمله هو إقناع ذلك الإمبراطور السخيف أن النيفاريين ضحايا إرهاب فيسيطر على المنظمة العالمية. كم ضحكت؛غريب كم أسعدني تلاعبي بآلامهم المبرحة. وكنت أبتدع تعذيباً جديداً كسجن الألوف بدون سبب، وتحريم الزواج بين الإليوسيين والنيفاريين. لقد أصبح الأمرلعبة، كيف أوهم الجميع أني أريد السلام، بينماهو آخر ما أريد.
الآن تقفون فوقي ولكني أعرفكم- فالا، إشكا، وهارتسيا- كلكم جبناء.أنا أخطط وأدبرللأستيلاءعلى بلدات شمالي البلدة القديمة. ليس فقط قتل الأجسام بل قتل العقول... فالخوف يقتل كا لرصاص ... أخرجوهم، ونظفوا البلدات منهم. أحيطوا بهم من ثلاث جهات وأخرجوهم من الرابعة؛ دعوهم يصبحون صرخة الإنذار للبلدة التالية والتي تليها. أقتلوا من لا يخرج. فأنتم لا تكسبون ارضاً إذا كان النا س يعيشون عليها إلا إذا كانوا من شعبكم.أطردوهم أو أقبروهم.
"متى سيغادرون؟ لماذا يقفون وعلى من يريدون أن يؤثروا؟ إنه لا يسمعهم. كأنهم يريدون توبيخه والسخرية منه. إنهم شريرون."هوميليا تتألم لأجل مريضها بينما هو في صمته وراء أجفانه المغلقة، يعيش ذكريات إنجازاته، لحظاته في الثواب والعقاب والمجد.


**************

قبل أشهر أُحضر الجنرال ديماس إلى المستشفى من إحتفال أقيم بمناسبة بداية الحملة الإنتخابية لترشيحه لفترة رئاسة ثالثة غير مسبوقة كرئيس حكومة نيفاريا. إنهياره سبب فوضى في البلاد. لم يكن هناك من يقوم مقامه، إذ كان يحكم كدكتاتور وقد خطط السياسة لستة أعوام، تعطي البلاد قوة لا تضاهى في المنطقة، وينظر إليها بحسد وكراهية.
ظل مستقبل نيفاريا دون الجنرال غير واضح. ولكن عندما تبين أنه لن يسترد وعيه، تجرّأ السياسيون. البعض شجبوا سياسته وآخرون دعموها. ولكن الشعب عرف أنه لايوجد من يتمتع بشخصيته الساحرة، أو بالعلاقات التي زادت قوته.
هذه الحقيقة مهّدت لنشرالعديد من التعليقات الصحفية حول حكمه مدى ستة أعوام، والنظام الذي كتّله بشكل فعال. أخاف انحيازه للمتدينين الأصوليين، العلمانيين، ولكنهم لم يتمتعوا بقوة كافية لمنعهم من الوصول إلى الحكم. نتيجة لذلك أصبحت الأساطيرا لقديمة عقيدة سياسية تدفع البلاد إلى حروب متواصلة، مما جعل من الضروري أن يتفوق الجيش على أي من جيرانه.

زناديق. تقفون على قبري، يا إلهي... كأني لست هنا... كأني تابوت حجري في معبد قديم. أنا حي عليكم اللعنة!... آه، كم أريد أن ألعن هؤلاء المتملقين الذين يتمرغون بالتراب تذللا للقوة ولا قوة لديهم. عاجزون مقيدون بالقانون والثرثرة الفارغة. لا عجب أن يخفقوا. إسمعوهم... إنهم يلعنونني. لا، أنالا أطيع الأوامر.
ماذا يحدث عندما أصغي للسياسيين والرعاديد؟ أتراجع خوفاً مما يجب عمله؛ أصبح مثلهم... لا قدّر الله. أخشى أني لن أنسى، القيود التي توقف العمل... تمنع النصر. تذكروا فقط ما الذي يجلب النصر... لا حاجة أبداً للغفران. ما رأيكم بهذه السخرية، أيها البلهاء الذين تزحفون إلى قاعة الصلاة طلباً للغفران؟ أنا اخترعت اليوم المقدس الذي علمت... لا بل أعلم أنه خدعة، مزاح قاس. هل أعرف ضرورة القتل في الحرب؟ هل يعرفها السياسيون؟ كلا. يحتاجون إلي. نيفاريا تحتاج لي. الشفقة لا مكان لها في الحرب... فقط القساة ينجون. الكراهية، على المرء أن يكره.

بينما يلعن أصدقاءه السابقين من داخل سجنه، يدرك كيف حاول أن يخفي عن رؤسائه ما حدث في مخيم اللاجئين قبل سنوات، ولكن الصحفيين وصلوا هناك قبل أن يغلق المنطقة، ونشروا تقارير عن التعذيب، والإغتصاب والذبح. وصفوا الجثث المتراكمة كالديدان على أكوام النفايات، وأفراد الجيش الواقفين خارج البوابات وعلى أسطحة البيوت، يشاهدون بالمناظير المكبرة مرتزقة النفاريين يحطمون البوابات وينتشرون في الأزقة الضيقة،حيث يتوقف كل إثنين أو ثلاثة منهم على كل مدخل للعمارات الإسمنتية، يقتحمون البيوت، ويندفعون داخلها، فيرتفع الصراخ المريع،و ينتزعون السكان، يعرون النساء والبنات، يدفعونهن إلى الجدران ويعبثون بهن ويغتصبونهن، ثم يذبحونهن بالمدى، ويلقونهن على الحجارة، والدماء تسيل من الحناجر والبطون، ويختلط الصراخ بعويل العجز والخوف.
بعد أيام صدرت التقارير المفصلة نتيجة لهيجان الشعب الذي فتح بوابات المخيم، ودخول الصحفيين الذين هالهم منظر البنات العرايا، السيقان مفتوحة، والعيون الناضحة بالخوف متجمدة. طفلة مذبوحة وقد تجمد الدم على عنقها الصغير، أكوام من الرجال القتلى وقد اطلق الرصاص على ظهورهم، أطفال مسودون من حرارة الشمس يغطيهم الذباب، والرائحة النتنة من الجثث المتحللة تغمر الجو. طفلة نسف رأسها ملقاة بجانب جثة أمها التي فتح بطنها، وبرزت عيناها من الرعب، وابنها قطعت أعضاؤه، وتكوم عليها الذباب ...
ولكن المريض لم يندم أبداً أو يعترف بمسؤوليته عن المذبحة. أنكر العدوان واتّهم الصحفيين بالمبالغة واستغلال مذبحة مخيم اللاجئين سياسياً. بعد هذا البوح يغرق في نوم عميق.

******************

"ألحمد لله يا كاريتا، لقد ذهبوا. لقد بقوا ساعة، يتمتمون، يصيحون، ولكن يلعنونه دائماً .ظننت أنه كان بطلهم، قائدهم، ولكنهم يكرهونه . كيف وصل إلى السلطة طالما يكرهه الجميع؟ لا أفهم. السفير، الرجل بالبذلة الكحلية من الولايات الإشتراكية المتحدة، بدا مستغرباً. كان هو سبب قدومهم. يعرف الجنرالات أنه في غيبوبة لن يصحو منها، ولكن لم يبد على ذلك الرجل معرفة ذلك. ما أغرب رد فعله."
"لقد دخلت بعد أن بدأوا الكلام؛ بدا لي أن الجنرالات أرادوا التأكد من أن السفير يعرف الآن أنهم هم الحاكمون وليس المريض. وما عليهم الآن إلا دفنه".
"أحد الجنرالات قال أن المريض هدم بيوتاً للإليوسيين، وحرث مزروعاتنا، كما قتل نساءً وأطفالاً. لم أسمع ذلك من قبل. عرفت أن الجيش النيفاري عمل ذلك ولكني لم أعلم أنه المسؤول. جدتي تقول أنه مسؤول، ولكني ظننت أنها قصدت أنه أدار شؤون نيفاريا وليس تنفيذ الهدم. لعلهم فقط يلومونه على ما يفعلون."
"أخبرتني مرة عن أبيك. لقد ضربه ال( ق.إ.ن.) أليس كذلك؟"
"أجل، كنت في الثانية عشرة عندما حصل ذلك. كنا نعيش في جويا، شمالاً. وكان هذا قبل الجدار. أهل البلد عرفوا ما سيحصل فساروا بمظاهرات إحتجاج. لم يفهم أحد لماذا يبنى جدار سجن حول القرية ويقطعون طريق السكان عن حقولهم وأصدقائهم. حتى بعض النفاريين شاركوا أهل البلد في المظاهرة."
"ولكن طالما كانت المظاهرة سلمية وبإشتراك نيفاريين، لماذ ا آذوا أباك؟"
"بعد الحادث بسنوات أخبرني أبي لماذا. لقد ساعد في تنظيم المظاهرة. رأيتهم عندما أتوا باكراً إلى البيت، وجروا أبي خارجاً. كان هناك آخرون مربوطون وراء سياج الجيران. لقد ضربوهم جميعاً، وكما علمت لاحقاً كان ذلك درساً كي لا يعارضوا (ق.إ.ن.). أصبح من المستحيل على أبي وغيره أن ينظموا مظاهرات. خرجت أمي بعد مغادرتهم وحملت أبي مع جارنا إلى البيت، كانت ركبه مكسورة وتنزفان بالدماء، ووجهه يتلوى بالألم، وهو يبكي.شعرت بالغثيان."
"هل كان مريضنا هناك"؟
"لا أعلم، كانوا جميعاً يضعون أقنعة سوداء. لا أذكر وجوهاً. كنت صغيرة."
آه يا ملاكي، لو علمت... لو علمت. لماذا تذكرين هذا الآن؟ أنا أقشعر من قصتك. أسمعك تبكين، وأشعر بألمك، يا ملاكي هوميليا. لم أعرفك حينئذٍ قبل سنوات... لقد كانوا صراصير من السرب المتجمع في الطريق الترابية حول جويا. كل من يعارض أوامري يتعذب، كل من يتحداني يتعذب لقتل إبني. ولكن الآن، أسمعك تبكين على والدك، الوالد الذي أقعدته ..
أسمعك تبكين في داخلك. لا أريدك أن تبكي... إني أقر أني لا أريد أن أسمع الحزن في صوتك. أريد النبرات الهادئة التي تخاطبينني بها كلما دخلت الغرفة... ألصوت الناعم الحنون الذي يخاطب رجلاً ميتاً، رجلاً لا تعرفين حتى أنه يسمع ما تقولين. كم أشتاق لسماع صوتك... بدون صوتك أنا لست حياً... يحيط الصمت روحي ببشاعة فراغ لا يحتمل. يا إلهي، أنا ممدد هنا في عالم أسود، حي ولكني وحيد، الساكن الوحيد في هذا الفراغ الصامت، بلا عزاء وبلا لمسة أستطيع إحساسها من إنسان آخر... منعزل، مغترب عن كل ذرات الوجود ماعدا غضب ذكرياتي التي تلاحقني في الظلام كشبح شرير يعيد الحياة لما عملته في حياتي... ولا يتغير... لا أبرره سوى لنفسي السجينة في هذه الجمجمة التي تصرخ طلباً للتحرر، ولكن لا إنطلاق، فقط الصدى اللعين لأفكاري يرتد داخل دماغي... كرصاصات من بنادق فرقة تنفذ حكم الإعدام.
آه يا هوميليتي، ليت الأمور غير ذلك. أتمنى لو أستطيع كرهك كما كنت عندما علمت للمرة الأولى من أنت. أن تعتني بي إحدى الإليوسيين دفعني للجنون. لقد انخضّت الكلمة في معدتي كالأسيد. كنتم شريرين، أردتم موتي كأي نيفاري؛ إبني، يا للعنة! إحتقرتك في كل لحظة سوداء، ولم أعرف عنك شيئاً، ولكن الإنتقام لا يعقل. تسيطر الكراهية. وهكذا أستلقي وأفكر، أفكر بك، وأتساءل عنك، لماذا تقومين بهذه المهمة. يا لسخرية السخريات، فأنت لا تعرفين شيئاً من أفكاري. ماذا لو...
يتذكر المريض حوادث من السنة الأولى لحكمه، قبل أن يبدأ ببناء الجدار لسجن الإليوسيين بعامين. ولكن بعض الإليوسيين فهموا غايته وبدأوا حملة لإيقاف البناء. بعض البلدات والقرى نظموا مظاهرات سلمية ليلفتوا الأنظار إلى نتائج بناء السور. بادر الجنرال حالاً لإيقاف هذا الإحتجاج قبل أن ينتشر وتصل أخباره إلى العالم الخارجي، ذهب إلى جويا ليجعلها رمزاً لقسوة نظامه وعدم تحمله أي إعتراض على السور. لا شيء سيوقف بناء السور، حتى ولا المحكمة العالمية أو المنظمة العالمية اللتان أعلنتا رفضاً رسمياً. ولكن ولايات الإتحاد الإشتراكي (USC) وإمبراطورها سيطروا على القرار الذي ستصدره المنظمة العالمية (WO) ولم يحدث شيء ليمنع الجنرال من بناء حائط الدفن الإسمنتي حول الإليوسيين.
غادرت هوميليا جويا في سن 17 لتدرس التمريض في المستشفى. كان السور قد بُني. تسلل خلال البلدة ماراً بين البيوت وحظائر الحيوانات،قاطعاً حقول الذرة وبساتين الزيتون عن بيوت الفلاحين، بحيث تصعب عليهم العناية بها. بوابة واحدة فقط أمّنت وصولهم لأراضيهم، وكانت تفتح حسب إرادة ال-(ق.أ.ن.). لم يتمكن المزارعون من المرور بتراكتوراتهم وعرباتهم من السياج، فأصبح المحصول يُحمل على اكتاف وظهور الفلاحين لمسافة ميلين. وأقيمت مستوطنات الحجاج النفاريين على أرض الإليوسيين الزراعية. سمح السور بتوسع المستوطنات إذ ضم مئات الدونمات للنفاريين، وأصبحت كل الأرض المسيجة مصادرة لصالحهم.
كان سفير الإتحاد فخامة جانوس بنديروس الذي حضر لقاء الصباح، صديقاً شخصياً للإمبراطور فيولنتوس. نشأ الإثنان معاً، وذهبا لنفس الجامعة، واشتركا في نفس المجتمع السري، ولعبا معاً في الأندية الفخمة بإنسجام تام في حياتهما المرفهة. وكالإمبراطور أصبح مع تزايد السنين، ذا كرش، لطيفاً ومنغمساً في الملذات. كان تعيينه سفيراً كتتويج لإخلاصه التام للإمبراطور، ولهذا يتصرف فقط بما يرضي الإمبراطور.
عمل مدى ستة أعوام لحماية نفاريا من تدخل ال- ""UCS والصحافة في سياسة نيفاريا ضد الإليوسيين. كذلك عمل المريض جاداً ليحيط السفير بجوائز ا لدولة وحفلاتها المترفة وكل التجهيزات التي ضمنت ولاءه لسياسة المريض. كان رد فعله لملاحظات الجنرال فالا مما أكّد إنغماسه التام في الملذات التي تحيط بمركزه الراقي كسفير ال- "UCS"في نيفاريا. لمدى ست سنوات كان يمدح الجنرال ميداس أمام الإمبراطور لدرجة أن الإمبراطور مجّده في حفلة رسمية كرجل سلام.
آه، هوميليا، يبدو أني انجرفت بعيداً... لا أقدر أن أسيطر على مدى يقظة وعيي. هذه ليست حياتي لأسيطر عليها... أنزلق في قاع محيط ذي تيارات صامتة وبحر أسود... غير مرئي... وعاجز عن الرؤية... كروح تائهة ترتفع وتهبط في إيقاع صامت غير محدود بزمن... كبندول يتأرجح يميناً وشمالاً بلا توقف. كم أود لو أصيح، أنفجر عبر هذه الأفكار المشلولة التي لا يسمعها سواي، أن أزيح حاجزاً وأعترف لأي كان... ولو لأقول فقط، أنا هنا.
ما أشنع أن أحبو بتذلل أمام ذلك التافه الذي يحبو بدوره أمام المهرج فيولنتوس. ولكن كم كان ذلك ضرورياً لغاياتي. أرضيه وهكذا أهدئ نصيري... آه لو أنه عرف أو إهتم بما أعمله. ولكنه أحمق محاط بمشوهين... لعبت به كالمزمار. ولماذا أهتم؟
اتصلت به لأخبره أن علي أن أغيّر الخطط... المقاومة شديدة ضد النفاريين؛ يجب تأخير السفر إلى مدينة الإتحاد. مكر وغش، سمّه ما شئت ولكني احتجت لضمان وقع الهجوم القادم... طبعاً، كنت أعرف فظاعة الوحشية المنتظرة... ولكني لم أخبره. بعدئذٍ وضعت يدي على كتفه وأخبرته أننا كنا ضحايا في هذه الحرب. علينا أن نجمع شعبنا تحت مظلة واحدة... وتبرعت بالمساعدة في التحري للقبض على المجرمين. آه كم أحبني. أصبحنا إخوان في معركة ضد عدو مجهول. تقبل أساليبي... إعرف هوية المقاومين والذين يساعدونهم... إتهمهم بالجرائم... هاجم واقتل. أنا القانون وعليه أن يصبح القانون. إنه واجبنا وحقنا. إنه يحمي شعبنا... ولدينا الوسائل لفرض إرادتنا. مدحني، وسفيره الذليل لعق حذائي. هذه الأفكار الآن في هذا الكهف المظلم من عقلي حيث لا أرى نوراً، لا شمس ولا حتى ومضة أو كسرة من ظل... هل عشت حياة كاملة... مدفوعاً بالكراهية لكل من يعاكسني. مدفوعاً لأرغم الآخرين أن يحيوني، يرجونني، ويتملقونني... أنانية تشتهي التشفي والسخرية بخنوعهم. والآن وأنا ملقى هنا وحيداً... ماذا ربحت؟ أين أنانيتي الآن وأين كراهيتي؟ أي باب سيفتحه الموت؟ أي مصير ينتظرني؟
ينزلق المريض في عالمه المظلم اليائس بينما يغلف المساء النوافذ ويجعلها كالمرايا تعكس منظر المرض داخل غرفته. كانت الساعات الأخيرة من اليوم الرابع في الموسم المقدس تقترب من نهايتها، غير أنه لم يكن واعياً لمرورها فيما عدا حضور الحجاج لزيارته في اليوم الثالث، ولكنه لا يشعر بمرور الأيام والساعات، فقط تلميحات من حديث عابر، تلميحات تضيع في سواد غيبوبته، تُبعث للحياة عندما يستيقظ أو تتبخر في ضباب الزمن الضائع.
يتجمع الحجاج لمسيرة الإعتراف إلى قاعة التجمع في شارع يبوكريسز. غيوم كثيفة تتجمع في السماء، وتنشر ضباباً خفيفاً يغطي المسيرة البطيئة. تصاحب النشيد الحزين قرعات طبول إيقاعية خافتة.
"أسمع أصوات الدينونة تقرع؛
أسمع غناء المؤمنين."

"أرى الخاطئين يتجمعون أمام العرش،
يكسو وجوههم الخوف من مصيرهم المجهول."

"حجاب كثيف من ا لخجل يهبط على هذا المكان،
لأن الذين لا يندمون يغمرهم الخزي."

يتمايل الحجاج بحركة جماعية إلى الأمام والوراء أثناء مسيرتهم، رؤوسهم تهتز وقبضاتهم مضمومة يضربون بها صدورهم، ومعاطفهم السود تتحرك بنفس الإيقاع وكأنهم أصبحوا في ألمهم جسداً واحداً إذ يعلنون ذنوبهم لخالقهم. وإذ يدخل الموكب من أبواب"قاعة الرب"المزخرفة يبدو وكأن تنيناً من القرون الوسطى إبتلعهم وارتفع في ظلام الليل. نفخ البوق مع الغناء الحزين يمزق السكون، وكأن رنينه يصل المريض موقظاً إياه من غيبوبته.
ذاك الصوت، ذاك الصراخ الباكي، كصوت طائر وحيد على شاطئ مهجور... إنه يعلن نهاية اليوم الرابع، يوم الإعتراف. أعرف الغاية منه... ما الوقت الآن، أنا الذي أوجد هذا الوقت، هذا الموسم للتوبة والعقاب. أية سخريةفي أن يقرع مخترقاً هذه الجدران التي تضمني، كأنها اللحم الذي يغلف الأفكار.
بماذا أعترف؟ هل أتحمل أخطاء هؤلاء الحجاج، وهل يحملون خطأي؟ ما هي الخطيئة إذا كانت أعمالهم حصيلة وجودهم هنا وأنا الذي أحضرتهم ولولا ذلك ما اقترفوها؟ هل الأحداث السياسية سبب الخطيئة؟ من يهتم؟ من يحاسب؟ أنا جعلت كتاب الدينونة لثورثانا الذي سيحاكمهم أساس هذا الموسم. إذن هل إلهي هو إله الدينونة؟ ما أسخف أن تتحول المعتقدات إلى لب الحقيقة إذا ما كانت المعتقدات باطلة!... لا، أرفض أن أحمل إثمهم. لن أعترف لأسهل لهم التراجع من الثواب والعقاب... ليتحملوا هم عقابهم؛ يعلم الله أنهم يستحقونه. لست مؤمناً، فما الذي يخيفني حتى لو شاركتهم في أعمالهم؟
ينزلق المريض ثانية إلى عالمه السفلي لأحلامه والرؤى التي تحركها ذكريات الأيام السابقة عندما شارك فعلاً بهجمات (ق.إ.ن ) على قرى الإليوسيين. إنه يذكر الإستجواب الذي وصف أكثر الأحداث إنتشاراً، الذي اضطر أن يخمده ورد فعله الذي سجله في ملاحظاته:"يا للحمقاء! ميتة تصبح شهيدة، جريحة هي رادعة."
وصف التقرير بتفاصيل موجعة جداً حادثة سائق الجرافة الذي قادها ببطء بإتجاه البنت التي حملت البوق وطلبت منه التوقف عن هدم البيوت، ولكنه رفض. كان يطيع أوامره بغض النظر عن النتائج. رفع نصل الجرافة فوق التراب وهو يتقدم بحيث لا يرى الفتاة واندفعت الجرافة فوق كومة التراب وقصته، وعندما ظهرت الفتاة كانت ذراعاها منفرجتان وقد طار البوق من يدها، ثم اختفت ثانية عندما تقدمت الجرافة في المنحدر. توقف السائق ثم تراجع إلى الخلف جاراً جسدها تحت نصل الجرافة ورفعها ملقياً إياها على التراب قرب رفاقها الذين اندفعواإليها صائحين.
لماذا أفكر بهذه الأمور؟ ... أذكر... إنه يوم الإعتراف، نهاية يوم الإعتراف... صوت البوق إنطلق.من المضحك أن أعرف اليوم ... حسناً، ليس تماماً، إنما هو يوم خريفي في أواخر الموسم المقدس. لا أعرف الدورة القمرية، ولكن لا بد أنه قريب من نهاية العام. إنما هذه هي المرة الأولى التي تجعل وجودي مرتبطاً مع الآخرين. هل هذا سبب بحثي في ذاكرتي؟ أأنا أعترف؟ ما أغرب هذه الفكرة عني أنا الذي لم أذنب أعمالي التي سببتها طبيعتي السلطوية قط. لا شعور بالذنب، تقع الأخطاء ولكنهالا تغيّر الطبيعة... كما أن الندم هو شعور إخترعه انسان خلق ليسيطر، وسيلة نافعة عندما يحسن إستعمالها في شعائر الأسرار المقدسة. أنا خططت الموسم المقدس تماماً لهذا السبب. فما معنى الإعتراف للإله الذي خلق الخطايا والندم؟ يجب أن أضحك ولكن ما الضحك إن لم يسمعه أحد؟ وما الدموع إذا لم يرها أحد؟ وما الفكر إذا لم يشعر بوجوده أحد؟
ما أغرب دورة الأحداث... أن تتكلم يوماً وتعرف أن العالم يصغي، ثم تفكر ولا يهتم في الدنيا أحد. معلق أنا في هذا الموت المؤجل برشاقة كالعنكبوت، بين اللاشيء الأبدي وإدراك ذلك، ولكن العنكبوت يشعر بالريح التي تزعج كيانه وأنا لا أقدر. أبحث عبثاً في الخروج من الحاضر وأرتجف للتفكير أني سأنتهي. الغد... هل سأعرف الغد... هل سيأتي يوم الكفارة، وهل سأعرفه عندما يأتي... هل الإدراك والعذاب سيكون كفارتي... يليه الغفران، أم أني لن أنال غفراناً، وسيكون قدري العذاب اللانهائي بواسطة الذكريات؟ أي عقل شيطاني يمكن أن يفكر في ...




اليوم الخامس

الكفارة

تلبدت غيوم قاتمة مشؤومة في سماء دسبيريا في صباح يوم الكفارة، وانطلقت ضربات الطبول الخافتة الكئيبة تدعو الخاطئين إلى قاعة التجمع حيث سيصلون جميعاً طلباً للغفران. واصطفت الجموع في الشوارع ليشاهدوا المنظر الأليم وقد لبسوا ثيابهم داكنة السواد، وحملوا مظلات تقيهم من رذاذ المطر المتساقط. واندمج الحجاج المتوافدون من الشوارع الجانبية إلى شارع يبوكريسز واتجهوا غرباً إلى قاعة الصلاة وهم يضربون طبولهم الصغيرة بعصا مبطنة منسجمين مع اللحن السائد. يرتفع الصوت الحزين مع تزايد المتجمهرين المتجهين ببطء نحو الغرب، ترنيمة كئيبة تلف المدينة. تتدلى أعلام سوداء ذات دوائر ذهبية كلهب من أعمدة النور على امتداد شارع يبوكريسز، ويحركها الهواء بإنسجام مع اللحن الحزين.تصل هوميليا وكاريتا إلى طرف شارع يبوكريسز مع مرور حشد الحجاج. يصدمها صدق التائبين وقد بلل المطر معاطفهم وأغطية رؤوسهم فالتمعت تحت أنوار الشارع الصباحية، وتمايلت أجسامهم بانسجام نحو المعبد، قوة مترجرجة تبدو في الضباب الغائم كأفعى سوداء تنزلق. يهز المنظر هوميليا فتلتفت إلى كاريتا التي تلاحظ الحزن في عينيها."ليلة أمس أجلستني جدتي إلى جانبها قرب طاولة المطبخ. قالت لي إنها ستخبرني شيئاً يفسر بكاءها قبل أيام. فتحت علبة كانت على الطاولة وأخرجت منها قصاصات من الجرائد، وشرحت لي ما رأت عندما دخل ذلك الحاج قبل سنوات إلى المسجد قرب بيتها. كانت في قسم النساء عندما دخل. كان أمامها وكان يحمل معطفه على ذراعه الأيسر. ما رأته لازمها حتى اليوم. دخل قاعة الصلاة، خلع حذاءه ودخل بهدوء لناحية اليمين ووقف بجانب الحائط يراقب المصلين وهم راكعون، رجالاً وأولاداً في ثياب ملونة- أحمر، أصفر، أزرق، أخضر، بني- كلهم على سجادة الصلاة. ثم ترك معطفه ينزلق ورفع بندقيته.... وانفجر صوت مخيف لم تسمع مثله في حياتها... تجاوبت أصداؤه بين الجدران والقبة، وهو يفرغ كراهيته على ظهور ورؤوس المصلين الغافلين. إرتفع ضجيج من فوضى الأجسام المتلوية والدماء المنتشرة وصراخ الألم. سمعته ينادي إسم إلهه عندما ألقاه المصلون أرضاً. أخرجت جدتي الأوراق من العلبة، وقالت إنه مات وهو يؤمن أنه حقق رغبة الله. ضممتها إلى صدري وهي تشهق بالبكاء لذكرى ذلك المنظر."
وصلتا إلى المشفى وهما تأملان أن يسامحهماالمراقب على التأخير. تعلمان أن تأخيرهما على أيدي جنود التفتيش المذل، لن يقبل كعذر ولوأنها الحقيقة، لعل الجنود يسأمون من أيام منع التجول العشرة ويفرغون إحباطهم على الإليوسيين. ولكن الجنود يتلذذون وهم يجعلون الشابات يخلعن مناديلهن ومعاطفهن تحت زخات المطر، ويتمتعون برؤية الفتيات يلملمن أكياس الورق التي تتمزق من البلل ويسقط طعامهن على الطريق الموحل. أما اليوم فقد أمروا ولداً أن يلعب لهم على شبابته تحت المطر، وهم يضحكون على صرىر الأوتار المبللة.
عندما تصلان غرفة المريض، كان صوت الطبول الخافت مسموعاً. تتساءل هوميليا إن كان المريض يسمعها، وفعلاً تسأل الجسد الهامد، "هل تسمع صوت الطبول التي تدعو الحجاج إلى الصلاة؟ رأيناهم يسيرون بإتجاه المعبد ونحن في الطريق هذا الصباح. إضطررنا لذلك فطريقنا الإعتيادية كانت مغلقة."

"هوميليا،"تناديها كاريتا، "لماذا تتحدثين إليه؟ إنه لا يسمعك".
"لا، يا كاريتا، أعتقد أنه يسمع. لا أعرف بالتأكيد ولكني أظن أن الله لا يتركه يتنفس طيلة هذه الأشهر دون الإحساس بخليقته."وبهذا التعبير البريء تبدأ بغناء هاديء لإحدى الترانيم من كتابها.

"سأمدح كل مخلوقات الأرض؛
من أعماق قلبي؛
سأتكلم عن أعمالكم الرائعة،
سأفرح وأسعد معك
وأتغنى بحمدك أمام كل الشعوب.
لن يكون لي أعداء بين الناس؛
لن يتعثر أو يهلك أحد أمامي.
لن أقاضي أو يقاضيني أحد
ولن يكون لي رب يحاسب
ويوبخ أويدمر شعوب الأرض
ويحرمهم الحياة
ليمجدني فوق الجميع."

أسمعك يا ملاكي، أسمع لحن أغنيتك الحلو. ما ألطفك إذ تغنين للأموات... ولكن من تظنين نفسك لتعظيني، بحق الإله وأنت مجرد خادمة؟ هذا سخف. كيف سأتحمل هذا؟ كيف أخرجك من تفكيري، كيف أعود لما كنت عليه وأبعث الكره في قلبي لكم جميعاً وأنت الإنسانة الوحيدة التي تعطيني الحياة، وتجعلني أشعر أن هناك من يعرف أني حي، وأن هناك من يغني لرجل ميت. أتمنى لو أستطيع رؤيتك فأعرف وجهك كما أعرف صوتك، وأدعك تعرفين مشاعري. ولكن هذا لن يعود... هذا الإله الذي تتوجهين إليه يسخر مني... ماذا إذن غير ذلك... أنا أفكر فهل أنا لست موجود؟ نعم أنا أفكر، أفكر، ولا عمل لدي سوى التفكير... والآن يا ملاكي، أنت تطرحين هذه الكفارة أمامي... ألا يكون لي أعداء بين الشعوب. ولكن يا هوميليتي، ليس لدي سوى أعداء منتشرين في العالم. أنا أعمل عكس أغنيتك... أنا أكره الإليوسيين وأحتقر الضعفاء ألذين يرجونني كي أمنع الجرافات من هدم بيوتهم؛ أنا أدنت وأعدمت عماركم، الذي تجرأ وقاومني، بتوجيه صاروخ إلى شارع مزدحم فقتلته والواقفين حوله. أنا أرسل جيوشاً لتدمر جيران نيفاريا متذرعاً بأسباب واهية ومدعياً أننا الضحية. أنا الإله الذي ترفضين. أنا خلقت عالمي ليمجدني، وفي هذه الحالة نبذت كل ما تجدينه فاضلاً. ولكن يا بريئتي، ما أنت إلا ضحية تعاليم قديمة، تخدعك كحجاجي الذين يقضون هذه الأيام السبعة في الذكريات والعذاب، يبحثون في إيمانهم عما يمحو أخطاءهم. بالنسبة لهم يا هوميليا، إنه تكفير أنا خططته. لم تحتج كتابة كلمات الله إلى ذكاء عميق. إنه موسمي المقدس... خُطط ليجعل النفاريين غافلين عن الشعور بالذنب، إذ أن غضب الله لن يقع عليهم طالما يطهرون أنفسهم في ماء الغفران. ألا ترين ذلك... لقد عشته، وتعذبت عائلتك به، لقد حرمت بلدتك من المياه والسهول... فرجالي يستطيعون أن يبطشوا ويفرضوا أية عقوبة وإهانة طالما هناك غفران لذنوبهم. أن تكون نفارياً يعني أن تكون بلا شعور بالذنب مثلي أنا. فقد عشنا سنين طويلة منبوذين وضحايا تحت نعال من قهرونا. ألا ترين أني أستعمل الخوف من الغربة، ذلك الألم الذي ينتزع الجرأة من قلوب الضحايا، بحيث ينفي شعور الرحمة للآخرين.
أنا أفهم عقل النفاريين، فهو عقلي، لذا أعرف كيف أكيفه... أن تخاف، أن يمتلكك شعور الخوف على الحياة يدفعك لدفن وإنكار القيم والأخلاق المغروسة فينا... إن القيم الوحيدة المسموح بها هي تلك التي تؤمن مستقبل نيفاريا. لقد جعلت من هذه الفكرة القوة الدافعة في نيفاريا، فقط نحن نقرر ما هو الصواب؛ لن يملي علينا العالم الخارجي أوامره بعد اليوم.
هذا ليس عالمك يا هوميليا، هذا عالم مجرد من الرحمة، أرض قاحلة حيث يعيش من تحجرت قلوبهم في نعيم مفصول عن الباكين في الشوارع. الظلام في العالم ليس لغزاً ينبع من الغابات وشرور الأفاعي، إنه أنا، عقلي... عقلي الذي يعطي معنى للظلم الذي أفرضه على الأبرياء. نحن لا نتطور بالحكمة يا ملاكي، نحن نتقدم فقط في براعتنا ومقدرتنا على القتل. آه غنّي، غنّي ترانيمك عن العطف والمسامحة، ولكن إعرفي سبب تجولكم بين الصخور والرمال، أرض يملؤها حطام الآدميين والنفايات، إنه ليس من غفران الذنوب وإنما من نهبي لمياهكم وأراضيكم،من تدمير بيوتكم وسرقة أعمالكم وإرهاقي وإذلالي المتواصل لكم ... هل فهمت؟
لماذا يا هوميليا أتجاوب هكذا لصوتك؟ أنا لا أعرف حتى من أنت. ولكن صوتك الحلو يأسرني وأغانيك لي ترفع معنوياتي. لم أفكرأبداً بك، وبأي منكم، ولم أتساءل لم تقبلون القليل ومع هذا تبدون ممتلئين بالحب. لم أشعر أبداً بقربي من أحد، حتى ولا من زوجاتي وأطفالي... إسمعوا إنها تغني ثانيةً، لا إنهما تغنيان معاً بكل نعومة...

"سوف تلحق بإخوتك وأخواتك،
بالحب ستلحق بهم،
لأنك ستعلم أن الحياة قصيرة،
والأمراء وكل السلاطين، كالناس،
لديكم لحظة واحدة من الزمن
لتعبدوا بعضكم، وأنتم ترتجفون
قبل نهاية الوجود."

"أنظري كاريتا، تشعرين ونحن نغني أنه يسمعنا، اليس كذلك؟"صوتها قلق ومتحمس إذ تنظر إلى كاريتا بإمعان وعيناها البنيتان ترجوان الموافقة.
"أوه، لا أعلم، هوميليا. أرجو ذلك. ما أفظع أن تستلقي هنا يوماً تلو الأخر بلا زوار، ولا حتى زوجته.ولكن إن كان يسمع، فماذا يفكر؟ هل يتكلم فقط لنفسه؟"
يدهش سؤال كاريتا هوميليا ولكنها لا تجيب.
آه أيتها الملاكان اللطيفتان، ترانيمكما هي غناء الضعفاء والشحادين والبدو الذين يهيمون في الأرض، أولئك الذين يعيشون على الأحلام، إذ ليس لديهم سواها. إنهم يغنون نفس المقاطع التي كان يغنيها النيفاريون قبل أن يصبح لهم وطن، عندما جابوا في بلدان غريبة وشاهدوا عذاب الآخرين، وأدانوا الظلم والقسوة ليضمنوا سلامتهم في بلاد الغربة... هم أيضاً توحدوا مع الجميع ... فعلى العاجزين في الدنيا أن يجدوا الراحةفي مكان ما. ولكن هذه المشاعر الساذجة لا توجد لدى الوحوش، لا ...لا... مصلحة الذات هي الدافع لشهواتنا، وليس الرحمة. الرحمة ضعف... وأنا أحتقر الضعف... فما الذي يخدعني بكم؟ أنتما لا تعرفان شيئاً عني، لو عرفتما لكرهتماني. ولكن أكنتما تكرهانني؟
أي سطر كان ذلك "أن تعبدوا بعضكم وأنتم ترتجفون/ قبل نهاية الوجود."كيف يعبد إنسان الآخر؟ لم أكن قريباً لأحد مدى خمسين عاماً بحيث أعبده. أي سخف. دائماً، دائماً احارب الناس... تقريع لزوجتي، توبيخ أولادي، أجادل وأشتم الموظفين والسياسيين... دائماً أهرب من شخص لآخر، أكذب لأتهرب، لأدافع عن أعمال التحدي لرؤسائي. لماذا أعبد أياً منهم؟ ما الذي سأربحه؟
ألقوة تُعبد وليس الناس. لم يعبدني أحد. حتى لم يحترموني لإهتمامي بهم وعطفي عليهم. لا، كلهم إنحنوا خداعاً لأني أستطيع التغلب عليهم. مع هذا تأتون كل يوم، وتحدثونني. لا خوف لديكم؟ مجرد تأدية واجبكم، وإلا فلم تحدثونني؟ كيف يستطيع شخص بسيط أن يزعجني هكذا؟... القوة تجعل الرعاية والرحمة للآخرين أمر مهمل. الرعاية والرحمة، يا ألله، القوة عديمة الحس؛ القوة لا ترى الرحمة؛ إنها تكافئ نفسها وتلقي بالقديسين والصالحين في صندوق القمامة. لا يمكنني أن أتواصل مع الذين أحكمهم، ولا أراهم يساوونني قيمة، لا يمكن أن أدع النفاريين يعتنقون هذه الأفكار... مهلاً إنهما تغنيان ثانيةً...
"يا أصدقائي، تعلمنا من ماضينا،
ألدمار يولد دماراً
حطام وخراب على أطفالنا
وأطفال أطفالنا.
ما كان لن يعود!
((العين بالعين، والسن بالسن))
طريق الفناء لمن يدمَّرون
والذين يوقعون الدمار بالآخرين."
"يجب أن نعطي هذه الترنيمة للحجاج يا هوميليا، فلربما يكفّرون عن ذنوبهم إذا انتبهوا لها."تبتسم كاريتا وهي تتكلم،وتلكز هوميليا.
"إنتظري إلى الغد، يوم الغفران. سيخرج الجميع إلى الطرقات وهم يبتسمون ويقفزون مرحاً، لن يتجه أحد ليوم العقاب والثواب. رأيت هذا سابقاً. إنهم لا يفكرون مثلنا يا كاريتا، إنهم لا يختلطون بأحد ولا يريدون ذلك كما يبدو. لا أفهمهم. يظنون أنهم وحدهم يتعذبون وهذا يضع حاجزاً بينهم وبين الآخرين."يعتري صوت هوميليا حزن هادئ.

في كلماتك شيء من الصدق يا هوميليا. أنا أرتجف من الذهاب هناك. لم أفكر يوماً أن يكون لدي الوقت أو الرغبة... ألآن عندي وقت ولكن لا رغبة.
قضيت حياتي كلها أحارب الإليوسيين ومن يساندونهم، وهذا تطلب مني أن أمحوهم من وعيي، أقضي عليهم كبشر وأحولهم إلى إرهابيين... وباء عالمي من الحشرات التي تحبو على أرضنا يلوثونها برغبتهم الهدامة في القضاء علينا. أقتلهم كأشخاص وأعيدهم كأشياء يجب أن تُدمَّر. كنت حشرة يوم دخلت إلى عالمي السري. لا شيء مما قلته أو عملته محا شعور الإشمئزاز الذي أجبرت على العيش معه، لا أنكر ذلك، ولكن تدريجياً، آه فعلاً تدريجياً، تركت صوتك يغمرني ويضمني كحبيب ولم أعد وحيداً. والآن يجب أن تعيش ذكرياتي في ضوء عينيك، عيناك التي ترى من خلال ترانيمك، التي تغنينها لي بحلاوة.
وهذه الترنيمة التي تقول أن كلاهما سيتدمران. ألحشرة والمبيد.المبيد يتطور لكائن آخر عديم الرحمة كآلة لا واعية لا تمحو المساجد والبيوت وأهل إليوسيا فقط، ولكن أحشاء روح نيفاريا... هذا ما أشعره الآن. حقيقة لم أعترف بها سابقاً... أنا أخلق الواقع. أقول لشعبي لا يوجد أبرياء بين أعدائنا، لا الشيوخ ولا النساء ولا الأطفال ممن يمكن أن يقوموا ضد نيفاريا. كل شخص يُقتل وكل بيت يُدمر وكل مدرسة تباد، هدف عسكري."ألإرهاب يجب أن يُقتلع"أصرخ من أعلى الأسطحة.
أنا أتمتع بهذه القوة. إني أحول خوفنا الفطري من إضطهادنا إلى فضيلة جبارة تحول الكره و الإضطهاد إلى مكافأة مُنحت... هل تصدقون... من الله إلى شعبه المختار. الشر يثمر فضيلة. مع هذا أعرف أني خلقت في نفوسنا أرضاً قاحلة ومكاناً عقيماً لا رحمة فيه ولا رضى، مجرد خوف يتقيح باستمرار، خوف ليس من الآخرين فقط بل من أنفسنا.
أعرف أن قصتي أكذوبة، إنها علامتي المميزة مختومة على جبين كل نفاري كعلامة الملاك الذي سجلنا قديماً"المختارون". علامة الخوف دمغت على جلودنا، وطبعت على أرواحنا إلى الأبد... كل ما أعمله ملتف بالكذب. يمكنني كشف الكذب لأني أعرفه جيداً. أكذب على الإمبراطور بأننا إخوان، ضحايا من يكرهوننا، أكذب على قادتي لأضمن ولاءهم بإضافة لمسة من الخوف؛ أكذب على الصحافة وأفرض عليهم مقالات تمدح إنجازاتي كتبها أخصائيون مأجورون. ولكن هناك كذبات لا أفتريها، كذبات إهمال الواجب. لا أسمح أن يرى أي كان أعمالي؛ لا خارجي يدخل ليرى ما وراء جداري.الصدق للعالم هو صدقي... لعل ما عملته لروح النفاريين هو كالإبتلاء بخلايا سرطانية تتكاثر وتنتشر في الجسم وتفسده من الداخل ويصبحون مثلي ألأحياء الأموات.
من السخرية أني وصلت لهذه المرحلة، التأمل بالتكفير، والعالم لن يشك ولن يعرف أبداً أني تراودني هذه الأفكار. لقد دمرت الناس الذين قصدت حمايتهم ومع هذا سأظل دائماً المحارب الشرس، والحامي لنفاريا الذي لا يلين. الصدق نادراً ما يرى النور.

ينزلق المريض ثانيةً في ظلامه غافلاً مؤقتاً عن العالم المصطخب حوله.هوميليا وكاريتا تنهيان مهامهما بصمت، تفكران بشعورهما بالغربة وسط هؤلاء القوم الذين يتصرفون معهما بروتينية أو يتجاهلونهما تماماً.
"تعالي معي إلى مقهى الإنترنت يا كاريتا."تقترح عليها هوميليا. "عليّ أن أرى إذا أرسل لي إسماعيل رسالة قبل أن يسافر إلى جويا. شاهدت الأخبار على التلفزيون ليلة أمس . القصف في جنوب إليوسيا مستمر والوضع يزداد سوءاً، إني قلقة. لقد مضى على حصارهم خمسة أشهر."
"هل تقصدين المقهى في آخر شارع دسبوندا، دكان الشوكلاتة؟ أحب ذلك المكان. رائحته حلوة والكومبيوتر في الطابق الأرضي وله خصوصية، لنذهب."
شارع دسبوندا هو مركز التسوق للإليوسيين القاطنين في البلدة القديمة المسورة. أبواب خضراء سميكة تحد الدرب من طرفيه، إنه أقرب إلى الدرب منه إلى شارع ولا يزيد عرضه على 12 قدم. بغض النظر فكل دكاكينه مغلقة منذ فرض منع التجول لفترة الموسم المقدس.في أيام الجمعة تنطلق صفارات ال-(ق.أ.ن.) تعلن ثلاث ساعات من إيقاف منع التجول، ما يكفي من الوقت ليسمح للسكان أن يسرعوا إلى الحوانيت لشراء لوازمهم الضرورية. في هذا الوقت ينتشرالجنود في الشوارع للتأكد من أن فتح الحوانيت وسيرالناس في الدروب الضيقة لا يثير حوادث. عادةً يظل الجنود في غرفة الحراسة المقامة في نقاط معينة أو على أسطحة بعض البنايات في المنطقة. قبل هبوط الليل يسير الجنود كل إثنين أو ثلاثة معاً مسلحين ببنادقهم ال16 M في الطرقات لتفقد الأمن في البلدة القديمة. لا يسمح لأحد بالسير في الشوارع ما لم يكن معه هويته الشخصية الصادرة من (ق.أ.ن.) لكل من هوميليا وكاريتا هوية بسبب عملهما في المشفى.
عندما تقتربان من الدكان تلاحظان أنها مغلقة كسائر الدكاكين على الجانبين. تتذكر هوميليا أن آخر رسالة استلمتها من إسماعيل كانت قبل منع التجول بيوم. لم تفكر بمنع التجول وإغلاق المحلات بسبب شوقها لسماع أخبار من إسماعيل. تأملت أن يكون قد وصل إلى جويا، وبدون أي تعليق تعودان أدراجهما وتتجهان إلى بيت الجدة.



اليوم السادس

الغفران

تستيقظ هوميليا باكراً في اليوم السادس من الموسم المقدس وكلها شوق وتوتر لما سيحدث في هذا النهار، مع العلم أنها لن تعود إلى البيت قبل هبوط الظلام. تعلم أنها تستطيع التأخر وستتمكن من عبور نقاط التفتيش بفضل هويتها التي تشير إلى عملها في المشفى، ومعظم الجنود في البوابة يعلمون أنها تعتني بالجنرال. تقع الصعوبة في الوصول إلى الجهة الشرقية من البلدة القديمة، إلى الشارع الجانبي حيث تنتظر الحافلة الصغيرة التي تقل الإليوسيين إلى القرى. اما لو استوقفها بعض الجنود لإستغربوا أنها تبتعد عن المشفى وليس بإتجاهه. أما السبب في ذلك فهوأنها ستحضر فتاة أخرى للتنظيف إذ أن كاريتا لديها اليوم عطلة.
ترتدي ثيابها بعناية، ألواناً هادئة، جلباباً رمادياً يصل إلى كعبيها، وخماراًأسود على رأسها وكتفيها. تحمل في حقيبتها زجاجات مياه للشرب تكفيها لطريقها ذهاباً وإياباً. يحمل الهواء غباراً يزعج حلقها، وبالرغ من برد الشتاء فالنوافذ المحطمة تسمح للرمال بالدخول إلى الحافلة. لركوب الحافلة عليها الوقوف بالطابور تحت الصفيح المجعد الذي يغطي ممراً ضيقاً لجنود الحراسة من ال-(ق.أ.ن.).
كان هناك عشرة في الطابور عندما وصلت، كلهم من النساء كبار السن يعملن في المدينة القريبة في تنظيف بيوت الإليوسيين ذوي الوظائف الهامة. عليها الإنتطار حوالي نصف الساعة. يُطلب من إثنتين من النساء الخروج من الطابور والوقوف وراء لوح من الصفيح لنزع ثيابهن للتفتيش كنوع من الروتين الإستبدادي اليومي ولحسن حظ هوميليا إزداد عدد المنتظرين في الطابور مما جعل الجنود يسرعون في تمرير الناس قبل أن يفقدوا السيطرة على الوضع.
عندما تصل هوميليا خارج السور تسرع إلى الحافلة التي تراها من بعيد ينبعث من أنبوبها الخلفي دخان أسود. ألشارع ضيق والنفايات منتشرة فيه: علب كرتون ممزقة، كرسي خشبي مكسور، براميل ماء مبعوجة، علب طلاء قديمة، أكوام من ألواح الخشب المستعمل، مزق قماش حمراء وخضراء، مستودع حقيقي للنفايات يملأ الشارع. الساعة السادسة صباحاً والحافلة تكاد تمتلئ بالركاب. تدخل هوميليا وتجلس في المقعد الخلفي. الركاب عشرون إمرأة تلبسن ثياباً طويلة ومعاطف سميكة وتحملن أكياساً من القماش. البعض تبكين. أرضية الحافلة موحلة ورطبة، وبعض النوافذ مكسورة أومشققة. إن سار كل شيء كما يجب، تصل جويا بعد ساعة.
تتحرك الحافلة ببطء وتتجاوز السور إلى طريق ترابية عبر حي قديم شرق المدينة. يكاد الزقاق يطبق عليها وهي تتعرج صاعدة في التلال. تُغرق هوميليا نفسها في مقعدها وقد لفّت معطفها جيداً حول عنقها. من النافذة يبدو السور الإسمنتي الشنيع بإرتفاع 25 قدماً في السماء القاتمة. تزحف الحافلة ببطء في الطريق المتعرجة بين السيارات المرصوفة، وعربات الحمير المربوطة والمركبات المقبلة. من اليمين يشرق شعاع ضئيل من الشمس، بينما تسيرالحافلة بحذاء السور الضخم وتتجه شمالاً إلى جويا. الغيوم السوداء لا تزال تغطي المدينة والتلال بالرغم من شمس الصباح الباكر التي تطل فوق التلال البعيدة وأفق البيوت التلاصقة كعلب فوق المرتفع. إلى جانب الطريق من اليمين تصطف بنايات كالمكعبات، رمادية وبيضاء وقد التصقت بها إضافات كأكواخ للتخزين، أو مداخل للبيوت. تتدلى أسلاك الكهرباء برخاوة فوق الرؤوس، وتمتد عبر السور حيث ترتفع مئذنة مسجد، وقد إنفصل عن الحي الذي أقيم لصلاة سكانه.
يرتفع السور محاذياً الطريق ويتسلق الجبل شمالاً. لا يوجد حاجز، ولا رصيف، ولا فتحة في الطريق الملتوي شرقاً حيث يوجد القسم الشرقي من إليوسيا، وقد إنضم إلى نفاريا مضيفاً توسعاً للحجاج في البلدة القديمة. تستمر الحافلة في سيرها شمالاً، وتختفي مئذنة المسجد وراء السور وتلتوي الطريق شرقا،ً منعطفة يساراً ثم يميناً في صعودها على الجبل. تبدو البيوت وكأنها ملتصقة ببعضها ومتراكمة بأحجامها المختلفة، وألوانها المتباينة من الأبيض إلى الرمادي، والإسمنتية التي لا تزال قضبان الحديد بارزة من جدرانها. وعلى الأسطحة ارتفعت براميل المياه وقد ثُبتت بأسلاك إلى أماكنها. وحيثما نظرت تتطاير أوراق ممزقة وعلب فارغة وأكياس من النفايات والتنك وأكوام من الحطب والأخشاب، وحبل غسيل يتدلى منه قميص منسي يتطاير في الهواء. هذا المنظرلكرتونات البيض مع مربعات ومستطيلات مظللة لتعلّم الأبواب، والنوافذ، ومساحات منعزلة تكونت من متدليات، يتكرر في الجانب الأيمن إذ تنطلق الحافلة متجهة إلى الغرب، وبإهتزازها تتمايل هوميليا وهي تفكر بمريضها.

**********
في تلك اللحظة، تحركت فيه الحياة، مع أنه لا صوت حوله يسبب يقظته. يشعر أنه وحيد في الهدوء المحيط به. يعتريه خوف بدائي كالذي يشعر به صياد وحيد يلاحق دباً جريحاً؛ خوف لم يشعر بمثله طيلة أشهر استلقائه اللاشعوري في قبره اللحمي. لكنه الآن يستيقظ من حلم مزعج يضغط على دماغه المتيقظ كالكماشة.
إستيقظ من حلمه على"ترنيمة"تحوم في نواح حزين على رؤوس التائبين المنحنية في كنيسة الرب في القرون الوسطى في المدينة القديمة دسبيريا. اللحن المتكرر يعلو وينخفض في نبرات مكبوتة تناسب ترنيمة جنائزية ينشدونها في قداس لراحة الميت في تابوته عند قاعدة الهيكل، الشموع الطويلة برتقالية اللون مثبتة على الجانبين. أسطوانات سميكة تعلوها لهبة مترجرجة بينما يندفع دخان البخور بإتجاه القناطر المتشابكة في الظلام فوق صحن الكنيسة.تُفتح عيناه على هذا المنظر من تجويف القبة العميق حيث يلاحظ كل شيء من الممر الضيق المحيط بقاعدتها. ينظر إلى التابوت في الأسفل البعيد فيرى وجهه، عيناه مغلقتان، ويداه موضوعتان بعناية على صدره تحت الأشرطة والأوسمة التي تزين ثوبه الرسمي. لا يتعرف على أحد في مقصورة الكنيسة، لا وجوه مألوفة، لا دموع، لا حزن على الميت، فقط عندما يدقق النظريرى مجرد أشكال بهيئة بشريملأون المقاعد، منحنون، رؤوسهم منكسة، بلا وجوه أو حياة، سراب ساخر يصوّر المحبة والرحمة.
بعد صدمته بهذا المنظر يتحرك فكره إلى الأسفل حيث صحن الكنيسة المظلم بإتجاه البوابة الغربية تحت أنابيب الأرغن التي ينعكس عليها نور الشموع فتبدو كعيون تتراقص نظراتها المشعة. يدخل شخص وحيد من البهو العميق، شخص تحيطه الظلال المتداخلة مع نور المساء المتسلل من زجاج النوافذ الملون. يتحرك الشخص أماماً بصمت، وقد إلتفع بقلنسوة سوداء تصل إلى الأرض، صورة من محاكم التفتيش، مخيفة ومدهشة في رؤياه المتخيلة.
إنما هناك شيء مألوف في هذا الشخص، ليس لأنه رآه سابقاً ولكن لأنه يشعر حضوره، ويعرف أفكاره، وتجاوب هذا الشخص الهادئ لوجوده، وإنتباهه له، إعتناقه لورطته المرعبةـ السواد المطلق الذي يلفه، والحاجة الملحة لأن يرى الآخر، أن ينظر في عينيه، يلمسه، ويخترق حاجز الجسد. وفجأة، في لحظة مخيفة يعرف أنها هوميليا.
تقترب من النعش، تنثر الشموع ضوءها الخافت في القبو الواسع حيث وُضع النعش، وتنير هوميليا إذ تقف قريباً من درجات المذبح. تقف خلف رأسه وتنظر إلى وجهه المنتفخ، وعينيه البارزتين المغلقتين، وبشرته المبقعة. تلمس بيدها اليمنى عينيه المغمضتين إصبعاً على كل عين وبيدها اليسرى تغطي فمه، بينما ترفع رأسها ببطء بإتجاه القبة وكأنها تعرف أنه واقف هناك يرقبها في الأسفل، وبهدوء تقرأ ترنيمة لم يسمعها منها في السابق، يكاد لا يسمع صوتها الخافت وإنما صداه إذ يرتد إليه برفق"ما عدنا غرباء". وفي حلمه يرى عينيه تنفتحان ويستطيع الكلام.
ويستمر الحلم. ينهض من النعش ويندفع في ممر صحن الكنيسة نحو المدخل الغربي. يحيطه نور المساء الخافت بظلاله الذهبية، نور ناعم، فخم ومقدس وكأن يد الله رسمت المنظر. يندفع نحو قاعة الإجتماع الإلهية عابراً الرايات البيضاء المزخرفة بالدوائر الذهبية الثلاثة رمز الموسم المقدس المعلقة على أعمدة الكهرباء في شارع يبوكريسز. يرى الحجاج أمامه يتدفقون إلى القاعة، وقد ارتدوا ثيابهم البيضاء ويحملون عصى مذهبة ومزينة بالرايات ذاتها، وكلهم يرتلون مدائح للرب الذي منحهم الغفران. يبدو وكأنهم لا يتوقعون يوم العقاب والثواب.
يستمر المريض في ركضه ويدخل القاعة في الوقت الذي يجلس فيه جميع الحجاج على مقاعد القاعة. وإذ يدخل في دائرة الضوء القوي المنتشرداخل القاعة وجدرانها المغطاة بالرايات البيضاء، يدرك أنه هو أيضاً يرتدي ثياباً بيضاء، وإن كان في عباءة المشفى والمشمع مثبت على كتفيه يجره وراءه إذ يسير في الممر الرئيسي بصعوبة. يصعد الدرجات إلى المنصة ويلتفت إلى جمهور المصلين وهو يلوح بذراعيه فوق رأسه ليلفت إنتباههم، وتدريجياً يلاحظون هذا الغريب، إلى أن يغمر الصمت قاعة الإله.
إنه يسمع الصمت، الصمت النابض الذي يكتنفه ويسجنه يوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر في فراش المشفى، لا يقطعه سوى طرطقة صينية الطعام، أو ملاحظات عابرة من بعض الأصوات، وصدى البوق الوحيد؛ يضغط براحتيه على أذنيه وكأن ضجيج طلقات مدفع تمزق القاعة وترتد على الجدران الجرانيتية. عيناه البارزتان تحملقان في آلاف العيون المصوبة عليه، جنرالهم، المريض في عباءة المشفى والذي أسكتهم بتلويح ذراعيه، وعندما أطبق الصمت أغلق أذنيه بيديه، صورة لمجنون يهذي ويطلب سماعه ولكن لغرابة الموقف عندما يفتح فمه للكلام لا يصدر عنه صوت وإنما إذ يلفظ كل كلمة بعناية، يعبر وجهه عن عذابه الموجع الذي مرّ به، ويكشف بحركاته قوة الإعتراف المؤلم الصادر عن قلبه، إعتراف أن هذا هو تكفيره الذي يطلب من خلاله أن يمنحه الشعب الذي دمره العفو والغفران.
أتقدم إليكم بفضل قوة ملاك كسر ختم الصمت الذي حبسني في قبري الأسود، حي ميت، مستيقظ نائم، واعٍ غائب عن الوعي، منسي، معزول، مُبعد عن عائلتي وأصدقائي وأبناء وطني، الشخص الحزين المتألم من لامبالاتكم، خطيئة إهمالكم، أشد الخطايا تدميراً للإنسانية، محو الوجود من الذاكرة.
ولكني لا آتيكم غاضباً، لا آتي لأوبخكم ولا أريد إهانتكم، آتيكم بروح منسحقة ندماً أطلب منكم غفران ذنوبي، لأني أنا سبب آثامكم، وعدم إنسانيتكم ولا مبالاتكم التي شجعتها ولا أخلاقيتي التي قمت بها في كل أفعالي الفاضحة والحقيرة والماكرة والشائنة بحق إخواننا، عاكساً حقيقة بربريتهم إلى فضائل مجيدة، وفي المسيرة أصابتكم عدوى شروري التي انتشرت كالسرطان في جسد نيفاريا كلها تفسدها من الداخل بحيث لم تروا مدى سواد آثامكم وفسادكم.
أقع أمامكم طالباً المغفرة لأني أخطأت. يا إخواني وأخواتي لقد ذبحت الأطفال في حضن أمهاتهم. لقد أطلقت صواريخ في شوارع مزدحمة، هلّلت للمجازر التي سُلطت على الأبرياء. لقد نسيت أصدقائي وعائلتي حتى أطفالي في سبيل إحراز السلطة على الجميع. لقد دفنت تعاليم الأنبياء تحت قدمي وتخليت عن كل شيء في سبيل مجدي، أبكي الآن لتشهدوا عمق عذابي . سامحوني، سامحوني.
وإذ يقف المريض في وهج الأضواء التي سلطت على المسرح وعلى مظهره المضحك في ثياب المشفى التي تتدلى من كتفيه حتى ركبتيه والمشمع يلوح يميناً وشمالاً، وهو يذرع المسرح ذهاباً وإياباً رافعاً ذراعيه ومحدقاً بقوة في الجمع بنظرة ثاقبة، يهب كل من في القاعة غضباً على هذا الرجل المجنون السمين الذي يتجول على المسرح ملوحاً بذراعيه فيهجمون عليه يحاولون دفعه وراء ستائر خلفية المسرح.
وطيلة وقوفه وسيره على المسرح مخاطباً الجموع بقبضته مستعطفاً إياهم لسماعه، محركاً ذراعيه صارخاً بأعلى قوته ليسمعوا- دون أن يصدر عنه أي صوت. لا كلمة تسمع ولا شخص يتقدم إليه ليلمسه بعطف، وينظر إليه برحمة، إنه وحيد كما كان ووحدته تلتجئ إلى جسده الخامد المتشح بالثياب البيضاء، عيناه مغلقتان، وفمه مغلق، ويداه منفردتان على صدره، ولا صوت سوى تكتكة مرقاب قلبه الخافت، وجسده الذي قام بهذا المشهد من حافة قبة المعبد، مسجّى في قبره بين الجدران.
يوقظ إهتزاز الحافلة هوميليا من إغفاءتها القصيرة، التي بدأت بتفكيرها بمريضها الوحيد بدونها لأول مرة منذ أشهر، وتحولت أفكارها إلى مدفن تراه بمخيلتها في نهاية قاعة تغمرها الظلال، مكان لا تعرفه ولا يمكنها تفسيره وإنما يغمرها شعور أن مريضها يتصل بها، ولا تدري كيف أو لماذا. ولكن المنظر الخارجي يقطع أفكارها إذ ترى مخيم اللاجئين الذي يبعد خمسة عشر دقيقة عن جويا.
ينتشر المخيم على الطريق إلى يمين الحافلة. ممراته الترابية لا تتسع لمرور أكثر من سيارة. بنايات كالصناديق ترتفع على زوايا المنحنيات تزيد من صعوبة مرور السيارات. كتابات على الجدران الإسمنتية وملصقات ممزقة ورايات قديمة تلوح في الهواء. أسلاك كهربائية تتدلى من أعمدة عبرالممرات لبنايات مجاورة، بينما تتكتل أسلاك أخرى بين الأعمدة فوق المرتفع. براميل للمياه على الأسطحة تطل على النفايات في الأسفل مقاعد منبوذة سيارات خردة أوعية وحجارة ملقاة بلصق الجدران.
أطفال يتراكضون في الممرات، أو يقفون أمام البيوت بقمصانهم الملونة صورة مكملة للألوان الباهتة والملصقات على الجدران. تلاحظ هوميليا المياه الجارية في الطريق الموحلة حيث يلعب الأطفال، وتذكر يوم غادرت جويا للعيش في دسبيريا قبل سنوات وترى كيف يتجمد الزمن هنا، لا شيء يتغير والشناعة تظهر باستمرار كالغيوم السوداء التي ظللت دسبيريا منذ بداية الموسم المقدس قبل سبعة أيام. كل شيء كئيب، بشاعة متواصلة تتغلغل في الروح كمياه المجاري التي تغمر مسارب الطرقات.
تستيقظ تماماً عند إقترابها من البيت، متحمسة للقاء إسماعيل للمرة الأولى منذ سنوات، ولقاء أمها وأبيها الذي ترتعش من إنطوائه وكأنه بصمته يلوم الجميع، حتى الذين ضربوا مثله، وعائلته على وضعه، وقد أصبح مقعداً منعزلاً منذ إحتلال جويا وبناء السور وتغيير الأوضاع، فلا أحد يستطيع الدخول والخروج يدون إذن من (ق.أ.ن.) ولا يمكنهم حتى إجتياز السور إلى أراضيهم لجمع المحصول بدون الإنتظار حتى يفتح السياج حسب رغبة الجنود. حتى قمصانهم يمنعون من ارتدائها إذا نقش عليها ما لا يعجب الجنود. شباب في الثامنة عشر من عمرهم يتحكمون برجال ونساء اكبر منهم سناً أضعافاً وأكثر. لا شيء كما يجب أن يكون، تفكر هوميليا والغضب يملأها.
تصل الحافلة إلى مرتفع في الطريق عند مدخل البلدة ثم تنحدر غرباً حيث يمكن رؤية البحر عن بعد. تجلس هوميليا بإنتباه وهي ترى البنايات المألوفة حولها والجيران الذين يتجولون ويتسوقون ويحيون بعضهم. تبتسم وهي تشعر بدفء الأهل يغمرها. يقطع تفكيرها نقر على النافذة، تلتفت لترى إسماعيل يركض بجانب الحافلة بلحيته الداكنة التي فاجأتها وقد بدا أكبر سناً، ولكنه بحماس الشباب يناديها لتغادر الحافلة. يلمحه السائق في المرآة فيتوقف. تندفع إلى الباب وتقفز بين ذراعيه ودموعها تنهمر بشوق خمس سنوات من الغياب. ينتظر السائق فترة، ثم يلقي بحقيبة هوميليا لإسماعيل ثم يواصل رحلته.
يسير الإثنان متمهلين وهما يحييان جاراً يجلس خارج المقهى، واللحام الذي هرع مرحباً، ويعاودان حديثهما وإبتسامة السعادة تطل من عيونهما فرحاً بهذا اللقاء. يصطحب إسماعيل هوميليا إلى المخبزفي الزاوية، مكان صغير، بابه نصف مفتوح، ورفوفه الزجاجية مليئة بالكعك الساخن يجلسان خارجه يحتسيان الشاي، يأكلان ويتحدثان.
"ماذا فكرت عندما عدت"؟ تسأل هوميليا ولهجتها تشي بالجواب المنتظر"كيف رأيت التغييرات؟"
"تعرفين ما الذي اختلف وكيف أشعر. هذه الدقائق الأخيرة، السير معك متمهلين، نمسك بأيدي بعضنا ونضحك، مجرد أن أراك ثانية كما كنا قبل سنوات، كل هذا تغير، أنت تعرفين، مثلي. نحن نعيش في قفص، لا حرية حركة. لقاؤنا الآن وفرحنا به هو كل ما لدينا، فقط هذه اللحظات. نفتح عيوننا صباحاً لنرى السور الذي يحيطنا كحزام فولاذي. كيف أشعر؟أكرهه."ينظر إسماعيل غرباً نحو البحر الذي كان محط أحلامه في صغره، حيث يمكن تحقيق كل ما يتوق إليه. ولكن الآن، تفضح عيناه ولهجته شعوره بالعزلة، والعجز، واليأس الذي يطوقه كالجدار.
"ليلة أمس عندما وصلت، رآني سند تذكرينه؟ عمره اليوم حوالي 12 سنة، وناداني. تحدثنا . أتعرفين ماذا أخبرني؟ تماماً ما قلته لك الآن. إستلم أهله رسالة من (ق.أ.ن.) يأمرون أباه أن يهدم حظيرة الماعز التي كانت لديه دائماً وفيها البقرة والحمار وبعض الدجاج. هذه الحظيرة التي أقامها من ألواح الخشب والصفيح ليؤوي ماشيته، تعرفينها... تعرفين لماذا؟ لأنها قريبة جداً من السياج، تلك الزريبة الفولاذية الشنيعة التي أحاطونا بها وأقاموها على أرضه دون أن يدفعوا له ثمنها. ألحظيرة التي أقيمت قبل سنوات قريبة جداً. دون عرض لدفع تكاليف حظيرة جديدة، أوعلى الأقل ثمن الأرض التي صودرت... مجرد إهدمها أو يهدمونها هم... كيف نعيش مع هذا؟"كان الغضب واضحاً وهو يعيد قصة سند، الولد اللطيف الذي عرفه كل عمره والذي لا يستطيع أن يفهم تصرفات الجنود.
"أذكر سند وأمه. لديهم أشجار زيتون قديمة في تلك الأرض، أو كان لديهم، لا أعرف كم من الأشجار جُرف. أعرف شجرة عمرها ألف سنه قرب الحظيرة، بجانب الجدار. ما أفظع أن يقطعوا كل تلك الأشجار ليبنوا هذه البشاعة. أعرف ما الذي تقوله ولكن يا إسماعيل، لدينا وقت قليل معاً، دعنا نتمتع به، أرجوك."رجته هوميليا.
"حسناً، لنذهب إلى البيت لنقضي بعض الوقت مع العائلة."
"نعم، ولكني أريد أن أعرف ماذا تعمل هناك. بماذا تشتغل، كيف تعيش؟هل واجهك الحجاج وال-(ق.أ.ن.)"؟
"لدي قصص لن تصدقيها، قصص أخشى أن تبكيك. أمور عشتها ولكني لا أفهمها."يسيران شرقاً بإتجاه البيت القائم بين مجموعة من بيوت كالعلب من طابق واحد تحيط بالمدرسة الإبتدائية في طرف البلدة، معظم البيوت لها ساحة صغيرة من الحصى يحيط بها حائط بإرتفاع ثلاثة أقدام، بعضها لديها حظيرة لبعض الماعز أو حمار، والبعض تقف على بابها سيارة تجارية قديمة مغبرة. تلاحظ هوميليا أن إسماعيل يعرج قليلاً، وللمرة الأولى تنتبه إلى ثيابه البالية والمتسخة. ترى أنه قوي، تشد أكتافه العريضة معطفه الأسود القديم. طاقيته الصوفية ذات اللون الكحلي تدفع خصلات شعره الأسود إلى االوراء فتتناثر على ياقة المعطف وتجعله يبدو أضخم من حقيقته. تحت اللحية يبدو وجهه أنحف مما تذكر، وقد بدت الخطوط حول أنفه، وضمر خداه. ولكن عيناه المشعتان تشدانها إذ يحيط بؤبؤهما البني خط أسود يبرز البياض الناصع للعينين. تشعر بعمق نظراته، التنبه والتيقظ التام لكل ما يحيط به وكأنه لا يسترخي أبداً بل يراقب كقط حشر في ساحة غريبة.
"أنت تمشين معي ولكنك في مكان آخر، بم تفكرين يا هوميليا، فأنت صامتة."
"عفواً، إسماعيل، ولكن خطر لي كم تختلف حياتنا. أنظر إليك للمرة الأولى بعد سنوات وأكتشف إختلاف مسيرة كل منا. ثيابك، عرجك، وعيناك، يوحي لي عمقهما أنك رأيت أموراً لا أستطيع تخيلها. أما أنا فقد عشت حياة مؤمّنة. ما علي ألاّ أن ألتزم بروتين عملي، وأتجنبهم قدر الإمكان ثم أعود لجدتي وأصدقائي. ولكن أنت ... أنت في مكان آخر، مكان أخشى أن أذهب إليه. سامحني على سكوتي يا إسماعيل، أرجوك."تتكلم هوميليا بهدوء إذ تواجه للمرة الأولى هذا الإنقسام بينهما، أفكار قد تفتح أبواباً لم تظن أنها ستفتح اليوم.
خلال ساعة ترى هوميليا أن زيارتها لترى إسماعيل أصبحت حدثاً هاماً في الحي. يجلس الجيران على كل كراسي البيت ومقاعده وحول الطاولة بجانب أمها وأبيها. تقف مستندة إلى الباب بين غرفة الجلوس والمطبخ، تراقب إسماعيل وهو يرد على أسئلتهم. يجلس في الغرفة بحيث يراها، فقد جاء ليراها. يلاحظ أنها نضجت بحيث تستوعب كل ما يقوله. أصبح البيت الصغير قاعة إجتماع في جويا حيث يسمع الأهالي صوتاً قادماً من أماكن بعيدة، صوتاً يذكر بقصص الأنبياء القدامى وهم يقصون أحاديث عن أقارب يتعذبون كي لا ينسوا ويغرقوا في اللامبالاة التي تسم مغتصبيهم. ولكن لا يبدو إسماعيل كأحد الأنبياء القدامى؛ حركاته ونبرات صوته، وتيقظه، يعطي حيوية لحماسه وشبابه.
بينما يشرب بعض الضيوف الشاي وآخرون الماء، يصف إسماعيل حيث كان في الجنوب، وكيف تغلب على الصعوبات لأشهر قليلة، إلى أن التقى، بمساعدة أصدقاء، بالعاملين لحقوق الإنسان وهم يعدون تقارير شهود عيان وإحصائيات حول الإصابات والقتل وهدم البيوت، والحواجز، ومصادرة الأراضي، والسجن والتعذيب، لمنظمات دولية للحقوق لأنهم منعوا من دخول مناطق من جنوب إليوسيا. بسبب هذه النشاطات يبذل (ق.أ.ن.) وقتاً ومجهوداً كبيراً لكشف الإليوسيين الذين يعملون ل"مؤسسة حقوق الإنسان الدولية"وسجنهم آملين عبثاً بوقف التقارير. بينما كان يتكلم لاحظت هوميليا أن أباها جلس مصغياً بانتباه، وبفخر ظاهر بإبنه الذي غادرهم قبل خمس سنوات بعد إصابة أبيه على يد (ق.أ.ن.) وضربهم وإذلالهم له. لربما يرى نفسه في إبنه إسماعيل. "أحضرت معي بعض التقارير"قال إسماعيل وهو يروي مغامراته في الجنوب."ولكني لم أتورط بجميعها. كل منا يذهب كل يوم ليشهد على حدث في مكان مختلف. كثيراً ما نحصل على معلومات عما يمكن أن يسبب مشاكل ويجعل (ق.أ.ن.) يتدخلون، كإعتصام سلمي أو مظاهرات ضد الجدار. فنذهب هناك لنجمع معلومات أو نراقب ما يحدث. أحياناً نسجل حوادث على الكاميرا أو الفيديو ولكن كثيراً ما يأخذ (ق.أ.ن.) الكاميرا وهذا يكلفنا غالياً. ولكن كثيراً ما تحدث أمور بالصدفة، وعلينا دائماً أن نتظاهر بالبراءة، وكثيراً ما أعجز عن التدخل لأن هذا يكشفني وينهي فعاليتي. التقارير هي الطريقة الوحيدة لإخبار العالم عما يحصل. ولكن حتى هذا أحياناً لا يجدي لأن النفاريين ينشرون تقاريرهم التي لا تحتوي على معلومات، وإنما ترمي ظلاً من الشك على صدق تقاريرنا."
"لماذا يُسمح بهذا؟ لماذا يسيطرون على كل شيء؟ ألا تعلم المنظمات العالمية والولايات الإشتراكية الحقيقة؟ ألا يرون ما يحدث؟"لفتت لهجة السائل الغاضبة إنتباه الجميع فتجاوبوا معه. "نعم...نعم"..."أنت على حق.."يتفهم إسماعيل ردود فعلهم ويحاول أن يفسر لهم ما يعرفونه: ألعالم الخارجي يعيش في جهل لأن الخاصة الحاكمة، حكومة نفاريا ورئيس وزرائها، الجنرال ديماس، يقررون ما يمكن نشره وما يجب إخفاؤه. إنهم لا يسيطرون على نفاريا فحسب، وإنما في الولايات الإشتراكية من خلال تكتلاتهم"اللوبي"التي تضمن سيطرتها لأن النواب في الحكومة يخشون على مراكزهم إن حاولوا الإستخفاف بنفاريا.
"دعوني أعطيكم مثلاً."يستمر إسماعيل"حادث شاهدته مع كثير من جيران العائلة التي هاجمها (ق.أ.ن.) الذين شكّوا بوجود إرهابي في شقة وسط مخيم للاجئين، ولكنهم أخطأوا بالمكان، وبصراحة لم يهمهم، بل اقتحموا البيت وأمسكوا الرجل العجوز أب لأحد عشر طفلاً،جروه إلى الخارج، وألقوه على الحائط وانهالوا عليه بالضرب والصراخ والأطفال يبكون لرؤية ما يحصل لأبيهم.
كنت هناك وتذكرت ما حصل لأبي ... زاد الصراخ ولكن الرجل لم ينطق بكلمة، والأطفال يصرخون "إنه أطرش، إنه أطرش"ولكن الجنود لم يفهموا. فخرجت الأم وأشارت بيديها إلى أذنيها تشرح لهم ما لم يفهموه وصرخت "إنه أطرش، أطرش!". ولكن غضبهم أخرجهم عن وعيهم، فأمسك قائدهم مسدسه وقتل المرأة... ثلاث رصاصات... سقطت على الأرض والدم ينزف من رأسها والجميع يصيحون طالبين سيارة إسعاف، ولكن الجنود أغلقوا الطريق ولم يسمحوا لأحد أن يذهب حتى ماتت. هل تعرفون كيف نشر الخبر؟ "واجهت قوات نيفارية مقاومة جنوب إليوسيا أمس. قُتل بعض الإرهابيين وامرأة مدنية أثناء جولة مصفحة"وأين ظهر الخبر؟ في جملة واحدة في ثلاث جرائد في الولايات الإشتراكية المتحدة في الصفحة الأخيرة. هل تتصورون كيف كان ينشر الخبر في العالم كله لو اعتدى الإليوسيون على أهل نيفاريا! هل يجيب هذا على تساؤلكم؟"
"طبعاً. ولكن لا يخبرنا كيف نقاوم ما يحدث. ماذا حصل لأولئك الأطفال ؟ من يعتني بالعائلة الآن ؟ بالأب المسكين، من يطعمهم؟ كيف سيعيش هؤلاء الأطفال مع ذكرى ما رأوا؟ هل أستمر؟"
"لا لزوم يا صديقي، فالأمر أسوأ مما تظن. لقد أقنع النفاريون المنظمات العالمية، من خلال سيطرتهم على مندوبي الولايات الإشتراكية المتحدة فيها، أن منظمات حقوق الإنسان المحلية تتعاطف مع الإرهابيين بمساعدتهم ومساعدة عائلاتهم. لذلك لا تصلنا أموال من تلك المنظمة. لا يهمهم أن مساعدة العائلة لا تساعد الإرهابيين لأنهم يدّعون في تقاريرهم أن الأب كان إما إرهابياً أو متعاوناً. وهذا يحدث كذلك مع من تهدم بيوتهم لأن إبن العائلة أو أحد أقربائها المقيم معهم قام بعمل إرهابي، فالعقاب الجماعي الذي يمنع لدى الجماهيرالدولية ليس ممنوعاً في نفاريا، وإنما هو روتين."
مع استمرار الحديث يزداد حماس إسماعيل. يتعرق وجهه ويرتفع صوته. تدرك هوميليا هذا التغييرالتدريجي، وتقلق عليه ولكنها تعرف أنه يلفت إنتباه هؤلاء الناس إلى ما يمكن أن يواجهوه مع مرور الزمن، فالإختناق القائم في جنوب إليوسيا سيحدث في جويا قريباً. وتأكيد إسماعيل على عدم إهتمام الناس الذي يمكن أن يغير الأوضاع التي يرويها ويهيئهم لعدم توقع أي تعاطف إنساني منهم. فهو يعتقد وهي كذلك، أنه عالم تحكمه نفاريا بلا رحمة، فمعرفة هذا يهيء الفكر لا القلب، للعذاب المتوقع
"دعوني أعود لكيفية سيطرتهم على ما يصدر للعالم الخارجي. لقد أغاروا على مكتبنا قبل أسبوعين. كانوا يريدون القبض على البعض منا ولكنا عرفنا أنهم قادمون وغادرنا المكتب. فماذا عملوا لمنظمة سلمية، وهذا يخالف القوانين الدولية. ولكن لنفاريا لا يوجد إلاّ قانونهم الخاص."
"تذكر أن تخبرنا كيف نشروا الحادثة."قال السائل.
"لم يُنشر! وهذا مألوف في الجنوب. ولكن إليكم ما حدث. حضروا (ق.أ.ن.)، إحتلوا المكاتب بضع ساعات، كسروا وأحرقوا كل أجهزة الحاسوب. رموا كل الشاشات على الأرض ورموا البعض من النافذة إلى الساحة. قطعوا أسلاك الكهرباء، أزالوا الأسطوانات وسرقوا محتوياتها والحواسيب المحمولة والهواتف وحرقوا الأوراق. ثم بالوا على الأبواب وتغوطوا على الطاولات، وتركوا رائحتهم كالكلاب وشتائمهم البذيئة... يدعوننا بالحشرات والصراصير وكلمات الكراهية. هذا تصرف دولة متدينة مليئة بالحجاج الذين يحتفلون الآن بموسمهم المقدس، للعقاب والثواب والحمد لله. لطالما تعجبت لماذا لا يحتفلون بهذا العيد في إليوسيا."
"أود أن أعرف ما شعورك تجاه هؤلاء الفتيان في ثياب (ق.أ.ن.) . إنهم مراهقون ويتصرفون بهذا الشكل. كيف تفسر ذلك؟ لم يكن أحد في المكاتب. لم يغضبهم أحد. من أين نبعت الكراهية؟ من علمهم هذا السلوك؟ هل يدع سكان الولايات الإشتراكية أولادهم يعملون هذه الأشياء؟ هل يُعلّمون أولادهم أن يكرهونا؟ إنهم لا يعرفوننا."هذا الكلام الحزين صدر عن إمرأة كبيرة السن تجلس قرب والد هوهيليا، جارة قريبة عليهم وحضرت يوم ضربوا والدها قبل سنوات. حاولت هوميليا أن تتذكر إسمها، ثم تذكرته. ساجاسيتا. تذكرت أن المرأة حاولت أن تتدخل ضد الأشخاص المقنعين الذين هاجموا المظاهرة السلمية. سألتهم لماذا يتصرفون كالحيوانات، وما الذي يدفعهم كآباء أن يدمروا حياة أُسرأخرى وآبائها . ولكنهم تجاهلوها ودفعوها جانباً. كانوا بعيدين عن المنطق. قوة متوحشة لا غير.
"آه ساجيسيتا، أتمنى لو أعرف الجواب. أرى ما يعملون وأسمع ما يقولون وحتى أشم داخلهم، ولكني لا أعرف ما الذي يدفعهم لعمل ما يقومون به. هم فقط عليهم أن يجيبوا وليس لإلههم. مما أقرأ أن إلههم يأمرهم أن يعملوا هذه الأشياء. أي إله هذا؟ لذا هذا التفسير لا يرضيني. ولكنك تضعين سؤالك بطريقة مثيرة"هل يعلمون أطفالهم أن يكرهونا؟" لم أسأل نفسي هذا السؤال، ولكن لو فعلوا، ماذا يمكنهم أن يقولوا لهم ليجعلوهم يكره أناساً لم يقابلوهم. أقصد أننا نطلب من أطفالنا أن يتحنبوا الغرباء إذا طلبوا منهم أن يرافقوهم مثلاً، ولكننا لا نقول لهم إكرهوهم أو أقتلوهم".
"لا أحب أن أقاطع يا إسماعيل، ولكن يوجد أمر آخر أليس كذلك؟ "قال شيخ يجلس في زاوية الغرفة. كانت هوميليا تراقبه وقد حنى رأسه وأغمض عينيه، ولكنه كان متيقظاً ويصغي للحديث، لذلك لم تستغرب سؤاله. "لقد تجاهلت تعاليم الدين لأنه إذا أمر النفاريين أن يقتلوا الآخرين لأن الله إختارهم فوق الجميع. وإذا أمرهم بواسطة أوليائهم أننا أعداء، إذن ألا يعلم الآباء أطفالهم أن يقتلوا؟ تحت هذه الظروف، مهما كان الدين، على من يقع اللوم؟ كيف يمكننا أو يمكن لأي قوم أن يقنعوا هؤلاء الذين تعلموا أنهم فوق الجميع، أن كهنتهم يدّعون ما يقوله الله لهم؟ لعل هذا تفسير مربك ولكنه يرينا أن المشكلة صعبة الحل."
"آه كوتيو، توقعت منك أن تثير هذه النقطة. أنت أحذق مني فعليك أنت أن تجيب على السؤال. أنا أعيش في عالم عملي، شناعات يومية تملأ حياتنا. نحن نعيش .إذا خلق الله العالم فقد خلقنا لنعيش فيه. لا أشتري اختيارات. إن مجرد الفكرة تناقض الألوهية. إذ يصبح الله منقذاً وشيطاناً معاً، إجتماع تناقضي. فأنت إما أن تؤمن بالله كإله أو لا. ولكن لا تخلق تناقضاً وتباركه على أنه حقيقة. هذا رأي إسماعيل يا كوتيو، هل يرضيك الجواب؟"
"أحسن مما تفضلت عليّ به في زيارتك الأخيرة، يا بني، إن الزمن يحسنك. دعني أباركك قبل عودتك."
"هذا يشرفني. فعلاً قد يحميني دعاؤك من صواريخ وقنابل (ق.أ.ن.) التي تنهمر علينا بإستمرار، خصوصاً مدينة إليوسيا التي يكرهونها بشكل خاص. يوماً بعد يوم يرسلون طائراتهم16 – F لتلقي صواريخها على أبنيتنا. يوماً بعد يوم تنفجر قنابلهم الصوتية فوق رؤوسنا ورؤوس أطفالنا الذين يركضون ليختبئوا وأيديهم على آذانهم، والرعب يفقدهم صوابهم. أعمال مقصودة تعاد بإٍستمرار. ولماذا؟ لأن مخربينا يرسلون صواريخهم الضعيفة إلى منطقتهم حيث لا تضرب شيئاً، مجرد إشارة تقول لهم أنتم تحتلون أرضنا بدون حق، أقل ما يمكن أن يعمله أي قوم ليبصقوا على محتليهم، البصاق والحجارة... هذا هو سلاحنا. هم يتصرفون وكأننا الجيش الروسي يحارب قوى ضعيفة تحاول أن تحمي نفسها من عدو عنيد متحجر القلب. أي سخف."
هنا ينهض إسماعيل ويعتذر لحاجته إلى الحمام. تنهض هوميليا لتحضر المزيد من الشاي والكعك. يتحرك الضيوف في أماكنهم بانتظار عودته، وكأن قصصه جددت روابطهم مع عائلاتهم في جنوب إليوسيا، هذا الرباط العائلي الذي يجمع الإليوسيين في عذابهم الذي حل عليهم منذ ستين عاماً.
"حسناً يا أصدقائي، دعونا نستمر. لقد احتجت لتلك الإستراحة فشكراً. لدي كثير من القصص ولا أدري من أين أبدأ. تستطيعون الحصول على مزيد من المعلومات من هذه التقارير التي تشرح كثيراً مما لم أذكره؛ خاصة قتل الأطباء والممرضين وسائقي سيارات الإسعاف، لأن قتلهم يمنع شفاء الجرحى والمصابين. دعوني أخبركم إحدى أغرب الحوادث التي كنت فيها. حدث هذا قبل ثلاثة أشهر، إذ كنت أساعد سائق سيارة إسعاف دُعي إلى حي ليخلّص أم وثلاثة أطفال أصيبوا داخل بيتهم. كان عدد من (ق.أ.ن.) في المنطقة عندما وصلنا، فتوقفنا على بعد خمسين متراً من البيت. ضغط السائق على الزمور ليخبر أهل البيت بوصولنا ليخرجوا الجرحى. لم نستطع أن نتقدم بسبب الجنود.حاول السائق أن يتصل بوزارة الصحة تلفونياً ويشرح لهم الوضع. أخبرونا أن ننتظر حتى يسمح لنا الجيش أن نقترب. بدلاً من ذلك بعد خمس دقائق أطلقت المصفحة النار علينا، لم نُصب ولكنا اضطررنا للتراجع. بعد دقائق رأينا جرافة ومصفحة تقتربان منا، واحدة أمامنا والأخرى وراءنا. بدأ سائق الجرافة يجرف رمال وحصى أمام السيارة بينما أتت أخرى وجرفت نفايات البيوت وراء سيارة الإسعاف، فحوصرنا بين النفايات وتلال الرمال والحصى. أصابت الجرافة سلكاً كهربائياً فسقط على سيارة الإسعاف ونحن عالقان في الداخل . جربنا أن نفتح الأبواب وهنا أطلقت المصفحة النار علينا. جلسوا يضحكون على مأزقنا، مع أنه لم يكن شيئاً مضحكاً.خفنا . بعد ثلاث ساعات قالوا لنا أنه يمكننا أن نغادر. أزاحت الجرافة الزبائل واضطررنا إلى المغادرة بدون الجرحى. هذامثل عن إهتمام الجنود بصحة الناس تحت إحتلالهم. كيف تفسرون هذا؟"هنا أصبح صوت إسماعيل أهدأ وإنما مليء بالجدية والسخرية.
مع استمراره بسرد قصص تعذيب البشر، أخذ غضبه وإحباطه اللذان كبتهما يظهران تدريجياً. وسلسلة الإذلال والعجرفة المسلطة على هؤلاء الضحايا الذين اجبرو على تحمل العذاب.
"أتعرف يا إسماعيل، ما يدهشني هو تماسك السلوك."لاحظت ساجيسيتا "تماسكهم في اللؤم الذي ينكر أن هناك أشخاص يؤذيهم ما يعملون. بعض الأعمال تافهة كإهانة أطفال في طريقهم إلى المدرسة، ولكن هناك أعمال ماكرة، شيطانية، كالتي ذكرتها الآن. لقد ضحكوا بينما كانت الأم وأولادها يتألمون، وأنت والسائق كنتم في خطر. إنه لؤم، أن تنكر إنسانية البشر، عدم مراعاة الآخر مهما كان الأمر. أي عقل قادر على مثل هذا التصرف؟ طالما هم ليسو في خطر فلا خوف عليهم . إنها ليست عداوة شخصية ضد من هاجمهم. إنهم لا يعرفون الناس الذين يعاملونهم بهذه القسوة. أنا لا أعرف حيواناً يعذب حيوانات أخرى للتسلية، إلاّ إذاكان قط يلعب مع فأر. هل نشبّه أنفسنا بهم؟"
"ساجيسيتا، لا أفهم كيف يعامل الناس الآخرين بهذه الطريقة. أستطيع أن أفسر لماذا البعض منا يهاجمونهم، حتى أولئك الذين ينتحرون ليقتلوا البعض منهم. أحياناً، عندما ترين أباك يُضرب بلا رحمة، وترين بيت جارك يدمر، وترين الأرض تسرق والأشجار تُقلع، وترين مصفحات 16-F وألوف من الجنود المسلحين يتدفقون على مخيم اللاجئين ويقتلون كل من يقع عليه بصرهم، عندما تسمعين من صديق عن التعذيب، يستولي عليك اليأس، يأس يقضي على المنطق والرحمة وكل المباديء التي عاش عليها المرء لسنوات، وبإحباط تام لا يهمك من تقتل وتؤذي من الأبرياء. ولكن مهما كان الأمر فظيعاً، أتفَهّم الأمر. لا أفهم ما يعملونه فهوفوق إستيعابي . لربما يحملون ألماً عميقاً لا أستطيع رؤيته. كمايبدو لديهم كل شيء، ومع هذا يعتدون على الذين لا يعرفونهم لسبب ما. ألديهم شعور باليأس؟ لست أدري.
"دعوني أحكي لكم مثلاً مخيفاً آخر. إنه واضح التعمد، وإنكار لمن يصيبهم. أنا لم أشهده ولكنه وصلنا من صحفي كتب عنه بالتفصيل. كانت إبنة 17 عاماً تستعد لإمتحانها النهائي. كانت تدرس في غرفتها في الطابق العلوي وتحفظ المادة وهي تسير جيئة وذهاباً. كان نور الغرفة خافتاً. أتتصورون المشهد؟ شابة تسير في غرفتها يمكن رؤيتها بوضوح من الخارج. على سطح بيت مقابل كان يجلس (ق.أ.ن.) قناص. صوّب هدفه بدقة بحيث قتلها برصاصة واحدة في جبينها. هذا قتل صارخ. لا حاجة للقول أنه لم يُعاقب. أخبركم القصة دون ذكر الإنفعال داخل البيت، الأم تهرع إلى الغرفة، الدماء تغطي الكتاب، العائلة الممزقة، لأني أريد التركيز على عمل مقصود ومدبر نتيجة تدريب جندي شاب على يدي خبير علمه ما عليه عمله. لا إهتمام بالفتاة وإستعدادها لإمتحان قد يفتح أمامها مجالاً لتحقيق أحلامها، ولا إهتمام بالأم والأب وكيف سيمضون عمرهم يتحسرون على ابنتهم التي ذهبت ضحية جندي محتل قام بما دُرب عليه. ولا تفكير بجيرانها وزملائها في الدراسة، والعائلات التي أصبحت تخاف على أبنائها من عمل مماثل. لا أعتقد أن كلمة دناءة تكفي. إنها عجرفة تقيم في أحشاء هؤلاء الناس وتحرق أي شعور بالزمالة الإجتماعية بينهم وبين أي إنسان آخر على هذه الأرض خاصة الإليوسيين."
إرتجف صوت إسماعيل في نهاية قصته، وكأن وضوح العمل كشف له عدم الجدوى من حياته وقد شاهد وسجل إنعدام إنسانية الإحتلال. إذا لم يعرف العالم الخارجي بأذاهم، وأسوأ من ذلك لو عرف ولم يهتم فما الغاية إذن من عمله؟ إذا عرف العالم فقط ما يكشفه المحتل، إذن لا وجود للإليوسيين. إنهم ما يقوله عنهم المحتل، قوم يعيشون في واقع خلق لهم وإن كان لا يحمل أي شبه لحياتهم اليومية.
شعر المستمعون بإحباط إسماعيل وصمتوا بإنتظار عودته للكلام. ولكن هوميليا أدركت أنها لا تستطيع البقاء. ستغادر الحافلة إلى دسبيريا بعد نصف ساعة، وبيأس أشارت لإسماعيل إلى ساعتها. فهم وطلب فترة إستراحة ليودع أخته. ترك الجيران الغرفة متيحين للعائلة وقتاً يقضونه وحدهم. ركع إسماعيل أمام والده ووقفت هوميليا وأمها وراءه. رفع إبراهيم يده على رأس إسماعيل مباركاً. فهو كبير العائلة وألقى الحمل على إبنه الذي قام به. أنشدت هوميليا إحدى ترانيمها"ملأوا روحي حتى فاضت؛ لم أطلب شيئاً.\ أعادوا لروحي الكرامة التي منحوني إياها."وتعانقت العائلة في وداعها الأخير.
سار إسماعيل مع أخته إلى البوابة وهو يلمح لها أنها تعتني برئيس وزراء نيفاريا، رسالة أسمى مما يستطيع عمله الذين ابتلوا بوجودهم الغادر والشيطاني، فهي تعمل ما يتوجب على كل إنسان عمله، العناية بالآخر حتى لو كان عدواً.
"هوميليا، لقد تركت جويا وأنا تملأني المرارة والإصرار أن أنزل عقوبة الموت والدمار على النفاريين. أن أقتل حجاجاً في الجنوب لأنتقم من الذين ضربوا أبي. كان الإنتقام والكره يملآن قلبي. ولكني التقيت وعملت مع الذين جندوا الشباب الصغار ليصبحوا شهداء إليوسيا، وشاهدت الفراغ في قلوب أولئك الأولاد مهما كان دفيناً في داخلهم، ماتوا قبل أن يعيشوا. لم يستغرقني وقت طويل قبل أن أدرك أن الإنتقام لا يشفي شيئاً؛ إنه تربة خصبة للمزيد من الموت الأجوف. لهذا تحولت للمشاهدة لجماعات حقوق الإنسان. إنه لا يخلصني من اليأس ولكنه يمنحني الطريق الوحيد لأفتح عيني لما وراء إليوسيا ليعرف الناس الحقيقة. ربما مع الزمن يرجع الأمل. لقد اخترت أنت عملاً لما وراء ما أقوم به؛ تشعرين مع إنسان لديك كل الحق أن تكرهيه. لكنك تحسين ما كان عليه أن يحسه قبل سنوات؛ إنه ليس وحيداً في العالم لو أنه يفتح قلبه لشخص آخر. لقد أعطيته فرصة ليعرف ذلك، لو عاش، ولم يعطه أحد هذه الفرصة عندما كان يسير في شوارع نيفاريا. حافظي على حالك، وابقي كما أنت."
تعانقا . وركضت هوميليا لحافلتها، لتعود لمريضها.




اليوم السابع

الثواب والعقاب

تتحرك غيوم منخفضة متوعدة من الغرب على دسبيريا مع بداية يوم الثواب والعقاب، مع رنين أجراس عميقة تجلجل مهددة تعكس يوماً كئيباً كالسماء المظلمة. الشوارع خالية ما عدا الأعلام السوداء المرصعة بحلقات من اللهب، ترتفع فوق أعمدة الكهرباء، وتلوّح في رياح الشتاء. طيلة سبعة أيام كان الجو الكئيب يغطي المدينة ملقياً حجاباً قاتماً جنائزياً على طقوس الموسم المقدس. حتى يوم الغفران كان غارقاً في ضباب خفيف بلل الحجاج المحتفلين وهم يرقصون في الشوارع بثيابهم البيضاء، ويغنون أغانيهم القديمة حول الإذعان والتكريم للإله القاضي الذي غفر لهم ذنوبهم. والآن في اليوم الأخير حين يُسلّط إله ثورثانا القدير حكمه الأقصى على شعبه، وعندما تظهر قوة الثواب والعقاب، وترفرف في قبة سماء الليل كقدر مسلط، يهرب الحجاج من المدينة لئلا يظهروا كخاطئين يواجهون غضب الله الدائم.
على طول شارع يبوكريسز ترفرف الأعلام في الهواء البارد، مصدرة أصواتاً حادة ينسجم إيقاعها مع قرع الأجراس المتواصل. ماعدا ذلك يسيطر الصمت، لا أناشيد حزينة، ولا قرع الصدور، ولا بكاء يشوش اليوم السابع. الشارع خالٍ والنوافذ الزجاجية في الأبنية المرتفعة ذات الطابقين، تعكس جواً كئيباً يغلف الشارع، بينما قرع الأجراس المتكرر يرسل صداه عبر الوادي الضيق الغائر بإتجاه قاعة التجمع الإلهية. تفتح الأبواب الضخمة على البهو الفارغ، حيث أزيلت الأعلام البيضاء التي زينت الجدران، وبدلاً منها تدلت أعلام سوداء ضخمة من النوافذ نقشت عليها دوائر العقاب الملتهبة. ألوف الشموع تشع ذوائبها من المصابيح المستديرة التي تصطف على الممرات المتاخمة للنوافذ، وعلى المسرح صفت شموع ضخمة للأموات، تحية لله القدير الذي سيلقي حكم العقاب على الذين قتلوا أقرباءهم بلا ندم، وعلى الغادرين الذين يستعملون موهبتهم في التفكير ليقزموا مشيئة الخالق، وعلى المحتال والمنافق والغشاش، والذين يزرعون الخلاف، والذين في سبيل ربحهم الشخصي يغشون أصدقاءهم وعائلتهم ووطنهم.
ولكن القاعة الخالية تقول كل شيء، إستخفاف فارغ بالعيد الذي يمجدون. لا يعترف الحجاج بذنب أو خطيئة إقترفوها ضد إلههم. عزلتهم الغامضة تحيطهم بالبراءة طالما هم الشعب المختار. إيمان قديم يعزز شمول مصلحتهم القائمة على التقاليد والطقوس؛ لغة واقعية لبروزهم وتميزهم مطبوعة في أذهانهم منذ بداية الزمن. لا يستطيع أحد دخول هذا النطاق الخاص الذي يميزهم ويحجز الآخرين خارج الحماية والحظوة عند إلههم. فقط مواليد الصالحين ينالون الإستحسان، ويؤذن لهم بالدخول إلى قاعة الرضى ويمنحون البركة التي تنفي الذنوب بفضل ميلادهم، ويُلقى الآخرون إلى درجات متدنية من الإنحطاط. هذه الميزة تولد عدم الحساسية وغلاظة القلب واللامبالاة، والتي بدورها تبني حاجزاً يمنع الحجاج من التعامل مع الآخرين ويسبب الخوف والكره والإنتقام. قبل مئة وسبعين عاماً أدرك رجل فاضل هذا الوعي لديهم عندما سمع أحد الحجاج يتكلم، فقال:"لقد تخيلت أن لهجته شابها شيء من المرارة كشخص محروم من التعاطف الطبيعي مع الآخرين، وملعون بقضاء لم يقع على غيرهم، ونتيجة لذلك لم يعد إنساناً. ولكن مع هذا بدا لي أنه لم يعتبرها لعنة، بل تقبلها أخيراً كأفضل ما يمكن أن يحدث له."
من أجل هذه الحظوة كان المريض يحيط نفسه بالمؤمنين الذين وجدوا فيه لمحة من النبي الذي تكلم بإسم الله وأرشدهم إلى أرضهم بالميثاق، والتي حفظت مدى التاريخ بدماء أجدادهم التي سفكت في المعارك قبل قرون.مصير جلي أعتقهم من قوانين الطبيعة أو المجتمع فيما لو سفكت دماء بريئة للحصول على ما منحهم إياه إلههم. عامل هذا الوعي برفق بإظهار حماسه الديني بلبس الرموز المقدسة كالوسام الذهبي وقد طبع عليه ختم ثورثانا، ال"ر"الزرقاء علامة الرضوخ لقوة الله المطلقة.
ألآن إذ تشرق الشمس وراء الغيوم السوداء في اليوم السابع للموسم المقدس، ويغطى الظلام الأرض، تتحرك الحياة في المريض في عالمه المظلم، غير واعٍ للزمن الذي بالنسبة له غير قائم، فقط الغياب اللانهائي للنور، والذكريات العنيدة التي تلازم لحظات وعيه، وتتركه محبطاً ذليلاً وكئيباً. يسبح عقله في عالم مطوق يدور بإستمرار وكأنه على دوامة شاردة، يحاول بلا نجاح أن يمسك بحلقة المعنى الذهبية التي تتملص من قبضته.
لا يتجلى شيء من تجاربه الآن. كانت قيادته دائماً منتجة، ودائماً أطاعه الآخرون، وحققوا رغباته، ولم يشك أحد بتفكيره أبداً. ولكنه يستلقي الآن بلا حراك، غير معترف به، شخص منسي ومهمل، كتلة من اللحم المتعفن، يحارب عقله الصحو إذ يغزو كيانه، كطاعون من الذكريات التي تدفعه لمكافحة أمور إنتهت منذ سنوات بعيدة ونُسيت، تنبعث الآن لتعذبه كقروح متهيجة تحكّه، عذاب لانهائي لا سيطرة لعقله المدقق عليه بل يخضع لنزوة وتساؤل لا يسبر غوره..
يسمع الباب يفتح بهدوء وينصت لخطوات تتحرك بإتجاه سريره. ينتظر بشوق صوت هوميليا إذ يعرف أنها هي التي تدخل بهذه النعومة. ولكنها تبقى صامتة وهي تقترب من مريضها وتلاحظ ملامحه المتجمدة وشكله المتيبس. تفحص المرقاب قبل أن تنزع معطفها ووشاحها، ثم تعلقهم في الخزانة القريبة. تعود لسريره، تسوي الملاءة تحت ذقنه، وتبدأ مراسيم حمامه. تدندن بإحدى ترانيمها وهي تحضر ثيابه الدافئة من السخانة وشراشف السرير النظيفة. يتجاوب بعفوية وبعاطفة وكأنها تسمعه يتحدث إليها.
صوتك الناعم يا ملاكي يوقظ هذا الفراغ وكأن الشمس أشرقت من وراء التلال، فيخترق النور أشد ثنايا الكهف ظلاماً. أنا أحيا الآن لأسمع صوتك الحلو... فلا شيء غيره يعطيني الأمل في هذه الحفرة الخاوية... فقط أنت، يا ممرضتي المجهولة، ممرضتي الإليوسية. آه يا ملاكي، أية سخرية هذه، أنك أنت وحدك صديقة معذب شعبك. ليت هناك زمن يمكن أن نلتقي به لأخبرك كم تعنين لي في هذه الحياة بعد الموت والتي لا يشاركني فيها أحد.

أعتقد عندما تذهبين، أن وحشاً أعظم مني خطط لي هذا العذاب القاسي الذي يغرقني في ذنوبي حيث أغوص في وحل مستنقع من صنعي... ولسبب لا أفهمه، عليّ أن أواجه ماعملت وكأني أواجه قديسي الذي يمسك بالكتاب المقدس حيث يعتقد أن فيه أجوبة أجبر على رؤيتها. ولكن عقلي ينفجر من طاعتي لتعاليم الآخرين، وأرفض ما أجبر على مواجهته. ما الذي تقدمينه فيجعلني أتجاوب بلطف مع من يجب أن أكرهها؟ أعرف فقط أنك تدركين أني لا أتحرك وإنما أتنفس، وأني ميت للجميع ولكن حي لك. كلميني هوميليا، كلميني.
وكأنها تجيب رجاء مريضها المعذب، تبدأ هوميليا بالحديث إلى الشكل الجامد الذي تجره إلى جانب المغسلة. "تعرف أني عدت من جويا ليلة أمس؛ غبت طول النهار. لربما لم تلاحظ. أنا آسفة لإضطراري إلى الذهاب فأنا لا أحب أن يعتني بك الغرباء. فهم دائماً وقحون، ولكني سأعوض لك اليوم. ستأتي كاريتا بعد قليل. وسنحممك بالماء الدافئ والصابون المعطر، وسيتحسن شعورك. أوه، ها هي كاريتا."إرتفع صوت هوميليا عندما رأت كاريتا التي لاحظت أنها كانت تكلم المريض.
"أتتحدثين إليه ثانية؟ لو أتى أحد ما سيظنون أنك مجنونة."بينما تتكلم كاريتا لا يغيب إهتمامها عن هوميليا.
"هل تدركين كم يكون الوضع حزيناً لو كان يسمع طيلة هذه الأشهر دون أن يتمكن من إخبارنا. هل فكرت بذلك. أن تكوني حية ولكن مدفونة في جسدك. لا أنكر أنه قد يسمعني، وأنه بحاجة إلى صوت أحد يعطيه الراحة أويشعره أنه ليس وحيداً. تذكّري ترنيمتنا"لننظر إلى بعض كمصدر إنقاذنا، إذلا يوجد سوى ذلك"لقد تعلمناه يا كاريتا، حتى لو بدونا سخفاء أمام الآخرين. لو كان سيئاً كما يقولون فهو بحاجة أشد لعنايتنا. أريده أن يشعر أنني هنا وأنه ليس وحيداً."
"ألا زلت تقولين هذا بعد زيارتك لأخيك وأبيك أمس؟ لا أصدق أنهم يشاركونك مشاعرك، فكلاهما يعيشان في الشقاء الذي سببه لهم هذا المريض ورجاله. أريد أن أسمع ماذا قال إسماعيل؛ فهو وسط أسوأ الأوضاع. بثت الأخبار أمس أن عائلة قتلت بصاروخ على الشاطئ، الأطفال وأمهم وعمهم. إنهم يحققون بالحادث وهذا يعني أنهم لن يجدوا مسؤولاً عنه. هذا ما يحصل دائماً ولا نستطيع عمل شيء تجاهه، حتى المتعصبين ومن ذهب الحزن بعقلهم فينتحرون لن يوقفوا هذه المذابح. كيف نحارب مصفحات وطائرات وسفن وجرافات وصواريخ؟ إنه كلعبة إصابة الهدف في الملاهي ولكن نحن الهدف. إنهم يطلقون علينا الرصاص عندما نرميهم بالحجارة."تبدو المرارة بصوت وهي تسرد حوادث ا لإحتلال معبرة عن عمق ألمها وإستنكارها.
"كفى كاريتا. لا أريد أن نتحدث عن هذه الأمور الآن. علينا أن نحممه. لقد وعدته أننا سنكون لطفاء. لدي الكثير مما أريد قوله لك ولكن علينا أن ننتظر، أرجوك."يغلف كلماتها الحزن الذي تسرب من خلال بكائها اليائس. تشعر الفتاتان باليأس الذي يطبق عليهما داخل جدران المدينة القديمة، والآن بعد زيارة هوميليا لجويا، ينعكس صدى تلك الكآبة في البلدة الجبلية التي كانت ملجأ من سلطة الإحتلال.
كاريتا على حق يا ملاكي، إنها صادقة. أنا الغادر الذي يجب أن تخافيه. تعلمت باكراً الاّ أحب أحداً، حتى الله... خصوصاً الله... فقط أن أحب نفسي. الحب يهدم القوة، ويسلب القاسي من سلاحه الأقوى، اللامبالاة. لقد أنكرت الحب على الجميع، العائلة، الجيران، وحتى نيفاريا. تلك اللامبالاة هي ترسي الذي لا يحتاج إلاّ للأكاذيب والغش والتعالي ليبقى لامعاً، ولا لوم عليها. ولكن أنت يا هوميليا، يا ملاكي الحارس، لا تعرفين شيئأً من هذا، ولا تستطيعين تأمله. براءتك في بساطتك. ترانيمك تعد ما لا يستطيع البشر الحصول عليه. إنها الأمنيات التي يصورها الأقوياء لتعزية المحرومين.
لعل براءتك هي التي تجعلني أتجاوب بعمق معك، لعل ذلك لأني أدرك أن لا أحد يعرف أي أفكار تلعن هذا الرجل الميت الحي ويجبرني على مواجهة اللامبالاة التي تعكس سواد روحي. لا أعرف لماذا تهتمين بي، ولمَ تغنين لي بعذوبة، ولمَ تخاطبينني، ولمَ تظهرين هذا اللطف للرجل الذي شلّ والدك.
هل ينمو لطفك في الجهل والبراءة؟ ألم يرغمك الخوف على بناء أسوار من الكره حول أعدائك؟ كم يختلف عالمك عني حيث أعيش حبيس سجن بنيته. ألآن، عندما كان يجب أن أموت، أستلقي في سواد أفكاري التي تجعل كل ما عداها غير مرئي ولا حقيقي؟ فقط أحكامي التي صدرت ونفذت قائمة. لا حقيقة سواها الآن. لا وجود إلاّ لقراراتي التي لم يُعترض عليها؛ قرارات نفت مئات الألوف من بيوتهم، قرارات مكّنت أعمالاً شائنة أن تنفذ شهواتي؛ قرارات، قرارات تتلوى في الرياح وعقابي الأزلي هو وزن هويتي كوحش أو قديس. أي عقاب هذا أن أتمرغ في ماضيّ البربري... بلا حب، معزول، مبعد عن الجنس البشري- ملعون لأرى من خلال عينيك، عيني ضحيتي! أقصى السخرية اللامعقولة لمصير أُنكر وجوده. أن أتجول في ظلام فكر لا يتجاوب مع الآخر، يدمر الشيء الوحيد الذي يعطي معنى لوجودي، فكرة نفاريا التي عاشت في داخلي، تضيع الآن في ظلام الصمت حيث لا ينمو شيء، الصحراء المحسوسة لعبث الإنسانية. عشت حياتي أخلق الخوف، وبلاتبصر آخذ على عاتقي حقاً لا أمنحه لإنسان فوقي؛ ألآن أوجد في عالم غير واقعي بين الحياة والموت، الخوف المجسد. هكذا القبر بعد الحياة. أتخافينني هوميليا، لو عرفت من أنا؟

أثناء عذاب المريض بحزنه الداخلي، تحممه الفتاتان بعناية، تغسلانه بالماء الدافئ برفق، وتجففان جسده المبتل برقة، وترشانه بالبودرة المنعشة، وتغيران فراشه بملاءات نظيفة عطرة. ثم تغيران رداءه وتثبتان المشمع حوله .لا تتكلمان. بكاء هوميليا خنق أي كلام عن جويا.
*****************
ولكن دون أن تعلم هوميليا أو كاريتا يستغرق المريض في نوم عميق حيث يجد نفسه محاطاً بجموع من المتملقين يقفون على درجات مبنى البرلمان، ويمتدون على مرمى البصر في شارع يبوكريسز، يلوحون بأعلام نفاريا، ويغنون النشيد الوطني بينما الفرق الموسيقية تعزف والبالونات تتطاير فوق الجموع في السماء الزرقاء لهذه الأمسية الخريفية المجيدة. يقف تحت الإفريز الذي يعرض صور الأنبياء وهم يلفتون وجوههم بإتجاه الوسط حيث شعار نيفاريا البارز، ويلبس الزي الأبيض الرسمي مزيناً بأوشحة حمراء وخضراء، وكتافات، وأدواراً من الأشرطة الملونة ومجموعة نجوم تتوج الحافة الزرقاء لقبعته المروّسة . ويصطف المرافقون على الجانبين يحمل كل منهم علماً رمزاً لأيام الموسم المقدس السبعة. يرفع يديه فوق رأسه مشيراً إلى السماء ويبتسم للجمهور، متقبلاً ولاءهم له كرئيس دولة نيفاريا.
وعندما تصدح الموسيقى في هذا اليوم السابع بلحن النصر الكبير، ينزل الدرجات خارجاً من أسوار المدينة القديمة دسبيريا إلى أراضي إليوسيا المتعاهدة، وينشق الجمهور كالموج فاتحاً له طريقاً ملوناً في شارع يبوكريسز، وعلى الجانبين علقت صوراً ضخمة له كجندي شاب، وكجنرال وكمتعبدفي قاعة التجمع، وكمرشح لوظائف عليا، كوزير الدفاع، كسياسي، وأخيراً كرئيس الوزراء. تشع الصور في الزجاج الأزرق في البنايات العالية التي على جانبي الشارع بدل صور إعلانات الفتيات الجميلات وبيوت الإجازة على شاطئ البحر، ومنتوجات التجميل التي تعرض عليها عادةً. يتحرك الجمهور معاً من خلال المدينة القديمة بإتجاه البوابة الشرقية كنهر متدفق فاتحاً الطريق أمام الجنرال المنتصر وحاشيته. ينحنون بتواضع عندما يمر، متمتمين بصلوات قديمة من نبوءات ثورثانا. يتقبل ولاءهم بيده المرتفعة لمباركتهم، ويبدو فعلاً كنبيل ملكي لولاية نيفاريا الفخمة.
عندما يصل إلى البوابة في أقصى شرق المدينة القديمة المسورة، يتمهل الجمهور بإحترام فاسحاً الطريق لمروره. يفتح الجنود البوابة الخشبية الثقيلة التي تنفرج تحت المتاريس كفم ضخم ؛ يمر منها والجماهير تتبعه ببطء كأفعى ممتدة تزحف عبر الأبواب المفتوحة، وهو يعبر أزقة إليوسيا الضيقة، ذات الطريق التي سلكتها هوميليا عندما ذهبت إلى جويا. تلتف دربه الآن شمالاً بموازات الحائط الجديد الذي أقامه ليحاصر الإليوسيين. هذا الحاجز يرتفع بشكل مفاجئ من الدرب بعلو 25 قدماً، ويسد كل شيء إلى الغرب بما فيه الأجزاء القديمة من إليوسيا والتي تحولت إلى نيفاريا، بيوتاً كانت للإليوسيين منذ قرون وقد خسروها إلى الأبد للمختلسين النيفاريين.
يتحول يميناً بإتجاه الشرق صاعداً التلال المرتفعة المزدحمة بالعمارات البيضاء المتهالكة القذرة، وقد تراكمت متلاصقة وآوت ألوف الإليوسيين الذين حشروا في هذه المساحة الضيقة. عندما يصل قمة المرتفع، وقبل أن يتحول إلى الغرب، يلتفت ليرى الحجاج يعجون في الشوارع، أشكال صغيرة سوداء يسرعون هنا وهناك ويختفون في الأزقة والشوارع الجانبية، يتدفقون الآن على الجبل من خلال الشقوق كحشرات تغزو كومة كبيرة من النفايات. يلاحظ الغيوم السوداء تتجمع بعيداً في الغرب فوق مدينة دسبيريا، ويشعر بالهواء البارد يلسع وجهه ويدمع عينيه.
تتحول مسيرة نصره في الشوارع إلى جنازة، ويرتفع نواح حزين بدل أنغام مسيرة النصرالمشرقة، وتغطي أعلام أرجوانية غامقة وسوداء توابيت يجرها النائحون، بدل الأعلام البيضاء المشرقة والزرقاء المذهبة التي تلوحت في نسمات الصباح، وتتسلل غيوم داكنة مشؤومة خلال الشوارع والأزقة داخل البلدة القديمة وخارج أسوارها، بدل السماء الزرقاء الدافئة التي توهجت في شمس المساء عندما وقف تحت شعار الدولة في شارع يبوكريسز.
لم يهيئه شيء لهذه الرؤية المخيفة، ولا يمكنه عمل شيء وهو ممدد في قبره الأسود ليوقف هذا التغيير المتعذر إجتنابه في عقله الحالم. يعتريه خوف أسوأ من تدفق الأدرينالين في المعارك، خوف يدمغ الروح بعلامة ثابتة للخيانة، يشعر بها في قلبه كحقيقة حياته، لا تنسى أبداً ولا تغفر، بل تظل أيقونة الخيانة والخديعة والإستهزاء.
ولكن الكابوس يستمر. فبينما يتسلق تلال شرق إليوسيا، تتدفق من البيوت على الجانبين هياكل عظمية تلوّح بأعلام الإليوسيين الخضراء؛ ينضمون إلى الموكب الجنائزي الذي يجر التوابيت. قطار من التوابيت يتحرك صاعداً التل من البوابة، وكل نعش يحمله أشخاص مقلنسين، ثلاثة من كل ناحية، وكلهم يرتلون لحناً جنائزياً حزيناً يخيّم منذراً فوق المسيرة كالغيوم السوداء التي تغطي الآن دسبيريا. حجاب أسود يهبط على كل الأراضي من أسوار المدينة القديمة وفوق كل تل ووادي في إليوسيا. يصبح حلمه حقيقة وجوده؛ لقد أصبح جسده الفاقد الوعي تجسيداً لإليوسيا، الأرض القاحلة، العاجزة، والمهملة، التي حوّلها إلى أرض بور تعج بقوم يحتاجون المواساة والراحة والفرح والأمل، ولكنهم يعيشون في عذاب وسجن وظلم وعجز، قوم ضائعون على مسرح العالم، ضحايا الإهمال والشر والعنصرية والخوف.
ولكن عندما يصل قمة التل الذي يشرف شمالاً بإتجاه جويا، يلتفت ثانية ليرى المنظر العجيب الممتد تحته، منظراً مقززاً حيث يعج الحجاج كالديدان يزحفون على الهياكل العظمية والبيوت الخاوية والشوارع والممرات التي تترنح صاعدة التل بإتجاه المريض، وقد مزقت الرياح أعلام الأيام المقدسة التي يحملونها عالياً وهي غافلة عن رمزها المقدس.
ينظر من خلال الضباب الكثيف الذي يلف التلال، يسمع عويل ونواح الأشخاص المقلنسين الذين يحملون توابيت موتى الإليوسيين، يحملق غير مصدق وهو يرى الجدار الذي أقامه يلوح فوقه وكأنه اقتلع من أساسه وتقدم بإتجاهه بإستمرار. يلتفت خائفاً من هذا المنظر المرعب وينظر بإتجاه جويا. وهناك، على بعد، إلى الشرق، تبرز الشمس من خلال الغيوم السوداء، شظية في البداية ولكنها تكبر، وبينما يراقب منظر الأرض وهي تبدو ببطء للعيان، يمتد الحائط الرمادي إلى اليمين والشمال على مدى البصرمتجمعاً تحت وهج الشمس عند الأفق. وفجاة يراه يتحرك، وهو واقف متجمد على القمة حيث يمكنه رؤية المدينة القديمة دسبيريا، وبراري إليوسيا القاحلة. ولكن إذ يتحرك الحائط بإتجاهه يحجب الشمس ملقياً الظلال على الأرض، وفارشاً حجاباً مظلماً على عقله و كأن نور عالمه انطفأ، محطماً أحلامه لبعث نيفاريا، وطموحه لمجد خالد كإمبراطور.
يحيطه رعب المنظر من كل الجهات. تتحرك الجدران كالأشرعة مغلقة عليه، ومتضخمةً حجماً وهي تكتسح التلال وتنحدر إلى الوديان كاسحة الأشجار والبيوت، والحجارة والرمال أمام ضخامتها، تقترب وتكبر وتعلو أهوالاً إسمنتية تحول النهار إلى ليل وتدفن في جوفها كل ما يقابلها. يقف متجمداً أمام هذه القوة العنيدة، خائفاً نهايته القصوى؛ عاجزاً، يلتفت إلى دسبيريا ويلمحها وهي تغوص في الرمال بهدير صاخب من الرياح والبَرَد. يحملق غير مصدق وهو يرى الحجاج ينزلقون إلى الوراء عبر الشوارع والممرات، أذرعهم تلوّح وسيقانهم تنزلق تحتهم في الهوة التي خلّفها الجدار وحيث تنزلق دسبيريا، باعثة من الأسفل غيوماً من الغبار، ويُسمع نواح المؤمنين وهم يرتمون في الهاوية التي تنادي الحجاج إلى مصيرهم المحتوم.
وفي رعب تام يلتفت فجأة إلى الشرق ليواجه السور وهو يحيطه، كتله الرمادية ترتفع فوقه وهو يبحث عن ضوء المساء. ولكن كل شيء أصبح مظلماً. فيخفض عينيه ليواجه صورته معكوسة على الحائط أمامه، مرآة تعكس المنظر المخيف وراءه والوجه البشع الذي يحملق فيه. وهناك في المرآة الضخمة يرى تاج نيفاريا فوق شعره الرمادي المنفوش على أذنيه، تاج الحكمة القديم الذي لبسه طيلة القرون الماضية كل ملوك وأنبياء الحضارات الماضية، مستكيناً على جمجمته، عيناه غائرتان عميقاً في العظم، سوداوان، مشؤومتان، عمياء عن الحقيقة التي تلاحظها مرغمة. وأرهب ما في الأمر، فمه يعج بالديدان، ثقب منفرج بسخرية شنيعة، وكأنه يضحك على نفسه، لا، يسخر من نفسه – قمة الإنحراف والسخف والعقم الوحشي. في تلك اللحظة يدرك أنه يشهد في قبر نفسه الفاسدة، نهاية كل أعماله، خلاصة نهاية مجد رحلته المخيفة مدى الحياة، حين فجأة يتحطم الجدار المرتفع فوقه لألوف القطع التي تنخر جدران قبره، ويتساقط على نعشه ويسود الصمت.
يتفجر عقله برعب مخيف، الرؤية مطبوعة لا تمحى عن ضميره. قد لا يكون للزمن وجود في عزلته المتجمدة ولكنه للمرةالأولى يشعر بالمستقبل، قد يكون غير واضح، ولكنه مطبوع بالتهديد القائم لنبوءة ثورثانا بأقصى عقاب.
هوميليا، يا ملاكي، أينك؟ لقد عذبني حلم مريع، رؤية جهنمية حرقت روحي إلى الأعماق... حياتي الآن، تقلصت لتأملات لا تنتهي، تحولني لمصدر فسق وفساد إنساني. عقود كرستها بأيامها للهدم والتدمير والموت، نهاية وجودي... لا أتذكر يوماً لم أسبب فيه الموت أو العذاب أو الخراب لحياة إليوسي. أتجول الآن في هذه الهوة الجهنمية عبر حقول من أموات الإليوسيين،أسير عليهم، عيونهم تحملق بي غير مصدقة، كما أنها تشفق علي. أعبر حقولاً من الضياع حيث يتحرك الهواء حولي كأنفاس شخص لطيفة، أنفاس حياة لم تُحيى . كابوس يريني أياماً لا تعد مليئة بالتفكير بدون إنقطاع... وجوه مشوّهة تحملق بي، أطفال، أطفال على مدى الرؤية مغطون بظل الجدارالضخم الرمادي. أن لا أرى الشمس ولا أعرف لذة الجري على تلال إليوسيا... أن أجبر على الحياة في هذا الإجترار لوحشيتي ساعة بعد ساعة، وأن أواجه عقاب الله فأرى وأشعر بآلامي وتعذيبي للآخرين، هذه جهنم فوق الطاقة... أن أعيش بالذكرى ولا أموت، أن أعيش المعتقدات الماكرة، السامة،التي ابتليت بها أطفالنا والتي ستكون ميراثهم للأبد، قبر ذهني وعاطفي يعيشون فيه كل حياتهم. ولا قدّر الله ان لا أكلم أحداً، لأعترف لأولئك المخدوعين والمدمرين، وأن أشهد على تفهمي في صمت هذا القبو الفظيع حيث أرقد، أنا وحدي المحكّم الوحيد لأعمالي – بلاراحة، بلا رحمة، بلا غفران، بلا نهاية. آه، يا إلهي، هوميليا، ماذا فعلت؟"
وإذ يندب مريضها حزنه لهجرانه، وعذابه الفظيع اللانهائي، والصور المتكررة لوحشيته تجاه الإليوسيين تتدفق من أعماقه حيث يستقر اليأس، فينادي هوميليا لتكلمه وتغني له وتلمسه، وتسامحه ليتمكن من الراحة والخلاص من العقاب الفظيع الذي القي عليه.
ولكن مع أن هوميليا تعجز عن رؤية عذابه، فهي تشعر بصيحة الألم التي تمزق ذهنه ولا يمكنها الإنطلاق من حلقه، النواح الأبدي لكل المعذبين، دون مواساة من أخواتهم وإخوانهم، ضائعون، منسيون، متروكون في الرمال المتناثرة في نواح الريح، التي تغرق نحيب المريض المعذب في الهاوية حيث تغرق نيفاريا، لتصبح آخر الإمبراطوريات التي تعيش وتموت في هذه الممالك الوسطى حيث شهوات الإنسان وطمعه يلاقي نهايته المحتومة.


النـهــايـة


(ألغلاف الخارجي)
أحداث نيفاريا
تبدأ القصة في اليوم الأول من الموسم المقدس للثواب والعقاب. يرقد مريض بلا حراك في سرير مشفى، يستطيع أن يسمع ويفكر ولكنه لا يقدر أن يرى أو يلمس أويشعر بأي شيء، يتنقل بين الصحو والغيبوبة متجاوباً للأصوات سواءً من كلام أو حركة. إنه بالفعل رئيس وزراء نيفاريا وهو في هذه الحالة منذ ثلاثة عشر شهراً. ترعاه ممرضة إليوسية من المنطقة المحتلة تحت سلطة نيفاريا.
هذا العمل التاريخي الأدبي الخيالي، يعتمد على حوادث آنيّة في الشرق الأوسط. تتحول إلى عالم سريالي يصوًر فظاعة القادة المجردين من الإنسانية. تصوّر عالماً شريراً، قاسٍ، عديم الرحمة، غير أنه مكتسٍ بلطف التعبير الذي ندلل به أنفسنا، ألإستقامة، الحرية، السلام والعدل.
"قوية، مدمرة، قصة أخلاقية كئيبة لزماننا". (جاك كوك - "Rags of Time", "The Face of Falsehood").
قصة ويليام كوك "نيفاريا"هي الثالثة في سلسلة أعماله الخيالية المبنية على أشخاص من العالم الحقيقي يزعجون حياتناـ ـ"قناع عدم المنطق"مأساة معاصرة شاركته في تأليفها دارسي جيمز كوك و"آلام كولن باول"مونولوج دراماتيكي من فصل واحد. يعمل كمحرر مشارك في أتلانتيك فري برس، وباسيفيك فري برس،MWC News، وورلد براوت أسيمبلي، و بالستاين كرونيكل ويكتب بتواصل في كاونتر بانش. حالياً هو بروفيسور للغة الإنجليزية في جامعة "لافيرن"في جنوب كاليفورنيا.
http:\www.drwilliamacook.com