قراءة في المسرحية الأمازيغية " تشومعت/الشمعة"


للدكتور جميل حمداوي


شهدت قاعة النيابة للتربية والتعليم بمدينة الناظورفي المغرب الأقصى يوم الجمعة 26 يناير 2007م عرض مسرحية أمازيغية باللغة الريفية قدمها نادي المسرح الصاعد ببني أنصار تحت عنوان" ثشومعت/الشمعة" ، وذلك في التظاهرة الثقافية التي نشطّتها نيابة كتابة الدولة المكلفة بالشباب بالناظور ضمن الإقصائيات الإقليمية لمسرح الشباب لسنة 2007م تحت شعار"مسرح الشباب فضاء للإبداع والحوار".
تنطلق مسرحية" تشومعت" من تيمة اليتم الاجتماعي والثقافي والحضاري ورصد معاناة الإنسان في مواجهته للتهميش والإقصاء واللامبالاة. لقد أصبح العالم في المسرحية عالم الأشباح السوداء ، وصارأيضاعالما بدون ضمير إنساني حسّاس. إنه عالم بدون قلب ولا إنسانية، تكنفه الشرور والأحقاد والحروب كما تطبعه القسوة والعنف، ويسمه الرعب والخوف والاغتراب الذاتي والمكاني واللاعقل. بيد أنه يتوق إلى الخير والحرية والسلام والأخوة والوحدة البشرية. وتقطر المسرحية كذلك بالتراجيديا والتجريد العدمي وعبثية الإنسان. ويتحول الإنسان إلى كائن سيزيفي في شكل شمعة تحترق في عذاباتها وصراعاتها المستمرة من أجل إثبات الوجود . وتتعدد الخطابات التناصية في المسرحية فننتقل من أجواء مادية إلى أجواء روحية صوفية، ومن الأصالة إلى المعاصرة، ومن حضارة الغرب إلى حضارة الشرق، ومن اللوغوس إلى الميتوس، وبهذا تتشكل نسقية التواصل وحوار الحضارات في إطار ثنائية المحبة والسلام.
وتحيل المسرحية على ما يعانيه الإنسان من عبثية قاتلة وسأم وجودي واغتراب قاس في هذا الوجود السديمي الذي لا يعرف الاستقرار ولا أمان. إنه عالم التناقضات والثنائيات المتصارعة: الظلمة والنور، والكراهية والمحبة ، والمادة والروح ، والحرب والسلام...
ويستند النص كذلك إلى نظرية المسرح اللامعقول أو مايسمى بالمسرح التجريدي في طرح الرؤية المأساوية التي تطبع العالم الإنساني وتفتته إلى كتل جامدة لامعنى لها. هذا هو الذي جعل النص غير واضح يتسم بالغموض الدلالي من الصعب استجماع دلالاته وتكثيف مضامينه. كما ألبس الزي الأسود والجدارية السوداء مضامين العرض شحنة درامية مأساوية تنم عن مدى قسوة العالم الذي تحول إلى قوة مادية قاهرة.
وعليه، فهذا العرض المسرحي الذي ألفه وأخرجه عبد الواحد الزوكي ينتمي إلى المسرح المفتوح المليء بمجموعة من النظريات المسرحية الدسمة التي تحيلنا على المسرح الشرقي الروحي والسحري الذي كان يدعو إليه كل من بريخت وأنطوان أرطو وگوردون گريگ و أوجينيو باربا قصد تمثله سينوغرافيا كمسرح بديل للمسرح الأرسطي الغربي كما يتجسد في مسرح النو والكابوكي ومسرح التوبنگTopeng والمسرح الهندي الكاطاكالي Kathakali . ويظهر ذلك التمثل واضحا في هذه المسرحية من خلال استعمال قناع التنين الصيني والحضرة العرفانية الإسلامية وروحانيات الشرق العربي (الخطاب الديني والصوفي). وقد تأثر المخرج أيما تأثر بمسرح القسوة ومسرح اللامعقول الذي يمثله كل من ألفريد جاري وصمويل بكيت وأداموف ويونسكو وأرابال. ولا يقوم المسرح " عند هؤلاء – حسب الدكتورة نهاد صليحة في كتابها" المدارس المسرحية المعاصرة"، ص: 120- على مناقشة أو عرض الأفكار والقضايا الجادة وإنما يهدف أساسا إلى تفريغ جميع الأفكار والقضايا من جديتها وإظهار عبثيتها عن طريق تغيير شكل العرض المسرحي تغييرا جذريا بحيث يصبح لوحة تتسم في آن واحد بالعبثية والهزلية".
إذاً، يتكئ المخرج عبد الواحد الزوكي على المسرح الرمزي والمسرح الشرقي مع الاستفادة من المسرح الغربي من خلال نظرية المسرح الأسود ومسرح اللامعقول والاعتماد على المسرح الفقير كما عند گروتوفسكي عبر استثمار الإمكانيات الصوتية والحركية عند الممثلين،وهذا ما فعله المخرج مع أعضاء فرقته.
ولقد استعان المخرج على مستوى الإكسسوارات بالقنديل والشمعة وقناع التنين الذي يتحول إلى كرسي علاوة على الصناديق السحرية والجدارية السوداء التي توحي بالظلمة والخوف والحزن وقسوة العالم الإنساني. وقد استعمل كذلك تقنية المسرح الشامل من خلال توظيف الجسد حركيا وتقنية إمذيازن الريفية لتشكيل رؤية احتفالية طقوسية وأنتروبولوجية فطرية.
هذا، وقد تبنى المخرج لغة أمازيغية متوترة دراميا، كما شغّل حوارا مفككا يوحي بالغرابة واللامعقول و تشتت الأفكار التي تعبر عن غرابة الواقع وعبثيته الوجودية. كما يتسم الحوار بالسخرية والتهكم والمفارقة واللعبية، والانجذاب نحو الخطابات الرمزية والسحرية كالخطاب الروحاني والصوفي والخطاب الموسيقي. أما من حيث البناء الدرامي، فقد بدأت المسرحية ببرولوگ Prologue تجريدي أسود طويل نسبيا يتسم بالملل والرتابة؛ كما أنه غير وظيفي في إيقاعه البطيء جدا، وبعد ذلك يسود الصمت المطبق لينتقل العرض إلى الحوار Dialogue الذي يجسد لوحات متداخلة ومركبة تقطعا وتفككا يصعب استيعابه وفهمه بكل دقة. وتنتهي المسرحية بما بدأت به من صراخ اليتم والارتباط بالفضاء الأمومي. ومن ثم، تتحول المسرحية إلى شبكة من الدوال الرمزية والعلامات السيميائية المعقدة من البداية حتى النهاية Epilogue.
ولقد توفق عبد الواحد الزوكي في عمليته الإخراجية والسينوغرافية من خلال التوفيق بين الأدوار اللسانية والأدوار الحركية الجسدية، وتدريب الممثلين تدريبا حسنا طبقا لتعليمات ستانسلافسكي. كما أظهر الممثلون قدرات هائلة في التمثيل فوق خشبة المسرح من خلال التنقلات الركحية واستعمال الجسد الرياضي والحركات الطقوسية والأداء الغنائي والموسيقي مع الاستعانة بالتقنيات الخلفية Play back . ويقوم الزي الأسود بتشخيص الكتل الدرامية وتفجير مشاعر الحزن والتوتر الدرامي ، ومن هؤلاء الممثلين البارعين الذين جسدوا الأدوارالركحية خير تجسيد نذكر: محمد التاعدو وعزيز إفلت وجبران الملوكي ومحمد لقويري ..
أما على مستوى الديكور، فقد كان وظيفيا وموحيا سيميائيا ويتسم بالحيوية والحركية ، إذ ينتقل الديكور مماهو بشري ليتحول إلى ماهو شيئي مادي. ومن هنا ، تعج الساحة الركحية بالدينامية التفاعلية والحركية التواصلية.
وإذا كانت الملابس السوداء تحيل على المسرح الأسود بقسوته وحزنه التراجيدي، فإن الملامح لم تظهر بشكل واضح، ولم يستغل المكياج استغلالا جيدا لتشخيص الوجوه المتحركة فوق الخشبة بكل رمزيتها وأبعادها الدلالية المتقمصة.
ويلاحظ أن هناك ضعفا في استعمال المؤثرات الصوتية والتقنية نظرا لقلة الإمكانيات المادية والمالية وضعف في التكوين المسرحي والتقني خاصة أن مدينة الناظور تفتقر إلى المعاهد الثقافية والدرامية وقاعات التمثيل.
وأخيرا، فعلى الرغم من بعض الهنات الإخراجية والتقنية والصوتية،وتفكك النص دلاليا ، وكثرة الصمت الرتيب، والتصنع في توظيف التقنيات والنظريات المسرحية بشكل تعسفي أحيانا، وغموض الرسالة وعدم وضوح المضامين أحيانا أخرى، فإن مسرحية"ثشومعت" مسرحية ناجحة بممثليها الشباب الذين أظهروا كفاءة عالية في مجال التمسرح الدرامي ، وهي ناحجة أيضا بسبب غناها الثري بالنظريات الإخراجية والتقنيات الجديدة أكثر من العروض التي تقدمت بها الفرق المسرحية المنافسة. ويمكن القول بأن العرض كان نصا مسرحيا شاملا وتمسرحا تجريبيا رائعا وفنا جامعا لكل النظريات والتصورات المعروفة في مجال فن المسرح شرقا وغربا.

ملاحظة:

جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور
العنوان الإلكتروني:
jamilhamdaoui@yahoo.fr
الموقع الشخصي:
www.jamilhamdaoui.com